الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

الجيش المصري و شعبه (30)

 

الجيش المصري وشعبه

-البداية

(27)

"طُوفُوا فِي شَوَارِعِ مِصْرَ وَفَتِّشُوا فِي سَاحَاتِهَا، وَانْظُرُوا هَلْ لاَ يَزَال هُنَاكَ عَامِلٌ بِالْعَدْلِ أو طَالِبٌ للْحَقِّ فَأْجْعَلُهُ أُمْثُولَة وَعِبرَةً تَتحَدثُ عَنهَا الصُحفُ والمجَلاتُ؟ وَهَلْ لاَ يَزَالُ الفُقَراء والمسَاكينَ وَالغَلابةَ يَئنونَ وَيولولونَ مِنْ ضِيقِ المَعيشَةِ فأْرفعُ لهمْ أسَعارَ الأَرُزَ والسُّكرَ والزَّيتَ؟ وَأخْبِروني إِذَا تَوقفَ -وَلو لَلحَظاتِ- الشّيَوخُ وَالقسَاوِسَةُ وَالمَلاحِدَةُ عَنْ التَهْليلِ وَالتَسْبيحِ بِاسْمي فَأُخْرِجُ لَـهُمْ الإِسْطواناتِ المُخلِّة مِنْ الأدْرَاجِ؟ وَاعْلمُوني إِنْ وَجَدْتمْ بَينَ الفَنَّاناتِ وَالرَاقِصَاتِ وَالعَاهِراتِ مَنْ لاَ يَعْتقِدُ بِي رَبّاً للجَيشِ والجُنودِ فأُجْلسهُنَّ وَاقِفَاتِ بالكُلُوتِ عَلىَ الخَازُوقِ؟"

الإصحاح الثلاثون من سفر الشئون المعنوية


 

"الراقصة الشريفة" هذا المُصطلح المُتناقض كُنّا قد رأيناه من قبل حين حاولنا أن نوصّف العتاهة المُصاب بها المصريين(1) وقلنا أنه يتم حل تناقض أمثال تلك المُصطلحات من خلال إعادة تعريف أحد طرفي التناقض؛ فالرقص ينتقل من خانة الخلاعة والمُجون ليُصبح "مهنة شريفة" أو "فلكلور شعبي" أو حتى "فن راقي"؛ و الشرف - فيما يخص المرأة- يُعاد تعريفه ليصبح ليس له أي علاقة بالعفة وصيانة النفس والجسد من ألسنة وعيون الآخرين؛ بل لتُثبت المرأة "شرفها" - طبقا للتعريف الجديد- وأنّها لا تُنافق المجتمع الذي تعيش فيه يكون عليها أن تتعرّي، وكلما زادت المرأة من المساحة المُستعدّة لتعريتها كُلما صعدت درجة في سُلم الشرف؛ وأنّ التطبيق العملي الحقيقي لـ"استقامة المرأة" هو أنْ تُتيح جسدها لراغبي المُتعة سواء بأجر أو لمجرد "اللذّة المُتبادلة". ولكن إذا أردت أنْ تصك وتنشر وتُبشّر بالتعريف الجديد يجب ألا تكون عملية إعادة التعريف هذه بشكل واضح فج؛ بل يجب عليك صياغته في مجموعة من القصص الدرامية الشيّقة والتي من خلالها تُقدم نموذجك المثالي الاستثنائي لـ"الراقصة العارية الشريفة" في مقابل نموذج المرأة المحتشمة التي تدّعي العفّة والشرف لكنها في الخفاء تُمارس الدّعارة!!! ورغم أنّ كلا النموذجين" استثنائي" ولا ينفيان قاعدة أن كُل الراقصات داعرات -بحكم التعريف و "طبيعة المهنة"- إلا أن البهائم التي تسمعك وتُشاهدك وتُتابعك لن تخرج من تلك القصص إلا بما تُريده أنت وهو أنّ الراقصة "أشرفّ" من تلك المُدّعية للشرف، ومع الوقت والتكرار والإصرار لن تجد صعوبة في النهاية أنْ تُقنعهم بأنْ الراقصة "أشرف من كُل شريفة". وبهذه الطريقة تستطيع أنْ تحوّل أي مُصطلح مُتناقض إلي مُسلّمة من المُسلّمات بل تستطيع أنْ تحوّله لبديهية التي يستحيل بعد ذلك بيان تهافتها وتناقضها في مجتمع يُمارس فيه حُكامه ونخبته وعلمائه وشيوخه وقساوسته وملاحدته وعوامه "الرقص الشريف".

 

 إن كان من الممكن تفهّم السبب وراء أمثال تلك المُصطلحات المتناقضة التي يتم ترويجها من قِبل السُّلطة -لما فيه مصلحتها- من أمثال مُصطلح "المُسلم المُلحد" ويُقصد به المُسلم "المُطيع" الذي لا يسمع إلا لأوامر ونواهي الحاكم ولا يُسبّح إلا بحكمته ودهائه ولا يسجد إلا لجيشه وزبانيته؛ المُسلم المُستعد دوماً للبحث والتنقيب في بطون كُتب الأحاديث والتفاسير لكي يُثبت تناقض وخُرافية الإسلام. أو مُصطلح "المسيحي المُوحّد" وهو النُصراني "الخروف الضال" الذي يرى في الحاكم "الراعي الصالح" صورة من صُور تجسد (يسوع)، والذي يُصلي صلاة باكر وصلاة نصف الليل على أنغام ترنيمة "تسلم الأيادي" ؛ النُصراني الذي يُقدم نفسه طواعية لكي يُبصق عليه ويُشتم ويُصفع ويُصلب تكفيراً عن خطايا الحاكم وجيشه. أو مُصطلح "المُلحد المؤمن" ويقصد به المُلحد الذي لا يعبد ولا يسجد لصنم إلا "صنم الوطن"، الذي لا يرى لأي كتاب قداسة أو احترام إلا الكتاب الذي بين دفتيه "الدستور"؛ المُلحد الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالحياة الآخرة ولكنه يتمنى أن "يُخلّد شهيداً" بالموت في سبيل الوطن. أو مُصطلح "القاضي المرتشي النزيه" أو "الشُّرطي المُجرم البريء" أو "ضابط الجيش القاتل الشهيد" أو "الرئيس الأهبل المُلهم" أو "المُفكّر النطع الامعة المُستنير" أو "لاعب الكرة المُتخلف عنوان الانتماء والفخار" أو "رجل الاعمال الحرامي الرأسمالي الوطني" أو "الإعلام الطّبال المُضلِّل الوطني الهادف" أو" المواطنين الأمنجية الشُرفاء" أو " الشعب الطبّال الرّقاص العظيم" أو" الوطن الخرابة المحسود المحروس" أو "مشخخة الأزهر الشريف" أو "مبولة الكنيسة الوطنية" أو" انتصار أكتوبر الهزيل المجيد" أو "الجيش الأبيض-الأطباء- النصّاب الخيّر" الذي يُستخدم لنهب الأموال تحت غطاء جمع الزكاة والأعشار والأخماس والصدقات والتبرعات -ولو بجنيه- لعلاج قلوب وأكباد وشُروج الفقراء والأطفال ومكافحة كورونا وطفراتها الشريرة وحصار الطاعون وجدري القرود والإيبولا والقضاء علي الأمراض المستخبية والمُستعصية والسرطانية. فإنْ أمكن فهم هذا كُله فإنّ العسير على الفهم هو أنْ تجد المُعارضين للسُّلطة يروّجون بدورهم لكثير من المصطلحات المتناقضة التي ليس فقط لا تخدم مصلحتهم ولكنها تصُب -ليس في مصلحة المواطن- في مصلحة السُّلطة التي يقولون إنهم "ثائرون" عليها؛ كمُصطلح "شرفاء الجيش الغير شريف" أو "جيل أكتوبر الخائن العظيم" أو "شيخ الأزهر المُعرِّص المُدافع عن "دين الدولة" الوسطي المرن البضّ" الملظلظ" الشهيّ" أو " الرئيس الأهبل الشهيد" أو "جنودنا القَتَلة الشُّهداء الغلابة" أو "الشيخ الجاموسة المسجون المُناضل" أو "الناشط البغل المُعتقل الثائر" أو "المواطن الجحش الفاهم الواعي" أو "الشعب الجبان الذليل المُسالم الغلبان" أو "المقاول الحرامي المُعارض" أو "المُناضلة الحُرّة العاهرة صاحبة الأسرار والفضائح" أو" لاعب الكرة الجاهل ساحر العقول وأمير القلوب" أو" الوطن الزريبة العزيز الغالي" أو "الثورة السلميّة" أو "لا للعنف ضد عنف الجيش" بحجة أن هذا سيؤدي لأن يفقد الشعب ثقته في جيشه، الذي ينهبه ويهدم بيوته ويُصادر ويبيع أراضيه ويسجن ويقتل أبنائه، و"فقد الثقة" هذا قطعاً سيفتك -اللهم احفظنا- بتصوّر الجيش لنفسه كجيش وطني؟!!! أو "الإعلام المُعارِض الوطني التوعوي" الذي يقتات على ترويج برامج وأخبار و"تسريبات" وفضائح وبلالين اختبار السُّلطة، الإعلام الذي يُصبّر "جمهوره" بالعظات والقصص والحكاوي والحوادث ويحكي لهم عن الدروس والأفكار والخطط" المُبدعة" المُخدِرة.

