الخميس، 17 نوفمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 6

الجيش المصري و شعبه 6
-البداية
(3)

" يا باني مصر الحديثة وجيشها! إلى متي تصم آذانك عن تضرعات شعبك؟ قد أطعمتهُم خُبز الدُّموع، وسقيتهُم الدُّموع بالكيل. يا باني مصر الحديثة وجيشها! قد جعلت شعبك مسخرة بين الأمم، وأعداؤهم يستهزئون بهم. يا باني مصر الحديثة وجيشها! اشح بوجهك الكئيب بعيداً لعلهم يخلصون مما هم فيه".
الإصحاح السادس من سفر الشئون المعنوية


بمناسبة أننا سنُقابل عدة "هوجات" سيُطلق عليها -كما هي العادة- مُصطلح "ثورة" والثورة من ذلك براء. فوجب التنبيه أننا وإن كُنا سنستخدم مُصطلح "ثورة" علي تلك الهوجات فقط مُجاراة لما هو مشهور. وبشكل عام "الهوجة" ليست شيئاً سيئاً بذاتها،  فقد رأينا أن الثورة الفرنسية بدأت كهوجة من مواطنين مطحونين ضد غلاء الأسعار و شُح المواد الغذائية. لكن هذه الهوجة إن لم يتم استغلالها من "النُخب" سواء كانت تلك النُخب مُثقفين أو علماء أو عسكريين و خلافه التي تعمل علي بلورة أهدافها و العمل علي تحقيقها "مهما كلف الأمر"، سُرعان ما ستنتهي إلي اللاشئ و ستُصبح مجرد "أحداث" تُذكر في كُتب التاريخ في صفحة أو اثنتين أو حتي في سطر أو اثنين. و لذلك من ضمن أسباب "نجاح" و انتشار الهوجات و نُدرة أو انعدام الثورات في منطقتنا هو أن نُخبها –كما قُلنا سابقاً- إما نُخب عميلة للنُظم و هي أساساً صنيعة تلك النُظم و تعيش علي ما تُلقيه لها من فُتات أو هي نُخب مُغفلة و ساذجة إن لم نتجاوز و نقول "عبيطة و هابلة". إن أي هوجة مُستقبلية محتومة الفشل طالما بقيت تلك "النُخب" هي المُتصدرة. إن كُل ثورة لابد ان تكون سبقتها "هوجة" لكن  ليس كل "هوجة" بالضرورة ستتحول إلي ثورة.


انتهينا المرة السابق إلي "اطمئنان الناس و أُنسهم" بالاحتلال و أنّ "العسكر الفرنسي" كان يُعاملهم بكل "حنية" تلك الحنية التي لن تدوم إلا أياماً معدودة حتي يبدأ "الحلب" الذي لن يرحم أحداً و سيمتد –بالإضافة للحيوانات الإنسانية- إلي عالم الحيوانات العجماء و الجماد.


ففي يوم السبت27 يوليو 1798م:" اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة وهي مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام، وتجار الافرنج أيضاً فسألوا التخفيف فلم يجابوا فأخذوا في تحصيلها." بل و دعوا أيضا كل من نهب شيئاً من بيت الأمراء أن يُعيده و إلا لا يلوم إلا نفسه ثم جرت "مُصالحات" مالية يدفعها زوجات الأمراء أو الجنود الفارين و المتغيبين و كما يقول الجبرتي فقد: "جمعوا بذلك أموالاً كثيرة."


وفي يوم الأحد 28 يوليو 1798م :" طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئاً كثيراً وكذلك الأبقار والأثوار، فحصل فيها أيضاً مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره، وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى، ويستخرجون الخبايا والودائع ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت أسيادهم بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها أغراضهم."


