الخميس، 17 نوفمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 6

الجيش المصري و شعبه 6
-البداية
(3)

" يا باني مصر الحديثة وجيشها! إلى متي تصم آذانك عن تضرعات شعبك؟ قد أطعمتهُم خُبز الدُّموع، وسقيتهُم الدُّموع بالكيل. يا باني مصر الحديثة وجيشها! قد جعلت شعبك مسخرة بين الأمم، وأعداؤهم يستهزئون بهم. يا باني مصر الحديثة وجيشها! اشح بوجهك الكئيب بعيداً لعلهم يخلصون مما هم فيه".
الإصحاح السادس من سفر الشئون المعنوية


بمناسبة أننا سنُقابل عدة "هوجات" سيُطلق عليها -كما هي العادة- مُصطلح "ثورة" والثورة من ذلك براء. فوجب التنبيه أننا وإن كُنا سنستخدم مُصطلح "ثورة" علي تلك الهوجات فقط مُجاراة لما هو مشهور. وبشكل عام "الهوجة" ليست شيئاً سيئاً بذاتها،  فقد رأينا أن الثورة الفرنسية بدأت كهوجة من مواطنين مطحونين ضد غلاء الأسعار و شُح المواد الغذائية. لكن هذه الهوجة إن لم يتم استغلالها من "النُخب" سواء كانت تلك النُخب مُثقفين أو علماء أو عسكريين و خلافه التي تعمل علي بلورة أهدافها و العمل علي تحقيقها "مهما كلف الأمر"، سُرعان ما ستنتهي إلي اللاشئ و ستُصبح مجرد "أحداث" تُذكر في كُتب التاريخ في صفحة أو اثنتين أو حتي في سطر أو اثنين. و لذلك من ضمن أسباب "نجاح" و انتشار الهوجات و نُدرة أو انعدام الثورات في منطقتنا هو أن نُخبها –كما قُلنا سابقاً- إما نُخب عميلة للنُظم و هي أساساً صنيعة تلك النُظم و تعيش علي ما تُلقيه لها من فُتات أو هي نُخب مُغفلة و ساذجة إن لم نتجاوز و نقول "عبيطة و هابلة". إن أي هوجة مُستقبلية محتومة الفشل طالما بقيت تلك "النُخب" هي المُتصدرة. إن كُل ثورة لابد ان تكون سبقتها "هوجة" لكن  ليس كل "هوجة" بالضرورة ستتحول إلي ثورة.


انتهينا المرة السابق إلي "اطمئنان الناس و أُنسهم" بالاحتلال و أنّ "العسكر الفرنسي" كان يُعاملهم بكل "حنية" تلك الحنية التي لن تدوم إلا أياماً معدودة حتي يبدأ "الحلب" الذي لن يرحم أحداً و سيمتد –بالإضافة للحيوانات الإنسانية- إلي عالم الحيوانات العجماء و الجماد.


ففي يوم السبت27 يوليو 1798م:" اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة وهي مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام، وتجار الافرنج أيضاً فسألوا التخفيف فلم يجابوا فأخذوا في تحصيلها." بل و دعوا أيضا كل من نهب شيئاً من بيت الأمراء أن يُعيده و إلا لا يلوم إلا نفسه ثم جرت "مُصالحات" مالية يدفعها زوجات الأمراء أو الجنود الفارين و المتغيبين و كما يقول الجبرتي فقد: "جمعوا بذلك أموالاً كثيرة."


وفي يوم الأحد 28 يوليو 1798م :" طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئاً كثيراً وكذلك الأبقار والأثوار، فحصل فيها أيضاً مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى، ويستخرجون الخبايا والودائع ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت أسيادهم بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها أغراضهم."


وفي يوم الثلاثاء 30 يوليو 1798م :" طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسُلفة مبلغاً يعجزون عنه وأجلوا لها أجلاً مقداره ستون يوماً." لكن التُجار ضجوا و استغاثوا بمشايخ الأزهر فتم تخفيض "القرض" للنصف و زيادة مُدة مُهلة "السداد". وفي 1 سبتمبر 1798م :"قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد ونشروا بذلك أوراقاً وذكروا فيها أنها تحُسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط, ونزلوا في البلاد مثل الحُكام يحبسون و يضربون و يشددون في الطلب". لقد بات واضحاً أن "المصريين" أمامهم أيام سود فهم و إن كانوا تخلّصوا من ظُلم المماليك إلا أن من "استلم السُلطة" لا يبدو أن في قاموسه شيء اسمه "الرحمة".


بعد أن استتب الوضع للفرنسيين في القاهرة سيبدءون في الاتجاه شرقاً في أثر المماليك الفارين حيث سيتم التمهيد حينها لحملة نابليون علي الشام فيبعث "بمكاتبات و هدايا" إلي أحمد باشا الجزار رجل الشام "القوي" الذي بدأ "مستقبله المهني" في مصر والتي حصل منها علي لقب "جزار" و هي مهنة مهمة لأي مُتطلع للسلطة طامح في أن يبقي علي كُرسيه كُل ما في الأمر بدل أن تكون "الذبيحة" من البقر و الأغنام فلابد ان تكون الذبيحة بشرية. ولكن أحمد باشا الجزار سيكتفي بارجاع "الهدايا".


وفي أول أغسطس  1798م هاجم الأسطول الملكي البريطاني الأسطول الفرنسي و دمره تدميراً في المعركة المعروفة "بمعركة أبي قير البحرية" لتكون ايذاناً بفشل الحملة الفرنسية الفعلي حتي لو استمرت القوات الفرنسية في مُغامراتها المحتومة الفشل لوجود ند قوي و عنيد مُتربص بها كبريطانيا.


 وفي 6 أغسطس 1798م:" خرجت طائفة من العسكر الفرنساوي الى جهة العادلية وصار في كل يوم تذهب طائفة بعد أخرى ويذهبون الى جهة الشرق، فلما كان ليلة الأربعاء خرج كبيرهم بونابارته وكانت أوائلهم وصلت الى الخانكة وأبي زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا، فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا الى بلبيس." وفي 11 أغسطس 1798م :" ملك الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال ", وفي 11 سبتمبر 1798م:" وصل الفرنساوية الى نواحي القرين ".


لم يفت نابليون في هذه الأثناء المُشاركة في احتفالات المصريين سواء الوثنية منها أو الدينية . ففي 17 أغسطس 1798م كان"وفاء النيل المبارك"، فيأمر نابليون:" بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة […] ونادوا على الناس بالخروج الى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم، أرسل صاري عسكر أوراقاً لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صحبها، وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره الى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم […]، وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أحد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها."


ويسأل نابليون عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فيعتذر أحد شيوخ الأزهر الشيخ خليل البكري:" بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال "، فلا يقبل نابليون هذا الكلام و يقول :"لابد من ذلك وأعطى له ثلاثمائة ريال فرانسا معاونة وأمر بتعلق تعاليق وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم وأرسل الطبلخانة الكبيرة الى بيت الشيخ البكري واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره". و في نفس ذات اليوم "بالمُصادفة البحتة" يُقلد نابليون الشيخ العرص " نقابة الأشراف" ويُنادي في المدينة:" بأن كل من كان له دعوى على شريف فليفعها الى النقيب."