تناقضات

إن انتابتك الحيرة والتعجب والدهشة من قدرة السُّلطة و" مُعارضتها" علي انتاج هذا الكم من المُصطلحات المُتناقضة التي يتوه فيها المنطق وينتحر بسببها العقل؛ فقد تُصيبك الصدمة والفالج والسكتة حين تري قدرة تلك "الأمخاخ" علي الابتذال والتسخيف؛ فأصبح بمجرد أن تأتي تلك الأمخاخ -أياً كان السياق- علي ذكر الحق والخير أو العدل والأمانة أو الصدق والشرف والاستقامة أو الدّين والتديّن أو الجهاد والشّهادة أو الصّبر والحكمة أو الشجاعة والكرامة أو… أو… يكون هذا مُسبباً للملل والقرف وداعياً للاستهزاء والسُّخرية؛ لأنهم جعلوا الحق مُرادفاً للباطل المحض واعتبروا الخير اسماً من أسماء الشّر وفسّروا العدل بأنه الظُلم الأعور والأمانة خيانة بضمير والصدق الكذب المُرتّب ورأوا الشرف في أن تُظِهر العُهر وحسبوا الاستقامة التنزّه عن كل فضيلة؛ أمّا الدّين فـ"علاقة سرّية" بين العبد وربه لا ينبغي لأحد أنْ يعرفها أو يطلع عليها، والتديّن هو افشاء لسرّية تلك العلاقة مما يُعد حقارة وخيانة وتجارة؛ والجهاد لم يعد يُذكر إلا مقرونا بالكذب المُفتري الذي أطلقوا عليه" جهاد النكاح" التي لا يُرددها إلا "المُسلم المُلحد" السابق ذكره، والشّهادة كُتبت علي أنصاب وقبور وصكوك لا تُمنح إلا لـ"حُماة الوطن" ومُعرّصينه، والصّبر ليس إلا البلادة وانعدام النخوة والاحساس والحكمة لا تكون في وضع الأشياء مواضعها فهذه سذاجة ورعونة وتهوّر؛ ولكنّها في تجنّب وتجاهل تلك الأشياء، والشّجاعة هي أن تتحمل صفعات وركلات الأيدي والأرجل التي تمتد لقفاك ومؤخرتك بثبات وجَلد وأمّا الكرامة فهي أن ترفع رأسك شامخاً فوقاً والأخرون يلعبون ويغتصبون "مصلحتك". وبقدراتها العجائبية هذه استطاعت تلك الأمخاخ أنْ تجعل "حَسبي الله ونِعْمَ الوكيل" الشّعار المُفضّل للأذلاء والجُبناء والعجزة، وصنعت من "مَنْ ضَربك على خَدك اﻷيمن فحوّل له الآخر أيضاً" قناعاً لتُداري ذِلتها وجُبنها وعجزها، وحوّلت " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" إلى النشيد الوطني للأنطاع والمُعرّصين، وأفتت أنّ مجرد "خلع" الملك أو الحاكم الخائن العبيط الفاسد أو العرص الأهبل الساذج الذي قتل ونهب وأجاع وأفقر الناس أو الذي تغاضي وعَرّص وتآمر واستهبل هو "كُفر بأنعم الله"؟!! وعقاب هذا مزيداً من القتل والنهب والجوع والفقر مُحتجين بقول تعالي حين ضرب مثل "القرّية الآمنة المُطمئنة"؟!!! فـ" الأمن" في مفهوم هؤلاء هو عيش الجُبن والذّلة، و"الطمأنينة" في التسليم والرضا بالجوع والفقر والقتل والنهب والسرقة.

القرية الأمنة

لكن كيف لتلك الأمخاخ هذه "البراعة" في إنتاج وتصديق وتكرار تلك العتاهات المُضحكة؟! - أولاً: قُلنا سابقاً (2) أنّ تلك الأمخاخ لديها قدرة هائلة على التسخيف والابتذال تستطيع بها أنْ تُسخّف وتبتذل أي اقتباس أو مبدأ أو مثال أو قيمة عن طريق نزعها من سياقها ووضعها في سياقات جديدة مُغايرة مُناقضة حتى تمل وتئن الآذان من سماعه وتنفر وتشمئز العقول من تكراره كوسيلة لتحطيم الحد الفاصل بين الحق والباطل وبين الشرف والعُهر و بين الصدق والتعريص وبعدها يكون من السهولة أن تُزيل خراء الباطل بثياب الحق وتُلطّخ الحق بخراء الباطل. وثانياً: أنّ تلك الأمخاخ قد استطاعت أن تصل لحدود -ولاتزال تتوسع- من التّسفّل والسّفالة والسّطحيّة والتفاهة والتي كان يُعتقد استحالة الوصول إليها، الأمر الذي يُمكّنها بسهولة أن تصل وتؤثر في"الجماهير العبيطة العريضة" والتي تتلقى تلك العتاهات وتعتنقها وتعتبرها "حقائق خالدة". ومثال علي ذلك فلنأخذ أحد "المبادئ الأخلاقية"-وقد رأيناه سابقاً- التي أنتجتها واستخدمتها للدفاع عن الداعرات والعاهرات والمُعرّصين والفسدة؛ فلو جَرؤتَ علي توصيف فعل داعر أو داعرة أو أنزلتَ حُكماً علي راقصة أو عاهرة أو عَرَّضتَ بفاسد أو مُعرّص أو مُعرّصة ستجدهم يقيئون في وجهك قائلين "مَنْ كان مِنْكمْ بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر" مُعتقدين أنّ هذا القئ هو الحل لكل مُشكلة. ولو أنصفوا لوقفوا في صفّك وتبنّوا رأيك؛ لكنك تراهم قد ناصبوك الكُره والعداء وعكسوا الأدوار فوضعوك أنت في موقف الدفاع وهدفاً للشتم والنقد والاتهام ورفعوا التعريص والدعارة والعُهر إلى مقام الصدق والشرف والفضيلة!! وكأنهم -بداية- يقولون أنّه بما أننا كُلنا "نخطئ" فلم يعد هناك أي معنى للشرف ولا الصدق والاستقامة فهم مساوون للعهر والتعريص والدعارة. وثانياً بعد أن يساووا بين النقيضين يرفعون الطرف الثاني إلى مقام" المُثل العليا" التي علينا أن نعتنقها ونُقلدها ونحتذيها لأنها أكثر تعبيراً واتفاقاً مع طبيعة النفس البشرية، ويهبطون بالطرف الأول إلي الدرك الأسفل من التخلف والنفاق والغباء الإجتماعي والتي على الجميع التخلص منها وتجنبها وتحاشيها. 


ولكي نرجع إلي أصل هذا "المبدأ" فعلينا أن نتخيل أننا الآن في وسط مجموعة من عوام اليهود في زمن (يسوع) حين أحضروا إليه المرأة الزانية والتي بحسب الشّريعة تُرجم حتى الموت بالحجارة، وقد ألححنا عليه بالسؤال عن ماذا علينا فعله معها أنُطبق الشريعة أم له رأي آخر مُخالف، فكانت إجابته - بعد صمت طويل- تجمع بين الذكاء والعبط فمن ناحية لم يُعطّل الحد لكنه في نفس الوقت جعله لاغياً بإضافته شرطاً لا يمكن استيفاؤه. ويعتمد (يسوع) دائما في ردوده على الوقوف في منطقة رمادية كي لا يُمكّنْ مُنتقديه من الإمساك به بـ"الجُرم المشهود"، فلا يستطيع من يسمعه -لأول مرة- أن يحكم إن كان مُحبّاً للشّريعة أو كاره لها، وإذا ما كان فعلاً هو المُخلّص أم الدّجال. وإن كان هذا "التكتيك" بالوقوف في المنطقة الرمادية قد ينجح في الخداع والمراوغة -خصوصاً مع الجماهير العبيطة- إلا أنّ الاعتماد عليه وحده حتماً سيؤدي في النهاية إلي السقوط والتناقض؛ وعلي ذلك لم تصدمنا أو تخدعنا إجابته تلك ولم ننصرف ونتركه وحيداً مع تلك الزانية -كما يروي الإنجيل- بل انتظرنا لنرى ماذا سيفعل معها فسمعناه يقول لها أنه لن يحكم عليها وأوصاه ألا تعود وتخطئ ثانية. فأدركنا حينها تهافت وتناقض منطق (يسوع) لأنه إمّا أنْ يكون "حمل وديع" بلا خطيئة -مع استبعاد كونه "إلهاً"- فكان عليه أن يرجمها طبقاً للشرط الذي وضعه بنفسه، أو أنه انسان يخطئ مثلنا ويكون وضعه للشرط ناتج عن عمد ووعي لتعطيل حدود الشَّريعة ويدخل حينها تحت بند الكُفّار المُهرطقين، أو ناتج عن هوى وجهل لكي يبدو أمام عوام اليهود بمظهر المُخلّص الرحيم، ويكون حينها مجرد كذّاب مُدّعي؛ وما يؤيد هذا أننا نجد (يسوع) من جانب يُدافع عن "المرضى" الجُباة والخُطاة والزُناة ويُمنّيهم ويَعدْهم بـ"ملكوت السماء" ثم نجده من الجانب الأخر  يُهاجم "الأبرار" حملة الشَّريعة وشيوخها والمُدافعين عنها ويتهمهم بالجهل والعمى والرياء ويتوعدهم بالويل والهلاك في الجحيم.