وفي يوم الثلاثاء 30 يوليو 1798م :" طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسُلفة مبلغاً يعجزون عنه وأجلوا لها أجلاً مقداره ستون يوماً." لكن التُجار ضجوا و استغاثوا بمشايخ الأزهر فتم تخفيض "القرض" للنصف و زيادة مُدة مُهلة "السداد". وفي 1 سبتمبر 1798م :"قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد ونشروا بذلك أوراقاً وذكروا فيها أنها تحُسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط, ونزلوا في البلاد مثل الحُكام يحبسون و يضربون و يشددون في الطلب". لقد بات واضحاً أن "المصريين" أمامهم أيام سود فهم و إن كانوا تخلّصوا من ظُلم المماليك إلا أن من "استلم السُلطة" لا يبدو أن في قاموسه شيء اسمه "الرحمة".


بعد أن استتب الوضع للفرنسيين في القاهرة سيبدءون في الاتجاه شرقاً في أثر المماليك الفارين حيث سيتم التمهيد حينها لحملة نابليون علي الشام فيبعث "بمكاتبات و هدايا" إلي أحمد باشا الجزار رجل الشام "القوي" الذي بدأ "مستقبله المهني" في مصر والتي حصل منها علي لقب "جزار" و هي مهنة مهمة لأي مُتطلع للسلطة طامح في أن يبقي علي كُرسيه كُل ما في الأمر بدل أن تكون "الذبيحة" من البقر و الأغنام فلابد ان تكون الذبيحة بشرية. ولكن أحمد باشا الجزار سيكتفي بارجاع "الهدايا".


وفي أول أغسطس  1798م هاجم الأسطول الملكي البريطاني الأسطول الفرنسي و دمره تدميراً في المعركة المعروفة "بمعركة أبي قير البحرية" لتكون ايذاناً بفشل الحملة الفرنسية الفعلي حتي لو استمرت القوات الفرنسية في مُغامراتها المحتومة الفشل لوجود ند قوي و عنيد مُتربص بها كبريطانيا.


 وفي 6 أغسطس 1798م:" خرجت طائفة من العسكر الفرنساوي الى جهة العادلية وصار في كل يوم تذهب طائفة بعد أخرى ويذهبون الى جهة الشرق، فلما كان ليلة الأربعاء خرج كبيرهم بونابارته وكانت أوائلهم وصلت الى الخانكة وأبي زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا، فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا الى بلبيس." وفي 11 أغسطس 1798م :" ملك الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال ", وفي 11 سبتمبر 1798م:" وصل الفرنساوية الى نواحي القرين ".


لم يفت نابليون في هذه الأثناء المُشاركة في احتفالات المصريين سواء الوثنية منها أو الدينية . ففي 17 أغسطس 1798م كان"وفاء النيل المبارك"، فيأمر نابليون:" بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة […] ونادوا على الناس بالخروج الى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم، أرسل صاري عسكر أوراقاً لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صحبها، وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره الى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم […]، وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أحد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها."


ويسأل نابليون عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فيعتذر أحد شيوخ الأزهر الشيخ خليل البكري:" بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال "، فلا يقبل نابليون هذا الكلام و يقول :"لابد من ذلك وأعطى له ثلاثمائة ريال فرانسا معاونة وأمر بتعلق تعاليق وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم وأرسل الطبلخانة الكبيرة الى بيت الشيخ البكري واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره". و في نفس ذات اليوم "بالمُصادفة البحتة" يُقلد نابليون الشيخ العرص " نقابة الأشراف" ويُنادي في المدينة:" بأن كل من كان له دعوى على شريف فليفعها الى النقيب."


وفي 27 أغسطس 1798م تبدأ حملة بقيادة الجنرال "ديزيه" لمُطاردة مراد بك والمماليك الفارين للصعيد يُصاحبه المعلم يعقوب القبطي "الخائن" كما يصفه البعض والذي سيُصبح "جنرالاً" "ليُطلعهم على الآمور ويدلهم على المخبآت". إن الأقليات -خصوصاً الأقليات الدينية- تُمثل صُداعاً لأي دولة خصوصا إذا كانت هذه الدولة في حرب مع "الدين" الذي تنتمي لها تلك الأقلية. لأن المُخلصين منهم والذين يؤمنون حقاً بدينهم لابد وأن يُحاربوا في صفوف "الأعداء". ليس فيما فعله المعلم يعقوب خيانة بمعني أنه خان "جيرانه وأصدقائه" وإلا لاعتبرنا أن "المُسلمين الصادقين" -ولا أتكلم بالتأكيد عن المُسلمين المُعرّصين-  سواء كانوا فرنسيين أو غيرهم والذين يقومون بعمليات دفاعاً عن الإسلام و المسلمين ضد "أبناء وطنهم" خوّنه. بل أري أن المعلم يعقوب أكثر اتساقا وأقل تعريصاً مع نفسه مما فعله "شيوخنا" الذين تعاونوا مع المحتل.  لو كانت الحياة بمثل ذلك الوضوح، لو أننا نقول ونفعل ما نؤمن به حقاً لما احتجنا إلى أكاذيب المؤرخين. 