وفي 27 أغسطس 1798م تبدأ حملة بقيادة الجنرال "ديزيه" لمُطاردة مراد بك والمماليك الفارين للصعيد يُصاحبه المعلم يعقوب القبطي "الخائن" كما يصفه البعض والذي سيُصبح "جنرالاً" "ليُطلعهم على الآمور ويدلهم على المخبآت". إن الأقليات -خصوصاً الأقليات الدينية- تُمثل صُداعاً لأي دولة خصوصا إذا كانت هذه الدولة في حرب مع "الدين" الذي تنتمي لها تلك الأقلية. لأن المُخلصين منهم والذين يؤمنون حقاً بدينهم لابد وأن يُحاربوا في صفوف "الأعداء". ليس فيما فعله المعلم يعقوب خيانة بمعني أنه خان "جيرانه وأصدقائه" وإلا لاعتبرنا أن "المُسلمين الصادقين" -ولا أتكلم بالتأكيد عن المُسلمين المُعرّصين-  سواء كانوا فرنسيين أو غيرهم والذين يقومون بعمليات دفاعاً عن الإسلام و المسلمين ضد "أبناء وطنهم" خوّنه. بل أري أن المعلم يعقوب أكثر اتساقا وأقل تعريصاً مع نفسه مما فعله "شيوخنا" الذين تعاونوا مع المحتل.  لو كانت الحياة بمثل ذلك الوضوح، لو أننا نقول ونفعل ما نؤمن به حقاً لما احتجنا إلى أكاذيب المؤرخين. 


فعلي موقع كنيسة "القديس تكلا"(*)  يقول عن يعقوب حنّا تحت شخصيات من تاريخ الكنسية:" هو أول قبطي ألَّف جيشاً قبطياً بقيادته، وأول مصري وضع مشروعاً لاستقلال مصر عن الدولة العليه وعن حكم المماليك، إذ أرادها بلاداً حرة خالصة لأهلها ولكن المنيّة لم تُمهله حتى ينال موافقة الدول على الاستقلال. إذ رأى أن مصر محرومة من جيش وطني يمكن الاعتماد عليه ففكر في تأليف فرقة قبطية واتفق مع الفرنسيين على ذلك، فجمع من الصعيد نحو ألفين قبلهم الفرنسيون ودرّبوهم على حمل السلاح والقتال، وتعلم يعقوب الحركات العسكرية وترأس الفرقة القبطية وأُلحِق بخدمة الجيش الفرنسي ومُنِح رتبة جنرال (قائد)". لاحظ نفس "المُصطلحات" التعريصية الوطنية من "الاستقلال" و "بلاد حرة" و "جيش وطني". رغم أنه لم يدر بخُلد المعلم يعقوب كل هذا فهو –من الطبيعي- أنه يكره كُل ما هو إسلامي و قد وجد الفرصة سانحة لكي يستعيد "القبط" وضعهم "كأصحاب البلد الأصليين" كما تروي "أساطيرهم". على أية حال المعلم يعقوب و إن كنت تحترم "استقامته" لكن هذا النوع من الأعداء غالباً ما يكون أذكي و أشرس من "القبطي العبيط المُعرِّص" و هم الغالبية –كما أن أشباههم من المُسلمين هم الغالبية- والتي يتحدد بناءً عليها موقف الكنيسة "الرسمي" ، فلابد لذلك ألا تأخذك به رحمة إن وقع تحت يديك.


ومن "القصص" التي يرويها الجبرتي و يستدل بها البعض علي أن "الشيوخ" رغم كُل شيء كان لديهم بقية من "كرامة" فيقول أن نابليون طلب حضور المشايخ عنده فلما استقروا أحضر اغطية للرأس ملونة بألوان العلم الفرنسي ووضع واحداً علي كتف شيخ الأزهر الشيخ الشرقاوي فما كان منه إلا أن :" رمى به (بغطاء الرأس طبعاً و ليس بنابليون) إلى الأرض واستعفى وتغير مزاجه وانتقع لونه واحتد طبعه" فقال المُترجم محاولاً تلطيف الجو :" يا مشايخ أنتم صرتم أحباباً لصاري عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قلوبهم". فيرد عليه المشايخ : " لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين"  فيغتاظ نابليون و "يرطن" بالفرنسي. يُضيف الجبرتي أنه" بلّغ عنه بعض المترجمين" أنه قال أن الشيخ الشرقاوي لا ينفع في الرئاسة. فلو علمنا أن الشيخ الشرقاوي استمر شيخاً للأزهر حتي وفاته في 1812م و أنه سيُصبح رئيساً للمشايخ  الذين سيشكلون ديوان جديد آخر مع "إخوانهم" النصاري الذي سيُنشئه الفرنسيون لعلمنا أن هؤلاء المُترجمين "حمير" أو أن نابليون "شتم" الشرقاوي والشيوخ الحاضرين شتائم قبيحة أو أن حكاية "المُترجمين" هذه مجرد "قصة" للتسلية و أميل أكثر للاحتمال الثاني. ثم حتي لو افترضنا صحة الواقعة فما هي الفضيلة فيما فعله شيوخ "نايمين شاربين" مع المُحتل يأتمرون بأمره، فمن الطبيعي أنهم يخشون على أنفسهم من "العامة" فما هي إلا ورقة التوت الأخيرة فإن سقطت ظهرت عوراتهم فبضاعتهم هي في "الشكل" لذلك لابد من المحافظة عليه. لكن الجبرتي يُنهي قصته بشكل عبقري يجعل "مخرج" للشيوخ فيقول:" حضر الشيخ السادات باستدعاء فصادفهم (أي الشيوخ) مُنصرفين، فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صاري عسكر ولاطفه في القول الذي يعربه الرجمان وأهدى له خاتم الماس وكلفه الحضور في الغد عنده وأحضر له جوكار (شارة بألوان العلم الفرنسي) وأوثقه بفراجته(عباءته) فسكت وسايره وقام وانصرف، فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين." وهكذا فالأمر سيان تضع علامة المُحتل أم لا، فهذا "لا يخل بالدين" فالأمر فيه خلاف "فقهي". إن هذا "التكنيك" القديم في كيف تُسلط دائرة الضوء بعيداً عن المُشكلة الرئيسية. كُل ما عليك هو أن يكون "الفوكَس" علي قضية فرعية هامشية تافهة و أن تجعلها "أيقونة" للمشكلة و بحلها يتم حل المُشكلة الأصلية كُلها. و التي في الحقيقة لم تُحل و لكن "المُغفلين" الذين يُتابعونك سيعتقدون ذلك حتي لو رأوا "بأم أعينهم" العكس. إن "تتفيه و تسطيح القضية" من أنجح الأساليب في حل القضايا العويصة. فتلخيص العمالة في وضع شارة المُحتل أم لا، ثم بجعل هذا الأمر سيان فالأمر فيه "مُتسع" و "متبقاش ضيق"، وهكذا تم حل مشكلة العمالة بمنتهي "البساطة".  و كلما كنت "تافهاً" وسطحياً كُلما استطاع شعبك التافه السطحي أن يفهمك و يتجاوب معك .


 

الصوة السابقة هي مثال عملي للتفاهة والسطحية: علي يمين الصورة تقف "الفقر والذِلة" مُجسدة و أمامها يقف "البرنس" الذي سيُحول الفقر لغني والذِلة لرفعة و كرامة و في الخلفية كلبي حراسة لزوم "الأمن و الأمان"، أمّا في أقصي اليسار "السيارة" التي ستعبر بها لبر الأمان. لقد تم حل مُشكلة الفقر و العوز و ذِلة شعب كامل  في صورة واحدة و أصبح البرنس "المتواضع البسيط" رمزاً "للهبل" الذي سيُكتب بحروف من "كاكا" في صفحات التاريخ المصري الملئ به.