 

 إنّ الأمخاخ المصرية سواء كانوا مؤيدين للسُّلطة أو مُعارضين لها تعتمد علي نفس تكتيك (يسوع) للخداع والمراوغة وقلب الموازين وتعمية الحقائق لتيقنها أنّ مَنْ يُتابعونها ويسمعونها ويصدقونها ليسوا إلا مجموعة من "الكنب والكراسي" ولذلك هي لا تحاول حتى اخفاء هبلها وتفاهتها وتهافتها وتناقضها بل وقد "تتفشخر" وتتباهي بهذا وتعتبره "ذكاء وعبقرية"، ونتيجة لهذا تجد المُجتمع الذي تعيش فيه تلك الأمخاخ مثال للتناقض والتفاهة والسطحيّة، مجتمع يستطيع فيه الأهبل والعبيط أن يكون قائداً للجيش أو رئيساً للجمهورية ويُعيّن فيه الشّيخ العرص شيخاً أكبر أو مُفتيّاً للديار المصرية، والفنانة العاهرة تُقدم كقدوة حسنة، وتُختار الراقصة الداعرة كأُمَّاً مثالية؛ مجتمع  فيه كل شئ  بـ"المقلوب" حتي الزمن يبدو داخله كأنه يتحرك للخلف … لكن قبل أن يجرفنا نهر الزمن للوراء دعنا  نتوقف عند هذا الحد ونُكمل – إن شاء الله- المرة القادمة.

***************************************************************************

(1) الجيش المصري وشعبه (19)

(2) الجيش المصري وشعبه (28)

 

الأربعاء، 26 يناير 2022

الجيش المصري وشعبه (29)


-البداية

(26)

" لِمَنْ الْمُعَانَاةُ الْيَومَ؟ لِمَنْ الشَّكْوَى وَالْوَيْلُ وَالْشّقَاءُ؟ لِمَنْ الْخَوْزَقَةُ وَالْصَفْعُ عَليَ الْمُؤَخِرَةِ وَالقَفَا؟ إِنَّهَا للمَصْرِيين مُدْمِني كُرَةَ القَدَمِ وَالمُسَلْسَلاَتِ وَاﻷْغَانِي وَعِلَبَ الكُلّةِ؛ السَّاعِينَ وَرَاءَ المُخدّْرَاتِ وَالمُسْكِرَاتِ المَمْزُوجَةِ بِشِعاَرَاتِ الْوطَنيةِ والسْلميّةِ. الّذْي يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُتَفَاخِرَاً: "ضَرَبُونِي وَلَكِني لَمْ أَتَوَجَّعْ. لَكَمُونِي فَلَمْ أَشْعُرْ، سَرَقُوني فَلَمْ أَهْتَمْ أو أَغْتَمْ، وَاغْتَصَبُونِي فَاسْتمَتْعتُ وَلَمْ أتألمْ، فَلِمَاذَا أَفِيقُ وَأَسْتَيْقِظُ؟ سَأَذْهَبُ أَلْتَمِسُ مُشَاهَدَتِهَا وَسَمَاعِهَا وَشّمْهِاَ وَشُرْبَهَا مَرَّةً أُخْرَي."”

الإصحاح التاسع والعشرون من سفر الشئون المعنوية



تعرّضنا فيما سبق (1) لـ"الرواية اﻷولي" التي قصّت علينا بداية العداوة الصريحة بين الفرّيسيين والصدوقيين وأخبرتنا أن هذا قد حدث في أواخر عهد (هيركانوس اﻷول) فبعد أن استشعر خطر تزايد نفوذ الفرّيسيين على عوام اليهود قام بحملة لقمعهم وإلغاء العمل بفقههم وتفسيراتهم للشريعة، إلا أنّ (هيركانوس) لم يعش طويلاً بعد ذلك لكي يري تبعات ما فعله وقبل أن يموت في العام 106 ق.م -بعد أنْ حكم قُرابة 31 عاما- يترك الحكم لزوجته تشبهاً باليونان، واختار من بين أبنائه الخمسة خلفاً له (أريستوبولس اﻷول) ليكون كاهناً أعظماً، هذا اﻷخير لم يقنع بذلك واستولى على الحكم هو وأخيه المُقرّب ورفيقه في الحروب (أنتيجونُس اﻷول) ووضع بقية أخوته وأُمَّه في السجن ووصلت به "الوحشيّة" أن يتركها تموت جوعا فيه لأنَّها نازعته في المُلك. بل وحتى في مرضه الأخير اغتال أخاه المُقرّب (أنتيجونُس) على إِثْر وشايه تقول أنَّه يُحضّر لانقلاب ضدّه؛ لكن بعد اغتياله يموت (أريستوبولس اﻷول) حسرة وكمداً على ما فعل. ورغم مدة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز العام الواحد إلا أنّه استطاع أن يوسع حدود مُلكه إلى منطقة الجليل.(2)


بعد موت (أريستوبولس) تولتْ الحكم زوجته ألكسندرا (سالومي -שלומ-ציון- (شْلُومْ-تْسِيونْ) أي "سلام صهيون") التي أخرجت إخوة زوجها من السجن، حيث سلّمتْ الحُكم لأكبر الأخوة (ألكسندر ياناي-יוחנן -يوحنان) ورُسِمَ كاهناً أعظماً وأصبحت (سالومي) زوجة "الملك-الكاهن" الجديد. وقد انطلق بعدها (ألكسندر) في مغامرات حربية كثيرة رغم أنهّ لم يكنْ يمتلك لا الحكمة ولا المهارة العسكرية لآبائه لكن ساعده "الحظ" والظروف المحيطة في البقاء في الحكم لمدة قاربت على 27 عاماً (103-76 ق.م) (3)