فعلي موقع كنيسة "القديس تكلا"(*)  يقول عن يعقوب حنّا تحت شخصيات من تاريخ الكنسية:" هو أول قبطي ألَّف جيشاً قبطياً بقيادته، وأول مصري وضع مشروعاً لاستقلال مصر عن الدولة العليه وعن حكم المماليك، إذ أرادها بلاداً حرة خالصة لأهلها ولكن المنيّة لم تُمهله حتى ينال موافقة الدول على الاستقلال. إذ رأى أن مصر محرومة من جيش وطني يمكن الاعتماد عليه ففكر في تأليف فرقة قبطية واتفق مع الفرنسيين على ذلك، فجمع من الصعيد نحو ألفين قبلهم الفرنسيون ودرّبوهم على حمل السلاح والقتال، وتعلم يعقوب الحركات العسكرية وترأس الفرقة القبطية وأُلحِق بخدمة الجيش الفرنسي ومُنِح رتبة جنرال (قائد)". لاحظ نفس "المُصطلحات" التعريصية الوطنية من "الاستقلال" و "بلاد حرة" و "جيش وطني". رغم أنه لم يدر بخُلد المعلم يعقوب كل هذا فهو –من الطبيعي- أنه يكره كُل ما هو إسلامي و قد وجد الفرصة سانحة لكي يستعيد "القبط" وضعهم "كأصحاب البلد الأصليين" كما تروي "أساطيرهم". على أية حال المعلم يعقوب و إن كنت تحترم "استقامته" لكن هذا النوع من الأعداء غالباً ما يكون أذكي و أشرس من "القبطي العبيط المُعرِّص" و هم الغالبية –كما أن أشباههم من المُسلمين هم الغالبية- والتي يتحدد بناءً عليها موقف الكنيسة "الرسمي" ، فلابد لذلك ألا تأخذك به رحمة إن وقع تحت يديك.


