الجمعة، 13 يناير 2017

الجيش المصري و شعبه 9

الجيش المصري و شعبه 9
-البداية
(6)

" أَيُّهَا الصُم اسْمَعُوا. أَيُّهَا الْعُمْي انْظُرُوا لِتُبْصِرُوا. يَا بِهَائِمٍ اعْقِلُوا لِتَفْهَمُوا، وَ يَا شُيُوخَ الْأَزْهَرِ هَللّوَا وعَرّصُوَا. يَا كُلُّ الْغَلَّابَة تَعَالوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرَوْا بِلَا فِضَّةٍ وَبِلَا ثَمَنٍ أُرْزاً وزِيتَاً.  فَهَا أَنَا قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ لَأَنْقَذَكُمْ! قَدْ بَعَثَنِي اللَّهُ لِأُنْجِيَكُمْ! قَدْ قَدّرَ لِي الْمُلْك، فَهَلْ مِنْ مُعْتَرِضٍ عَلَى إِرَادَتِهِ؟ هَلْ مِنْ خَوَارِجَ بَيْنَكُمْ؟ هَلْ لَدَيْكُمْ عِيَال لَمْ تُرَبِّيهمْ أُمَّهَاتِهِمْ فَأُرَبِّيهِمْ لَكُمْ؟ كَأَنِّي أَسْمَعُ تَمَلْمُل وَتَذَمُّر. مَا بَال وُجُوهُكُمْ كَالِحَة عَابِسَة؟ أَلَا يَكْفِيكُمْ أَنِّي قَبِلْتُ أَنْ أَكُونَ سَيِّدكُمْ؟ مَاذَا تُرِيدُونَ بعد؟ أَيُوجد بَيْنَكُمْ رَجُلٌ يَتَحَدَّانِي؟ أَحْذَرُكُمْ جمِيعَاً فَلَنْ تَسْتَطِيعُوا خِدَاعِي فَأَنَا أَعْرِفُكُمْ جيدَاً. هَا هُو سَوْطِي بِيَدِي وَهَا هُو جَيْشِي يَأْتَمِرُ بِأَمْرِي فَاسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللَّهِ وَإِلَّا فَالْوَيْلُ وَالثُّبُورُ وَلَيْلَة أَبُوكُمْ لَنْ يَطَّلِعَ لَهَا قَمَر وَلَا زُحل. وَسَتَتَمَنَّى أُمَّكُمْ أَنَّ أُمِّهَا لَمْ تُوَلِّدْ مِنْ الْأَصْلِ وَأَنَّ أَبُاهَا كَانَ عنِينَاً عقِيمَاً كَالْبَغْلِ "
الإصحاح التاسع من سفر شئون المعنوية

"لماذا لا يثور المصريون؟" سؤال طرحه أحد مُعرّصي النظام المُحنكين (علاء الأسواني) ورغم أنّ الإجابة واضحة ولا تحتاج لكثير عناء إلا أنه رفضها وقرر أن يلجأ إلى الأسطوانة المحفوظة عن أنّهم "غلابه" فُقراء:" يخوضون كل صباح معارك مريرة ضارية ينتزعون آخرها الطعام لهم ولأولادهم" ولا يملكون رفاهية الدخول في معارك "رومانسية" وأنهم يأسوا من الإصلاح فما عاد يعنيهم مَنْ يحكمهم ولكن عند ظهور "زعيم حقيقي ومُخلص" فإنهم يلتفون حوله ويثورون بقيادته على الظُلم، زعماء "مُخلصون" من أمثال سعد زغلول وعبد الناصر.

إنّ هذا الحمار "المُعارِض"-هو وأشباهه كالبغل عبد الحليم قنديل والحلوف إبراهيم عيسى-  أحد مُرددي أكذوبة أنّ "الجيش حمي الثورة" انتهي به المطاف أن يؤيد ويُساند نفس النظام الذي كان لسنوات يسرد القصص والحكاوي عن فساده وتوحشه وغبائه وتخلفه ويُبشر بالديمقراطية والحرية. إن الشعب المصري من الشعوب القليلة التي تستطيع فيها أن تكون حُكومي ومُعارض، تكون شريف وفاسد، صادق وعرص، عبقري وأهبل، أن تكون فيها مُسلم موحد وعدمي مُلحد في نفس الوقت بدون أن يُلاحظ أحد أي تناقض في هذا.

إن كل التبريرات التي تُعطي لمحاولة الابتعاد عن الإجابة الصادقة للسؤال السابق-وللمفارقة- هي نفسها الأسباب التي تدعو أي شعب للثورة. فالفقر والمعاناة واليأس والظُلم والقهر والتعذيب والفساد هي وقود أي ثورة ومُحركها وبدونها لا يُتخيل أن تكون هناك لا احتجاجات ولا ثورات. فالشعوب لا تقوم بثورة بدافع "الملل" أو في أوقات "فراغها" أو بحثاً عن "الرومانسية" أو فقط "زهقاً" ممن يحكمها بل هي نتاج سنوات من غياب العدل ومن الفقر والمعاناة.

توقفنا المرة السابقة عندما رأي الفرنسيون ضعف و هوان وذلة العثمانيين فقرروا أن لا يرحلوا بمثل تلك السهولة , خصوصاً و أن كليبر قد علم رفض بريطانيا لبنود مُعاهدة العريش" و هي التي كانت تلعب دور الوسيط فيها , ففي 19 مارس 1800م: " ركب ساري عسكر كلهبر قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب وقسم عساكره طوابير، فمنهم من توجه الى عرضي(جيش) الوزير( يوسف باشا) ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليها فلم يسعهم إلا الجلاء والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم (معسكرهم)، وركب نصوح باشا (الوالي) عثمان كتخدا (نائب الصدر الأعظم يوسف باشا) ومن كان معهما وطلبوا جهة مصر(القاهرة)، فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من إخوانهم الى جهة العرضي فلما قاربوه أرسلوا الى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره".

 وحينما سمع سُكان القاهرة صوت المدافع و البنادق: " كثر فيهم اللغط والقيل والقال ولم يدركوا حقيقة الحال" وهنا ستبدأ أحداث "ثورة القاهرة الثانية"، "فيهيج" الناس ويقتلوا: " أشخاصاً من الفرنساوية صادفوهم خارجين من البلد ليذهبوا الى أصحابهم, وذهبت شرذمة من عامة أهل مصر فانتهبت الخشب وبعض ما وجدوه من نحاس وغيره حيث كان عرضي الفرنساوية"  و ستبدأ "الزعامات" القديمة في الظهور مرة آخري فنجد جمع مكون من السيد عمر مكرم أفندي (1) والسيد أحمد المحروقي(2) نقيب التجار  وانضم إليهما أتراك خان الخليلي والمغاربة : "وتبعهم كثير من عامة أهل البلد، وتجمعوا على التلول خارج باب النصر وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصي والقليل معه السلاح، وكذلك تحزب كثير من طوائف العامة والأوباش والحشرات وجعلوا يطوفون بالأزقة وأطارف البلد ولهم صياح وضجيج وتجاوب بكلمات يقفّونها من اختراعاتهم وخًرافاتهم" قد تكون تلك الهتافات من نوعية "ارفع راسك فوق انت هندي" أو "العثمانيين و الشعب راضعين من نفس البقرة" أو الهتاف الخالد "مش هنمشي الا لما ناخده" -و الحمد لله كلهم "خدوه"- و كما رأينا فالجبرتي عنده حساسية من "الفتنة" و قد يكون تم "سَبيُه"- كما قلنا أنه احتمال وارد قد يكون حدث معه في "الثورة" الأولي- لذلك تجد مرارة و انكسار في كلماته عند ذكره لتلك الأحداث.

سيستمر الوضع هكذا و لا أحد يدري ما الذي يحدث أو ما الذي يجب أن يفعلوه حتي يلحق بهذا الجمع نصوح باشا الوالي و مجموعة من عساكره و عثمان كتخدا هذا بالإضافة لأمراء المماليك العائدين واتباعهم فما كان من نصوح باشا إلا أن هتف في جموع الناس: "اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم" ويبدو أنهم كانوا مُنتظرين أن يسمعوا ذلك فهاجوا –كالمعتاد-: "ورفعوا أصواتهم ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القبط والشوام وغيرهم، فذهبت طائفة الى حارات النصارى وبيوتهم […] فصاروا يكبسون الدور ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان وينهبون ويأسرون حتى اتصل ذلك بالمسلمين المجاورين لهم" لكن النصاري كانوا يعلمون أن هذا اليوم سيأتي: " فتحزبت النصارى واحترسوا وجمع كل منهم ما قدر عليه من العسكر الفرنساوي والأروام".

 وتستمر تلك "الاشتباكات" طوال اليوم فلما يُصبح ثاني يوم يُحضرون ثلاثة مدافع من المطرية ويهيئوها للضرب ويبدؤون "بقصف" بيت ساري عسكر كليبر. فتقع الحرب بين الفريقين حتى يجيء الليل فيبدأ "الثوار" في "التترس": "وشرعوا في بناء بعض جهات السور واجتهدوا في تحصين البلد بقدر الطاقة، وبات الناس في هذه الليلة خلف المتاريس" (3). ويبدأ الفرنسيين عند حلول الليل بانتهاز الفرصة الثمينة فتقصف: "المدافع والبنب على البلد من القلاع ووالوا الضرب بالخصوص على خط الجمالية لكون المعظم مجتمعاً بها" فلما رأي الناس ذلك "أجمع" رأي "الكبراء والرؤساء" علي أنّه "ما باليد حيلة" و الأفضل: " الخروج من البلد [...] لعجزهم عن المقاومة وعدم آلات الحرب وعزة الأقوات والقلاع بيد الفرنساوية [...]  وتسامع الناس بذلك فتجهز المعظم للخروج، وغصت خطة(منطقة أو ناحية) الجمالية وما والاها من الأخطاط بازدحام الناس الذين يريدون الخروج من المدينة [...] وازدحمت تلك النواحي بالحمير والبغال والخيول والهجن والجمال المحملة بالأثقال، وباتوا على تلك الصورة ووقع للناس في هذه الليلة من الكرب والمشقة والانزعاج والخوف ما لا يوصف" ولابد أنه في جوف الليل المُظلم و مع تلك الأعداد الغفيرة كانت بالتأكيد هناك صعوبة في التعرف علي إذا كان هؤلاء هم بغال يركبون بشر أم بغال تركبهم بشر؟

 هنا قد يبدو أن الأمر قد انتهي كما حدث مع "ثورة القاهرة الأولي" و "كفي الله المؤمنين شر القتال" و أن "الفتنة" قد انتهت بسلام و "الحمد لله" و لكن حينما يصل هذا "الإرجاف" للمناطق المجاورة, يذهب إليهم جماعة و يُشنعوا: " على من يريد الخروج وعضدهم طائفة عساكر الينكجرية (عساكر الإنكشارية و هم أفراد الحامية العثمانية التي تُرافق الوالي)، وعمدوا الى خيول الأمراء فحبسوها ببيت القاضي والوكائل، وأغلقوا باب النصر"(4). فيأتي صباح يوم السبت 22 مارس 1800م والناس على تلك الحالة في الشوارع ووراء المتاريس فيتهيأ: " كبراء العساكر والعساكر ومعظم أهل مصر(القاهرة) ما عدا الضعيف الذي لا قوة له للحرب[...] وسكن الكثير في البيوت الخالية والبعض خلف المتاريس، وأخذوا عدة مدافع زيادة عن الثلاثة المتقدمة وجدت مدفونة في بعض بيوت الأمراء، وأحضروا من حوانيت العطارين من المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار استعملوها عوضاً عن الجلل للمدافع (5)، وصاروا يضربون بها بيت ساري عسكر".

 سرت الحماسة في الجميع وذابت الفروق والرُتب ولم يتوقف الأمر عند هذا بل نجد حالة من "التآخي" و "الإيثار" التي تُظهر "معدن المصريين الحقيقي"(6) حيث يتولى: "السيد أحمد المحروقي وباقي التجار ومساتير الناس الكلف والنفقات والمآكل والمشارب وكذلك جميع أهل مصر، كل إنسان سمح بنفسه وبجميع ما يملكه، وأعان بعضهم بعضاً، وفعلوا ما في وسعهم وطاقتهم من المعونة [...] وأهل الأرياف القريبة تأتي بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والتبن والغنم، فيبيعونه على أهل مصر، ثم يرجعون الى بلادهم". وقد يُخيل إليك حين قراءتك لتلك الأحداث أنك تسمع في الطُرقات صوت حمادة هلال وهو يتغنى بأن " شهداء 20 مارس ماتوا في أحداث مارس راحوا وفارقوا الحياة" أو صوت نوارة نجم تجري "بالهوت شورت" في أزقة القاهرة تهتف "خلاص مفيش ظُلم تاني مفيش خوف تاني".

لكن المشهد لم يكن بتلك "الوردية" فقد كان كل: " من قبض على نصراني أويهودي أو فرنساوي أخذه وذهب به الى الجمالية حيث عثمان كتخدا ويأخذ عليه البقشيش، فيحبس البعض حتى يظهر أمره ويقتل البعض ظلماً وربما قتل العامة من قتلوه وأتوا برأسه لأجل البقشيش، وكذلك كل من قطع رأساً من رؤوس الفرنساوية يذهب بها إما لنصوح باشا بالأزبكية وإما لعثمان كتخدا بالجمالية ويأخذوا في مقابلة ذلك الدراهم". لذلك لابد أن يُخيل لك انك تسمع -بالإضافة لحمادة و نوارة- أيضاً صوت مكاري يونان منفعلا باكيا بأن: ""كل مرة هايحصل فيها أحداث هانزيد محبة لاخواتنا المسلمين".

يبقي الوضع علي هذا المنوال عدة أيام حيث يقول الجبرتي  بعد هذا بدأوا في غلق الأبواب علي أطراف المدينة وبناء المتاريس بل حتي أن عثمان كتخدا سيُنفق أموالاً كثيرة لإنشاء معملاً للبارود و سيحضر صُناع الأسلحة و الحدادين و النجارين: "لإنشاء مدافع وبنبات وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت، وعمل العجل والعربات والجلل وغير ذلك من المهمات الجزئية، وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد" وسيهتم كل أمير و مماليكه بناحية من النواحي: "جلس عثمان بك الأشقر عند متاريس باب اللوق وناحية المدابغ وعثمان بك طبل عند متاريس المحجر ومحمد بك المبدول عند الشيخ ريحان ومحمد كاشف أيوب وجماعة أيوب بك الكبير والصغير عند الناصرية ومصطفى بك الكبير بقناطر السباع وسليمان كاشف المحمودي عند سوق السلاح [...] وبالجملة كل من كان في حارة من أطراف البلد انضم الى العسكر الذي بجهته، بحيث صار جميع أهل مصر والعساكر كلها واقفة بأطراف البلد عند الأبواب والمتاريس والأسوار، وبعض عساكر من العثمانية وما انضم إليهم من أهل مصر المتسلحين مكثت بالجمالية، إذا جاء صارخ من جهة من الجهات أمدوه بطائفة من هؤلاء، وصار جميع أهل مصر(القاهرة) إما بالأزقة ليلاً ونهاراً، وهو من لا يمكنه القتال. وأما بالأطراف وراء المتاريس وهو من عنده إقدام وتمكن من الحرب، ولم ينم أحد ببيته سوى الضعيف والجبان والخائف".

 ولكي تكتمل الإثارة يقول الجبرتي: " أما بولاق (7) فإنها قامت على ساق واحد، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي (8) وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم وأسلحتهم ورمحوا وصفحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا الى وطاق(مُعسكر) الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر وعنده حرسية منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا الى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية وأخذوا ما أحبوا منها وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس، واستعدوا للحرب والجهاد، وقوي في رأسهم العناد واستطالوا على من كان ساكناً ببولاق من نصارى القبط والشوام، فأوقعوا بهم بعض النهب وربما قتل منهم أشخاص" بل و قد ظهر رجل مغربي يمكن ان يكون هو الذي كان ادعي أنه المهدي" يقال إنه الذي كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقاً" ثم يصب الجبرتي جام غضبه عليه . على أن هذا المغربي-رغم ادعائه المهدوية كذباً- كان أكثر الناس فهماً لما يجب عمله: " وفعل ذلك الرجل المغربي أموراً تنكر عليه، فكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى فيكبس عليهم ومعه جمع من العوام والعسكر فيقتلون من يجدونه منهم وينهبون الدار ويسحبون النساء ويسلبون ما عليهن من الحلي".

لكن الجبرتي-كالعادة- حزين يري أن الزمان قد تغير و"الدنيا بقت وحشة" وأين "أخلاق زمان وناس زمان" فيقول: "وتتبع الناس عورات بعضهم البعض وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم، واتهم الشيخ خليل البكري (9) بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة. فهجم عليه طائفة من العسكر مع بعض أوباش العامة ونهبوا داره وسجنوه مع أولاده وحريمه وأحضروه الى الجمالية وهو ماش على أقدامه ورأسه مكشوفة، وحصلت له إهانة بالغة وسمع من العامة كلاماً مؤلماً وشتماً فلما مثلوه بين يدي عثمان كتخدا هاله ذلك واغتم غماً شديداً. ووعده بخير وطيب خاطره، وأخذه سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر مع حريمه الى داره وأكرمهم وكساهم، وأقاموا عنده حتى انقضت الحادثة".

أما كليبر فكان مشغولاً أثناء هذا كله في ملاحقة الوزير يوسف باشا حيث ستدور عدة معارك سينهزم فيها العثمانيين والمماليك: " ولم يكن لهم بهم طاقة، فطلبوا الأمان فأمنوهم وأخذوا سلاحهم وأخرجوهم حيث شاءوا، فذهبوا أشتاتاً في الأرياف يتكففون الناس ويأوون الى المساجد الخربة، ومات أكثرهم من العري والجوع".

فلما هُزموا يذهب أحد الأمراء وهو عثمان بك و من تبقي من عساكره ليلحق بالوزير الهارب إلي الصالحية-شرق محافظة الشرقية- ويعنفه و يلوموه علي هروبه فيعتذر إليهم: " بأعذار ومنها عدم الاستعداد للحرب وتركه معظم الجبخانة (السلاح) والمدافع الكبار بالعريش، اتكالاً على أمر الصلح الواقع بين الفريقين، وظنه غفلة الفرنساوية عما دبره عليهم مع الإنكليز", فيطلب منه عثمان بك بأن كل ما عليه أن يبقي هو هنا و أن يُرسل معه عساكره ليقاتل بهم الفرنسيين : " فخاطب العسكر وبذل لهم الرغائب، فامتنعوا ولم يمتثل منهم إلا المطيع والمتطوع، وهم نحو الألف، وعادوا على أثرهم وجمعوا منهم من كان مشتتاً ومنتشراً في البلاد ورجعوا يريدون محاربة الفرنساوية" لكن مع كل هذا التشرذم و "الفهلوة" المنتشرة سواء بين القادة أو الجنود نجد أنّ النتيجة الحتمية هو الهزيمة عند مُلاقاة عدو موحد و ذكي فيلتقي الفريقين: "فضاربوهم بالنبابيت والحجارة، وأصيب سرج ساري عسكر بنبوت فانكسر وسقط ترجمانه الى الأرض، وتسامع المسلمون فركبوا لنجدتهم، واستصرخ الفرنساوية عساكرهم فلحقوا بهم ووقع الحرب بين الفريقين حتى حال بينهما الليل، فانكف الفريقان وانحاز كل فريق ناحية، فلما دخل الليل واشتد الظلام أحاط العسكر الفرنساوي بعساكر المسلمين فأصبح المسلمون وقد رأوا إحاطة العسكر بهم من كل جانب، فركبت الخيالة وتبعتهم المشاة واخترقوا تلك الدائرة، وسلم منهم من سلم وعطب من عطب". فيعودن وهم يجرون أذيال الخيبة إلي الوزير في الصالحية: " فعند ذلك ارتحل الوزير ورجع الى الشام"  وأما مراد بك "الأمير" الذي هادنه الفرنسيون علي حكم الصعيد علي أن يدفع "المعلوم" فقد كان يراقب الموقف من بعيد فلما رأي انكسار العثمانيين و المماليك آثر الابتعاد و فضل أن يلعب دور "خضرة الشريفة". وحين تأكد كليبر وجنوده من هزيمة الوزير وهروبه ظل يُطاردوهم: " حتى بعد عن الصالحية، فأبقى بها بعضاً من عسكر الفرنسيس محافظين، وكذلك بالقرين وبلبيس ورجع الى مصر(القاهرة)، وقد بلغت الأخبار بما حصل من دخول ناصف باشا والأمراء وقيام الرعية."

عند هذا ستصل الأخبار "للثوار" عن أنهم أصبحوا معزولين تماما بلا مُغيث و لا مُعين -الذي كانوا يعولون عليه- و ما تترسهم إلا اعتقادهم أن الأمر لن يطول و ما هي إلا أيام و ينسحق الجيش الفرنسي عن آخره و يطلبون الرحمة فلا يجدوها فُيخفي "الثوار" الأمر عن جموع الناس : " وأشاعوا خلافة لئلا تنحل عزائم الناس عن القتال وتضعف نفوسهم، واستمر الباشا يظهر كتابة المراسلات وإرسال السعاة في طلب النجدة والمعونة" بل و حتي: " افتعلوا أجوبة فزوروها على الناس فتروج عليهم وتسرى في غفلتهم، ويقولون للناس في كل وقت إن حضرة الصدر الأعظم مجتهد في محاربة الفرنسيس، وفي غد أو بعد غد يقوم بالعساكر والجنود بعد قطع العدو، وعند حضوره ووصوله يحصل تمام الفتح وتهدم العساكر القلاع وتقلبها على من يبقى من الفرنساوية" و بعدها تعيشوا في "تبات ونبات و تخلفوا صبيان و بنات" و ما عليكم إلا أن تجتهدوا: " فيما أنتم فيه وتابعوا المناداة على الناس والعسكر باللسان العربي والتركي بالتحريض والاجتهاد والحرص على الصبر والقتال وملاقاة العدو ونحو ذلك" و قد استطاع خمسمائة من العسكر الألبان الذين كان ارسلهم الوالي لجمع الأموال و الجبايات من الأرياف أن يدخلوا القاهرة برغم حصار الفرنسيين لها ففرح: " الناس لقدومهم وضجت القلعة بحضورهم واشتدت قواهم، واتفقوا أن يقولوا للناس إذا سئلوا أنهم حاضرون مدداً، وسيأتي في إثرهم عشرون ألفاً وعليهم كبير ونحو ذلك". لابد حينها قد بدأت تسري الشائعات بين الناس عن وجود "انشقاقات" داخل الجيش الفرنسي وأنّ "شرفاء هذا الجيش" رفضوا تنفيذ الأوامر بقتل وقصف المصريين "الأبرياء" فحبسهم كليبر "الشرير" في مكان مجهول وأن كليبر نفسه بدأ يهذي ويولول وأنه نادم فلم يكن "ينتوي" أن يبقي في مصر لكن إذا كانت هذه هي "إرادة المصريين" فهو مُستعد "للرحيل".

يُكمل الجبرتي أنه بعد ثمانية أيام من تلك "الحركة" (10): " أحاطت العساكر الفرنساوية بالمدينة وبولاق من خارج، ومنعوا الداخل من الدخول والخارج من الخروج [...] وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم" فبدأ الهروب الجماعي لأتباع الفرنسيين المحصورين داخل المدينة: " كبعض القبطة ونصارى الشوام وغيرهم يهربون إليهم ويتسلقون من الأسوار والحيطان بحريمهم وأولادهم" أما المعلم يعقوب الذي قلنا أن هذا النوع أذكي و اشرس فكان يعلم أن هذا اليوم سيأتي فعمد بعد "ثورة القاهرة الأولي" لبناء قلعة مُحصنة و خزن فيها الأسلحة استعداد لهذا اليوم و: " كرنك (تحصن) في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعداداً كبيراً بالسلاح والعسكر المحاربين" أما بقية "الشلة" و الذين لم يستطيعوا الهروب و أو لم يُحصنوا أنفسهم كيعقوب مثل جرجس الجوهري وفلتيؤس وملطي: " فإنهم طلبوا الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وهم في وسطهم، وخافوا على نهب دورهم إذا خرجوا فارين، فأرسلوا إليهم الأمان فحضروا وقابلوا الباشا والكتخدا والأمراء وأعانوهم بالمال واللوازم".

 هنا سيبدأ المتوقع, فالمتترسين ليس أمامهم خيارات كثيرة غير مبادلة القصف بالقصف و حيث أنه لن يتوقف القصف ليلاً أو نهاراً فتحولت حياة الناس لجحيم: "وعدمت الأقوات وغلت أسعار المبيعات وعزت المأكولات وفقدت الحبوب والغلات، وارتفع وجود الخبز من الأسواق وامتنع الطوافون به على الأطباق، وصارت العساكر الذين مع الناس بالبلد يحفظون ما يجدونه بأيدي الناس من المآكل والمشارب، وغلا سعر الماء المأخوذ من الآبار أو الأسبلة، حتى بلغ سعر القربة نيفاً وستين نصفاً، وأما البحر فلا يكاد يصل إليه أحد" فيبدأ "أصحاب المصالح" من الشيوخ و التجار والأعيان الأغنياء بأن تتكفل: " بكلف العساكر المقيمين بالمتاريس المجاورة لهم فألزموا الشيخ السادات بكلفة الذين عند قناطر السباع" من الواضح أن هذه "الثورة واقفة بخسارة" عليهم لكن في سبيل عودة الأوضاع كما كانت قبل قدوم هؤلاء الفرنسيين "الكُفار" تهون المصاعب و ما نخسره اليوم نعوضه غداً بسهولة. هل رأيت يوماً ثورة تقوم لتُعيد الأوضاع لما أدي أساساً إلى الوضع الحالي "المتنيل بنيله" الذي يثورون عليه؟ -نعم هناك "ثورات" في تاريخ مصر قامت بذلك منها "ثورة القاهرة الثانية" و "ثورة 30 يونيو". بغض النظر أنك قد تعتبر أن 30 يونيو ليست ثورة أصلاً-وهذا صحيح- لكن السبب الرئيسي لهذا أنك كُنت شاهد علي أحداثها –حتى ولو كمتفرج- فأدركت أنّ الذي يُحرك الأحداث هو الجيش ومُخابراته ورجال أعماله وإعلامه. لكن مع تكرار الأكاذيب بشأنها وبمرور الوقت ليس بعيداً أن يُشير الجيل القادم لها باعتبارها "أعظم ثورة في تاريخ البشرية" ككل "انجاز" تافه يقوم به هذا الشعب. أمّا بالنسبة "لثورة القاهرة الثانية" فلا يعني أنّ "الثوار" استخدموا كُل ما تطالهم أيديهم في مواجهة المُستعمر بدءً من العصيان و النبابيت و الحجارة و انتهاء بصناعة البارود و قذائف المدفع فلا يعني هذا أنها افضل ممن استخدموا الأصابع و الأعلام في "ثوراتهم"  فالأثنين علي نفس القدر من الغباء ويكفي أن تُشاهد "ثوار سوريا" لتُدرك أنّ السلاح وحده ليس دليلاً علي "صدق النوايا" بل إن هؤلاء "الثوار" هُناك يُحركهم العدو قبل الصديق وحتي لو افترضنا "إخلاص و صدق" بعضهم فهذا لا ينفي "غبائهم و تخلفهم" لأنه في الحالين مصيرهم واحد: الفشل.

أعطني أبواق تُردد ما أقوله و بعض الوقت وأعدك أن أجعل كُل حمار غبي عرص لهذا الشعب : "زعيم مُخلص"

وينادي: " بالعربي والتركي على الناس بالجهاد والمحافظة على المتاريس" ثم تُسمع أصوات قادمة من بعيد "جاسوس... جاسوس" حيث يُتهم مصطفي آغا مُستحفظان (11): " بموالاته للفرنساوية، وأنه عنده في بيته جماعة من الفرنسيس. فهجمت العساكر على داره بدرب الحجر فوجدوا أنفاراً قليلة من الفرنسيس، فقاتلوا وحاموا عن أنفسهم وقتل منهم البعض وهرب البعض على حمية حتى خلصوا الى الناصرية، وأما الآغا فإنهم قبضوا عليه وأحضروه بين يدي عثمان كتخدا ثم تسلمه الإنكشارية وخنقوه ليلاً بالوكالة التي عند باب النصر ورموا جيفته على مزبلة خارج البلد." وهنا تتساءل لماذا كان هذا موقفهم مع "زميل" لهم؟ لكن لما قيل هذا عن العرص خليل البكري وهو معروف بموالاته للفرنسيين لم يفعلوا معه شيئاً بل حينما أمسكوا به كما تقدم وقدموه لعثمان كتخدا: " هاله ذلك واغتم غماً شديداً. ووعده بخير وطيب خاطره". يمكن البكري "ماسك" على "الثوار" أسطوانات حجرية مُخلة ولا حاجة -الله أعلم- وهدد "إنه لو حصله أي مكروه" في ناس سوف تطبعها بجودة ممتازة علي الرخام و توزعها علي الناس لكي يروا "الثوار" علي حقيقتهم.

ويُشدد الآغا مُستحفظان الجديد على الناس: " ومنعهم من دخول الدور وكل من وجده داخل داره مقته وضربه، فكان الناس يبيتون بالأزقة والأسواق حتى الأمراء والأعيان" وتزداد الأحوال سوءً على سوء حيث: " هلكت البهائم من الجوع لعدم وجود العلف من التين والفول والشعير والدريس. بحيث صار ينادي على الحمار أو البغل المعدّد الذي قيمته ثلاثون ريالاً وأكثر بمائة نصف فضة أو ريال واحداً وأقل، ولا يوجد من يشتريه، وفي كل يوم يتضاعف الحال وتعظم الأهوال [...] وترامى الفريقان بالمدافع والنيران حتى احترق ما بينهم من الدور" ثم يصف الجبرتي حالة الدمار التي حلت بالمدينة و البيوت والقصور التي خربت و تهدمت جراء ذلك و يقول: " وصارت كلها تلالاً وخرائب كأنها لم تكن مغني صبابات ولا مواطن أنس ونزاهات[...] وقد جنت عليها أيدي الزمان وطوارق الحدثان حتى تبدلت محاسنها وأقفرت مساكنها، وهكذا عقبى سوء ما عملوا، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا." يا سلام الجبرتي هذا "بيخُر" حكمة!!

 لا يجد "الثوار" أمامهم غير "خضرة الشريفة", أقصد مراد بك أمير الصعيد لطلب العون منه من أن يحضر بنفسه أو يُرسل: "الأمراء والأجناد التي عنده" فيعتذر و يخبرهم أنه: " محافظ على الجهة التي هو فيها" و يبدو أن "الثوار" أغبياء لم يفهموا الرسالة فيرسلون إليه ثانية من أن يُرسل من يستعلم عن أمر الوزير يوسف باشا فهم محاصرون و "لا آراكم الله مكروه في عزيز لديكم" و" حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة" و "هنيالك يا فاعل الخير" فيرد عليهم بالمختصر المفيد أنّ :" الفرنساوية إذا ظفروا بالعثمانية لا يقتلونهم ولا يضربونهم وأنتم كذلك معهم. فاقبلوا نُصحي واطلبوا الصلح معهم واخرجوا سالمين". فلما يأتيهم رده يغضب بعض الأمراء المماليك ومنهم حسن بك الجداوي وعثمان بك الأشقر: " وقالوا: كيف يصح هذا الأمر وقد دخلنا الى البلد وملكناها فكيف نخرج منها طائعين؟ ونحو ذلك، هذا مما لا يكون أبداً" فيُشير عليهم إبراهيم بك –هذا كان قد هرب بعد دخول الفرنسيين القاهرة إلى الشام- بأن يذهب عثمان بك الأشقر بنفسه: " ليقول لمراد بك ما يقوله، فلما اجتمع به ورجع، لم يرجع على ما كان عليه حال ذهابه وفترت همته وجنح لرأي مراد بك". لابد أنّ مراد بك افهمه أنه لا فائدة مما يفعلون والأفضل أن يجنحوا "للسلم" وطالما امتيازاتنا محفوظة فلن تفرق أن تكون مصر تابعة لسُلطة فرنسا أو الباب العالي أو حتى باب اللوق وهو التفكير الذي سيسود حتى يومنا هذا.

تحطم الأمل الأخير "للثوار" وتحولت "الثورة" لكابوس حيث: " استمر الحال على ما هو عليه من اشتعال نيران الحرب وشدة البلاء والكرب ووقوع البنبات على الدور والمساكن من القلاع والهدم والحرق وصراخ النساء من البيوت والصغار من الخوف والجزع والهلع، مع القحط وفقد المآكل والمشارب وغلق الحوانيت والطوابين والمخابز. ووقوف حال الناس من البيع والشراء وتفليس الناس وعدم وجدان ما ينفقونه إن وجدوا شيئاً. واستمر ضرب المدافع والقناير والبنادق والنيران ليلاً ونهاراً حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة لطيفة من الزمن ومقامهم دائماً أبداً بالأزقة والأسواق، وكأنما على رؤوسهم الجميع الطير، وأما النساء والصبيان فمقامهم بأسفل الحواصل والعقودات تحت طباق الأبنية الى غير ذلك.[...] وجرى على الناس ما لا يسطر في كتاب ولم يكن لأحد في حساب ولا يمكن الوقوف على كلياته فضلاً عن جزئياته، منها عدم النوم ليلاً ونهاراً وعدم الطمأنينة وغلو الأقوات وفقد الكثير منها خصوصاً الأدهان، وتوقع الهلاك كل لحظة والتكليف بما لا يطاق ومغالبة الجهلاء على العقلاء وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهور العامة ولغط الحرافيش وغير ذلك "

عند هذا الحد تبدأ مُباحثات "الصُلح" فيتردد على "الثوار" كُلاً من عثمان بك البرديسي ومصطفى كاشف(12) –وهما من أتباع مراد بك-مُرسلين من قبل الفرنسيين: " في شأن الصلح وخروج العساكر العثمانية من مصر والتهديد بحرقها وهدمها إذا لم يتم هذا الغرض." ولكن حين يصلوا لطريق مسدود يُرسل الفرنسيون للوالي و الكتخدا و الأمراء أن يبعثوا لهم بالمشايخ ليتكلموا معهم بخصوص الصُلح فيُرسلوا لهم "طقم" من المشايخ منهم الشيخ عبدالله الشرقاوي و سليمان الفيومي و محمد المهدي وحين وصولهم يُخاطبهم كليبر-عن طريق مُترجم- أنّه قد: " أمّن أهل مصر أماناً شافياً وأن الباشا والكتخدا ومن معهما من العساكر العثمانية يخرجون من مصر ويلحقون بالعرضي، وعلى الفرنساوية القيام بما يحتاجون إليه من المؤونة والذخيرة حتى يصلوا الى معسكرهم، وأما الأجناد المصرية الداخلة معهم فمن أراد منهم المقام بمصر من المماليك والغز الداخلين معهم فليقم وله الإكرام، ومن أراد الخروج فليخرج، والجرحى من العثملي يجردون من سلاحهم وإن كان يأخذه الكتخدا فليأخذه وعلينا أن نداويهم حتى يبرئوا، ومن أقام بعد البرء منهم فعلينا مؤونته ومن أراد الخروج بعد برئه فليخرج، وعلى أهل مصر الأمان فإنهم رعيتنا، وتوافقوا على ذلك وتراضوا عليه". ثم ثاني يوم يقول كليبر للشيوخ: " لأي شيء تفعلون هذا الفعل وهذه المحاربات والوزير ولّى مهزوماً ورجع هارباً ولا يمكن عوده في هذا الحين إلا أن يكون بعد ستة أشهر". فيعتذروا  له و إنهم "مالهومش دعوة بحاجة" و أنّ كُل تلك الأفعال هي أفعال متهورة جبانة "فدفع المفسدة مُقدم علي جلب المنفعة" وهم لم يُقدروا "المصالح و المفاسد" فيما فعلوه و العامة لا عقول لهم-هذا علي أساس أنهم من أصحاب العقول- و أن مَنْ فعل هذا هو: " ناصف باشا وكتخدا الدولة: وابراهيم بك ومن معهم، فإنهم هم الذين أثاروا الفتنة وهيجوا الرعايا ومنوا الناس الأماني الكاذبة" فاخبرهم كليبر أن يرجعوا و يقولوا لهم: " يتركون القتال ويخرجون فيلحقون بوزيرهم، فإنهم لا طاقة لهم على حربنا ويكونون سبباً لهلاك الرعية وحرق البلدين مصر(القاهرة) وبولاق". فيُخبروه بخوفهم إن هم فعلوا ذلك وانسحب العثمانيين والمماليك أنكم تنتقمون منًا ومن العامة. فيُطمئنهم كليبر الحنون ويقول: " لا نفعل ذلك فإنهم إذا رضوا ومنعوا الحرب اجتمعنا معكم وإياهم وعقدنا صلحاً ولا نطالبكم بشيء، والذي قتل منا في نظير الذي قتل منكم وزودناهم وأعطيناهم ما يحتاجون من خيل وجمال، وأصبحنا معهم من يوصلهم الى مأمنهم من عسكرنا، ولا نضر أحداً بعد ذلك". الحقيقة يعني الفرنسيون "عداهم العيب" والشيوخ "عملوا اللي عليهم" الدور والباقي على مُهيجي الفتنة "كلاب النار".

هنا ستتحول "الثورة المُسلحة" لمسخرة مُضحكة -ككل ثورة يقوم بها المصريين-  فحين يرجع الشيوخ ويُخبرون الوالي والناس بعرض كليبر المُغري قام عليهم الناس: " وسبّوهم وشتموهم وضربوا الشرقاوي والسرسي ورموا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس ومرادهم خذلان المسلمين وأنهم أخذوا دراهم من الفرنسيس". وسيدخل الرجل المغربي علي الخط -حيث سيحمله الجبرتي سبب كل ما حدث- ويقول: " الصلح منقوض وعليكم بالجهاد، ومن تأخر عنه ضُرب عنقه" وأنّ الشيخ أبو الأنوار السادات كان في بيت الشيخ مصطفي الصاوي فخاف إن هو خرج في تلك "المعمعة" أن يطاله "قفا مُحترم" أو "شلوت" من واحد مقاس "جزمته 90" أو يكون واحد من "الأوباش" مُنتظره "يُلبي نداء الطبيعة" عليه. فأرسل أمامه مُنادي يقول: "الزموا المتاريس" وهكذا نجي السادات "بذكاء" من أن يصل أحد من العامة لأي من "عورتيه": "قفاه" و "مؤخرته".

وسيلتف الناس حول هذا الرجل المغربي: " لعدم إدراكهم لعواقب الأمور، فالتووا عليهم وتعضد كل بالآخر". ثم يقدم الجبرتي لنا دوافع هذا الرجل من أن غرضه هو استمرار تلك الفتنة لأنها من خلالها "بياكل اللي هو عايزه" من أفخر الأكلات في حين أنّ الناس لا تجد ما تأكله فهو: " إذا نزل جهة من جهات المدينة لإظهار أنه يريد المعونة أو الحرس فيقدمون له بالطعام فيقول: لا آكل إلا الفراخ، ويظهر أنه صائم فيكلف أهل تلك الجهة أنواع المشقات والتالفات بتعنته في هذه الشدة بطلب أفحش المأكولات وما هو مفقود". وتحت ذريعة تلك الفتنة يقوم بالسلب والنهب ويصور نفسه بصورة الأمير باجتماع "الأوغاد" عليه. ثم بعد هذا كُله فهو لا يفعل شيئاً: " بل إذا دهم العدو تلك الجهة التي هو فيها فارقها وانتقل لغيرها، وهكذا كان ديدنه" وكذلك هو "ماوراهوش حاجة يخاف عليها"-مثل الجبرتي وبقية الشيوخ والأعيان- فهو: " ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك بل كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي". وأنه لو كان مجاهد حقاً: " لكانت شواهد علانيته أظهر من نار على علم، أو اقتحم كغيره ممن سمعنا عنهم من المخلصين في الجهات وفي بيع أنفسهم في مرضاة رب العباد لظي الهيجاء، ولم يتعنت على الفقراء ولم يجعل همته في السلب مصروفة وحال سلوكه عند الناس ليست معروفة". واخيراً فهذا الرجل كان: " سبباً في تهدم أغلب المنازل بالأزبكية، ومن جملة ما رميت به مصر من البلاء[...] فما قدر هذا الأهوج حتى ينقض صلحاً أو يبرمه وأي شيء يكون هو حتى ينادي أو ينصب نفسه بدون أن ينصبه أحد". منطق مازلنا نسمعه مراراً وتكراراً ويبدو أن هذا المغربي هو من "سبي" الجبرتي لذلك يحمل الجبرتي في صدره كل هذا الكُره له.

"الثوار" سيعتقدون أن طلب الفرنسيين للصُلح يعني أنهم في موقف ضعف ولولا أنّ: " الكفرة الملاعين تبين لهم الغلب والعجز ما طلبوا المصالحة والموادعة وأن بارودهم وذخيرتهم فرغت، ولم يردوا عليهم جواباً بل ضربوا بالمدافع والبنادق “. لكن الفرنسيون لم يفقدوا الأمل بعد في الوصول لحل "سلمي للأزمة" فيرسلون يستعلمون عن الرد على طلب الصُلح فيجيبهم الوالي والكتخدا بأن: " العساكر لم يرضوا بذلك ويقولون لا نرجع عن حربهم حتى نظفر بهم أو نموت عن آخرنا، وليس في قدرتنا قهرهم على الصلح". لكن يجيء الرد الفرنسي مُفحماً مُلجماً: " قد عجبنا من قولكم إن العساكر لم ترض بالصلح وكيف يكون الأمير أميراً على جيش ولا ينفذ أمره فيهم". وسيبعث الفرنسيون ايضاً "لثوار" بولاق يطلبوهم: " للصلح وترك الحرب ويحذرونهم عاقبة ذلك فلم يرضوا، وصمموا على العناد فكرروا عليهم المراسلة، وهم لا يزدادون إلا مخالفة وشغباً". وفي آخر مرة يبعثوا فيها رسولاً فرنسياً يقول: " "أمان أمان سوا سوا"، وبيده ورقة من ساري عسكر فأنزلوه من على فرسه وقتلوه". كُل هذا والنّاس تظُن-كما قُلنا- أن هناك نجدة قادمة من الخارج-والتي لن تأتي- حيث يقترح محمد بك الألفي –أحد امراء المماليك- علي عثمان كتخدا أن يرفعوا: " على هلالات المنارات أعلاماً نهاراً ويوقدون عليها القناديل ليلاً ليرى ذلك العسكر القادم فيهتدي ويعلمون أن البلد بيد المسلمين، وأنهم منصورون، وكذلك صنع معهم أهل بولاق، وذلك لغلبة ظن الناس أن هناك عسكراً قادمين لنجدتهم."

أخيراً سيبدأ اسدال الستار على هذا "الفاصل الفُكاهي" من حياة المصريين، ففي فصل الربيع في 16 ابريل 1800م في يوم لم تطلع له شمس حيث: " غيمت السماء غيماً كثيفاً وأرعدت رعداً مُزعجاً عنيفاً وأمطرت مطراً غزيراً وسيلت سيلاً كثيراً، فسالت المياه في الجهات وتوحلت جميع السكك والطرقات فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال، ولطخت الأمراء والعساكر بسراويلهم ومراكيبهم بالطين". واستغل الفرنسيون هذا الجو المُمطر و هجموا علي "الثوار" بدون "احم ولا دستور"-يالها من خسة و نذالة-: "  من كل ناحية ولم يبالوا بالأمطار لأنهم في خارج الأفنية وهي لا تتأثر بالمياه كداخل الأبنية، وعندهم الاستعداد والتحفظ والخفة في ملابسهم وما على رؤوسهم، وكذلك أسلحتهم وعددهم وصنائعهم، بخلاف المسلمين [...] وعملوا فتائل مغمسة بالزيت والقطران وكعكات غليظة ملوية على أعناقهم معمولة بالنفط والمياه المصنوعة المقطرة التي تشتعل ويقوى لهبها بالماء[...] ويهجمون أيضاً وأمامهم المدافع وطائفة خلفهم بواردية يقال لهم: "السلطات" يرمون بالبندق المتتابع، وطائفة بأيديهم الفتائل والكعكات المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقائف وضرف الحوانيت وشبابيك الدور، ويزحفون على هذه الصورة شيئاً فشيئاً". ويخبرنا الجبرتي أن أهل القاهرة وبولاق: " قاتلوا بشدة همتهم وعزمهم [...] وزلزلوا في ذلك اليوم والليلة زلزالاً شديداً، وهاجت العامة وصرخت النساء والصبيان، ونطوا من الحيطان، والنيران تأخذ المتوسطين بين الفئتين من كل جهة، هذا والأمطار تسح حصة من النهار وكذلك بالليل من ليلة الجمعة، وكذلك الرعد والبرق [...] وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم وحصروهم من كل جهة". في خضم تلك الأحداث تستمر مفاوضات الصُلح فنجد عثمان بك الأشقر وعثمان بك البرديسي: " يذهبون ويجيئون من الفرنسيس الى المسلمين ومن الفرنسيس إليهم ويسعون في الصلح بين الفريقين".

فلما دخل الفرنسيون بولاق فعلوا بأهلها الأفاعيل: " وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبُلوا بالنهب والسلب[...] وفعلوا بأهلها ما يشيب من هوله النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة واحترقت الأبنية والدور والقصور وخصوصاً البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطارف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم الى الجهة القبلية [...] ثم أحاطوا بالبلد ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات( تُرادف كلمة هوانم وهم نساء علية القوم كما يقال) والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأبازير(التوابل) والأرز والأدهان والأصناف العطرية[...] والذي وجدوه منعكفاً في داره أو طبقته ولم يقاتل ولم يجدوا عنده سلاحاً نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حياً، وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم".

ثم بدأ يظهر المستور والمستخبي فمحمد الطويل –يبدو انه كان من اعيان بولاق- كان يُراسل الفرنسيين لكي يُعطوه الأمان وفي نفس الوقت يتظاهر أمام "الثوار" أنه واحد منه ويقاتل معهم فلما هجم الفرنسيون انضم لهم، وكذلك قد اختفي الحاج مصطفي البشتيلي حين دخولهم لكن الناس دلت على مكانه وقبضوا على وكيله وبقية "الزعماء"، ثم حبسوا البشتيلي في القلعة اما الباقي فحبسوهم حيث يسكن كليبر: " وضيقوا عليهم حتى منعوهم البول، وفي اليوم الثالث أطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة وسلموهم البشتيلي". ثم أمروا جماعة البشتيلي التي كانت "تُقاتل" معه: "أن يطوفوا به البلد ثم يقتلوه " على أساس أنّ البشتيلي هو السبب فيما حدث وأنه هو الذي كان: " يُحرك الفتنة ويمنعهم الصلح"، بل وصلت به الجُرأة في أن يصف كليبر بالكلب حيث بعث رسالة مع رجل إلي عثمان كتخدا كتب فيها: "إن الكلب دعانا للصلح فأبينا منه" فوقعت تلك الرسالة -ومن الممكن ان تكون الرسالة "وصلت" وليس "وقعت" كما يقول لنا الجبرتي- في يد كليبر الأمر الذي دفعه-وقلبه يعتصر ألماً- ليقتحم بولاق ويفعل فيها ما فعل. فتُطيع "عُصبة" البشتيلي الأمر -بكل بساطة-: " وقتلوه بالنبابيت". ولا يشفع "لأهل بولاق" هذا فيُفرض عليهم “غرامة" ضخمة.

الوضع في بقية القاهرة أصبح لا يُطاق وتمني الناس زوال العثمانيين عنهم بسبب ايذائهم و: "وخطفهم ما يجدونه معهم، حتى تمنوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها". ومع مرور الوقت يتقدم الفرنسيون ويتراجع المسلمين حتى دخل الفرنسيون: " من ناحية باب الحديد وناحية كوم أبي الريش وقنطرة الحاجب وتلك النواحي، وهم يحرقون بالفتائل والنيران الموقدة ويملكون المتاريس الى أن وصلوا من ناحية قنطرة الحاجب وناحية باب الحديد الى قرب باب الشعرية. وكان شاهين آغا هناك عند المتاريس فأصابته جراحه، فقام من مكانه ورجع القهقري، فعند رجوعه وقعت الهزيمة ورجع الناس يدوسون بعضهم البعض."

وأخيراً ينجح البرديسي والأشقر في "عقد اتفاق" مع الفرنسيين: " على كف الحرب، وأن الفرنساوية يمهلون العثمانية والأمراء ثلاثة أيام حتى يقضوا أشغالهم ويذهبون حيث أتوا، وجعلوا الخليج (مجري مائي كان يشق القاهرة ليحمل ماء النيل إليها) حداً بين الفريقين لا يتعدى أحد من الفريقين بر الخليج الآخر وأبطلوا الحرب وأخمدوا النيران وتركوا القتال". حيث ستبدأ الترتيبات لخروج العثمانيين والامراء و "الزعامات" ففي 26 ابريل 1800م: " خرج العثمانية وعساكرهم وابراهيم بك وأمراؤه ومماليكه والألفي وأجناده ومعهم السيد عمر مكرم النقيب والسيد أحمد المحروقي الشاه بندر وكثيرون من أهل مصر، ركباناً ومشاة. الى الصالحية". ليُسدل الستار علي: " تعسة المسلمين وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وما استفاد الناس من هذه العمارة وما جرى من الغارة إلا الخراب والسخام والهباب". السخام والهباب صديقان مخلصان للمصريين و "ثوارهم" على مرّ العصور.
         
ثم من جديد يذهب الشيوخ والأعيان "بربطة المعلم" لكليبر مُطأطئ الرؤوس فيُطمئنهم كليبر ويُعطيهم ورقة مكتوب فيها: " النُصرة لله الذي يريد أن المنصور يعمل بالشفقة والرحمة مع الناس، وبناء على ذلك ساري عسكر العام يريد أن ينعم بالعفو العام والخاص على أهل مصر وعلى أهل بر مصر، ولو كانوا يخالطون العثملي في الحروب. وأنهم يشتغلون بمعايشهم وصنائعهم، ثم نبه عليهم بحضورهم الى قبة النصر بكرة تاريخه". أصيل يا جان وقلبك كبير.

لكن "العواطف" ليس لها مكان في "الشغل" لذلك بعد ان يحتفل كليبر وجنوده وقبطه وشيوخه وأعيانه ومسؤولية "بانتصاره "، ذلك الاحتفال الذي سيُشاهده الناس من وضع الوقوف حيث حين دخولهم من باب النصر ستأمر جماعة من الجنود الفرنسيين: " الناس بالقيام وبعض فرنساوية راكبين خيلاً وبأيديهم سيوف مسلولة ينهرون الناس ويأمرونهم بالوقوف على أقدامهم، ومن تباطأ في القيام أهانوه، فاستمرت الناس وقوفاً من ابتداء سير الموكب الى انتهائه". يتحضر الشيوخ يوم الجمعة 5 مايو 1800م وكلاً يُمنّي نفسه بأنه سيفعل معهم "أحلي واجب" فهو قد أكرم الشيخ خليل البكري وأعطاه: " بيت عثمان كاشف كتخدا الحج، وهو بيت البارودي الثاني، فسكن به وشرع في تنظيمه وفرشه، ولبسوه في ذلك اليوم فروة سمور", وكذلك ذهب كليبر لخضرة الشريفة: " بجزيرة الذهب باستدعاء، فمد لهم أسمطة عظيمة وانبسط معهم وافتخر افتخاراً زائداً وأهدى الى بعضهم هدايا جليلة وتقادم عظيمة. وأعطاه ما كان أرسله درويش باشا معونة للباشا والأمراء من الأغنام وغيرها، وكانت نحو الأربعة آلاف رأس وولوه إمارة الصعيد من جرجا الى أسنا", فما بالك ماذا سيصنع معنا نحن "الشيوخ العظام" و "القامات العلمية الشامخة" و "ملح الأرض" و "ورثة الأنبياء" فيذهبوا "من النجمة": " الى بيت ساري عسكر ولبسوا أفخر ثيابهم وأحسن هيآتهم، وطمع كل واحد منهم وظن أن ساري عسكر يقله في هذا اليوم أجل المناصب، أو ربما حصل التغيير والتبديل في أهل الديوان، فيكون في الديوان الخصوصي". لكن كليبر يتركهم "ملطعوين" فترة طويلة في "الهول" الخارجي ولا يُكلمهم أحد. ثم بعد ذلك يُفتح لهم الباب فيدخلوا مُسرعين لكن لخيبة أملهم يتم "لطعهم" للمرة الثانية فترة آخري. لكن واضح ان كليبر أخذ "كورس" في كيفية مُعاملة المجرمين وكيف تُحطم أعصابهم حتى حينما يحين استجواب المُجرم "يقر على طول" بجريمته بلا مقاومة أو مُراوغة.

ثم اخيراً يخرج كليبر لهم مصحوباً بالمترجم وبعض قادته فيُوضع له كُرسي في مُنتصف الغرفة ويقف: " الوجاقلية (قادة الفرق العسكرية) والحكام من ناحية، وأعيان النصارى والتجار من ناحية، وعثمان بك الأشقر والبرديسي أيضاً حاضران" ويرطن بكلام كثير الذي يُترجمه المترجم واختصاره أنه يريد منكم: " عشرة آلاف ألف" بالتمام والكمال لا "ينقصوا مليم" لكن ممكن يزيدوا ليس هذا وفقط لكن سنأخذ منكم 15 واحد "رهينة" إلى أن تُسددوا المبلغ كاملاً: " انظروا من يكون فيكم رهينة عندنا حتى تغلقوا ذلك المبلغ، وقام من فوره ودخل مع أصحابه الى داخل وأغلق بينه وبينهم الباب ". المبلغ تقريبا نصفه سيدفعه السادات وجزء علي الشيخ الصاوي وآخر علي الشيخ محمد الجوهري وأخيه أما ما تبقي فيوزع "فردة" على "العامة": "فبُهت الجماعة وامتقعت وجوههم ونظروا الى بعضهم البعض وتحيرت أفكارهم [...] وتمنى كل منهم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، ولم يزالوا على ذلك الحال الى قريب العصر حتى بال أكثرهم في ثيابه وبعضهم شرشر (أي طرطر) من شباك المكان". ويقف حرس على الباب يمنعهم من الخروج.  فلا يجدون إلا "نصارى القبط": "يقعون في عرضهم، فالذي انحشر فيهم ولم يكن معدوداً من الرؤساء أخرجوه بحجة أو سبب وبعضهم ترك مداسه وخرج حافياً وما صدق بخلاص نفسه". فعلاً "عظيمة يا مصر بولادك اللي بتطرطر من الشبابيك".
لو كان الكلب الأجرب يُشبه الأسد الهصور... لكان الأولي أن يُشبه "السيسي" الجواد الحرون

ولا ينجو من هذه "المبولة" إلا خليل البكري والشيخ محمد المهدي فالبكري معروف فهو عرص ديوث والمهدي يقول عنه الجبرتي أنه: "كان يستعمل المداهنة وينافق الطرفين بصناعته وعادته".  ويتشاور النصارى والمهدي على "توزيعه" المبلغ على أهل البلد فيقسموها على أهل الحرف والصناعات ولن ينجو من الدفع حتى: "الحواة والقردتيه". ثم يعهد كليبر للمعلم يعقوب بالتصرف كيفما شاء مع المُسلمين ويُعينه نائباً له: " والخازندار لرد الجوابات وقبض ما يتحصل وتدبير الأمور والرهونات" و تبدأ رحلة الشيوخ لجمع "الغرامة" و سيكون السادات أيقونة تلك الرحلة فيذهب لبيته يحوطه  عشرة من العساكر ويجلسوا في انتظاره علي الباب : "  فلما مضت حصة من الليل حضر إليه مقدار عشرة من العسكر أيضاً فأركبوه وطلعوا به الى القلعة وحبسوه" فيُرسل السادات الى عثمان بك البرديسي يطلب وساطته: " فشفع فيه فقالوا له: أما القتل فلا نقتله لشفاعتك وأما المال فلابد من دفعه ولابد من حبسه وعقوبته حتى يدفعه". وبما أنه لم يدفع فتستمر "البهدلة" التي لن تتوقف عند الحبس فقط بل ستشمل الضرب أيضاً فيطلب مُقابلة كلا من: " زين الفقار كتخدا فطلع إليه هو وبرطلمان" ليقول لهما أن يتركوه يذهب لداره ليبيع ما يملك لكي يُسدد الغرامة فيُنزلوه:" الى داره فأحضر ما وجده من الدراهم فكانت تسعة آلاف ريال معاملة. عنها ستة آلاف ريال فرانسة، ثم قوموا ما وجدوه من المصاغ والفضيات والفراوي والملابس وغير ذلك بأبخس الثمن، فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة[...] وبعد أن فرغوا من الموجودات جاسوا خلال الدار يفتشون ويحفرون الأرض على الخبايا حتى فتحوا الكنيفات (المراحيض) ونزلوا فيها فلم يجدوا شيئاً". واستمرت الرحلة فكان يُضرب خمسة عشر عصا في الصباح ومثلها في الليل بل وأحضروا تابع له لكي "يقر" على مكان زوجة السادات وابنه فعذبوه: " حتى عاين الموت حتى عرفهم بمكانهما، فأحضروهما وأودعوا ابنه عند أغات الإنكشارية وحبسوا زوجته معه، فكانوا يضربونه بحضرتها وهي تبكي وتصيح وذلك زيادة في الإنكاء" حتى "تشفّع" المشايخ في نقلها من عنده فنقلوها، "وبقي الشيخ على حاله وأخذوا مقدمه وفراشه وحبسوهما وتغيب أكثر أتباعه واختفوا". يا تري كان اتباعه يُجهزوا لثورة جديدة كالثورة القديمة أم أن كل واحد منهم ذهب يعمل في "البلاد الأجنبية" ليستطيعوا أن يجمعوا أكبر قدر من المال ليدفعوه ليُخرجوا شيخهم لا نعرف فلم يُخبرنا الجبرتي عنهم شيئاً.

وفي 29 مايو 1800م أحضروا السادات إلي القلعة بعد أن أرسل "لكبار القبط" للتوسط في أمره فردوا عليه بأنه: " لابد من تشهيل قدر نصف الباقي أولاً" ومنعوه الاجتماع بالناس لما تكرر استعانته "بوسيط". وفي النهاية في 19 يوليو 1800م –بعد مقتل كليبر- أفرجوا عنه بعدما أتم دفع ما عليه وصادروا مُمتلكاته: " وشرطوا عليه عدم الاجتماع بالناس وأن لا يركب بدون إذن منهم ويقتصد في أمور معاشه ويقلل أتباعه".

وبدأت الوساطات والشفاعات والكوسات تتدخل لتُرفع الغرامة عن الشيوخ وتُضيفها على "الفردة العامة" وهي الغرامة التي سيتم تحصيلها من "أبناء البلد" والتي كان يتولى تحصيلها المعلم يعقوب حنا فكتبوا قائمة بمن عليه الدفع: " فنهبوا على الناس بذلك وبثوا الأعوان بطلب الناس وحبسهم وضربهم، فدهى الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها. ومضى عيد النحر ولم يلتفت إليه أحد بل ولم يشعروا به ونزل بهم من البلاء والذل ما لا يوصف[...] وفرغت الدراهم من عند الناس واحتاج كل الى القرض فلم يجد الدائن من يدينه لشغل كل فرد بشأنه ومصيبته، فلزمهم بيع المتاع فلم يوجد من يشتري، وإذا أعطوهم ذلك لا يقبلونه، فضاق خناق الناس وتمنوا الموت فلم يجدوه. وفي كل وقت وحين يشتد الطلب وتنبث المعينون والعسكر في طلب الناس، وهجم الدور وجرجرة الناس حتى النساء من أكابر وأصاغر وبهدلتهم وحبسهم وضربهم، والذي لم يجدوه لكونه فر وهرب يقبضون على قريبه أو حريمه أو ينهبون داره، فإن لم يجدوا شيئاً ردوا غرامته على أبناء جنسه وأهل حرفته". بل حتى سيهرب الناس للأرياف و الأقاليم هروباً من الدفع- لكن هيهات- مع كليبر كُله لازم يدفع "اللي بيتكلم يدفع و اللي بيسمع يدفع".

حتي بعد أن يُقتل كليبر الكافر-كما سنري- و يجئ "الحاكم المُسلم" عبدالله جاك مينو سيستمر الوضع علي ما هو عليه بلا أي تغيير فتُفرض: " فردة أخرى وقدرها أربعة ملايين [...] وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى بعدما قاسوا من الشدائد ما لا يوصف ومات أكثرهم في الحبوس وتحت العقوبة وهرب الكثير منهم وخرجوا على وجوههم الى البلاد ثم دهوا بهذه الداهية "

وبعد الفرنسيين جاء دور النصاري في الانتقام فيقول الجبرتي: " وتطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين [...] وقرروا على النواحي غلالاً وشعيراً وفولاً وتبناً، وزادوا خيلاً وجمالا ً[...] وكل ذلك بإرشاد القبطة وطوائف البلاد، لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة وتقاسموا الأقاليم والتزموا لهم بجمع الأموال، ونزل كل كبير منهم الى إقليم وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير والعساكر الفرنساوية، وهو في أبهة عظيمة وصحبته الكتبة والصيارف والأتباع والأجناد من الغز البطالة وغيرهم والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب [...] ويرسل الى ولايات الإقليم من جهته المتسوفين من القبط أيضاً بمنزلة الكشاف [...] فينزلون على البلاد والقرى ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف، ويؤجلونهم بالساعات، فإن مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب والسبي، وخصوصاً إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم، وإلا قبضوا عليهم وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم في الحبال وأذاقوهم أنواع النكال، وخاف من بقي فصانعوهم وأتباعهم بالبراطيل (الرشوة) والرشوات وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين، وتقربوا إليهم بما يستميلون قلوبهم به وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم، وأجهدوا أنفسهم في التشفي من بعضهم وما يوجب الحقد والتحاسد الكامن في قلوبهم، الى غير ذلك ما يتعذر ضبطه".

بل وفي29 مايو 1800م سيتم تشكيل "كتيبة من القبط" حيث سيطلب الفرنسيون: " عسكراً من القبط فجمعوا منهم طائفة وزيوهم بزيهم وقيدوا بهم من يعلمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك وأرسلوا الى الصعيد فجمعوا من شبانهم نحو الألفين وأحضروهم الى مصر وأضافوهم الى العسكر". لكن لكل عادل وظالم نهاية ففي 14 يونيو 1800م وبينما كليبر يتنزه مع كبير المهندسين بروتاين: " بداخل البستان الذي بداره بالأوزبكية فدخل عليه شخص حلبي وقصده فأشار إليه بالرجوع وقال له ما فيش وكررها فلم يرجع وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في قضائها فلما دنا منه مد إليه يده اليسار كأنه يريد تقبيل يده فمد إليه الآخر يده فقبض عليه وضربه بخنجر كان أعده في يده اليمنى أربع ضربات متوالية فشق بطنه وسقط الى الأرض". فيصرخ بروتاين فيضربه سُليمان هو أيضاً ويهرب: " فسمع العسكر الذين خارج الباب صرخة المهندس فدخلوا مسرعين فوجدوا كلهبر مطروحاً وبه بعض الرمق ولم يجدوا القاتل فانزعجوا وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين وجروا من كل ناحية يفتشون على القاتل واجتمع رؤساؤهم وأرسلوا العساكر الى الحصون والقلاع وظنوا أنها من فعل أهل مصر فاحتاطوا بالبلد وعمروا المدافع وحرروا القنابر وقالوا لابد من قتل أهل مصر عن آخرهم". لكن "المصريين عُمرهم ما يعملوا كده" فهم شعب "مُتحضر" يعرف كيف يُعامل "مُحتليه وسارقيه" وفعلا حينما يبحث الفرنسيون عن هذا "الغادر" يجدونه: " منزوياً في البستان المجاور لبيت ساري عسكر المعروف بغيط مصباح بجانب حائط منهدم فقبضوا عليه فوجدوه شامياً فأحضروه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده فوجدوه حلبياً واسمه سليمان فسألوه عن محل مأواه فأخبرهم أنه يأوي ويبيت بالجامع الأزهر". الحمد لله لقد ثبتت براءة المصريين من تلك التُهمة الشنيعة لقد أراد هذا الحلبي "الأهوج" أن يُحدث "فتنة" و "وقيعة" بين الفرنسيين والشعب لكن الله سلم وانكشفت لعبته.

هُنا سيُجري الفرنسيون تحقيقا طويلا مع سُليمان الحلبي و مَنْ كان يتردد عليهم نقله الجبرتي بعد أن رأي: " كثيراً من الناس تتشوق نفسه الى الاطلاع عليها [...] ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي (أي من خارج مصر) أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه " ولا يُخفي الجبرتي اعجابه بطريقتهم في التحقيق والمحاكمة حيث: "لم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم بل رتبوا حكومة ومحاكمة وأحضروا القاتل وكرروا عليه السؤال والاستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة ثم أحضروا من أخبر عنهم وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين ثم نفذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم" هذا طبعا: "  بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية".

سيسألون الحلبي و "المتهومين" الأسئلة التقليدية عن اسمه وسنه ومهنته ومن أين آتي وماذا يفعل هنا وهل هناك مَنْ حرضه وهل أخبر أحد بعزمه على فعلته "الشنيعة" تلك أم لا وما هي أسمائهم وما دافعك للقتل إلى آخره وحين يراوغ سيتم تعذيبه فيأمر: " ساري عسكر أنهم يضربونه حكم عوائد البلاد فحالاً انضرب لحد أنه طلب العفو ووعد أنه يقر بالصحيح فارتفع عنه الضرب وانفكت له سواعده وصار يحكي من أول وجديد".

وسيظل التحقيق يدور حول نُقطة أساسية لمعرفة هل هو عمل "إرهابي فردي" أم هو عمل مُنظم تم التخطيط والتحضير له وهل الإسلام يأمر بهذا ويُحرض عليه أم لا حتى أنهم سيحققون مع مُعلم كُتّاب تركي الأصل يبلغ من العمر 81 سنه -كان الحلبي يتعلم على يديه- يُدعي مصطفي أفندي فيسألونه: "
سُئل: هل أن القرآن يرضى بالمغازاة(الجهاد) ويأمر بقتل الكفرة؟ فجاوب ما يعرف ايش هي المغازاة التي في القرآن ينبي عنها.
سُئل:  هل يعلم مشاديده (تلاميذه) هذه الأشياء؟ فجاوب واحد اختيار مثله ما له دعوة في هذه الأشياء بل أنه يعرف أن القرآن ينبي عن المغازاة وأن كل من قتل كافراً يكسب أجراً.
سُئل:  هل علم هذا الغرض لسليمان؟ فجاوب أنه ما علمه إلا الكتابة فقط.
سُئل:  هل عنده خبر أن أمس تاريخه رجل مسلم قتل ساري عسكر الفرنساوية الذي ما هو من ملته وهو بموجب تعليم القرآن هذا الرجل فعل طيب ومقبول عند النبي محمد؟ فجاوب أن القاتل يُقتل وأما هو يظن أن شرف الفرنساوية هو من شرف الإسلام وإذا كان القرآن يقول غيره أشياء هو ما له علاقة". تماماً مثل "المصريين" الذين إلى الآن يقولون إن النصاري "مؤمنين" وإذا كان القرآن يقول شيئاً آخر فهما "مالهومش علاقة" بهذا.

والله العظيم والله العظيم هنفضل اخوات ... واذا القرآن بيقول كلام تاني فاحنا مالنيش علاقة بيه .... أقسم بالله تاني أنا ما أنا عارف أنا بقول إيه

 ويتم المواجهة بين سليمان الحلبي ومُعلمه ويُسئل: " هل شاف مصطفى أفندي مراراً كثيرة وهل بلغه عن نيته فجاوب أنه ما شافه سوى مرة واحدة لأجل أنه يسلم عليه بحيث أنه معلمه القديم وبما أنه رجل اختيار وضعيف قوى ما رأى مناسب يخبره عن ضميره."

أخيراً يبدأ الادعاء المسيو سارتلون أمام جمع القضاة بألقاء "خطبة" بلهاء عن "المناحة العامة والحزن العظيم" الذي حدث بسبب مقتل "الزعيم" والتي تمت بيد آثمة  من: " قاتل رذيل ومن يد مستأجرة من كبراء ذوي الخيانة والغيرة الخبيثة"  ولتعلم الدُنيا بأسرها أنّ: " الوزير الأعظم سلطنة العثمانية ورؤساء جنود عسكرها رذلوا أنفسهم حتى أرسلوا قتال معدوم العرض الى الجريء والأنجب كلهبر الذي لا استطاعوا بتقهيره" هذا رغم حلمنا و كرمنا و عطفنا وأن ّ سليمان الحلبي " شب (شاب) مجنون وعمره أربعة وعشرون سنة وقد كان بلا ريب متدنس بالخطايا [...] العته النسكي (يمكن المقصود التطرف الديني) هو منصوب في أعلى رأسه المضطرب من زيغانه وجهالاته بكمالة إسلامه" و أنه يعتقد أنّ الجهاد هو قتل: " وتهليك غير المؤمنين فمما أنهى وأيقن أن هذا هو الإيمان" حتي دُفع له المال ليقوم بجريمته وشركاءه في الجريمة :" كانوا مرتهنين سره للقتل الذي حصل من غفلتهم وسكوتهم قالوا باطلاً أنهم ما صدقوا سليمان هو مستعد بذا الإثم وقالوا باطلاً أيضاً أن لو كانوا صدقوا ذا المجنون كانوا في الحال شايعين خيانته لكن الأعمال شهود تزور وتنبئ أنهم قابلوا القاتل وما غيروا له نية إلا خوف مهلكتهم ومصممين تهلكة غيرهم" وأن تلك الجريمة الشنعاء يستحق مُرتكبها.: " الخوزقة وأن قبل كل شيء تحرق يد ذا الرجل الأثيم وأنه هو يموت بتعذيبه ويبقى جسده لمأكول الطيور".

ثم يصدر الحكم "بخوزقة" الحلبي بعد حرق يده التي قتل بها كليبر ويترك في العراء تتخطفه الطير وقطع رؤوس "شركائه“ علي: " أن إجراء عذابهم يصير بعودة المجتمعين لدفن السر عسكر وأمام العسكر وناس البلد لذاك الفعل موجودين فيه" وبراءة مصطفي أفندي من تلك التهمة. ثُم أجريت "جنازة عسكرية" "للشهيد كليبر" وتم تنفيد الحكم في المتهومين. كل هذا "التحقيق" لم يأخذ أكثر من 4 أيام حيث في 18 يونيو 1800م يتسلم"الرئاسة" -بدلاً من القتيل- عبدالله جاك مينو: " وهو الذي كان متولياً على رشيد من قدومهم وقد كان أظهر أنه أسلم وتسمى بعبد الله وتزوج بامرأة مسلمة وقلدوا عوضه في قائمقامية بليار فلما أصبح ثاني يوم حضر قائمقام والآغا الى الأزهر ودخلا إليه وشقا في جهاته وأروقته وزواياه بحضرة المشايخ". ولكن لندع مينو يستمتع بالشهور المتبقية له في مصر قبل أن يرحل و ُنكمل-إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) بالنسبة لعمر مكرم-الذي هرب للشام عند دخول الفرنسيين القاهرة واحتمال انه فضل الهروب علي التعاون مع المحتل كما فعل بقية الشيوخ- وهو من الشخصيات التي يتغنون بها في الوطنية والإخلاص فماذا تتوقع أن تكون نوعية "الزعماء" التي تخرج من هذا الشعب؟  لابد ان تكون على نفس القدر من البلاهة والعبط. فالسيد عمر مكرم و "نقابته" الغير شريفة والتي هي جزء من السُلطة الحاكمة تماماً كالأزهر فيتم استخدامها "لتهدئة" الناس وجعلهم شعب "مُسالم" في مواجهة السُلطة "المُسلمة" التي تفعل ما تفعله تماماً "السلطة الكافرة" لكن الظلم والسرقة والنهب والقتل إذا فعلته السلطة المُسلمة-كما يري هؤلاء- فهي ليست آثام بل هي فضائل وكرامات. على كُلاً لقد قام الباشا محمد علي "مشكوراً" –كما سنري فيما بعد- "بالواجب" معهم بعد أن "بلوّنا" به ووضعوه فوق رقاب العباد.
(2) كيف يكون حُلفاء وأحذية ومُعرصي السُلطة السابقة التي تسببت في الوضع الرهان أساساً هم قادة "الثورة" حتى لو كان ضد الاحتلال!!!! هذا النوع من "الثورات" مصيره الفشل.
(3) وهو نفس الخطأ الذي وقعوا فيه في "ثورتهم الأولي". فحينما يكون عدوك يمتلك القلاع والأماكن العالية المحصنة والمُجهزة "بأحدث المدافع" ثم تنتظر أنت وتترس بحيث تُسهل مُهمته في "قصفك" ولا تتعلم من خطأك في المرة السابقة فهذا دلالة قاطعة على غبائك المُستحكِم.
(4) بدل أن يحبسوا الأمراء والكبراء الذين بلا فائدة بل وضررهم أشد وأخطر فهم مع أول مواجهة بدأوا يسوقون التبريرات والأعذار للهروب فانهم تركوهم وحبسوا الخيول التي قد تكون فائدتها أهم وأكبر منهم.
(5) كرات حديدية تستخدم كذخيرة للمدافع لها احجام وأشكال وترتيبات تختلف بحسب الهدف المراد اصابته.
(6) من ضمن المقولات العبيطة أنّ: "معدن المصريين الحقيقي لا يظهر إلا في الأزمات" والحقيقة أن أي جماعة إنسانية أو حتي حيوانية وقت "الأزمات القاهرة" تجد هناك حالة من الترابط والتوحد في مواجهتها هذا جزء من "آلية" الصراع من أجل البقاء. لكن "المعدن الحقيقي" يظهر في حالة الرخاء والوفرة في أنه هل تظل تلك الحالة من الإيثار والترابط أم تُسيطر الأنانية وحب التملك واستغلال الآخر.
(7) في هذا الوقت كانت تحوي ميناء مهم لتبادل البضائع للتجارة التي تمر عبر نهر النيل حتى لقد عني الفرنسيون بتمهيد و اصلاح القنطرة التي كانت تربطها ببقية أحياء القاهرة.
(8) الذي كان قد تم القبض عليه في 5 أغسطس 1799م من قبل الفرنسيين بعد وشاية المواطنين الشرفاء بأنه: "" يدخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود"
(9) بقاءه على قيد الحياة يكفي دليلاً على أن نصف "الثوار" كانوا "أمنجية" والنصف الثاني "بهايم".
(10) الحركة: وصف وسيط بين "الفتنة" و "الثورة" وهي وصف يحاول قائله الا يقع في المحذور بين أن يُدين أو يؤيد حدث ما أو يظهر أنه يُعارض السلطة القائمة كما "حركة الجيش" في 1952م ففي البداية كانت مجرد "حركة" مُحايدة ثم لما رأي "الضباط الأحرار" الضوء الأخضر من القوي التي بيدها الأمر أصبحت "ثورة".
(11) أحد قادة جنود الإنكشارية وآغا مستحفظان منصب مُهمته حفظ الأمن لمنطقة ما.
(12) في حال أنك قُهرت وغُلبت على أمرك واضطررت للتفاوض كيف تجعل من هو عميل وخائن - سواء كان أميراً أو شيخاً - يُفاوض من أجلك بالتأكيد سوف تُضيّع حتى فُرصتك في أن تحصل على اتفاق يحفظ لك "كرامتك" إن كانت لك كرامة أساساً.