لم يكنْ الصراع على السُّلطة داخل الأسرة الحشمونية إلا صورة مصغرة لما كان يجري حولها في سوريا ومصر، ففي مصر -أو بالأحرى في الإسكندرية- كان هناك صراع الأشقاء الثلاثة (بطليموس الثامن-يورجيتس (الخيّر) الثاني) المُلقّب بـ(فِسْـكُـونْ-Φυσκων-"أبو كرش") و(بطليموس السادس-فِيلُومَتُر) وأُختهما (كليوباترا الثانية) فبعد أنْ حاول أحد أفراد الحاشية المدعو (ديونيسوس بيتوسرابيس) -من أصل مصري- استغلال ما بين الأخوة من تنافس، أو بتحريض من (يورجيتس) نفسه، فإتهم (فِيلُومَتُر) بأنه يحاول قتل أخيه لينفرد بالحكم فتندفع غاضبة "جماهير الإسكندرية" ،التي سيكون لها من الآن وصاعداً دورا حاسماً في سقوط المملكة البطلمية، لتحاصر الملك "القاتل" لكن (فِيلُومَتُر) يُقنع (يورجيتس) بأن هذه الاتهامات "لا أساس لها من الصحة"، يهرب (ديونيسوس) ليلجأ إلى مدينة (إلوسيوس)خارج الإسكندرية التي تصبح مركزا لـ"المقاومة" فيخرج له (فِيلُومَتُر) ويهزمه؛ في هذه الفترة أيضا تحدث "أعمال شغب" فـ"القاعدة العسكرية" البطلمية بالفيوم يتم مهاجمتها هي والكهنة المصريين المتعاونين معهم، وفي الصعيد تحدث في (طيبة) حركة "تمرد" كبيرة لكن (فِيلُومَتُر) يقمعها(4). إلا أنّ (يورجيتس) بعدها يستطيع طرد أخاه من المدينة فليجئ (فِيلُومَتُر) لروما لكي تعيده لعرشه ومنها يذهب لقبرص لحين أن تبت روما في أمره لكن تأتيه "الأخبار السَّارة" أنّ سكان الإسكندرية ثاروا على (يورجيتس) وطردوه ويطالبون بعودته، فيصل الأخوين لاتفاق بتقسيم المملكة بينهما، فنصيب الأسد مصر وقبرص بيد (فِيلُومَتُر)، وكريني-Κυρηνη-(في برقة-ليببا) تحت حكم (يورجيتس)، الذي يظل يتربص بأخيه ويتحين الظروف للعودة للإسكندرية حتي تأتيه الفرصة بمقتل (فِيلُومَتُر) عام 145 ق.م في صراعه مع المملكة السلوقية للسيطرة على سوريا، تاركا ولداً وحيداً (بطليموس-نيوس فِيلُوبَاتُر -Νεος Φιλοπατωρ- "الصغير المُحب لأبيه") من زوجته (كليوباترا الثانية)، فيدخل(يورجيتس) الإسكندرية؛ ويبدو أن هذا لم يتم دون مقاومة حيث نراه قد نكّل بـالمعارضين له والمؤيدين للملكة وابنها الصغير ، فيستبيح المدينة التي أخرجته وقاومته. ولكي نتخيل حجم "المذبحة" التي ارتكبها حتى أنّ المدينة بعد تلك الحادثة ستفقد مُعظم نُخبتها، علينا أن نُصدق الروايات التي تذكر وحشيته فيُقال أنه قتل ابن أخيه في أحضان أخته (كليوباترا الثانية) أثناء مراسم زواجهما!!! ثم بعد أن تم "طرده" -مُجدداً- من مدينة الإسكندرية وهروبه لقبرص بصحبة زوجته الثانية (كليوباترا الثالثة)، وهي في نفس الوقت ابنة زوجته الأولى (كليوباترا الثانية) من أخيه (فِيلُومَتُر)، قام بتمزيق ابنه أشلاءً (بطليموس الممفيتي -Μεμφιτης- نسبة لمدينة منف) من (كليوباترا الثانية) وأرسله لها في صندوق انتقاما منها ولكي لا ترسم ابنها ملكاً بدلاً منه. لكن بعد كل هذا يبدو أن "وحشيته" قد هدأت وهدأ معها "سُكّان الإسكندرية" فرجع وجلس بجوار زوجتيه على العرش.



كان "سُكّان الإسكندرية" يتشكلون من فئتين رئيسيتين -غير فئة العبيد- الفئة الأولى: اليونانيون وينقسمون إلى طبقة المواطنين كاملي المواطنة، ثم يونانيون مواطنين تحت الاختبار أو بمواطنة محدودة، ثم طبقة "عوام اليونانيين" هؤلاء هم "البدون" -كما في بعض الدول العربية- فليس لهم أي صفة مواطنة معينة. الفئة الثانية: هم غير اليونانيين الذين يتكونون من السُّكان المحليين "المصريين" ومن "المهاجرين الأجانب" من يهود وسوريون وعرب وغيرهم.(5)كان "صك المواطنة" السّّكندرية يمنح صاحبه حق التصويت وحق تملك الأراضي والمشاركة في المراسيم والاحتفالات الرسمية و الدينية، كما كان يتمتع بـ"حصانة قضائية" فلا يستطيع أحد أن يسقط عنه "حقوقه المدنية" إلا في حال ارتكابه جناية جسيمة. حتى في العقوبات التعزيرية البدنية كان يُضرب ضرباً أخف كثيرا من غير المواطن.(6) وإن كان للمصريين السَّكندريين قوانيهم الخاصة ومحاكمهم التي يلجئون إلىها وحتي الحق في أنْ يُخاصموا قضائيا أي من السُّكان اليونانيين؛ لكن لم يحصلوا -في غالبيتهم- على "حق المواطنة" داخل الإسكندرية؛ بل ولم يكن لهم حتي توصيف رسمي يُطلق عليهم على عكس الفئات الأخري من غير اليونانيين الذين كانوا يُنسبون إلى العِرقْ أو المكان الذي أتوا منه مثل يهودي Ιουδαιος وعربي Αραψ وسوري Συρος وفارسي Περσος؛ حتي لفظ اجيبتيوس-Αιγυπτιος- "قبطي" كان نادراً ما يستخدم للإشارة لـ"المصري" في هذه الفترة. ولم يتم الاستعانة بالمصريين في الشُّرطة فقد كان اليوناني يري من الإهانة أن يُطيع "مصري"، على عكس العرب الذين دخلوا جهاز الشرطة وكانوا من الكثرة حتي أصبح لفظ عربي مُرادف لـ"شُرْطِي" (7) أمَّا الجيش ففي معظم الأوقات كان أيضاً من الوظائف المستبعد منها المصري إلا أن يكون الجيش البطلمي في حاجة إلى "أنفار" كما حدث في العام 218 ق.م في الصراع الدائر بين المملكتين السلوقية والبطلمية للسيطرة على (كُلِ سوريا-Κοιλη Συρια-(تتكون من الجزء الجنوبي من سوريا والشرقي للبنان )) فقرر (بطليموس الرابع-فِيلُومَتُر) أن يجمع جيشاً جراراً أُضيف له 20000 من المصريين!!! الذين رجّحوا كفته في "معركة رفح" ضد جيش (أنتيخوس الثالث). أو حين احتاج (يورجيتس الثانى) في صراعه مع (كليوباترا الثانية) كسب دعم "الشعب المصري" في "الخورا" (Χωρα وهي الأرض المُحيطة بالمدن الكبرى وكانت تُطلق خصوصاً على "الأرياف المصرية" وسنطلق على الخورا "المزّرعة" حتى وإن كانت في بعض الأحيان مجرد أراضي فضاء خالية) فاختار مصرياً لأول مرة استراتيجوس -Στρατηγεος- جنرالاً حاكماً على "طيبة ونواحيها"، ثم لاحقاً سيرقيه إلى قائداً عاماً -Επιστρατηγος- لكُل المزرعة؛ ويُنْعِم عليه فوق هذا بمنحه أعلى ألقاب البلاط الملكي وهو (سنجنيس -Συγγενης- قريب الملك (بالدم)).(8)



لم يكن وضع "المصريين العاديين" أفضل في داخل الإسكندرية منه في خارجها ؛ فداخل الإسكندرية كان يُنظر إليهم كـ"غير مواطنين" من الدرجة العاشرة، وخارجها إن لم يكن يُنظر إليهم كـ"عبيد برابرة" فلم يكونوا أكثر من أُجَراء يعملون في المزّرعة. أمَّا اليهود، "أولا عمومة" العرب، فكان لهم وضع مُميز في مصر عموما وداخل الإسكندرية بشكل خاص وإن لم يحصلوا على "المواطنة الكاملة" إلا أنهم كانوا متواجدين في الجيش والشُّرطة وجباة للضرائب وتُجّار فقد أعجب (بطليموس السادس) بصفاتهم -خصوصاً العسكرية- مما جعل مصر بؤرة جاذبة لهم، هذا بالإضافة لما أشرنا له من قبل (9) أنّه بدءً من محاولة "أغرقة" منطقة اليهودية وما صاحبها من خلاف على منصب الكاهن الأعظم بين (أونياس الثالث–חוניו- حُنْيُو) "الغيور على الشريعة" وأخيه (يسوع) "المُنافق" في عهد (أنتيخوس الرابع) الأمر الذي انتهى بمقتل (أونياس)، ثم ما تلى ذلك من ظهور الأسرة الحشمونية، أسهم هذا في تشكّل "جالية يهودية" لها وزنها في مصر قادمين من "منطقة اليهودية" هرباً من الاضطهاد والتنكيل أو كجنود وموظفين أو كأسري وعبيد. حتي أنّه في بدايات القرن الميلادي الأول يُخبرنا (فيلون) الفيلسوف السكندري اليهودي في رسالته “ضد فلَاكُسْ" الوالي الروماني الذي أخذ في اضطهاد اليهود، أنّ الإسكندرية، وكانت من أكثر مدن العالم وقتها سُكّاناً ، كان بها حيين كاملين يشغلهما اليهود من مجموع أحيائها الخمسة وإن لم يخلو بقية الأحياء من اليهود أيضا.(10)