ومن "القصص" التي يرويها الجبرتي و يستدل بها البعض علي أن "الشيوخ" رغم كُل شيء كان لديهم بقية من "كرامة" فيقول أن نابليون طلب حضور المشايخ عنده فلما استقروا أحضر اغطية للرأس ملونة بألوان العلم الفرنسي ووضع واحداً علي كتف شيخ الأزهر الشيخ الشرقاوي فما كان منه إلا أن :" رمى به (بغطاء الرأس طبعاً و ليس بنابليون) إلى الأرض واستعفى وتغير مزاجه وانتقع لونه واحتد طبعه" فقال المُترجم محاولاً تلطيف الجو :" يا مشايخ أنتم صرتم أحباباً لصاري عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قلوبهم". فيرد عليه المشايخ : " لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين"  فيغتاظ نابليون و "يرطن" بالفرنسي. يُضيف الجبرتي أنه" بلّغ عنه بعض المترجمين" أنه قال أن الشيخ الشرقاوي لا ينفع في الرئاسة. فلو علمنا أن الشيخ الشرقاوي استمر شيخاً للأزهر حتي وفاته في 1812م و أنه سيُصبح رئيساً للمشايخ  الذين سيشكلون ديوان جديد آخر مع "إخوانهم" النصاري الذي سيُنشئه الفرنسيون لعلمنا أن هؤلاء المُترجمين "حمير" أو أن نابليون "شتم" الشرقاوي والشيوخ الحاضرين شتائم قبيحة أو أن حكاية "المُترجمين" هذه مجرد "قصة" للتسلية و أميل أكثر للاحتمال الثاني. ثم حتي لو افترضنا صحة الواقعة فما هي الفضيلة فيما فعله شيوخ "نايمين شاربين" مع المُحتل يأتمرون بأمره، فمن الطبيعي أنهم يخشون على أنفسهم من "العامة" فما هي إلا ورقة التوت الأخيرة فإن سقطت ظهرت عوراتهم فبضاعتهم هي في "الشكل" لذلك لابد من المحافظة عليه. لكن الجبرتي يُنهي قصته بشكل عبقري يجعل "مخرج" للشيوخ فيقول:" حضر الشيخ السادات باستدعاء فصادفهم (أي الشيوخ) مُنصرفين، فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صاري عسكر ولاطفه في القول الذي يعربه الرجمان وأهدى له خاتم الماس وكلفه الحضور في الغد عنده وأحضر له جوكار (شارة بألوان العلم الفرنسي) وأوثقه بفراجته(عباءته) فسكت وسايره وقام وانصرف، فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين." وهكذا فالأمر سيان تضع علامة المُحتل أم لا، فهذا "لا يخل بالدين" فالأمر فيه خلاف "فقهي". إن هذا "التكنيك" القديم في كيف تُسلط دائرة الضوء بعيداً عن المُشكلة الرئيسية. كُل ما عليك هو أن يكون "الفوكَس" علي قضية فرعية هامشية تافهة و أن تجعلها "أيقونة" للمشكلة و بحلها يتم حل المُشكلة الأصلية كُلها. و التي في الحقيقة لم تُحل و لكن "المُغفلين" الذين يُتابعونك سيعتقدون ذلك حتي لو رأوا "بأم أعينهم" العكس. إن "تتفيه و تسطيح القضية" من أنجح الأساليب في حل القضايا العويصة. فتلخيص العمالة في وضع شارة المُحتل أم لا، ثم بجعل هذا الأمر سيان فالأمر فيه "مُتسع" و "متبقاش ضيق"، وهكذا تم حل مشكلة العمالة بمنتهي "البساطة".  و كلما كنت "تافهاً" وسطحياً كُلما استطاع شعبك التافه السطحي أن يفهمك و يتجاوب معك .


 

الصوة السابقة هي مثال عملي للتفاهة والسطحية: علي يمين الصورة تقف "الفقر والذِلة" مُجسدة و أمامها يقف "البرنس" الذي سيُحول الفقر لغني والذِلة لرفعة و كرامة و في الخلفية كلبي حراسة لزوم "الأمن و الأمان"، أمّا في أقصي اليسار "السيارة" التي ستعبر بها لبر الأمان. لقد تم حل مُشكلة الفقر و العوز و ذِلة شعب كامل  في صورة واحدة و أصبح البرنس "المتواضع البسيط" رمزاً "للهبل" الذي سيُكتب بحروف من "كاكا" في صفحات التاريخ المصري الملئ به.


وفي 14 سبتمبر 1798م وردت رسالة من إبراهيم بك الأمير الهارب إلي غزة يقول فيها للمشايخ :" أنكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية، وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله تعالى عن قريب نحضر عندكم" . و طبعاً "علم" بونابرت بتلك بالرسالة فارسلوها اليه و لما قُرئت عليه قال أن: "المماليك كذابون"، وكان من أثر ذلك و خوفا من أن يتسرب الأمل في نفوس الناس فتبدأ المشاكل -التي سُرعان ما ستبدأ- أنه في  26 سبتمبر نادي:" أصحاب الدرك(الشرطة) على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم." وفي 27 سبتمبر :" قتلوا شخصين وطافوا برؤوسهما وهم ينادون عليهما ويقولون هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب", تلك المشاكل التي لن تأتي فُرادي "فالطاعون" يتربص بهم لذلك:" نبهوا الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن […] ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة[…]وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر ونادوا أيضاً بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطحة عدة أيام، وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدوه […] ومن قولهم أيضاً إن مرض مريض لابد من الإخبار عنه فيرسلون من جهتهم حكيماً للكشف عليه إن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيه فيه." وسيُنادي في الأسواق : " بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يوماً[…] فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة الى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون". الطاعون "الجندي المجهول" الذي كان يُحارب في صفوف أعداء فرنسا.