وفي 14 سبتمبر 1798م وردت رسالة من إبراهيم بك الأمير الهارب إلي غزة يقول فيها للمشايخ :" أنكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية، وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله تعالى عن قريب نحضر عندكم" . و طبعاً "علم" بونابرت بتلك بالرسالة فارسلوها اليه و لما قُرئت عليه قال أن: "المماليك كذابون"، وكان من أثر ذلك و خوفا من أن يتسرب الأمل في نفوس الناس فتبدأ المشاكل -التي سُرعان ما ستبدأ- أنه في  26 سبتمبر نادي:" أصحاب الدرك(الشرطة) على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم." وفي 27 سبتمبر :" قتلوا شخصين وطافوا برؤوسهما وهم ينادون عليهما ويقولون هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب", تلك المشاكل التي لن تأتي فُرادي "فالطاعون" يتربص بهم لذلك:" نبهوا الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن […] ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة[…]وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر ونادوا أيضاً بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطحة عدة أيام، وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدوه […] ومن قولهم أيضاً إن مرض مريض لابد من الإخبار عنه فيرسلون من جهتهم حكيماً للكشف عليه إن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيه فيه." وسيُنادي في الأسواق : " بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يوماً[…] فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة الى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون". الطاعون "الجندي المجهول" الذي كان يُحارب في صفوف أعداء فرنسا.


ثم بدأ الفرنسيون في تكوين ديوان جديد بدلاً من الديوان القديم: "وكتبوا في شأن ذلك طوماراً(وثيقة). وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي( جمع بين "فضلتين" فهو أحد "شُهداء" الكنيسة وأيضاً أحد النصاري "الخونة") الذي كان كاتباً عند أيوب بك الدفتردار، وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركاناً من البدع السيئة، وكتبوا نسخاً من ذلك كثيرة أرسلوا منها الى الأعيان ولصقوا منها نسخاً في مفارق الطرق ورؤوس العطف وأبواب المساجد، وشرطوا في ضمنه شروطاً وفي ضمن تلك الشروط شروطاً أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية، ومحصله التحيل على أخذ الأموال."


وفي 27 سبتمبر 1798م كتب الشيوخ بأمر الفرنسيين رسالة لكُلاً من السُّلطان العثماني و شريف مكة تحتوي نفس الكلام المُكرر من أنهم أصدقاء السّلطنة و يحاربون اعدائها وأن "شعائر الإسلام" مُقامة على ما هي عليه و إنهم مسلمون وإنهم يحترمون القرآن والنبي واعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا أموالاً في شأن انتظامه... الخ.


وفي 6 أكتوبر 1798م: "نبهوا على المشايخ والأعيان والتجار ومن حضر من الأقطار بالحضور الى الديوان العام ومحكمة النظام […] فتوجه المشايخ المصريين والذين حضروا من الثغور والبلاد وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعاً موفوراً. فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطي القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط وفي المناقشة، فابتدر كبير المديرين في إخراج طومار آخر وناوله للترجمان فنشره وقرأه ". هذا "الطومار" هو نفس الإسطوانة التي مازلنا نسمعها إلي الآن من أن " مصر هي المركز الوحيد وأنه أخصب البلاد" وأن "العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في هذه الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول" ولكون مصر "فاتنة" فقد " طمعت الأمم في تملكه فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن"ثم تنتقل الوثيقة إلي بيان الدور الفرنسي في "خلاص" المصريين من الظلم و الفقر :"ثم إن طائفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت لأنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلاً وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ولم يعاملوا الناس بقسوة، وأن غرضهم تنظيم أمور مصر وإجراء خلجانها التي دثرت ويصير لها طريقان: طريق الى البحر الأسود، وطريق الى البحر الأحمر، فيزداد خصبها وريعها، ومنع القوي من ظلم الضعيف وغير ذلك، استجلاباً بالخواطر أهلها وإبقاء للذكر الحسن" وبالتالي فعلي المصريين و عرفاناً بالجميل : " ترك الشغب وإخلاص المودة" ثم بعد "تلاوة" تلك الوثيقة في هذا "المؤتمر المبارك" يُقول المترجم –كما يروي الجبرتي-للشيوخ: "نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصاً منكم يكون كبيراً ورئيساً عليكم ممتثلين أمره وإشارته", ومن غير شيخ الازهر يكون لها لكن المترجم يقول:"نونو إنما ذلك يكون بالقرعة "فيعملوا القرعة و من غير أي "ترتيب ولا حاجة" تقع القرعة على الشيخ الشرقاوي، سُبحان الله حتي القُرعة بتعرّص.


سيبدأ هذا الديوان برئاسة ملطي القبطي الإجتماع يومياً "لمناقشة": "أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات وأمر المواريث[…] يدبرون رأيهم في ذلك وينظرون المناسب والأحسن وما فيه الراحة لهم وللرعية" وفي أحد "الجلسات" يسال المعلم ملطي بصيغة "الإستهبال" : " يا مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث؟" فيخبره الشيوخ: "بفروض المواريث الشرعية"، فيسألهم الملطى "مُستعبطاً":" ومن أين لكم ذلك؟"، فيجابوه:" من القرآن ويتلوا عليهم بعض آيات المواريث" فيقول "الإفرنج":" نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا" ثم يطلبوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فيكتبوا لهم :"كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك."


لكن أخطر القرارات التي سيتخذها هذا الديوان هي الضرائب التي ستُفرض علي "الأملاك و العقارات" ففي يوم السبت 20 أكتوبر 1798م :" أحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأقل ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى، وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخاً للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها." 


لقد بلغ السيل الرُبي كما يقولون وستبدأ "أحداث أكتوبر" أو ما سموه ب "ثورة القاهرة الأولي", فيقول الجبرتي أنه لمّا : " أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور" ويصف الجبرتي المشهد بصورة قاتمة حتي أنه يُذكرك بالشيوخ المُعاصرين دائمي التحذير من "الفتنة و الفوضى": " فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات(عامة) الحسينية وزعر(فتوات) الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم، ويقولون بصياح في الكلام "نصر الله دين الإسلام" فذهبوا الى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب، وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوي (حاكم القاهرة العام ونائب نابليون) بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط الصنادقية وذهب الى بيت القاضي، فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الأخطاط بالخلائق مزحومة، فبادروا إليه وضربوه وأثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه" عنصر المفاجاة هنا يجعل قدم السبق  "للغوغاء"حتي لو كانوا غير مُنظمين: " فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا ومسكوا أطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية الى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها، ولم يتعدوا جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا أحجارها متاريس للكرنكة(للإحتماء خلفها) لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس، وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أحد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر، ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية أزالوهم". ورغم أن "العامة" استطاعوا تحقيق "نصر" و لو مؤقت إلا أن الجبرتي يبدو أنه كان-والله أعلم- من بين المتضررين من عمليات "النهب و السرقة"  أو من اللائي "سُبين" فيقول : "وعند ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد، وامتدت أيديهم الى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية، ونهبوا دور النصارى الشوام والأروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام، وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات، وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات، وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب، وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحال مستمرين" بعد انتهاء عنصر المفاجأة و بما أن "الثوار" ليس لديهم فكرة عن "ماذا بعد" وأن الأمر ليس "حماسة و فتوة" و هتافات "دينية"، فتبدأ أولي "علامات الهزيمة" فهم قد أصبحوا فريسه سهلة لمدافع الفرنسيين التي ستبدأ باستهداف كل شيء ."فالتترس" أصبح مصيدة أوقعوا أنفسهم فيها فيُحضر الفرنسيون:" جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبات ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين، وكان كبير الفرنسيس أرسل الى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين، حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر وجرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين". طبعاً لم يتوقع الناس أن يكون الأمر بمثل تلك  القسوة فيتحول "أدرينالين" الحماسة الذي يدفعك للقتال إلي رغبة محمومة في أن "تنفد بجلدك" من هذا الجحيم، فيقول الجبرتي : "فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا :"يا سلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"، وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق" فيذهب المشايخ كالعادة :"الى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال، فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير واتهمهم في التقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم  وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب" لم يبقي إلا شرذمة تُقاتل حتي آخر طلقة لكن "الشجاعة" وحدها لا تكفي : " وأما الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين، ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والإفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع، الى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا". فيبدأ الفرنسيون في "التدفق" من جديد لكن هذه المرة لن يكون هناك احترام لأي شيء فلابد من "رد الإعتبار": "وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، […] وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا ارسالاً ركباناً ورجالاً ثم دخلوا الى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول. وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه" وهكذا تنتهي "هوجة القاهرة الأولي" عفواً أيها الوطنيون "ثورة القاهرة الأولي". أظن "مفيش أحلي من كده ثورة" و نراكم -إن شاء الله- "الثورة" القادمة.
******************************************************************************************************
(*) الموقع هنا

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 5

الجيش المصري و شعبه 5
-البداية
(2)


"ويقول الباشا لشعبه: "أنتُم أولادي. لا تخمشُوا أجسامكُم، ولا تجعلُوا قرعة بين أعيُنكُم لأجل أن تهربوا من التجنيد. ولأنّكم شعب عبيط، فقد اخترتكم لكي تكُونوا لي شعبا خاصّا فوق جميع الشُّعُوب الّذين على وجه الأرض." فيرد الشعب عليه:" أبانا الباشا ليتقدس اسمك ليأت بنوك ليحكمونا، لتجري مشيئتك على قفانا كما تُريد. فقط نستعطفك و نسترحمك أن لا تحرمنا رغيف العيش أو تمنع عنّا الزيت والسُكر" "
الإصحاح الخامس من سفر الشئون المعنوية

نسمع دائماً الكثير من المخابيل الذين  يُحبون ترديد الإكليشيهات و الجُمل المحفوظة و التي قد تبدو لأول وهلة –خصوصاً لأتباع هؤلاء المخابيل- ذات معني عميق سحيق, لكنها في الحقيقة ليست إلا "سفسطة" فارغة أنتجتها عقول مُنهزمة ذليلة و جبانة . فنسمع من يقول: "الحق فوق القوة " و الحقيقة أنه لا حق إلا بالقوة. إن أي مبدأ أو فكرة أو نظام بدون قوة قاهرة تجعله واقع تظل كلمات جوفاء لا تحمل أي معني . فما معني الحُرية إذا لم تكن هناك قوة "تضمن" أن تتمتع بها؟ و ما هو الحق إن لم يوجد سيف مُسلط علي رقبتك لتعترف به؟ إن الخلل يأتي حينما نعتقد أن الناس تفعل "الخير" لذاته أو أنهم لا يعتدوا علي "ممتلكات الغير" لأنها ليست ملكاً لهم أو تحترم "قوانين المرور" لأنها تحميهم. كيف يمكن أن يوجد أي نظام يُطيعه الناس بدون قوة قاهرة تُجبرهم على ذلك؟! ليس بالضرورة أن تكون فجة و ظاهرة كما في الدول "المُتخلفة" بل حتي لو لم تشعر بها فهي موجودة مُتربصة لأياً من يُفكر أن "يخرق" القانون الذي أنتجه النظام نفسه. إن القوة القاهرة هي عصب أي نظام و قلبه النابض. وما الإعلام و التعليم و التلقين الذي يبدأ مُنذ أن تتفتح عيناك إلا مراحل لجعلك "راضياً" خاضعاً بملئ "إرادتك" لتلك القوة. إن عالم المُثل الذي يعيش فيه هؤلاء الحمقى كفيلم "كرتون" حيث البطل أبداً لا يموت مهما حاول "أعدائه". حيث كل شيء بسيط و نقي و خيّر. حيث يتحول الأعداء في النهاية إلي أصدقاء أوفياء. حيث الحق فوق القوة.  أما في الواقع فأسهل شيء هو قتل انسان آخر. في الواقع إن لم يقدر عليك أحد "فالسرقة" تُصبح حقك "الشرعي". أن القوة هي عنوان الحقيقة و أن الحق إن لم تكن له قوة تحميه فهو عين الباطل. هذا لا يعني أن تُسلم للباطل و قوته التي تحميه لكن إذا أردت أن يعلو "حقك" فلابد أولاً أن تمتلك أنت القوة ثم بعد ذلك يجب أن تهزم و تهدم قوة الباطل تلك. أما أن تظل تُردد بأن الحق –هكذا بلا أي فعل من جانبك – سوف ينتصر في النهاية. أو تخرج تُردد شعارات جوفاء مُعتقدا أن الناس ستتعاطف معك و سيقفون في جانبك فما هذا إلا هروب من تحمل المسئولية بل و جبن و نذالة. لأنك تُسهل مهمة الباطل و قوته في الانتصار علي "حقك" و حقوق من تُدافع عنهم.

الآن سنبدأ بدءً من تلك التدوينه فحص عدة روايات تتناول الحملة الفرنسية من عدة زوايا. فمن الشيخ الجبرتي الذي سنعتبر روايته هي و جهة نظر "أبناء البلد" بما أن هؤلاء لم يتركوا لنا أي أثر نتعرف فيه عن نظرتهم فيما كان يحدث, فسنعتمد علي رواية الشيخ و إن كنت أضعه في طبقة الشيوخ المُعرصين لكن لا خيار آخر لدينا . كما سنري الحملة بعين "الجاسوس" المعلم نقولا التُرك الذي أرسله الأمير بشير الثاني أمير جبل لبنان و الذي سيكون له دور مُهم فيما بعد في "انتصارات" إبراهيم باشا في الشام. فكما يقول مُحقق كتاب المعلم نقولا "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية و البلاد الشامية" العميد الركن د.ياسين سويد أن الأمير بشير الكبير ارسل المعلم نقولا مصر وكلفه : " إقامة علاقات ود وصداقة مع أعيان مصر وزعمائها ، تمهيداً لإقامة تحالف معهم ، كما كلفه " مراقبة الحالة العامة أثناء الاحتلال الفرنسي" وقد استطاع أن يقيم مع العديد من الوجهاء والأعيان وأصحاب المناصب العليا في المجتمع المصري ، وفي الدولة المصرية وخاصة مع أولئك المنُحدرين من أصل شامي علاقات حميمة سهلت، فيما بعد لسيده الأمير، تحالفاً قوياً ومتيناً مع حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر محمد علي باشا."

ثم يتسائل المُحقق إذا ما كان الأمير يرغب فعلاً:" في درس أحوال الجيش الفرنسي في مصر ، ليقرر بعدها إذا كان عليه أن يتحالف مع الغازي الأوروبي لمصر أولاً، ثم البلاد الشام ثانياً؟ وهل أن هذه الرغبة هي التي دفعته إلى تكليف "المعلم نقولا  هذه المهمة الخطيرة ، حيث كان عليه أن يحسن المراقبة من مقره ، في القاهرة أولاً، ثم في دمياط، وأن يدون كل ما يتصل به من أخبار الجيوش وتحركاتها، وعددها وعُددها ، وأن يرسل بخلاصة ذالك إلى أميره ، "، وذلك قبل أن يرمي برجاله في مغامرة غير مضمونة العواقب إلى جانب الجيش الفرنسي ؟".يعني باختصار كان الأمير احد الإنتهازيين في المنطقة الذي يبحث عن قوة جديدة يحتمي بها كما سيفعل حليفه الباشا. ثم أخيراً سنري الأمر من زاوية "الغزاة" الفرنسيين أنفسهم لكي تكتمل لدينا الصورة و نستطيع أن نكوّن فكرة معقولة عن "الجو" الذي ظهرت في اسطورتنا. اذا ثلاثيتنا ستكون الشيخ و الجاسوس و الغزاة.

الرواية الأولي : الشيخ.

يبدأ الجبرتي تسجيله لأحداث يونيو 1798-1213ه قائلاً : " أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب ﴿وما كان ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾(هود-117)". ويقول أن الإنجليز قد اقتربوا من شواطئ الإسكندرية و بعثوا بوفد لهم فقابلهم  "السيد" محمد كُرّيم فاخبروه أن :" الفرنسيس خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم" , طبعاً الإنجليز خائفون علي مصالحهم و كما رأينا فقد كانت إنجلترا ضمن التحالف الأول الذي أنشئ للقضاء علي الثورة الوليدة . و كل من فرنسا و إنجلترا كانوا "أصدقاء" الباب العالي هؤلاء الأصدقاء الذين سيقتسمون المنطقة فيما بينهما لاحقاً. ولكن السيد مُحمد كُرّيم "الوطني" المُغفل خاطبهم بخشونة مُعتقداً أن تحذريهم ليس إلا مكيدة. وكثرت الشائعات و الأقاويل و لكن حينما غادر الإنجليز وردت المُكاتبات: " أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأن الناس وسكن القيل والقال، وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتماداً على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم." و لم تمضي عدة أيام علي هذا "الاطمئنان"و في أول يوليو 1798م ظهر الفرنسيون علي شواطئ الإسكندرية و كما هو متوقع لم يجابهوا مُقاومة حقيقة فقد كان الكُل في غيبوبة "التفوق" الكاذب الذي سيلازم حتي الجيش الذي سينشُئه الباشا إلي يومنا هذا. و في نفس اليوم سيطر الفرنسيون علي المدينة فطلب الناس الأمان و جمع الفرنسيين "أعيان" البلد و طلبوا منهم جمع السلاح و تسليمه.

وعندما وصلت الأخبار القاهرة بسقوط الإسكندرية: " حصل للناس انزعاج وعول أكثرهم على الفرار والهياج". أما الأمراء فقد اجتمعوا ليروا كيف سيتصرفون في تلك "الرزيّة" التي حلت بهم : " ابراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان مقيماً بها، واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مكاتبة بخبر هذا الحادث الى اسلامبول وأن مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم، وانفض المجلس على ذلك" طبعاً لا يوجد أي "خطة" مجرد رد فعل عشوائي علي ما "ربنا يسهّل" فالخطة هي أن يتم تعطيل تقدم الفرنسيين : " ظناً منهم(أي المماليك) أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة". لكن ما حدث أنّ : " الفرنسيس عندما ملكوا الاسكندرية ساروا في طريق البر الغربي من غير ممانع". فيصل الفرنسيون إلي دمنهور و رشيد في 9 يوليو 1798م .فيخرج "معظم أهل تلك البلاد على وجوههم" كما هي العادة , أما "العُقلاء" فيطلبون الأمان ، وقد كتب الفرنسيون مرسوماً وطبعوه وأرسلوا منه نسخاً الى البلاد التي يقدمون عليها تطميناً لهم.

في هذا المكتوب كُل "المفاتيح" التي يحملها من يُريد حُكم المنطقة. أولاً أظهر الإسلام حتي لو كُنت "كافر ابن كافر". و هكذا ف"السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته ""مُسلم" أكثر من الماليك انفسهم و هو "يحترم" النبي و "القرآن العظيم",.  بل إنّ كُل الفرنسيين هم "مُسلمون مُخلصون"  و ما جاءوا لمصر إلا لتخليص المصريين من حُكم "العبيد" المماليك الجائر و لكي يعيدوا لمصر "حُسنها" و بهائها وتصبح "أد الدنيا". ولا يهم بعد ذلك إن ادعيت الألوهية أو حتي أنكرت وجود الله بالكُلية. المهم أنك "مُسلم موحد". وسنجد كيف أن كثير من الفرنسيين قد "اعلنوا" اسلامهم ولكنه اسلام "كده و كده" حتي يكتمل "الشكل" ويسهل حكم هؤلاء "الرعاع" . فهو اسلام "تغيير الإسم" فإن كان اسمك "مينو" غيره ليُصبح "عبدالله" و إن كنت "جوزيف" ف "سُليمان" سيليق أكثر.

 المفتاح الثاني بأن تقول أنك غير "طامع" في السُلطة بل ما هي إلا "تكليف ثقيل و مش تشريف " وحينما تكتشف تلك الشعوب أن "معبودتك" هي السُلطة نفسها.  فلا ضرر فتلك الشعوب لن تمتعض أو تتحرك أو تغضب أو تقاوم أو تثور , فقط ستنتظر "عابد" جديد "يركب علي السُلطة" و يتخلص من "العابد" القديم. لكن هل تلك الشعوب تعي اللعبة و ترفض المُشاركة فيها أو علي الأقل تفرض هي قوانينها أبداً لا يكون.

 المُفتاح الثالث هو أن لا تأخذك رحمة بمن "يُعارضك" فإن كان : " طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب." لكن  :" الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقاً الى الخلاص ولا يبقى منهم أثر." فكل قرية تقوم علي "العسكر الفرنساوي" تُحرق بالنار.

ثم يلتقي المماليك و الفرنسيين خارج القاهرة "فلم تكن إلا ساعة" و ينهزم مراد بك المذكور و قواته فينسحب راجعاً. فتصل الأخبار القاهرة فيشتد انزعاج الناس ويذهب إبراهيم بك :" الى ساحل بولاق وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم، فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق الى شبرا ويتولى الإقامة ببولاق ابراهيم بك وكشافه ومماليكه" و كان العُلماء يقومون بدور "عظيم" و حيوي حين ذهاب مراد بك لمُلاقاة الفرنسيين . ذلك الدور الذي خلده الجبرتي في كتابه و أظهر أهمية العُلماء في الدفاع عن "الأمة" فقد كانوا يوميا بعد أن يأكلوا و يشربوا و يجامعوا نسائهم – حقاً لقد عاني هؤلاء العلماء الكثير- يجتمعون: " بالأزهر كل يوم ويقرأون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير ويعملون لهم مجالس بالأزهر وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء."

وبدأ مراد بك في عمل المتاريس في العاصمة ناحية بولاق استعداد للمحتوم لكن مع ذلك : "قلوب الأمراء لم تطمئن بذلك، فإنهم من حين وصول الخبر من الاسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة الى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضاً في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل وأدوات الارتحال، فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقي بمصر منهم واحد."

 ثم أُعلن "النفير العام" فبدأ الناس بالتجمع عند المتاريس كل يحمل له ما تيسر من السلاح حتي العصي و النبابيت و خلت الشوارع فلا تجد بها أحداً:" سوى النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، فإنهم مستترون مع النساء في بيوتهم والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش وغلا سعر البارود والرصاص، بحيث يبيع الرطل البارود بستين نصفاً والرصاص بتسعين، وغلا جنس أنواع السلاح وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون الى الله بالنصر".

و أما في "الأرياف" فقد حلت الفوضى العارمة فالناس : " يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله الى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى" ولا تعلم أين ذهبت أخلاق "أبناء البلد" التي يصدعوننا بها ليل نهار و لا أين تلك "المقاومة" الخُرافية. احتمال أن المصريين أذكى مما نعتقد فهم كانوا يريدون دخول الفرنسيين لأراضيهم. فاصطنعوا المقاومة المزعومة تلك وتركوا الفرنسيين الأغرار يدخلون بأرجلهم ويحتلون مصر، ليبدأ المصريون بعد ذلك "المقاومة علي نضافه". إنّ "العبقرية" المصرية لتُعجزك عن التعبير عنها من فرط بلاهتها. هل سمعت يوماً عن "عبقرية بلهاء"؟!  احتمال أنك لم تسمع ولكنك بالتأكيد لا تستطيع أن تُنكر أنك تراها يوميا في كثير مما حولك.

و كالمُعتاد بدأ "الفتي" مع اقتراب الفرنسيين من العاصمة فمن قائل :" إنهم (أي الفرنسيون) واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين"، أما أمراء العساكر فلم يهتموا حتي أن يبعثوا: "جاسوساً أو طليعة تناوشهم بالقتال قبل دخولهم وقربهم ووصولهم الى فناء المصر" بل كُل أمير : " جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل".

وفي 21 يوليو 1798م وصل الفرنسيون من البر الغربي قريبا من امبابة و عندها : " اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر(يعني القاهرة) ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم مختالون في رئيسهم مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوهم مرتبكون في رويتهم مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم."

ويحمي وطيس المعركة التي تُستخدم فيها البنادق و المدافع : "فتضج العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم "يا رب ويا لطيف ويا رجال الله "ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم:" إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح"، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه."

وبعيدا عن تفاصيل المعركة فقد انهزم المماليك و عسكرهم و هرب أمراءهم كُلاً في طريقه لا يلوي علي شيء : " فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر(القاهرة) البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة ممتثلاً للقضاء متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور.[…] وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات(فرق عسكرية) وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهروب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون […] وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصحبها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته.[…] وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن "

واجتمع بعض الشيوخ المُتبقين في الأزهر لأن "المشايخ الكبار" كانوا قد هربوا و تشاوروا : " فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة الى الإفرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم" .طبعا ارسلوا لنابليون لكي يُعطيهم "الأمان" و ليس لتهديده أو تحذيره من "ويلات" ما يفعله -لا سمح الله- إنهم شيوخ عُقلاء "وطنيون". ويذهبوا لمُلاقة نابليون بعدما عاد من أرسلوه "بالبشارة" فيخاطبهم نابليون ضاحكاً قائلاً:" أنتم المشايخ الكبار", فيُعلموه أن: " المشايخ الكبار خافوا وهربوا "فيقول لهم: "لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة". برافو نابليون فعلاً أهم شيء هو "إجراء الشريعة". واضح أن نابليون "دارس" الوضع جيداً. فيرجع الشيوخ الهاربون من أمثال الشيخ السادات و الشرقاوي بعد ان يُطمئنهم نابليون و يطلب منهم تشكيل الديوان الذي من المُفترض أنه سيكون حلقة الوصل بين "الاحتلال" و أبناء البلد.

ويعزي الجبرتي "أعظم" أسباب الهزيمة لاشتداد هبوب الريح فتحمل الرمال وتنسفها في: "وجوه المصريين فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه من شدة الغبار، وكون الريح من ناحية العدو وذلك من أعظم أسباب هزيمة كما هو منصوص عليه." وهكذا يضع الجبرتي نفسه في قائمة الشيوخ المُعرصين بلا أدني مجهود.

واستقر  نابليون في قصر محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك بالأزبكية لكن معظم الجنود الفرنسيين كما يقول الجبرتي بقوا: " غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعديل، صاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياساً على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم". طبعاً في البداية لابد من "الحنية" و أن ترأف بالناس و لا يهم ما تدفعه اليوم فغداً تأخذه أضعاف مُضاعفة من قوتهم. ويُكمل الجبرتي أنه لما رأي "العامة" ذلك من العسكر الفرنسي: " أنسوا بهم واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان والبن وصاروا يبيعون عليهم بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوق الحوانيت والقهاوي." وراحت "مقاومتك" يا صابر. ثم شيئا  فشيئاً دخل العسكر الفرنسي القاهرة :"حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا علي أحد، ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك." "الفهلوة المصرية العبيطة" "رغيف العيش" مخلوط بالتُراب الذي إلي الآن مازال يأكله المصريين و قريباً "سيسفون" التراب سفاً. لكن كأن حال المصريين وقتها يقول: "ما أحلي الاحتلال حينما يكون في بدايته!!!"

و قام نابليون بتشكيل "حكومة" جديدة فكان الديوان بها عشرة من الشيوخ المُعرصين ثم بناء علي نصائح الشيوخ عيًن بعض المماليك في المناصب التنفيذية كوالي الشُرطة لأنه كما يقول الشيوخ أن :" سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم" هذا بالإضافة إلي بداية ظهور النصارى علي الساحة و توليتهم المناصب بعد ان كانوا يأخذون علي "قفاهم" من الجميع وراجت تجارتهم.


أما المماليك "الغلابة" الأسري فقد تشّفع لهم الشيوخ –شُركاء الأمس- لدي الفرنسيين فقُبلت شفاعتهم و أُفرج عن الأسري:" فدخل الكثير منهم الى الجامع الأزهر وهم في أسوأ حال وعليهم الثياب الزرق المقطعة، فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء المجاورين به ويتكففون المارين وفي ذلك عبرة للمعتبرين". فعلا يا شيخ عبد الرحمن لكن مَنْ يعتبر؟ لا أحد ولا حتى أنت.نكتفي بهذا القدر ونُكمل في المرة القادمة إن شاء الله.

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 4

الجيش المصري و شعبه 4

-البداية

(1)

"و يقول الوالي محمد علي لشعبه : سأُعوّض لكُم عن السّنين التي أكلها الجراد والقحط و الغلاء. فتأكُلون أكلاً وتشبعون وتُسبّحُون باسمي الّذي صنع معكُم عجبًا. تعلمُون أنّي أنا في وسط مصر، وأنّي أنا سيدكم وليس غيري. ولا يخزى شعبي العبيط إلى الأبد."
الإصحاح الرابع من سفر الشئون المعنوية

توقفنا في المرة السابقة عند إعلان فرنسا "حرباً من أجل الحرية" فقد قام المجلس الوطني في نهاية 1791م بعقد انتخابات لاختيار أعضاء "المؤتمر الوطني" لصياغة دستور جديد فالدستور الذي تم صياغته من قبل لم يعُد يُناسب التطورات الجديدة. و بعد أن بدأت بروسيا الحرب علي فرنسا لإعادة الملك لعرشه و تلقين الفرنسيين درسا لا ينسوه وبعد الهزائم التي مُني بها الجيش الفرنسي في البداية؛ وصلت الأخبار للنواب بأن الجيش الفرنسي استطاع تحقيق أولي انتصاراته علي الجيش البروسي في "فالمي" شمال شرق فرنسا الذي كان يعتقد أن الانتصار علي جيش الثورة سيكون سهلاً، فما هم إلا مجموعة من الجنود من "الحُثالة و الرعاع" . 

لقد كان هذا الانتصار نُقطة تحول في مسار الثورة فقد أعلن نواب المجلس الوطني بعده إلغاء الملكية و إعلان فرنسا جُمهورية . ثم مع استمرار انتصارات "جيش الجُمهورية" ضد النمسا و بروسيا و نجاحه في طردهم خارج الأراضي الفرنسية بل و توغله خارج تلك الحدود لتتسع حدود الجمهورية الوليدة فيأتي مصير الملك ليُحدث جدلاً بين نواب المجلس، فـ"روبسبيير" و رفاقه يُريدون التخلص من الملك بأسرع وقت وبلا مُحاكمة فيما يري النواب " المعتدلين" ضرورة "التريث" قبل اتخاذ مثل تلك الخطوة. ولكن تنشأ مُعضلة "قانونية" فالدستور الذي كُتب في بداية الثورة يضع الملك فوق المُحاسبة القانونية فلا يمكن طبقا "للدستور" مُحاسبته وعقابه. في ظل هذا الجدال يُكشف عن وثائق سرية كانت مُخبئة في قصر الملك تُثبت خيانته هو و زوجته في مُراسلة "أعداء" الثورة، فيقرر المؤتمر مُحاكمته بتهمة "التخابر " و "الخيانة العظمي" . ثم بعد مُحاكمة صورية يتم الحُكم عليه بالإعدام بالمقصلة و يتم تنفيذ الحُكم في نهاية يناير 1793م و يكون آخر كلمات الملك " أنا برئ من كل ما نُسب إليّ". وفي فبراير 1793م يُعلن المؤتمر الوطني الحرب علي إنجلترا و هولندا و هما حُلفاء للنمسا و بروسيا. فأفضل طريقة للحفاظ علي الثورة في الداخل هي "تصديرها" للخارج. و يبدأ ما يُعرف بحرب التحالف الأولي.

استمرت الأوضاع الاقتصادية في التدهور بعد إعدام الملك  و ازدادت مُعاناة "المواطن" الفرنسي من الغلاء و شُح المواد الغذائية فبدأت من جديد "أعمال شغب" تتحدي سُلطة "المؤتمر الوطني" الذي من جانبه و لإثبات سُلطته بعث بمُمثلين له في كل إقليم. لهم كًل الصلاحيات لقمع أي تهديد قد يُمثل تهديداً لسُلطته. و في اقليم "فنديه" غرب فرنسا تبدأ بوادر لما يعتبره مُمثل المؤتمر هناك " ثورة مُضادة" فيبعث لباريس بالإسراع بقمعها و استئصالها. ثم يقترح ضرورة إنشاء "مُحاكمات خاصة" لقوي الثورة المُضادة من أجل ضمان التخلص السريع لكل "مُعارض" للثورة تحت مُسمي"مُحاكمات ثورية".

الوضع في "فنديه" سيزداد خطورة "فالفلاحين" المُتذمرين من السلطة الجديدة سيبدؤون في تشكيل جيشهم الخاص لتبدأ حرب "عصابات" ضد جنود و موظفي "الجمهورية". لقد أصبحت الجُمهورية الوليدة تواجه الحرب الخارجية في نفس الوقت تواجه حرباً أهلية داخلية بل و الأسوأ هو انشقاق أحد "جنرالات" الجيش "شارل-فرانسوا دومورييه" و انضمامه "لمعسكر الأعداء" بعد هزيمته في معركة "نيرفيندن" في مارس 1793م و أخيراً فالأسطول الإنجليزي قد يعمل علي حصار فرنسا بحراً.

أدي هذا لأزمة داخل المؤتمر الوطني بين "حزب روبسبيير" و رفاقه "المُتطرفين" و بين "حزب المُعتدلين" الذي كان الجنرال "دومورييه" أحد أشد المُنافحين و المؤيدين له. فخيانته تعني أن حزب المُعتدلين أصبح في موضع إتهام. ترادف هذا مع نجاح "حركة التمرد" ضد الثورة التي كانت تتظاهر ضد الأوضاع الاقتصادية من انشاء "الحركة الاتحادية" و التي استطاعت أن تُسيطر علي عدة مُدن و تكسب تأييد الكثيرين تلك المُدن المعروف عنها بانها "القاعدة الشعبية" لحزب المُعتدلين. فما كان من "روبسبيير" إلا ان قام باتهامهم بأنهم السبب المُباشر "لأحداث العُنف" في البلاد و انهم ضلع رئيس في "الثورة المُضادة". هنا ستبدأ حملة لتطهير الثورة من اعدائها المُستترين بلباس "الثورية". و ينتصر "روبسبيير" و يصبح هو المُتحكم بزمام الأمور ليبدأ ما عُرف بـ"حكم الإرهاب" الذي سيحيل حياة أعداء الثورة و مؤيديها إلي كابوس . حيث ستبدأ "حفلات " الموت من الإعدام بالإحراق حياً و الإغراق و الرصاص و.....و المقصلة التي ستقع رأس  "روبسبيير" نفسه  ورؤوس رفاقه "المُتطرفين" تحتها بداية من يوليو  1794م وما بعدها.

لتبدأ موجة جديدة من "العنف" المُضاد لكن هذه المرة تكون ضد المتطرفين. كل هذا مع استمرار الأوضاع الاقتصادية في التدهور. المؤتمر الوطني في مأزق لكن ما خفف الوضع هو الانتصارات التي حققها جيش الجمهورية. ففي هذه الأثناء يستطيع ضابط مغمور يُدعي نابليون بونابرت في طرد الإنجليز من "تولون" المدينة الساحلية جنوب فرنسا. وتعقد بروسيا اتفاقية سلام بعد ان مُنيت بعدة هزائم، كذلك عقد اتفاقية مُماثلة مع اسبانيا؛  ثم يتم صياغة دستور جديد في سبتمبر 1794م الذي سيؤسس لشكل جديد للحكومة فيتم إحلال المؤتمر الوطني بمجلسين تشريعيين مكون من مجلس للشيوخ ومجلس ال 500, بشرط أن يكون ثُلثي الأعضاء المُنتخبين في كلا المجلسين أعضاء سابقين في المؤتمر الوطني ويكون المكتب التنفيذي الذي يُدير الأمور مكون من خمسة أشخاص يُرشحهم مجلس ال 500 ويوافق عليهم مجلس الشيوخ. لكن هذا الشرط قوبل بالمُعارضة وقامت المُظاهرات لرفضه حتى ان الكثير من الحرس الجمهوري قد تمرد وانضم لصفوف المُعارضة ولم يتبقى إلا بضعة آلاف تحت إمرة المؤتمر الوطني والتي انضم لها الضابط المغمور بونابرت وأصبح مسئولاً عن المدفعية لحماية المؤتمر من الحرس الجمهوري ومؤيديه الذين كانوا في طريقهم إليه، وأمر بإطلاق المدافع علي الحشود ففرق جمعهم و حمي المؤتمر من شرهم و صعد نجم بونابرت كبطل و حامي "للجمهورية "وتم ترقيته لرتبة "لواء".

ثم تُعقد "الانتخابات" بدون "مشاكل" و يتم اختيار أعضاء المكتب التنفيذي الخمسة في أكتوبر 1795م  ويعين اللواء بونابرت نائب "لجيش الداخل" الذي كانت مُهمته حفظ النظام و الأمن في باريس و محيطها ثم بعد ذلك يُعين قائداً "لجيش إيطاليا" في مارس 1796م المُرابط علي الحدود الإيطالية و الذي سيستخدمه نابليون في "حملته" ضد إيطاليا و التي ستنجح نجاحا باهراً  و سيرجع لباريس ليُستقبل استقبال الأبطال في نهاية 1797م حيث كان يُفكر المجلس التنفيذي في "غزو" إنجلترا لكن نابليون يطرح غزو مصر كخيار أفضل و أسهل فعن طريقها يُمكن قطع "العصب" الاقتصادي لإنجلترا بقطع طريق التجارة بينها وبين "مُستعمراتها" في الشرق  فينزل المجلس علي رأي بونابرت لتبدأ حملته علي مصر في مايو 1798م ليكون بونابارت علي رأس "جيش الشرق" الذي تم تشكيله لتلك المُهمة وتتبع خطواته البحرية الإنجليزية من بعيد و التي ستقضي علي أسطوله بالكامل بعد شهر من وصوله مصر في الموقعة المعروفة "بأبي قير".

إن سيطرة نابليون على مصر لم تأخذ أكثر من شهر فمن وصول الحملة الفرنسية على شواطئ الإسكندرية في أول يوليو 1798م يستطيع دخول القاهرة في نفس الشهر في 25 يوليو. إن "العسكر" الماليك كانوا في حالة من الضعف والانحلال التام. فكانوا كسليمان الذي كان يُسخّر الجن في خدمته وهم من تغفليهم لم يستطيعوا أن يُدكوا ان هذا "النائم" المُستند علي عصاه ميت بلا حراك فتأتي حشرة حقيرة لتأكل عصاه فينهار "السيد" ويُدرك حينها الجن كم هم مغفلون وأغبياء. إن الماليك كانوا في حالة "موات"وجاء الفرنسيون ليجعلوا المصريين يرون ذلك؛ ولكن من سيستغل الوضع ليس المصريين البُلهاء المغفلين، ولكن "انتهازي" جديد الذي سُرعان ما سيستغل "فراغ السلطة" بعد رحيل الفرنسيين للقفز عليها.

سنبدأ المرة القادمة في فحص عدة روايات منذ وصول نابليون لشواطئ الإسكندرية و حتي خروج الفرنسيين من مصر بعد أن فتك بهم الطاعون و الإنجليز. لكن كلمة أخيرة بمناسبة "الإصلاحات الاقتصادية المُباركة" فمن الأشعار "الأثيرة" لدي شعوب المنطقة : "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" و هي أحد الخُرافات التي تُرددها الشعوب المقهورة مُعتقدة أنه فقط بترديدها سوف يستجيب "القدر" فلا يعيرهم القدر اهتماماً و يتركهم يُرددون أشعارهم البالية حتي تسأمهم الحياة نفسها و تتركهم كالموتى الأحياء يُرددون "ولابد لليل ان ينجلي و لابد للقيد ان ينكسر" , فيزداد ليلهم سواداً و قيودهم إحكاماً لكنهم أبداً لا يتعلمون الدرس.

فقد خرجت بعض الشعوب في "الربيع" تُطالب بالعيش الكريم مُرددة "الشعب يُريد اسقاط النظام" تلك الشعوب التي لم يكن لديها أيه فكرة عن معني تلك الشعارات التي كانت تُرددها ببغاويتها المُعتادة. فلم يكن لديها فكرة أصلاً عما الذي يُشكل النظام الذي يحكمها فضلاً أن يكون لديها فكرة عن كيف تهدمه. حتي "نُخبة" هذه الشعوب كانت تُردد نفس ما يقوله النظام عن نفسه من "الجيش -الذي يحمي النظام فقط-الوطني"، و "القضاء -الذي عينه و دربه وموله النظام- الشامخ"، و "لا للعنف-ضد النظام- ومعا ضد "الإرهاب" الذي يُريد تقويضه"، و "القانون -الذي وضعه النظام- فوق الجميع"؛  فكان الغالبية منهم يُرددها "عمالة" للنظام و القلة تُرددها غباءً و خوفاً من أن يُقال أنهم يُريدون" قلب نظام الحُكم" تلك التُهمة المُخيفة التي نجحت الأنظمة في جعلها "تابو" لا يجرؤ احد علي النُطق بها فضلاً أن يعمل عليها. هذا على أساس أن شعار "اسقاط النظام" هذا الهدف منه هو عمل "ملوخية بالتقلية" و ليس قلب النظام و هدمه. هذه المُصطلحات الكثيرة التي نجحت الأنظمة في حفرها في أدمغة شعوبها و نُخبتهم حتي أصبحوا "مسخرة" فهم يقولون الشيء و عكسه .فيريدون هدم النظام لكن بشرط المُحافظة عليه.  الجيش "حمي" الثورة لكن الإخوان المعرصين هم من "خانوا" الثورة بتحالفهم مع الجيش. قيادات الجيش "وطنية" لكنهم عُملاء لأمريكا و إسرائيل. القضاء المصري قضاء شامخ لكن القُضاة مُرتشين.  لقد انتهي الدرس أيها الأغبياء فالنظام يربح دائماً فغبائكم و ببغاويتكم و هبلكم هو سفينة النجاة لأي نظام مهما كان مُتهالكاً أو علي وشك السقوط. لكن ما قد يُخفف عنكم أنكم لستم وحدكم على مثل هذا الغباء و الببغاوية و الهبل فكوكبنا ملئ بشعوب أمثالكم.

إن كل ما فعله و سيفعله عرص مصر السيسي كان سيفعله مرسي العبيط -بل و سيفعله أي حاكم لمصر يدور في فلك هذا "الاقتصاد العالمي"- و كُنا حينها سنري "شيعة الإخوان المُعرصين" الذين يتباكون الآن علي الفقراء و"الغلابة" يُدافعون عن تلك "الإصلاحات" باعتبارها حكمة و بُعد نظر وأن من يُعارضها لا يُريد لمصر "الخير". و كان شيوخهم المُعرصين –كشيوخ العرص الرئيس- "سيُبدعون" في تكييف النصوص الدينية التي "تُحلل" تلك الإصلاحات. بل و كنا سمعنا منهم عن أن "الملائكة" تنزل من السماء لتُبارك الرئيس علي حكمته و دهائه الذي أذهلهم  و أن "الله" نفسه يُبلغه السلام و يقول له "سر علي الطريق يا مُحمد". الوضع في مصر أصبح مُعرّصون يُعارضون مُعرّصين آخرين. وأياً  كان المُنتصر فثق بأنه سيكون الأكثر تعريصاً. شعب مصر العبيط أمامه أيام سود و لكن بما إنه شعب مُعرِّص بالفطرة فسيستمر "يشد الحزام" حتي تختنق أنفاسه و أنفاس "اللي جابوه" . "مُبارك شعبي العبيط" يقول النظام رافعاً يديه للسماء حامداً الله علي هذه العطية الثمينة.