واحد من هؤلاء اليهود الذين قدموا لمصر هو (أونياس الرابع) بن الكاهن الأعظم المقتول والذي سكن مدينة (ليونتوبولس -Λεοντοπολις- مدينة الأسود(تل اليهودية-القليوبية)) التي تتحول لقاعدة عسكرية للجنود اليهود ويسمح له (بطليموس السادس) بأن يبتني معبداً فيها يُنافس به معبد أورشليم وتُصبح المدينة مركزاً مهما لليهود في مصر حتي أنه سيُطلق عليها "أرض أونياس". وقد لعب اليهود دوراً في الصراع داخل الأسرة البطلمية حيث يقول (يوسف بن متتاياهو) -مُبالغاً- أنّ (كليوباترا) قد عهدت بقيادة الجيش «كُله» لليهوديين (أونياس) و (دوسيثيؤوس –Δωσιθεος- ترجمة لاسمه بالعبرية –נתנאל- نَتَنَالْ هبة أو عطّية الإله) وأنه حين كانت (كليوباترا) في حرب مع "السَّكندريين" كان اليهود هم من وقفوا بجانبها وانقذوا الأسرة المالكة والإسكندرية من مصير مشؤوم؛ وعندما هاجم (يورجيتس) الإسكندرية شن (أونياس) حربا ضده ولمّا لم «يجرؤ» (يورجيتس) على مواجهته قام بجمع يهود الإسكندرية وزوجاتهم وأبنائهم عرايا مُكبلين وأطلق عليهم فيلة مخمورة لكن بدل أن تدهس الفيلة اليهود دهست كثير من أصدقاء الملك!!!(11)



حين موت (يورجيتس) عهد الأمر لزوجته (كليوباترا الثالثة) في تولية أي من ابنيها، الابن الأكبر (بطليموس التاسع -سوتر الثاني) المُلقّب بــ(لاثيروس -Λαθυρος- "فول أو عَدَسْ")(12) -فيما يبدو استهزاءً- أو الابن الأصغر (بطليموس العاشر-ألكسندر)، فاختارت (كليوباترا) (ألكسندر)، إمّا لأنه كان ابنها "المُفضّل" أو أنها أردات أن يكون لها الحكم من وراء ستار؛ مُخالفة بذلك "الدستور" المُتبع بأن يتولى المُلْك أكبر الأخوة سناً، الأمر الذي أدى لانقسام داخلي "المجتمع السّكندري" ؛ فرفضوا ذلك ووضعوا (بطليموس سوتر) الوريث الشرعي بجانب أُمَّه على العرش من (117 ق.م-108 ق.م). من جانبها أرسلت (كليوباترا) ابنها (ألكسندر)لـ(قبرص) خوفا عليه. لكن في العام 108 ق.م قامت "ثورة" -بتحريض الملكة الأم في الغالب- داخل الإسكندرية على (لاثيروس) هرب على إثرها لـ(قبرص) في حين رجع أخوه (ألكسندر) لتولي الحكم بجوار أُمّه التي سيقتلها في العام 102 ق.م.


ولم تكن مصر غائبة عن الصراع الذي كان يجري على عرش المملكة السلوقية فقد كانت(كليوباترا ثيا) بنت (بطليموس السادس) قد تتابعت على ملوك المملكة كـزوجة؛ فتزوجت أولاً من (ألكسندر بالاس) ثم تركته وتزوجت (ديمتريوس الثاني-نيكاتور) وانجبت منه (سلوقس الخامس-فِيلُومَتُر) و (أنتيخوس الثامن- إبيفانيس فِيلُومَتُر) المُلقّب بــ(جريبوس-Γρυπος- "ذو الأنف المعقوف")الذي سيتزوج فيما بعد الأميرة (تريفنا - Τρυφαινα- غيداء)بنت (يورجيتس) و(كليوباترا الثالثة)، لكن لمّا وقع (ديمتريوس) في أسر الفُرس تزوجت من أخيه (أنتيخوس السيداوي) ومن زواجها هذا انجبت (أنتيخوس التاسع فيلوبَاتُر) المُلقّب بـ("الكيزكيني" -Κυζικηνος- (نسبة لميدينة كيزيكوس على البسفور التي كان يعيش فيها) الذي سيتزوج (كليوباترا الخامسة -سيليني-Σεληνη- قمر) أخت (بطليموس لاثيروس) وزوجته السابقة، وقد رأينا من قبل كيف استغل (سمعان هاتّاسي) هذا الصراع لكي يوسع حدود "مملكته الصغيرة”.(13) وسينشب صراع مرير بين أبناء جريبوس الخمسة و(أنتيخوس العاشر) ابن الكيزكيني هذا الصراع الذي ينتهي بسقوط المملكة السلوقية في يد ملك أرمينيا (تيجرانس) عام 70 ق.م.(14)



في ظل الأوضاع السابقة وحين استتب الأمر لـ(ألكسندر ياناي) قرر أن يضم المُدن الساحلية التي لم تخضع بعد لأُسرته، فلم تزل (بتولمياس-عكا) و(دورا- جنوب عكا) و(برج ستراتو- قيصيرية) و(غزة) "خارج السيطرة"، فهاجم (ألكسندر) (بتولمياس) وحاصرها فلم يجد أهلها من يطلبوا مساعدته غير (بطليموس-لاثيروس)، والذي كان هاربا لـ(قبرص) كما عرفنا، فيجدها (لاثيروس) فرصة لكي يثبت وجوده فأبحر باتجاه (بتولمياس) لفك الحصار عنها؛ وحين علم (ياناي) بمجيئه فك حصاره عن المدينة وبعث لـ(لاثيروس) برغبته في عقد أواصر الصداقة والتعاون المشترك معه، إلا أنه في نفس الوقت أرسل لـ(كليوباترا الثالثة) في الإسكندرية يطلب مُساعدتها في تخليصه من "عدوهما المشترك”. حين علم لاثيروس بمراسلة (ياناي) لأمه استشاط غضبا وانطلق على رأس جيشه ليُخضع ويُدمر كل منطقة اليهودية فلم يجد (ياناي) بدا من المواجهة فجمع جيشه بالقرب من بلدة (سافوت) -بالقرب من نهر الأردن- إلا أن (لاثيروس) يستطيع أن يفرق جيشه (ياناي) رغم أنّه أكثر عدداً وعُتاداً واعمل فيهم القتل والأسر حتي قد ثُلمت سيوف جنود (لاثيروس) من كثرة مَنْ قتلوهم!!! ولم يكتفي بهذا بل لكي ينشر الرعب والفزع في أعدائه -كما يقول يوسف بن متتاياهو- أمر جنوده حين دخلوا أحد القري أن يقتلوا النساء والأطفال خنقا ثم يُقطّعوهم ويضعوهم في قدور تغلي ويأكلوهم!!! وهكذا استطاع (لاثيروس) السيطرة على كل المنطقة حتي وصل لغزة وأصبح يهدد حدود مصر. حين علمت (كليوباترا) بهذا قررت على الفور أن تبعث لمهاجمته؛ فأرسلت ابنها (ألكسندر) بحرا إلى فينيقيا (لبنان) وجعلت على جيشها (أنانياس -חנניה– حنانياه “يهوه حنّان”) و(خلكياس -חלקיהו -حلقياهو “يهوه نصيبي”)، فحاصر جيش (كليوباترا) القادم من البحر (بتولمياس)، فتصوّر لاثيروس أنه يستطيع أن يدخل مصر بسهولة لكنه يفشل بعد أنْ يواجه جيش (أنانياس) و(خلكياس) الذي يُقتل أثناء المعارك؛ فيتحصن (لاثيروس) في (غزة) حتي يغادرها عائداً لقبرص. أمّا (ياناي) فيذهب لـ(كليوباترا) التي كانت قد سيطرت على (بتولمياس) مُقدماً الهدايا وفروض الولاء والطاعة حيث ينصح أصدقاء الملكة بأن تتخلص من (ياناي) وأنْ تضم منطقة اليهودية لمصر لكن (أنانياس) ينصحها بألا تفعل ذلك لأنها لو فعلته ستجد كل اليهود سواء في منطقة اليهودية أو داخل مصر والإسكندرية قد أصبحوا أعدائها فتسمع (كليوباترا) لكلامه!!



بعد أن خُلِّص ياناي من (لاثيروس) سيستكمل ما كان قد بدأه فيُسيطر على (رفح) ويُحاصر (غزة) لكن لا يستطيع اقتحامها لشدة مقاومة أهلها الذي كانوا يرفضون أن يخضعوا لأعدائهم حتي مع كثرة القتلى الذين وقعوا في صفوفهم كما أنهم كانوا "يأملون" في أن يأتي لنجدتهم ملك النبطية العربي (أريتاس-الحارث) كما وعدهم، إلا أنه قبل أن يأتي (أريتاس) حدثت داخل غزة "خيانة" فقد قُتل القائد العسكري الغزاوي على يد أخيه الذي حسده على ما حققه من صيت وشهرة بين الغزاويين وسَلّمَ القاتل المدينة لـ(ياناي) الذي أمر بعقاب أهلها، إلا أنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي فقاوم بعضهم حتى قتلوا الكثير من اليهود وحرق بعضهم منازلهم لكي لا تقع غنيمة في ايديهم بل وقام البعض الآخر بقتل زوجاته وأبنائه حتى لا يقعوا أسرى عبيد. بعد هذا يعود (ياناي) لأورشليم منتصرا بعد أن دام الحصار لعام كامل.

المناطق التي ضمها ألكسندر ياناي (اللون الأزرق).



إن ساعدت الظروف(ياناي) لكي يوسع مناطق سيطرته إلا أنها عملت في نفس الوقت على اتساع الفجوة بينه وبين الفرّيسيين؛ فالأسرة الحشمونية التي كانت تحمل لواء الشريعة تحولت في عهده لتقف في مُصادمة صريحة معها؛ فانفجر الوضع حوالي العام 95 ق.م في عيد السُّكُّوتْ (حَجْ هسُّكُّوتْ -חג הסוכות - احتفال أو عيد المظال) والذي فيه يسكن اليهود في خيام صغيرة مصنوعة من أغصان الأشجار لمدة سبعة أيام، وهي مدة العيد، يحملون خلالها سعف النخيل وثمار الأترج -ثمار تشبه الليمون- تذكيرا لهم لما عانه أسلافهم الذين خرجوا من مصر وعبروا الصحراء القاحلة واستبشاراً وأملاً في الغفران والخلاص حين انتهى الأمر بدخولهم "الأرض الموعودة" . وحيث كان (ياناي) يقف على المذبح في الهيكل بصفته الكاهن الأعظم استعداد لاستقبال ذبائح الشعب بدأ اليهود برميه بما في أيديهم من ثمار الأترج وفي شتمه وتحقيره بأنه لا يصلح لمنصب الكاهن الأعظم لأنه من نسل أسيرة. حينها جُنّ جنون (ياناي) وأمر جنوده بأن يقتلوهم فقتلوا منهم "6000" نفساً!!! وسيخوض بعدها ست سنوات من الحرب الأهلية سيقتل خلالها ما يزيد عن الـ15000!!!



لقد بلغت الكراهية بين الملك والفرّيسيين أقصاها حتى حين أراد أنْ يعقد معهم سلاماً واستعداده لتنفيذ ما يطلبونه منه سيكون مطلبهم الوحيد هو «أنْ يقتل الملك نفسه». لذلك لم يجدوا بُداً أو غضاضة في الاستعانة بـ(ديمتريوس الثالث) ابن (جريبوس) فيصطفوا بجانبه لهزيمة (ياناي)؛ لكن بعد أنْ يُفرق (ديمتريوس) جيش (ياناي) يعود مُسرعاً حين يأتيه خبر مقتل (أنتيخوس العاشر) ليحاول السيطرة على أنطاكية قبل أن يفعلها أخوه (فيليب). لقد خدمت الظروف -مرة أخرى- (ياناي) فيعود يقاتل "مُعارضيه" من جديد فيهزمهم ويقتل الكثير منهم ويحاصر أشرس مُقاتليهم وحين يظفر بهم يرتكب (ياناي) -كما يقول يوسف بن متتاياهو- «واحدة من أكثر الأعمال بربريّة في العالم» فيحكم بصلب 800 واحد منهم وبينما ما زالوا أحياء يأمر بأن تُذبح نسائهم وأبنائهم أمام أعينهم.



في العام 76 ق.م بعد أنْ أنهك شُرب الخمر جسد (ياناي) دعا زوجته وهو يحتضر وأوصاها بأن لا تُعلن خبر موته لجنوده إلا بعد أن ترجع لأورشليم وتعقد سلاماً مع شيوخ الفرّيسيين وأنْ تُشرِكَهم معها في الحُكم فبواسطتهم سيخضع لها اليهود لأن لهم التأثير الأكبر عليهم وبذلك تحافظ على المُلْكِ لها ولأولادها ... لكن لنترك الآن (سالومي) تنوح وتندب زوجها فأمامها حمل ثقيل، ونعود إلى الوراء لنرى هل تعرّف "أجدادنا" على الهكسوس.



توقفنا سابقاً عند القول أنه بعدما حدثت أزمة "التوريث" بداية من (اﻷسرة 13) وما أعقبها من الصراع الداخلي على عرش البلاد الأمر الذي أدي أن أُهملت وهُجرت الجُدُر والتحصينات، ترادف هذا مع موجات من الهجرة نحو مصر من الشرق إثر التقلبات والصراعات في العراق وسوريا وتركيا، ومع الوقت خرجت تلك الموجات عن السيطرة وأصبح لهؤلاء المُهاجرين وجود قوي على حدود الدلتا وتغلغل وجودهم ببطء إلى داخلها. فقد حدث في حوالي الألف الثانية قبل ميلاد أن انهارت مملكة سومر تحت حكم الأسرة الثالثة في أور (~ 2112 ق.م-2004 ق.م) وأُسر آخر ملوكها (ايبي-سن) ووقعت تحت سيطرة مملكة عيلام وكانت قبلها بقرن قد سقطت أكاد (أجاد) تحت ضربات "البرابرة" الجوتيين (الغوتيين) استغل هذه الفوضى قبائل "ساميّة" عُرفوا تحت اسم "مارتو " أو "أمورو" أو "عمورو" وكانوا يشغلون المنطقة الصحراوية التي تعرف باسم "صحراء الحماد" ومنها انتشروا حتى استوطنوا المنطقة الجبلية التي صارت تعرف باسم "مرتفعات الأمورو" (جبل ﺍﻟﺒِﺸْﺮِﻱ) ثم صارت التسمية تُطلق على كل المنطقة غرب الفرات. وبعضهم ترك حياة الصحراء والترحال واستقر داخل الهلال الخصيب في المناطق الحضرية في ما بين النهرين وسوريا. وكانت غارات هؤلاء (الأمورو) تمثل خطراً للممالك المجاورة لهم فحاول (سرجون الأول) الأكادي ومن بعده (نارام- سين) القضاء على خطرهم ، وعمل ملوك الأسرة الثالثة السومرية على بناء التحصينات ونقاط المراقبة للحد من هجماتهم لكن كل تلك المحاولات لم تُفلِح في منع خطرهم، وعند سقوط سومر وجد شيوخ القبائل الأمورية الفرصة مواتيه لملء فراغ السلطة الذي حدث ونصبوا انفسهم حُكاماً وملوكاً لعدد من المدن التي كانت تخضع لأكاد وسومر مثل لارسا وايسين وإشنونه وبابل وآشور.(15) ويمكن أنْ نسمي هذة الفترة بـ "عصر الممالك" فكل مدينة أصبحت مملكة فواحدة في آشور وثانية في بابل وثالثة في ماري ورابعة في حلب "مملكة يمحاد" أو يمحاض وخامسة في قطنا -بالقرب من حمص- وكلها ممالك تُنسب لأقوام "ساميون" .وكل مملكة تحاول أن تزيد رقعتها على حساب أختها فتحالف واحدة وتعادي الأخرى.



هؤلاء المُحاربون "البدو الأجلاف" ساكني الخيام الذين لا يعرفون زراعة الأرض وليس لهم مسكنا مُستقراً وبدل أن يطهو اللحم يأكلونه نيئاً كما تذكر المصادر السومرية؛ هؤلاء هم الذين سيحملون مشعل الحضارة. فهذا شمشي حداد (1813 ق.م-1781 ق.م) الذي تحت حكمه تُشرق في الأفق شمس آشور من جديد فكانت أقوى الممالك الناشئة فانطلق بحملاته العسكرية حتى سيطر على مملكة ماري بموقعها الحيوي الواقع في أواسط الفرات في مُلتقي التجارة، وكانت آشور القديمة لها مُستعمراتها التجارية في شمال سوريا وجنوب الأناضول وكانت رحلات التجارة الطويلة تحمل على ظهور الحمير القصدير والملابس القادمة من أواسط آسيا لآشور إلى كَنيشْ-Kanesh (كول تبه-تركيا). وقد كان القصدير الذي يدخل في صناعة البرونز أحد المعادن الأساسية الذي ميّز التقدم التكنولوجي في تلك الفترة التي تُعرف بـ"العصر البرونزي الوسيط"؛ فباضافته إلى النحاس يُكوّن سبيكة سهلة الصب والتشكيل وفي نفس الوقت تتمتع بالصلابة والقوة ولذلك دخل في تصنيع الأسلحة والمعدات والأواني والتماثيل والحُلي. ولم تعرف مصر البرونز أو تستخدمه إلا بعد دخول الهكسوس. لكن قوة آشور بعد موت (شمشي حداد) ضعفت وفقدت سيطرتها على ماري لصالح ملك آخر هو (زيمري-ليم(~ 1776ق.م-1761 ق.م)).



وهذا (حمورابي (1792 ق.م-1750 ق.م)) "الأموري" سادس ملوك الأسرة الأولي الذي بحكمته و "قوانينه" ستشرق شمس بابل، ويستطيع أن يوحّد آشور ولارسا وإشنونه وحتى ماري تحت عرش بابل.(16) لكن بعد موت حمورابي وتولي ابنه (سامسو (شامشو)-ايلانو (1749 ق.م -1712 ق.م)) سرعان ما قامت "ثورة" في مُستنقعات الجنوب التي كانت تُعرف بـ"أرض البحر" وهي الأرض التي نتجت عن التغيرات المناخية في المنطقة مما أدى لانحسار جزء من مياه الخليج الفارسي مُخلّفة ورائها جُزر ومستنقعات وسيطرت أُسرة عُرفت تحت اسم "أسرة أرض البحر"، نسبة للمكان الذي أتوا منه، على الجنوب من بابل وبل وسيطرت على بابل نفسها لفترة قصيرة. ويمكن أن نُلخّص الوضع السياسي للقوى في تلك الفترة باقتباس لأحد موظّفي البلاط في مملكة ماري الذي كتب يقول: «لا يوجد ملك قوي حقاً بمفرده فهناك من عشرة إلى خمسة عشر ملكاً يتبعون حمورابي ملك بابل، وريم-سن ملك لارسا و (إيبال-بي-إل) ملك أشنونه أو (عموت-بي-إل) ملك قطنا ويوجد عشرون ملكاً يتبعون (ياريم-ليم) ملك يمحاض».



في القرنين السابع والسادس عشر بدأ الهلال الخصيب يشهد موجهة جديدة من هجمات خارجية لكن هذه المرة على أيدي أقوام "غير ساميّة"، فقام الحِثّيّون بقيادة (مورسيلي الأول) بمهاجمة مملكة يمحاض وخرب عاصمتها حلبا في محاولة للسيطرة على شريان التجارة الحيوي ووقف خطر تمدد الحوريين من الشمال في اتجاه الجنوب، وقد أتى هؤلاء الحوريون من سهوب جنوب الروسيا وكانت نواة مملكة الحوريين الناشئة حول نهر الخابور المتفرع من نهر الفرات والتي ستعرف فيما بعد بمملكة نهرينا أو ميتاني؛ واستمر (مورسيلي) في حملاته العسكرية حتى اجتاح بابل ونهبها حوالي العام (1595 ق.م) مما أعطى الفرصة للكاشيين وهم أقوام لا يُعرف بالضبط من أين جاؤوا لكن يُعتقد أنهم هبطوا لمنطقة ما بين النهرين من جبال زاجروس مُهاجرين إلى المنطقة كعمال ومزارعين واندمجوا بين سكانها وعبدوا آلهتهم، ثم شيئا فشيئا ازدادت أعدادهم ونفوذهم حتى استطاعوا أن يستولوا على حكم بابل بعد تخريبها من قبل الحِثّيين، وأعاد (أجوم الثاني) الملك الكاشيّ حوالي عام (1570 ق.م) تمثالي (مردوخ) كبير آلهة بابل وزوجته (زاربانيتو) بعد أن بقيا في أيدي الحِثّيين لعشرين عاماً، وفي كنفيهما وتحت رعايتيهما سيحكم الكاشيّون بابل لمدة تُقارب الأربعة قرون.(17)

خريطة تقريبية لوضع القوي في "سوريا والعراق" في الفترة (~ 1800 ق.م – 1600 ق.م).



قد يكون السيناريو الكاشيّ في السيطرة على بابل هو السيناريو الأقرب لكيفية سيطرة الهكسوس على مصر فمن مجموعات مُحاربة تتطلع إلى أن يكون لها موطئ قدم في وادي النيل الخصيب، لمجموعات أخرى مُهاجرة إلى حدود الدلتا أملاً في الحصول على فرصة أفضل للعيش وبحثاً عن ملاذ آمن من الحروب الدائرة في "سوريا والعراق" ثم شيئاً فشيئاً ازدادت أعدادهم وانتشروا داخل الدلتا واختلطوا بأهلها وتشربوا بعاداتهم وتقاليدهم ومع ضعف الحكومة المركزية والصراعات الدائرة على العرش وإهمال الجُدُر والتحصينات الحدودية؛ بالإضافة إلى أنّ هؤلاء الوافدين الجُدد قد أتوا بتكنولوجيات جديدة جعلت لهم التفوق العسكري لعل من أهمها الأسلحة المصنوعة من البرونز و استخدام العربات الخفيفة التي تجرها الخيول. ولم يكن الحصان معروفاً في مصر إلا أنه كان معروفا في سوريا والعراق لكن استخدامه في الحروب بتلك الطريقة جاء عن طريق الحوريين مما قد يؤشر أن أصل هؤلاء الهكسوس هو أصل حوري (18) أو على الأقل كان لهم تأثير كبير على القبائل السَّاميّة التي غزت مصر. نتيجة لكل هذا لم يجد هؤلاء مُقاومة مُنظّمة أو صعوبة في السيطرة على وادي النيل.



إذا كان البعض ينسب الهكسوس للحوريين فقد رأينا من قبل أن مانيتون قال أن البعض يقول أنهم عرب أما (يوسف بن متتاياهو) فقال أنهم يهود أو بالأصح إسرائيليون نسبة لنسل (يعقوب-יעקב- "الممسك بالعقب") الذي سُمي بـ(إسرائيل-ישראל- يِسْرَإلْ "إل هو المنتصر”) بعد أن صارع ملاك يهوه وطلب (يعقوب) بركته(تك- 28:32). فتحكي التوراة أنّه بعد أن ضحك (يعقوب) على أبيه (إسحاق) ليحصل على حق البكورية (הבכרה-هابُكُوره- بمعنى المولود الأول أي البكر) من أخيه التوائم (عيسو -עשו- "ذو الشعر الكثيف”) هذا الحق الذي يعطي لصاحبه ضعف الميراث باعتباره سيكون هو المُتصرِّف والقائم على شئون العائلة من بعد أبيه. خافت أمه (رفقة-רבקה- ربقة "شَرَكْ") من أن ينتقم منه أخوه فأرسلت (يعقوب) إلى أخيها الآرامي (لابان -לבן- الأبيض) في حاران، وهناك سيعمل أجير لمدة سبع سنين عند خاله في مقابل أن يزوجه من ابنته الصغري (راحيل-רחל- "نعجة")والتي أحبها من النظرة الأولى، لكنّ خاله سيخدعه ويزوّجه بعد انتهاء المدة المُتّفق عليها من أختها الكبرى (ليئة -לאה- "بقرة أو مُتْعَبَة") وحين يعترض (يعقوب) سيجاوبه خاله بالمقولة المعروفة بين المصريين أنه "ما ينفعش نجوّز الصُغيرة قبل الكبيرة" فيضطر (يعقوب) للعمل لسبع سنين أخرى ليتزوج من (راحيل). من هاتين الأختين وجاريتيها سيُولد ليعقوب أولاداً وبناتاً ما يهمنا الآن من هؤلاء اثنين هما (يوسف- יוסף- "يهوه يُزِيد”) من (راحيل) و (لاوي-לוי-ليڨي- "مُجمِّع أو مُقْرِن”) من (ليئة)؛ فالأول هو بداية دخول الإسرائيليين مصر، والثاني سيكون من نسله (موسي) الذي سيقود "الخروج الكبير".



أمّا بالنسبة لـ(يوسف) فـ"قصته" تبدأ حين أحبه (يعقوب) أكثر من جميع إخوته فكرهوه وقرّروا التخلص منه وجاءتهم الفرصة حين أرسله (يعقوب) إليهم ليُطلعه على أخبارهم وحين قدم عليهم استقر أمرهم على بيعه لقافلة تجارية من "بني إسماعيل" ذاهبة لمصر بعد أن كانوا في البداية ينوون قتله. وفي مصر يبيعه التجار إلى "خَصيّ فرعون رئيس الشُّرطة"(19) وبما أن (يوسف) كان حسن الصورة فهامت زوجة الخَصيّ به وأرادت أن تزني معه فامتنع عنها، فلجأت إلى "كيد النساء" واتهمته بأنه كان يريد اغتصابها، فما كان من زوجها إلا أن وضعه في السجن. وهناك يُقابل اثنين من المغضوب عليهم من فرعون وهما المسئولان عن أكله وشرابه، وبما أنهما ينتظران مصيرهما وما سيُفعل بهما بدأت "تراودهم الأحلام"، فقصّا على (يوسف) ما رأياه في المنام ففسّر (يوسف) رؤيا الأول - خَصيّ فرعون رئيس السُّقاة- أنه بعد ثلاثة أيام سيعفو عنه فرعون ويعود لمنصبه؛ أمّا الثاني - خَصيّ فرعون رئيس الخبَّازين- ففي خلال ثلاثة أيام أيضاً سيأمر فرعون بقطع رأسه وصلبه لتأكل الطير لحمه. وما تكاد تنقضي الثلاثة أيام حتى يتحقق ما قاله (يوسف) وبعد سنتين من تلك الحادثة، و(يوسف) لا يزال بالسجن، تُراود الرؤى فرعون نفسه هذه المرة ويبحث عمن يُفسّر معناها، فيتذكّر حينها رئيس السُّقاة (يوسف)ويُخبر فرعون عنه، فيأمر بإحضاره من السجن ليمثل أمامه، فيحضروه بعد أن يتطيب ويُلبسوه ثيابا تليق بالوقوف بين يديه؛ ويبدأ فرعون في قص رؤياه عليه فيُفسّرها (يوسف) أنّه سَتـَمُر على مصر سبع سنوات فيها شبع حتي التُّخمة تليها سبع سنوات جوع حتي الموت. وإذا أراد فرعون أن يُنقذ مصر من "الانهيار" فعليه أن يختار رجلاً «بصيراً وحكيماً» ويُعطيه تفويض لكي يفرض "القرارات الاستثنائية" بدون أن يعترض المصريون وأولها أن تُفرض ضريبة جديدة بأنَّ لفرعون خلال السبع سنوات القادمة خُمس غلة أرض مصر كُلها، تُجبي وتوضع في صوامع فرعون تحت تصرفه لكي يُجابه بها المجاعة. وعلى الفور لمعت عيني فرعون وعيون عبيده وأدركوا ما تنطوي عليه تلك الخطة العبقرية، وقرّر بلا تردد تنفيذها دون حتي أن يُفكّر في صدق ما قاله، ولم يرى أفضل من (يوسف) ليكون القائم عليها. وبالفعل بدأ (يوسف) العمل بجد ودأب وفي خلال السبع سنوات الأولي امتلأت صوامع فرعون حتي آخرها وجمع من الغلال ما لا يحصي «وَخَزَنَ يُوسُفُ قَمْحًا كَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ، كَثِيرًا جِدًّا حَتَّى تَرَكَ ٱلْعَدَدَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ.»(تك 41 :49) ثم جاءت بعدها السنة الأولى للمجاعة، وقد توقع السُذّج والحمقى المصريين أنّ فرعون سيفتح لهم صوامعه لكي يغترفوا منها بلا حساب، فليس "من الممكن" أن يتركهم يموتون جوعاً؛ كما أن كل ما يملكه لم يزرعه بنفسه أو "يستورده" من الخارج من ميراث آبائه بل قد أخذه منهم ضريبة. فذهبوا لفرعون صارخين فجاوبهم قائلاً: «ٱذْهَبُوا إِلَى يُوسُفَ، وَٱلَّذِي يَقُولُ لَكُمُ ٱفْعَلُوا»(تك 41 :55) ولم يُكذّب المصريون خبراً واستبشروا خيراً وذهبوا لـ(يوسف) فعلموا منه أنّه "مفيش حاجة ببلاش " ومن يريد ألا يموت جوعاً فعليه أن يدفع. فلم يجد المصريون بُداً من الدفع مُتمتمين "ربنا على الظالم والمفتري" حتي جمع (يوسف) كل النقود و الفضة التي بأيدي المصريين وملئ بها خزائن فرعون. ولما فرغت جيوب المصريين ذهبوا لـ(يوسف) مرة أخرى يتضرعون له ويستعطفوه ليعطيهم ما يأكلونه فذكّرهم (يوسف) مُجدّداً بأنّه "مفيش حاجة ببلاش"و "الحاجة اللي تغلى متشتروهاش" و"بلاش زحمة عشان دي مش طابونة" لكنّه في النهاية رق قلبه لتضرعاتهم وخاطبهم مُتأثراً «هَاتُوا مَوَاشِيَكُمْ فَأُعْطِيَكُمْ بِمَوَاشِيكُمْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِضَّةٌ أَيْضًا»(تك 47 :16) فدفع إليه المصريين ببهائمهم وأغنامهم وحميرهم مُتمتمين "بُكرة الثورة تشيل ما تخلي" وهكذا ملئ (يوسف) "زرايب" فرعون بالبهائم المصرية. لم يعد يملك المصريون إلا أرضهم وأجسادهم فلما اشتدّ الجوع مرة آخري ذهبوا إلى "العزيز" طالبين أن يُعطيهم ما يأكلوه في مقابل أن يشتريهم وأولادهم وأرضهم فوافق (يوسف) -على مضض- قائلاً: «إِنِّي قَدِ ٱشْتَرَيْتُكُمُ ٱلْيَوْمَ وَأَرْضَكُمْ لِفِرْعَوْنَ.»(تك 41 :23) ففرح المصريون وشكروه -دون أن يتمتموا- فأخيراً قد تحقق حُلمهُم بأن يكونوا عبيداً لفرعون!!! أمّا شيوخ وكهنة فرعون فلم يمسسهم جوع ولا فقر كما مسَّ الناس؛ لأنّه كانت لهم فريضة من الغلال فلم يتسولوا من (يوسف) ولم يبيعوا أرضهم لفرعون.

ما بين نبيّ وعبيط مازال وضع عموم المصريين هو وضع العبيد.



في "قصة" يوسف تلك، وإذا تجاوزنا أن عدد الإسرائيليين وقتها كان لا يتجاوز العشرات، لا وجود فيها لأنهم قد أسسّوا دولة لهم بمصر أو كانوا " مُحاربين أشداء" استطاعوا بـ"سيوفهم" أن يُخضعوا المصريين كل ما يمكن أن نستخلصه منها أن فرعون رأى في (يوسف) "جابي الضرائب المثالي" الذي استطاع في غضون سنوات معدودات أن يملأ خزائنه وصوامعه وزرائبه حتى آخرها، هذا بالإضافة إلى ما اشتراه لصالحه من الأراضي والعبيد الذين بلا عدد. مما جعل فرعون يُقرّبه إليه ويَأْمنه على كل أرض مصر؛ لكن حين آتي فرعون آخر "لم يعرف (يوسف)" ستبدأ حملات المُلاحقة والقتل والاسترقاق والتشريد للإسرائيليين ... لكن قبل أن يرحل فرعون (يوسف) ويأتي فرعون (موسي) علينا أن تتوقف الآن فها هو (يعقوب) يُرسل أبناءه لمصر فقد ضربت المجاعة "أرض كنعان" أيضاً. وحتى تُجَهّز الدّواب وتُوفّر المؤنْ للارتحال، دعنا نُكمل -إن شاء الله- المرة القادمة.

********************************************************************************************

(1) الجيش المصري وشعبه (27)

(2) .Antiquities of the Jews, Flavius Josephus, Translated By William Whiston

(3) .Histoire Des Juifs, Heinrich Grätz, Traduite De L'allemand Par M. Wogue, Tome Deuxième, 1884

(4) .A History of Egypt, W. M. Flinders Petrie, vol. IV, 1894

(5) .Ptolemaic Alexandria, Peter M. Fraser

(6) .Judeans in the Greek Cities of the Roman Empire Rights, Citizenship and Civil Discord, Bradley Ritter

(7) .Corpus Papyrorum Judaicarum, vol. 1, Victor A. Tcherikover and Alexander Fuks

(8) .A History of the Ptolemaic Empire, Günther Hölbl, translated by Tina Saavedra

(9) الجيش المصري و شعبه (25)

(10) .Flaccus, Philo Of Alexandria, Translated by F. H. Colson

(11) .Against Apion, Josephus Flavius, Translated By John M. G. Barclay

(12) تُطلق الكلمة بشكل عام على طائفة من البقوليات مثل الفول والعدس والحُمُّص … الخ، وفي أحد معانيها كناية عن كونها " طعام الفقراء(*)" وقد كان الفول والعَدَسْ من الأطعمة الرئيسية في مصر القديمة ولا يزال حتى وقتنا الحاضر من الأطعمة المُفضّلة لــ"المصريين الفقراء".

Pape Handwörterbuch der griechischen Sprache(*)

(13) الجيش المصري وشعبه (26)

(14) .The History of Jewish People In The Age Of Jesus Christ, Vol.1, Emil Schürer

(15) .Syria: A Three Thousand Years Of History, Trevor Bryce

(16) .Armies Of The Ancient Near East, Nigel Stillman and Nigel Tallis

(17) .Daily Life In Ancient Mesopotamia, Karen Nemet-Nejat

(18) . Geschichte Des Alten Ägypten, Hans Wolfgang Helck

(19) خصي فرعون هذا منصب وليس بالضرورة أنه مخصيّ بالفعل كما نري اليوم حولنا الخصيان من الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والشيوخ والقساوسة وحتى بين عموم "المصريين الغلابة" قد سُلِبتْ رجولتهم دون أن تزال خُصْياتِهم.