ثم بدأ الفرنسيون في تكوين ديوان جديد بدلاً من الديوان القديم: "وكتبوا في شأن ذلك طوماراً(وثيقة). وشرطوا فيه شروطاً ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطي القبطي( جمع بين "فضلتين" فهو أحد "شُهداء" الكنيسة وأيضاً أحد النصاري "الخونة") الذي كان كاتباً عند أيوب بك الدفتردار، وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى وجعلوا لذلك الديوان قواعد وأركاناً من البدع السيئة، وكتبوا نسخاً من ذلك كثيرة أرسلوا منها الى الأعيان ولصقوا منها نسخاً في مفارق الطرق ورؤوس العطف وأبواب المساجد، وشرطوا في ضمنه شروطاً وفي ضمن تلك الشروط شروطاً أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية، ومحصله التحيل على أخذ الأموال."


وفي 27 سبتمبر 1798م كتب الشيوخ بأمر الفرنسيين رسالة لكُلاً من السُّلطان العثماني و شريف مكة تحتوي نفس الكلام المُكرر من أنهم أصدقاء السّلطنة و يحاربون اعدائها وأن "شعائر الإسلام" مُقامة على ما هي عليه و إنهم مسلمون وإنهم يحترمون القرآن والنبي واعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا أموالاً في شأن انتظامه... الخ.


وفي 6 أكتوبر 1798م: "نبهوا على المشايخ والأعيان والتجار ومن حضر من الأقطار بالحضور الى الديوان العام ومحكمة النظام […] فتوجه المشايخ المصريين والذين حضروا من الثغور والبلاد وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعاً موفوراً. فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطي القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط وفي المناقشة، فابتدر كبير المديرين في إخراج طومار آخر وناوله للترجمان فنشره وقرأه ". هذا "الطومار" هو نفس الإسطوانة التي مازلنا نسمعها إلي الآن من أن " مصر هي المركز الوحيد وأنه أخصب البلاد" وأن "العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في هذه الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول" ولكون مصر "فاتنة" فقد " طمعت الأمم في تملكه فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن"ثم تنتقل الوثيقة إلي بيان الدور الفرنسي في "خلاص" المصريين من الظلم و الفقر :"ثم إن طائفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت لأنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلاً وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ولم يعاملوا الناس بقسوة، وأن غرضهم تنظيم أمور مصر وإجراء خلجانها التي دثرت ويصير لها طريقان: طريق الى البحر الأسود، وطريق الى البحر الأحمر، فيزداد خصبها وريعها، ومنع القوي من ظلم الضعيف وغير ذلك، استجلاباً بالخواطر أهلها وإبقاء للذكر الحسن" وبالتالي فعلي المصريين و عرفاناً بالجميل : " ترك الشغب وإخلاص المودة" ثم بعد "تلاوة" تلك الوثيقة في هذا "المؤتمر المبارك" يُقول المترجم –كما يروي الجبرتي-للشيوخ: "نريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصاً منكم يكون كبيراً ورئيساً عليكم ممتثلين أمره وإشارته", ومن غير شيخ الازهر يكون لها لكن المترجم يقول:"نونو إنما ذلك يكون بالقرعة "فيعملوا القرعة و من غير أي "ترتيب ولا حاجة" تقع القرعة على الشيخ الشرقاوي، سُبحان الله حتي القُرعة بتعرّص.


سيبدأ هذا الديوان برئاسة ملطي القبطي الإجتماع يومياً "لمناقشة": "أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات وأمر المواريث[…] يدبرون رأيهم في ذلك وينظرون المناسب والأحسن وما فيه الراحة لهم وللرعية" وفي أحد "الجلسات" يسال المعلم ملطي بصيغة "الإستهبال" : " يا مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث؟" فيخبره الشيوخ: "بفروض المواريث الشرعية"، فيسألهم الملطى "مُستعبطاً":" ومن أين لكم ذلك؟"، فيجابوه:" من القرآن ويتلوا عليهم بعض آيات المواريث" فيقول "الإفرنج":" نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا" ثم يطلبوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فيكتبوا لهم :"كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك."


لكن أخطر القرارات التي سيتخذها هذا الديوان هي الضرائب التي ستُفرض علي "الأملاك و العقارات" ففي يوم السبت 20 أكتوبر 1798م :" أحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأقل ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى، وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع، وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخاً للأعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والإحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها." 


لقد بلغ السيل الرُبي كما يقولون وستبدأ "أحداث أكتوبر" أو ما سموه ب "ثورة القاهرة الأولي", فيقول الجبرتي أنه لمّا : " أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور" ويصف الجبرتي المشهد بصورة قاتمة حتي أنه يُذكرك بالشيوخ المُعاصرين دائمي التحذير من "الفتنة و الفوضى": " فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح، وحضر السيد بدر وصحبته حشرات(عامة) الحسينية وزعر(فتوات) الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم، ويقولون بصياح في الكلام "نصر الله دين الإسلام" فذهبوا الى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والأكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه وأوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب، وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوي (حاكم القاهرة العام ونائب نابليون) بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط الصنادقية وذهب الى بيت القاضي، فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الأخطاط بالخلائق مزحومة، فبادروا إليه وضربوه وأثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه" عنصر المفاجاة هنا يجعل قدم السبق  "للغوغاء"حتي لو كانوا غير مُنظمين: " فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا ومسكوا أطراف الدائرة بمعظم أخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية الى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها، ولم يتعدوا جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا أحجارها متاريس للكرنكة(للإحتماء خلفها) لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس، وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أحد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر، ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية أزالوهم". ورغم أن "العامة" استطاعوا تحقيق "نصر" و لو مؤقت إلا أن الجبرتي يبدو أنه كان-والله أعلم- من بين المتضررين من عمليات "النهب و السرقة"  أو من اللائي "سُبين" فيقول : "وعند ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد، وامتدت أيديهم الى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية، ونهبوا دور النصارى الشوام والأروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام، وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات، وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات، وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب، وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحال مستمرين" بعد انتهاء عنصر المفاجأة و بما أن "الثوار" ليس لديهم فكرة عن "ماذا بعد" وأن الأمر ليس "حماسة و فتوة" و هتافات "دينية"، فتبدأ أولي "علامات الهزيمة" فهم قد أصبحوا فريسه سهلة لمدافع الفرنسيين التي ستبدأ باستهداف كل شيء ."فالتترس" أصبح مصيدة أوقعوا أنفسهم فيها فيُحضر الفرنسيون:" جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبات ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين، وكان كبير الفرنسيس أرسل الى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين، حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر وجرروا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين". طبعاً لم يتوقع الناس أن يكون الأمر بمثل تلك  القسوة فيتحول "أدرينالين" الحماسة الذي يدفعك للقتال إلي رغبة محمومة في أن "تنفد بجلدك" من هذا الجحيم، فيقول الجبرتي : "فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا :"يا سلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"، وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق" فيذهب المشايخ كالعادة :"الى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال، فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير واتهمهم في التقصير، فاعتذروا إليه فقبل عذرهم  وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب" لم يبقي إلا شرذمة تُقاتل حتي آخر طلقة لكن "الشجاعة" وحدها لا تكفي : " وأما الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين، ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والإفرنج أثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع، الى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا". فيبدأ الفرنسيون في "التدفق" من جديد لكن هذه المرة لن يكون هناك احترام لأي شيء فلابد من "رد الإعتبار": "وبعد هجعة من الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، […] وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا ارسالاً ركباناً ورجالاً ثم دخلوا الى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول. وتفرقوا بصحنه ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه" وهكذا تنتهي "هوجة القاهرة الأولي" عفواً أيها الوطنيون "ثورة القاهرة الأولي". أظن "مفيش أحلي من كده ثورة" و نراكم -إن شاء الله- "الثورة" القادمة.
******************************************************************************************************
(*) الموقع هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال