الاثنين، 26 يونيو 2017

الجيش المصري و شعبه 19

الجيش المصري و شعبه 19
-البداية
(16)
"لتري يَا حَاكِمُنَا الأَعْلَي بُؤْسَ مَا حَلّ بِنَا. تَحرّكْ وانْظُرْ مِنْ شُرفَةِ قَصْرِكَ إِلي عَارِنَا. قَدْ صَارَتْ ثَرَواتِنَا للغُرَبَاءِ وبِيُوتُنَا للأَجَانِبِ. صِرْنَا أَيتَامَاً بِلاَ مُعِينْ. شَرِبْنَا مَاءنَا مَمْزوجَاً بميَاهِ المجَاري. ولِكَي نَأْكُلُ علينا أن نَتَسَولَ ونَشْحَذَ. نُضْطَهَدُ ونُعَذَبُ بِلاَ رَحَمَةً. نَشْقَي ونَتَعَبُ بِلاَ رَاحَةً. آباؤنا أَخْطَئُوا وَتَرَكُونَا نَتَحَمَلُ نَتيجَةَ مَا فَعَلُوهُ. تَرَكُوا عَبِيدَاً يَحْكُمُونَا وَلاَ مِنْ مُخَلِّصِ لنَا مِنْهُمْ. مَضَي فَرَح قُلوبِنَا وَصَارَ رَقَصُنَا نِوَاحَاً وَ غِنَاؤنَا وَلْوَلَةً. وَيَلٌ لنَا لأَنّا سِرْنَا عَلي طَرِيقَهُمْ، سَقَطَتْ كَرَامَتِنَا وَأْظَلَمَ نُورُ عِيُونِنَا وَ إِزْدَدْنَا عَبَطاً وَ غَبَاءً فَوقَ عَبَطِ وَ غَبَاءِ أَهْلِنَا. حَتّي مَتي يَا حَاكِمنَا الأَعْلَي نَدْعُوكَ فَلاَ تَسْمَعَ؟ نَصْرُخُ إَليكَ مِنْ الظُلمِ وَأْنْتَ لاَ تُخلِّصَ؟ أْلاَ تَري مَا نَحْنُ فِيهِ؟  أَلا تَرأْفَ بِعَبيدكَ وَخَدَمِكَ؟ لَكِنّا مَعَ هَذَا لَنْ نَتَوقْفَ عَنْ مُنَادَاتِكَ حَتّي تَسْمَعُنَا، وَلَنْ تَهدَأَ صَرَخَاتٌنَا حَتّي تُخلِّصُنَا، فَلَيسَ لَنَا غَيرَكَ ولاَ مُعِينَ لنَا سِوَاكَ. "
الإصحاح التاسع عشر من سفر الشئون المعنوية


كثيراً ما نسمع مَنْ يقول أنّ: " دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلي قيام الساعة"، فلو أخذنا تلك الكلمات بمعناها الواضح ولم نلجأ إلى تفسيرات "باطنية" ملتوية للهروب من تهافتها، فسيكفي قراءة سريعة للتاريخ لتجعلك تنظر بعين ملئها التعجب –المشوب بالاستهزاء- ممن يرددون أمثال تلك العبارات. فالتاريخ على ما فيه من أكاذيب وأساطير، إن لم يكن يُثبت أن العكس هو الصحيح، فعلي الأقل ستري من خلاله -حتى بفرض أنك قد تكون تُعاني من قصر نظر حاد يكاد يصل للعمي- أن هناك تداول رتيب بينهما. وبالرغم من أنه قد يكون لكُل مِنا تعريفه لما يعتبره حق وما هو الذي يراه باطل. إلا أننا لن نختلف في أن أمثال تلك العبارات صدرت –وتصدر- في واقع يتحكم ويتسلط ويُحاصر فيه "باطل" قوي لـ"حق" مُستضعف. فدائماً ما يُحاول "المُستضعفون" نسج الكلمات الرنانة والأشعار التي تُخفف عنهم ما هم فيه من ذُل وهوان، مُعتقدين أنه بالكلمات وحدها سيُهزم "الباطل".


المصريون –كغيرهم- يعشقون تلك العبارات الرنانة المُكثّفة والتي يسهل حفظها وترديدها. فتجد الكثير منهم يُلقون على مسامعك بمناسبة، أو حتى من غير أي مناسبة، بعض ما حفظ منها، مُعتقداً أن الأرض كُلها تُنصت لما يقول، لا ليس الأرض فقط!! بل الكُون كُله يُنصت مشدوهاً مذهولاً من عبقريته وحكمته التي يقف أمامها الأولون مُطأطئ الرؤوس خجلاً من جهلهم ويسجد لها اللاحقون تبجيلاً وتعظيماً. وهذا "العشق" من ضمن الأسباب التي بسببها أصبح المصريون لديهم تلك القُدرة العجائبية –يجب أن نعطي كل ذي حق حقه- على ابتذال وتسخيف أي شيء. لكن السبب الرئيس لتلك القدرة هو التناقض الصارخ الذي تُعاني منه الشخصية المصرية هذا التناقض الذي سببه نوع من "العتاهة" خاص بالمصريين وأمثالهم. وأتكلم عن تناقض صارخ لا يُقدم له أي تبريرات أو تفسيرات بعكس التناقضات الأخرى التي يتم حلها بإعادة تعريف أحد طرفي التناقض. فعلي سبيل المثال: قاضي يدّعي النزاهة والحياد ولكنه في نفس الوقت يقبل الرشاوي والتعليمات الآتية "من فوق"؛ فيتم حل هذا التناقض بأن يتم إعادة تعريف "الرشوة" بأنها "هدية" أو "مُجاملة" أو "ذوق" ويتم تفسير "التعليمات" بأنها "أمن قومي" أو "معلومات مخابراتية" أو "نصائح وارشادات". أو تلك الراقصة التي تتباهي بشرفها واستقامتها فتقوم بإعادة تعريف "الرقص" بأنه "فن راقي" أو "مهنة شريفة" أو إعادة تعريف الشرف –كما يُستخدم في المعني الدارج- بأنه لا علاقة له بـ"العُري" أو بـ"إثارة الغرائز" أو حتى بـ"تأجير الجسد" لراغبي المتعة؛ بل الشرف والاستقامة هو أن تكون صادق مع نفسك ثم بعدها فلتفعل ما تشاء.


 عتاهة الشخصية المصرية التي تنطلق منها كل تناقضاتها الصارخة تتعامل مع كل ما يحدث حولها باعتبارها أحداث مُستقلة لا يربطها رابط. ولذلك فالمصري يؤمن بالشيء وعكسه ويقول النقيض وضده ويكتب عن العبقرية باعتبارها عبط ويُصدق العبط باعتباره عبقرية. فمثلاً في مقال صحفي أو برنامج تليفزيوني أو في كتاب أو بحث مَنْ يتكلم عن "العدو الصهيوني وانتهاكاته" ثم عن ضرورة احترام حقوق "الجارة" إسرائيل. أو من يُخبرنا عن "العدو الأمريكي ومُخططه لتقسيم الشرق الأوسط" ويختم بالزيارة "الناجحة" للرئيس المصري لأمريكا والترحاب الذي لقيه من نظيره الأمريكي والعلاقات "التاريخية" التي لا يستطيع أن يٌفسدها حاقد أو حاسد. أو تجد مَنْ يتكلم عن "محاربة الجماعات الإرهابية التي تمولها أمريكا" ثم بجانبه خبر لإشادة أمريكية "بدور مصر في مكافحة الإرهاب وأنها أحد الأعمدة التي تعتمد عليها في المنطقة". وقائمة التناقضات بلا حصر، وكلما زاد التناقض كلما أصبح أكثر تصديقاً وترددياً. تلك العتاهة المُصاب بها المصريين تجعلهم غير قادرين على رؤية التناقض فيما يتعلمونه أو يقرؤونه ويرونه ويسمعونه. فهم يتعاملون مع كل طرف من طرفي التناقض باعتباره وحدة مستقلة ليس لها أي علاقة بالطرف الآخر. فهم لا يرون أي تناقض بين أنّ: "أمريكا تتآمر على مصر وشعبها" وبين العلاقة الحميمة لـ "جيشهم الوطني" وبينها.  أو بين أن إسرائيل "عدوه" و "صديقه" في نفس الوقت أو بين أن يكونوا مُسلمين ويستهزئون بالإسلام ومبادئه. أو يكونوا نصارى و "موحدين مؤمنين بالله". أو أنهم "ثوار" ومُسالمين أو أنهم "خير أجناد الأرض" وأجبن من مشي عليها أو أنه "شعب عظيم" لكنه لا يتحرك إلا بالعصي أو بالضرب على القفا أو لا يستطيع حُكمه إلا "أصحاب البيادة".  أو أن يُخبرهم أحد نُخبتهم بأن الشعب المصري عبقري وعبيط أو أنه مُكافح أبيّ وخاضع دنيّ. فكل تلك التناقضات ليس لها أي وجود إلا في عقول المجانين، وسيجاوبك المصري مُندهشاً من غبائك وجهلك في جمعك لها بقوله: "وايه اللي جاب الشامي للمغربي".


  تلك العتاهة لا تتوقف عند حدود التعامل مع الأحداث التي تدور حولها كوحدات منفصلة، ولكنها أيضاً لا تمتلك أي قدر من الذاكرة طويلة الأمد؛ فيُصبح تناقضها أشد وعتها أعظم. فتجدهم دائما ما "يتفاجئون" أو "لا يتوقعون" أو "يُصدمون" من أمور وأحداث تكررت أمامهم مئات المرات ولكنهم في كل مرة يعتقدون أنها المرة الأولي التي يرونها فيها. أو يكررون نفس الأفعال والتصرفات وردود الفعل-والتي ثبت فشلها التام وعدم جدواها- معتقدين أنها يقومون بأمور جديدة لم يسبقهم إليها أحد قبلهم. وفي النهاية "يُفاجئون" بأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وبدل أن يُعيدوا التفكير فيما فعلوا ويفكروا في طرائق آخري للوصول لأهدافهم، تجدهم بدأوا –قاتل الله العته- في تكرار نفس الوسائل والأساليب الفاشلة. فبدون ذاكرة لا يمكن أن يكون هناك أي تراكم للمعرفة وللخبرات والتجارب؛ وبالتالي فالعتاهة المصرية فاشلة دائماً. ولعل "خلل الذاكرة" هذا هو الذي يُمكّن حُكامها من أن يُكرروا على أسماعهم "اسطوانات" محفوظة متهالكة لم يعد أحد يُصدقها إلا الأغبياء والمصريين.


تلك العتاهة ليست حكراً على الجهلة والأغبياء بل هي كـ "الطاعون" تُصيب الجميع بلا أي تمييز بين غني وفقير بين عالم وجاهل أو بين "عسكري غلبان" ورئيس هيئة الأركان. الخلاف بين تلك الفئات فقط هو في كيفية "تصنيف" تلك العتاهة، فالمجموعات الأقل تعليماً والأكثر فقراً لا تحتاج إلى أي عناء في إدراك عتاهتها من اللحظات الأولي ويمكن وضعهم تحت فئة "العتاهة الجاهلة" وهي عتاهة صريحة لا تستتر خلف مُصطلحات فارغة أو أكروبات كلامية أو حيل منطقية. وإن كان هذا لا يعني سهولة التعامل معها -بل على العكس- فبما أنها لا تستند على أي أساس يمكن تحليله أو نقضه وتحطميه، فهي تصمد أمام أي محاولات من تلك النوع؛ ولكنها في نفس الوقت ذات فائدة فاذا تمكنت من أن تتماهي معها تستطيع أن تضمن "ولائها" وتوجهها لما تُريده. أما المجموعات الأخرى الحاصلة على "شهادات جامعية" أو حظيت بتعليم على "أعلي المستويات" أو الأكثر غني فيمكن وضعهم تحت فئة "العتاهة المُثقّفة" ومع ما يبدو من التناقض بين العته والثقافة إلا أنّ تلك الفئة استطاعت أن تجمع بين النقضين فهم في الحقيقية كالفئة الأولي لكن استطاعوا –بمهارة- أن يستروا "عوراتهم" بكم هائل من المُفردات والمُصطلحات والحيل الكلامية التي –في البداية- قد تخدعك وتجعلك تسمع لهم وتعتقد أنه ما زال هناك "أمل"، لكنك إن أمعنت النظر في كلامهم ومواقفهم ودققت جيداً ونظرت إلي ما وراء الملابس المُهندمة و الكلمات المُنسقة والتحليلات الجاهزة والنظريات المُعلبة والتبريرات المرتبة لن تجد إلا "العتاهة الجاهلة" السابقة بلا أي تغيير. تلك الفئة هي أسهل في التعامل معها وكشف الستار عن عتاهتها، لكن لا تتوقع أن يُحدث هذا أي تغيير، لأنك حينها ستكون في مواجهة "العتاهة الخام" التي لا يُجدي معها نفع الجدل الفكري أو أي حوار عقلي. لكن فائدة تلك الفئة هي أنك باستخدامهم تستطيع –بسهولة- أن تضمن توجيه وولاء الفئة الأولي وتكون هكذا قد اكتملت دائرة العته. وبنجاحك في هذا لا يتبقى لديك إلا قلة لا خطر منها لأنها معزولة مُحبطة مما تراه حولها من عته وبلاهة، ويمكن بتلك الطريقة تأبيد وتخليد تلك العتاهة وأن تبتذل بها أي شيء وأن تحول عن طريقها أي قيمة إلي وسيلة للنهب حتى أنك تستطيع،  بكل سهولة ودون مجهود يُذكر كما رأينا، تحويل "شهر الصيام" إلي حملات للدعارة –بكافة أشكالها- والنهب والسرقة العلنية ويصبح "شهر كريم" فعلاً لا قولاً في جمع أكبر قدر من المال تحت مُسمي "علاج السرطان"  أو "مساعدة المحتاجين" أو حتي القضاء علي "الفقر والعوز" (1)، وتُجند فيه كل مؤسساتك ومثقفيك وفناناتك وراقصاتك وشيوخك وقساوستك. ويُختصر الإسلام –الذي يُهاجمه الجميع- في دفع الزكاة فهي "واجب إسلامي" أما بقية فروضه وأركانه فـ"ملهاش أي لازمة" أو على الأقل ما هي إلا "علاقة خاصة" بين العبد وربه.


أمراض و"أورام" الشخصية المصرية تلك ليست وليدة اليوم بالتأكيد؛ بل هي إرث "فرعوني" قديم ظل يكبر ويتنامى حتى وصلنا إلى حالة التضخم الهائلة التي نراها أمامنا حتى أصبحت الشخصية المصرية عبارة عن "ورم كبير" بلا أي شخصية. لقد كان المصريون الأوائل ينظرون لبقيه الشعوب حولهم بأنهم "عيال" عليهم ليسوا جديرين بأي احترام، وهذا إن كان له ما "يُبرره" وقتها، إلا أنه بعد الانهيار التام للحضارة الفرعونية ظلت تلك النظرة المُتعالية البلهاء جزء من الشخصية المصرية، وظل المصريون عبر قرون من العبودية والذِلة يتفاخرون بأسبقيتهم الحضارية -رغم أن الأسبقية لا تعني الأفضلية المُطلقة- في أنهم أول من اكتشف وأقدم من دّون وأذكي من فكر وأمهر من أنشأ وعمّر. وكلما زادت ذلتهم وهوانهم زاد تفاخرهم الفارغ ينمو ويكبر، فماضيهم تم تحنيطه في عقولهم لكيلا يبلي، وحاضرهم أصبح مُفاخرة بماضي غابر مُندثر أما عن المستقبل فلا وجود له إلا أماني وأحلام لا يمكن تحقيقها لأنه إذا كان أجدادهم قد فعلوا "كُل شيء" فلماذا على أحفادهم أن يفعلوا "أي شيء"؟!


ولا تتغير عتاهة المصري الموروثة تلك حتى حينما يُغير "دينه" ويبحث له عن انتماء آخر ليس فيه "أصنام وآلهة"؛ فتجد المسلمين منهم يسترجعون أمجاد وبطولات إسلامية ويتفاخرون ليل نهار –رغم ذلتهم وتخلفهم- ببطولات لما يُشاركوا بها وأمجاد لم يصنعوها هم بأنفسهم. ولا يظهر أي اختراع أو ابتكار وإلا ويخبرونا أن المسلمين هم أصله وأساسه، ولا يوجد أي علم أو معرفة إلا وكانوا هم من أنشئوها، ولا توجد الشجاعة إلا فيهم أما المروءة فهم من اخترعوها. وأن الأرض –حين حكم المسلمون- كانت جنة حيث توقفت الحروب واختفت المجاعات وامطرت السماء لبناً وبلح أمهَات، وكان أجر "العامل البسيط" وقتها مليوناً من الدنانير نصفهم ذهباً والنصف الأخر من الياقوت والمرمر. أما المصريون النصارى فأكثر هبلاً وعبطاً يعتقدون أنهم "أساس البلد" وأصحابها الأصليين، ويرون غيرهم ممن لا يتبع دينهم "غُرباء " وضيوف غير مرغوب فيهم، ويتهمون "إخوانهم المسلمين" –وهم أيضاً "أحفاد الفراعنة"- بأنهم سبب تخلف "مصرهم" ويتناسون القرون الطويلة حتى قبل أن يصير أجدادهم "مسيحيين أو مسلمين" أنّ مصر كانت ترزح -ومازالت- تحت قهر الفقر وذُل العبودية.


إذا كان كُل ما قُلناه هي "أمراض وأورام" يجب علاجها واستئصالها فإن أي سُلطة تراها "مفاخر وفضائل" يجب المحافظة عليها والعمل على تأبيدها. فهي تجعل هذا الشعب "ركوبة" مُريحة سهلة القيادة كما أنها لا تتطلب ممن يحكم أي مؤهلات سوي أن يكون معتوهاً ليتماهى مع عته شعبه، فقط عليك أن تجعل "العته" أبو الفضائل كلها ومنبع كل حكمة!! وفي عصرنا الأغبر هذا ما أسهل فعل ذلك فأنت لديك بدل الوسيلة عشرة وعِوض القناة مائة وخلاف "المستنير" لديك ألف، وإن هرب ونفذ منك بعض "العُقلاء" بعد ذلك في الفضاء الافتراضي فلديك لجانك ومُخبريك ومُحايديك ومُعارضيك فتستطيع أن تُعيدهم للحظيرة بسهولة. وإن فشلت بعد كل هذا فلا مُشكلة فمَنْ سيسمع لهم أصلاً؟! وما عليك حينها إلا أن تتهمهم بالجنان والعته وبأنك تشكك في "قُدراتهم العقلية"، فلا يمكن أن نكون كُلنا –نحن المصريون- معاتيه وهؤلاء القلة الآثمة هم فقط العاقلون!! هل يمكن؟! لا ..... لا يمكن أبداً!!!


هناك عدة "نظريات" وأراء تحاول أن تُفسر نشأة الاستبداد والطُغيان ولماذا هناك شعوب خاضعة ذليلة ولماذا شعوب آخري "حُرّة" طليقة، وذهبوا مذاهب شتي فما بين مَنْ يري أهمية دور البيئة والمناخ (هل هي بيئة نهرية أم صحراوية، هل تعتمد في الزراعة على مياه النهر أم مياه الأمطار) أو دور الدين والأساطير (هل الطبقة الحاكمة من نسل الآلهة أم مجرد بشر عاديون) أو هو ناتج عن تحكم طبقة بالموارد والثروات والتي بها تستعبد الطبقات الأخرى. وعلي هذا اختلفت الآراء في محاولة تفسير عبودية الشعب المصري وتسلط وطغيان طبقته الحاكمة حتى ذهب كاتب وشاعر فرنسي شاب وهو (لويس مالوس (1870-1896)) الذي زار مصر في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن "الهواء" الذي يتنفسه المصريون به "سُم قاتل". ونري في وصفه لمشاهداته حس الشاعر المُرهف الذي يري حتى في "منظر مُقرف" لوحة مُدهشة موحية حيث الذباب يُرفرف بأجنحته الصغيرة الدقيقة على وجوه الأطفال المُتّسِِخَة ويبدأ في مصِِّ "العُماص" الذي ينساب من العيون، ورشف "البرابير" التي تتدفق من الأنوف والأطفال يمرحون عُراة في ترعة مليئة بمخلفات الحيوانات التي تنساب رائحتها لتملأ المكان كله بغُلالة من الضباب الكثيف المُنتن (2). فيقول في بداية كتابه عن "انطباعاته" عن مصر والمصريين «(...) يُمكن القول أنّ الهواء الذي نتنفسه بمصر مُشبّع بنسمات الخمول التي تُخدّر التفكير وتخنق الحركة وتشلُّ الحواس وتُلقي في النفس الاضطراب، والكسل في الدماغ واللامبالاة في القلب وتغمر الجسم في نُعاس مستمر مُجهد؛ بل وحتى مُرعب لأننا نخاله لا يُقهر. الإنسان الذي يعيش في هذا الجو يحاول أن يُقاوم هذا السُبات، لكن من ولد فيه لا يُقاموه بعد بل يستسلم له. من هنا تأتي هذه السلبية الصامتة للمصري. يأتي انصياعه الذي لا مثيل له. ويأتي هذا الصبر الذي جعله يتحمل كل شيء وتلك المبالاة التي تمنعه من العمل إلا حينما تكون هناك ضرورة قصوى، وهذا الاستسلام الراسخ الذي يحمل بصماته على وجهه (...)» (3) وقد ذكر الدكتور (إرنست جودار) –الذي رأيناه من قبل- نفس الشعور الذي يبعثه "مُناخ" مصر في النفوس قبل (مالوس) بـ 30 عام فيقول «في القاهرة يُصبح العمل الذهني والتفكير والتأمل عمل مُتعب وشاق. فنشعر بالحاجة بشكل مُستمر لإراحة الجسم والذهن، فنحب أن نجلس القرفصاء وننظر لما حولنا دون أن نري. ونتكلم دون أن نعطي انتباه لما نقول. ونحب أن نسمع لأشياء سهلة بسيطة لا تحتاج لمجهود لفهمها. تجري الحياة هنا في حالة من النُعاس والخمول المستمرين. عند وصولي للقاهرة في شهر فبراير كنتُ نشيط ومُقدم على العمل؛ لكن شيئا فشيئاً ضعفت قُدراتي وشعرت بدماغي يثقل. ولم يتوقف هذا الكسل الذي لا يُقهر وتلك اللامبالاة التي أشعر بها إلا في الزيادة. وفي شهري سبتمبر واكتوبر كنتُ بالكاد أستطيع أن أتابع نفس الفكرة لفترة طويلة، ولم أستطع العمل إلا بأن أنتقل بسرعة من موضوع لآخر.» (4) هذا المناخ جعل حتى "العلاقة الحميمة" للمصريين أن تُصبح عمل "ميكانيكي" ليس فيه "غزل ومداعبة". ويقول (د.جودار) أن الأغنياء منهم لا يُكلفون أنفسهم عناء العناية ومراقبة وتلبية طلبات زوجاتهم بل يوكلون هذه المهمة للخصيان نتيجة لهذا المناخ القاهر.


حجم " المؤامرة" إذاً على المصريين أكبر مما نتخيل؛ فحتي المناخ والهواء الذي يتنفسه المصريون "يتأمر" عليهم!!! هل يعني كل هذا إنه "مفيش فايدة"؟ وأنّ "قدر" المصريين أن يعيشوا عبر تاريخهم في ذُل وخضوع وفقر؟ وهل بعد كل ما قُلناه يمكن أن نجد الراحة في أن نُسلم للأمر الواقع ونعترف إنه أيضاً "مفيش أمل"؟ - أولاً يجب الإشارة إلى أن هُناك فرق بين "مفيش فايدة" وبين "مفيش أمل"، فـ"مفيش" الأولي ناتجة عن عدم معرفة بطبيعة المرض وأسبابه وبالتالي تتوه كل المحاولات –إن وجدت- في دوائر مفرغة بلا أي تقدم. بالتأكيد ليس هناك علاج سحري، أو وصفة جاهزة لأمراض المصريين تلك؛ لكن قبل العلاج يجب أولاً تشخيص المرض بدقة، وإلا بدل ان يكون علاج شافي سنجده يُفاقم المرض أو في أفضل الأحوال سنظل نُعالج الأعراض –بدل أصل الداء وأسبابه- معتقدين أننا قمنا بما علينا ثم في النهاية نجد "مفيش فايدة" في مواجهتنا تسخر وتستهزئ بمحاولاتنا.


 أما "مفيش" الثانية فتأتي بعد أن نكون قد تعرفنا على المرض وأسبابه وجربنا العلاج ومرارته ورغم كل هذا ظل الوضع على ما هو عليه بلا أي نتيجة حينها ليس أمامنا إلا التسليم –مؤقتاً- والاعتراف بأنه "مفيش أمل". لكن ما يُعقّد الوضع هو أنّ المصريين لا يعترفون أصلاً بأنهم يعانون من أي" مرض" ولا يشعرون بأورامهم البشعة تلك بل يحسبونها "نِعم إلهية" تُميزهم عن بقية الشعوب. ولذلك فمن البديهي أن أول خطوة للعلاج هي أن يُدرك المريض مرضه –لكي يبحث له عن علاج- وهذا لن يتم إلا بهدم "الأساطير المُؤسِسة للشخصية المصرية" والتي ساهمت وتُساهم في هذه الأمراض والأورام والتشوهات والعيوب التي نراها، والتي إن لم يتم هدمها واحدة وراء الأخرى سنظل نري تناسخ مُكرر لنفس العتاهة البلهاء؛ لكنه تناسخ لا أمل فيه للوصول "للنيرفانا" المُرتجاة. وكل محاولة "لتغيير المصريين" بدون هدم تلك الأساطير لن تكون ذات فائدة –هذا مع افتراض "حسن نية" مَنْ يقوم بالتغيير- إن أي حضارة أو نهضة أو بناء يقوم على أساس مُتهالك لا عجب أنه عند أول "هبة ريح" سُرعان ما ينهار على رؤوس ساكنيه. وعلى هذا نستطيع أن نقول –بضمير مرتاح- أنه "مفيش أي فايدة" و " مفيش أي أمل" في المصريين الحاليين –ويمكن أن نقول أيضاً ولا في أبنائهم- طالما لم يتم كسر "دائرة العته" تلك. وسيظل المصري –إلا أن تحدث "مُعجزة"- "أضحوكة العالم" على رأي أحد المُعرِّصين.


قبل أن نبدأ في استكمال رواية (نقولا الترك) أختم بالقول أنّ كُل ما سبق ليس محاولة لـ "تشويه" المصريين، وليست نوع من "جلد الذات" أو نظرة "مُتشائمة" أو "عور" لا يري إلا العيوب ويُهمل ويُغفل الإيجابيات؛ بل هي نظرة –أحسبها صادقة- لشعب قد بلغ به الانحطاط والتخلف مرتبة الحيوانات العجماء، وكما كان عبر تاريخه ألعوبة بيد مَنْ يحكمهم أصبح اليوم مسخرة والتي –كحال المصريين- كما هي مُضحكة ففي نفس الوقت كئيبة مُحزنة.


بين وهم نهضة مصر وبين واقع تلك النهضة. يرفض المصريون الاعتراف بالواقع ويتمسكون دائماً بالوهم.


توقفنا المرة السابقة عند وصول نابليون وجنوده بالسلامة إلى "أرض الوطن" حيث أعرب عن أسفه في لقائه بالمسئولين والشيوخ بأن شائعة موته قد أغرت المُفسدين وظنوا أنه بإمكانهم أن يرجعوا لسابق عهدهم ويعيثوا فساداً في البلد. لكنه عاد بحمد لله لكي يقطع ألسنة الأشرار وأيدي العابثين. وقد ذكر لنا (الجبرتي) و (نقولا) الحوادث التي حدثت أثناء غياب (نابليون) وكانت من أسباب رجوعه مُسرعاً من الشام، منها ازدياد شوكة المماليك وعلي رأسهم مراد بك وظهور المهدي في البحيرة والتفاف كثير من العرب حوله، كما حدث أيضا "انشقاق" أمير الحاج مصطفي بك كتخدا، والذي كان مُخلصاً لنابليون كما يقول لنا الكاتب الإنجليزي (ويليام هازليت (1778–1830)) في كتابه عن بونابرت (5) أن أمير الحاج هذا قد «ظل وفياً للسلطان الكبير (اللقب الذي أُعطي لنابليون في الشرق) حتي معركة جبل طابور ولكن حين استطاع الجزار التواصل معه عن طريق الساحل وأعلمه بأن جيش دمشق والنابلسيين قد أحاطوا بالفرنسيين في معسكرهم بعكا، وأن الفرنسيين قد ضعفت قواهم نتيجة للحصار وخسروا بشكل لا يمكن أن تقوم لهم قائمة . فبدأ حينها في أن يشك في قدرة الفرنسيين على النجاح وبدأ يسمع للجزار ويريد أن يتصالح معه بتقديم خدماته. وفي 15 ابريل وقد استقبل المزيد من الأخبار الكاذبة أعلن تمرده عن طريق منشور انتشر في أنحاء الشرقية. الذي أكد فيه على أنّ السُلطان الكبير قد قُتل والجيش الفرنس كُله قد أُخذوا أسري.»


لكن تمرد مصطفي بك لم يجد آذان صاغية بين السُكان، فلم تُجد أخبار مقتل نابليون أو انهيار الجيش الفرنسي ولم ينضم لتمرده إلا عدة قري. ويقول الجبرتي أنه انتقل بمن معه من العرب وغيرهم إلى «منية غمر ودقدوس (6) وبلاد الوقف، وجعل يقبض منهم الأموال وحين كانوا على البحر مر بهم مراكب تحمل الميرة والدقيق الى الفرنسيس بدمياط، فقاطعوا عليهم وأخذوا منهم ما معهم قهراً وأحضروا المراكبية بالديوان فحكوا على ما وقع لهم معه فأثبتوا خيانة مصطفى بك المذكور وعصيانه وأرسلوا هجاناً بإعلام ساري عسكرهم بذلك. فرجع إليهم بالجواب يأمرهم فيه بأن يرسلوا له عسكراً ويرسلوا الى داره جماعة ويقبضون عليه ويختمون على داره ويحبسون جماعته. «ثم سرعان ما يُحاصر الفرنسيين أمير الحاج وقواته ويشتت جموعهم ويحرق القري التي قامت ضدهم ويهرب مصطفي بك في اتجاه الشام.


أما مهدي البحيرة فيقول (هازليت) أنه من صحراء درنة حيث كان يحظى باحترام وتبجيل قبيلته، ثم ادعي أنه المهدي (7) وأنه يمتلك قدرات خارقة فلا تؤثر به النار أو الطلقات وكل طعامه كان مجرد غمس أصابعه في بعض اللبن ليمررها بعد ذلك على شفتيه. واستطاع هذا المهدي أن يجمع حوله العشرات من العرب كما انضم إليه قافلة مكونة من 400 من الحجاج المغاربة، وربما لهذا السبب اُعتقد أنه مغربي، وأصبح تحت إمرته المئات الذين هاجموا دمنهور وباغتوا حاميتها من الفرنسيين وقتلوهم جميعاً. هذا الانتصار مع جولته في قري ومساجد المنطقة يُعلن فيها عن "رسالته" أدت لالتفاف الألاف حوله وأصبح لديه ما يقارب 4000 ما بين عرب ومغاربة وحتى فلاحين، لكن تسليحهم لم يكن إلا تسليحاً بدائياً. فيتحرك الكولونيل (لوفيبر) قائد حامية الرحمانية شمال شرق دمنهور لملاقاة المهدي بـ 200 من جنوده؛ فتجري مناوشات بينه وبين جنود المهدي الذي كان قد دربهم علي نثر التراب قائلاً لهم إن هذا من شأنه أن يُحبط أي محاولة من الفرنسيين لأصابتهم أو قتلهم. لكن مع نثرهم للتراب في اتجاه الفرنسيين يسقط رغم هذا العديد منهم جرحي وقتلي. فيعترض الجرحى وأهالي القتلى علي المهدي بأن كلامه غير صحيح فيخبرهم أن هؤلاء الذين قتلوا أو جرحوا لم يكونوا مؤمنين "حقا" وبالتالي عوقبوا على ذلك. لكن (لوفيبر) لا يستطيع دحر قوات المهدي فيذهب الجنرال (لانوس) لدمنهور فيهزم المهدي ويتفرق أتباعه ولا تأخذ بـ (لانوس) بهم أي رحمة فيقتل منهم 1500 ليعود الهدوء للمنطقة من جديد.


بعد أن انهي نابليون اجتماعه أرسل "فرمان" بالفرنسية للديوان ليترجموه وينشروه في أرجاء المحروسة. وينقله لنا (نقولا) حيث جاء في بدايته «من محفل الديوان الخصوصي بمصر المحروسة، خطاباً الي أقاليم مصر الشرقية والغربية والمنوفية والقليوبية والجيزة والبحرية. النصيحة من الايمان، قال الله تعالي في مُحكم القرآن. فلا تتبعوا خطوات الشيطان. وقال تعالي: لا تطيعوا أمر المُسرفين الذين يُفسدون في الارض ولا يُصلحون. فعلي العاقل ان يدبّر الامور قبل وقوع المحذور. نخبّركم، يا معشر المؤمنين، أنكم لا تسمعوا الكذّابين، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين. وقد حضر الي محروسة مصر المحمية، امير الجيوش الفرنساوية، حضرة بونابرته محب الملة المحمدية. «وقد كانت مصر في تلك الفترة محمية طبيعية لكائنات كادت أن تنقرض لولا أن قيض لها الله نابليون فتصدي «للعربان الفاجرة والغُز الهاربة« الذين لا يريدون لتلك الكائنات الخير بل كل مرادهم هو «هلاك الرعية ، وتدمير أهل الملة الاسلامية، وتعطيل الاموال الديوانية، ولا يحبون راحة العباد.» ولظلمهم فقد أزال الله دولتهم وأعطاها لـ(نابليون). فلا تسمعوا لمن يغرونكم بالأماني الكاذبة التي لا يُصدقها إلا الفلاحين «أهل الارياف خُسفاء العقول، ولا يعتبرون بالعواقب فيقعون في المصايب.» وكونوا كأهل الصعيد الحكماء فهم قد طردوا المماليك خوفا على أنفسهم وعيالهم. ثم يبدأ المنشور في تتبع رحلة نابليون إلى الشام والتي قابل فيها الأهوال والشدائد لكنه بعون الله الواحد قد هزم الجزار وجنوده. وها هو قد رجع لمصر ليجعلها فردوس منير، كما أنه –لكن لا تُخبروا أحد بهذا السر- قد وعدنا بالإضافة لبناء مسجد كبير جداً جداً، وقد وعدنا ايضاً بأن «يدخل في دين النبي المُختار» ولهذا لا تنسوا يا عباد الله أن تُسلّموا «لقضاء الله، وارضوا بتقدير الله، فان الارض لله. واقتبلوا احكام الله فإن الملك لله يوتيه لمن يشاء من عباده. هذا هو الايمان بالله.» ويعلق نقولا علي هذا المنشور بأن نابليون كان يستعد للرحيل لفرنسا فلذلك «كان يودّ المسلمين ويظهر لهم الحب اليقين، ويشهد لهم بحسن الدين، وانه وإياهم على الحق المبين.» لكن الجميع كانوا يعلمون أنّ ما يقوله ما هو «إلا خداع ونفاق وابتداع» ولقد ذهب نابليون في خداعه أن يقول إنه المهدي المنتظر «ظهوره فلا ينتظروا احدا بعده. وهو الذي يملأ الارض عدلا»


لكن لم يملئ نابليون الأرض عدلاً كما وعد المصريين -لا لأنه ليس المهدي المنتظر- بل احتمال لأنه كان مشغولاً. فكما يقول لنا (نقولا) أن عدد من هلكوا من الفرنسيين ما يُقارب 15000 يعني نصف الفرنسيين الذين أتوا لمصر فما بين الإنجليز المتربصين بهم وبين الحروب والمعارك التي خاضوها والطاعون والجذام؛ فلم يجد نابليون الوقت ليعمل كمهدي، فحتى «أهالي البلاد قتلوا منهم أُناساً كثيرين بالانفراد، وكانوا يدخلونهم إلى منازلهم بالأمان ويقتلونهم ويخفونهم. وكانت الفرنساوية قلوبهم مُطمئنة من قبل الاسلام، ولا ينقلون السلاح إلا في وقت الحرب والكفاح. وكانت نساء مصر وخوارجها كثيرة، فكانوا يأخذون الفرنساوية الي منازلهم الزاماً، ويقتلونهم ويرمونهم في الابيار، ويخفون منهم الاثار فظل نابليون يُفكر في كيفية التخلص مما أوقع نفسه فيه. وها هي "مُقاومة المصريين" التي يهزأ بها البعض، لقد قتلوا الفرنسيين شر قتلة وشردوهم في البلاد حتى أنهم كانوا يُريدون العودة من حيث آتوا لكنهم آثروا "التريث" على الاستعجال. لكن يبدوا أن "النساء الناشزات" كما وضح مُحقق الكتاب لتعبير «نساء مصر وخوارجها»، أو "العاهرات- "femmes publiques كما ترجمها (ديغرانج اينيه) مُترجم الكتاب للفرنسية، كانوا يلعبون دور مهم في تلك المقاومة. وعلى أية حال لابد حين قراءتك لتلك الفقرة أن تحضرك أحد مشاهد الأفلام القديمة التي تُصور "مقاومة المصريين" للاحتلال الإنجليزي، حيث تجد "بنت ليل" تُساعد "الفدائيين" في جذب العساكر ليتم التخلص منهم. أو ذلك الذي يقف على قارعة الطريق ومعه كلب فيمر من أمامه انجليزي فيبادره "تشتري كالب، تشتري كالب" وحين يقع الإنجليزي الغبي في الشَرك تكون نهايته. فعلاً مقاومة "مُبدعة" لكن مشكلة هذا النوع من المقاومة المُبدعة أن "المُحتل" من خوفه منها يظل يُفكر في الهروب بجلده من هذا الشعب "المُجاهد" ثم يظل يُفكر ويظل يُفكر ويظل يُفكر.............. وفي النهاية يُفضل البقاء على الرحيل.


في مُنتصف يوليو 1799 وصل الخبر بوصول الأسطول العثماني لشواطئ الإسكندرية لكنه لم يستطع أن يرسوا في مينائها «من الكلل والقنابر [الكثيرة] فتعمدوا [الذهاب] الى قلعة أبوقير.»  فيرتعب (نابليون) –على حد وصف نقولا- ويبدأ على الفور في الاستعداد لملاقاتهم فيتوجه للرحمانية «وكتب إلي الجنرال كليبر أن يحضر من دمياط على طريق البر» فلما وصلها جاءته الأخبار أن العثمانيين ملكوا القلعة وهرب الفرنسيين منها وحصنوها بمساعدة الإنجليز «ووضعوا فوقها المدافع الكبار، وفرقوا البيورلديات (منشورات وأوامر) على جميع تلك الديار. واستنهضوا للقيام الفلاحين والعربان واهل تلك البلدان» وقبل أن يُكمل (نابليون) طريقه بعث بمنشور إلى القاهرة خوفاً من «قيام العامة من مصر وغيرها من البلدان» أو بالأحرى خوفاً من أن يتسرب الأمل للنفوس. في ذلك المنشور –بعيداً عن الأسطوانة المكررة التي مللنا منها- يُظهر فيه نابليون تمكُّن وقوة "منطق" من أملاه هذا الكلام، فيقول إن القوات المهاجمة معظمهم روس –التي كانت في التحالف ضد فرنسا-  مُثلِّثون أي يقولون إن الله ثالث ثلاثة «تعالى الله عن الشرك. ولكن عن قريب يظهر لهم ان الثلثة(الثلاثة) لا تُعطى القوة، وأن كثرة الالهة لا تنفع لأنها باطلة. بل إن الله الواحد هو الذي يعطي النصرة لمن يوحّده» وبما أن الله قد أعطي (نابليون) هذا «الاقليم العظيم» وبما أننا –نحن الفرنسيون- موحدون بالله «ونعرف أنه العزيز القادر القوي القاهر المُدبّر الكاينات» فلن تجدوا صعوبة –أيها المسلمون- في أن تعرفوا أن الاستعانة بالكفار يجعل من يستعين بهم من المغضوب عليهم «لمخالفتهم لوصية النبي عليه أفضل السلام، بسبب اتفاقهم مع الخارجين الكفرة اللئام. لان أعداء الاسلام لا ينصرون الاسلام. ويا ويل لمن كانت نصرته في اعداء اللّه» وكيف لمسلم أن يكون تحت راية الصليب مع الكافر «ويسمع في حق الله الواحد الاحد الفرد الصمد، من الكفار كل يوم، كلام تجديف واحتقار. ولا شك أن هذا المسلم في هذا الحال أقبح من الكافر الأصلي في الضلال.» تصفيق حاد .........  لكن هل يعني هذا أن (نابليون) أكثر معرفة بالإسلام من (ابن باز) مثلاً الذي افتي بجواز الاستعانة بـ "الكُفار" لمحاربة -ليس كفاراً آخرين- بل "مسلمين" لينقذ عرش وليّ نعمته؟ سؤال اجابته واضحة: -بالطبع لا!! كل ما في الأمر أنّ (ابن باز) أكثر تعريصاً من (نابليون) لكنه ليس أجهل منه.


تحركات كليبر ونابليون لمواجهة الهجوم العثماني في أبي قير.


ينطلق نابليون بعدها إلي أبي قير حيث تدور رحى المعركة ويُهزم العثمانيين هزيمة ساحقة، ويتم أسر الوزير مصطفي باشا آل كوسا، قائد الحملة، وابنه. ونجد في جريدة البريد المصري (8) رسالة من الجنرال (ألكسندر برتييه) إلى القائمقام (شارل دوجا) في القاهرة يُخبره بانتصارهم الساحق على العثمانيين. وبدوره قام (دوجا) بنقل "البشارة" لأصحاب الديوان والمسئولين والشيوخ والتي نقلها لنا (نقولا) «بعد السلام عليكم وكثرة الاشواق اليكم، لا يخفاكم انه وصلني خبر صحيح بأن العساكر الفرنساوية ملكت قلعة أبو قير في 15 شهر ترميدور الموافق الى شهر صفر سنة 1214ه (9). وأنهم استأسروا فيها ثلثة الاف نفر، ومن الجملة مصطفى باشا. وغاية ما وقع ان العبارة التي نزلت في أبو قير كانت بها عساكر خمسة عشر ألف لم يخلص منهم أحد، بل الكل تلاشوا وهلكوا. ثم أخبركم عن لسان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته، أنكم في الحال، تُظهرون هذا الخبر بين الخاص والعام، وتشهروه في الاقاليم المصرية. فانه خبر فيه سرور وفرح. والزمكم انكم تعرّفوني، في الحال، عن اشهار هذا الخبر الفاخر المُعتبر. وأخبركم ان حضرة الساري عسكر الكبير بونابرته يحضر عن قريب. والله تعالي يحفظكم. والسلام ختام.» ونجد في نفس العدد للجريدة كلمة قصيرة لـ(نابليون) يفتخر فيها بانتصاره ويقول أنّ اسم أبي قير كان مقيتاً مشؤوماً للفرنسيين –لأن فيها تم تدمير الأسطول الفرنسي كما رأينا- إلا أن بانتصارهم الأخير هذا قد تحول لاسم مجيد. وأنّ هذا من شأنه أن يُعجّل بعودة الجيش لأوروبا فهو "نقطة تحول" تستطيع الحكومة الفرنسية به أن تُجبر إنجلترا رغم تفوقها البحري علي السلام والمهادنة. ويختم فيقول «لقد عانينا الكثير وقاتلنا أعداءً من شتي الأشكال والأنواع. وسيكون لدينا مزيداً من الأعداء لنتغلب عليهم. لكن في النهاية ستكون النتيجة جديرة بنا، وسنستحق حينها تقدير واحترام وطننا»


مُعظم من قتلوا من جيش العثمانيين ماتوا غرقاً، فيقول نابليون أن ما يقارب 8000 ماتوا غرقاً في محاولة لهروبهم من القصف، ومن نجي من الغرق وجد "السيف" ينتظره، ولم يتبقى من 15000 إلا عدة آلاف من الجرحى والمأسورين. أما خسائر الجيش الفرنسي فيقول إنها 100 قتيل و400 جريح فمن الجرحى الجنرال (مورا)، والجنرال (فوجير)، وقائد لواء هو (مورانجيه) ومن القتلى (جيبر) مساعد نابليون، ومن قادة الألوية (كريتن) و (دوفيفيه) والفريق (لوترك). (10) بعد الانتصار يعود نابليون إلى القاهرة مصحوباً بالأسري وعلى رأسهم (مصطفي باشا) وابنه. ويبدأ في لوم الشيوخ والعلماء في أنهم قد كانوا يأملون في هزيمته وأنهم ركنوا لهمس "الشياطين" «قد أخذ في منكم العجب أيّها العلماء والسادات، إذ أنني أراكم تغتمون وتخزنون من انتصاري. حتى الان ما عرفتم مقداري. وقد خاطبتكم مراراً عديدة، وأخبرتكم بأقوال بأني أنا مسلم موحّد، وأعظم النبيّ محمد وأود المسلمين. وأنتم الى الان غير مصدقين. وقد ظننتم أن خطابي هذا إليكم خشية منكم، مع أنكم شاهدتم بأعينكم وسمعتم بأذنكم قوّة بطشي واقتداري، وحققتم فتوحاتي وانتصاري. فقولي لكم أني أحب النبيّ مُحمد وذلك لأنه بطل مثلى، وظهوره مثل ظهوري، بل وأنا أعظم منه، اذ أنني غزوات أكثر منه. وامّا لي باقي غزوات غزيرة وانتصارات كثيرة، سوف تسمعونها بأذانكم وتشاهدونها بأعينكم. فلو كنم عرفتموني لكنتم عبدتموني.» سُرعان ما ينتقل الحاكم –حين يري ذِلة وحقارة "شعبه"- من مجرد فرد عادي إلى "المهدي المنتظر" الذي سيملأ الأرض عدلاً وسيخرجهم مما هم فيه من تعاسة وفقر، ثم بعد فترة -في غمرة الهوس- يترقى من مهدي إلي إله كل مهدي.


 ويستعجب نابليون من هؤلاء الشيوخ ولا يدري ماذا يريدون أكثر مما فعله «فأنا قد بغضت النصارى ولاشيت ديانتهم، وهدمت معابدهم وقتلت كهنتهم، وكسرت صلبانهم ورفضت ايمانهم. ومع ذلك أراهم يفرحون لفرحي ويحزنون لحزني. فهل تريدون ان أرجع نصرانيا ثانياً؟» وبدل أن يجاوبه الشيوخ: "مش لما تبقي مُسلم الأول تبقي ترجع نصراني" بل ينصرفون «وهم منذهلين من هذا الخطاب، ومتعجبين كل الاعجاب. ولم يقدر أحد أن يرد له جواب.» واحتمال -لابد أن نُحسن الظن- أن الشيوخ الأجلاء خافوا من أن يُنفذ نابليون تهديده ويرجع نُصرانياً أو مُلحداً فتنهدم أركان الإسلام ويندثر وتزول شعائره فالحمد لله أن قيض للإسلام شيوخاً على هذا القدر من "الذكاء والدهاء".


لم يتبقى لـ (نابليون) إلا أيام قلائل قبل أن يُغادر مصر عائداً لفرنسا تاركاً قيادة الجيش للجنرال (كليبر). وقبل أن يذهب -بغير رجعة- يحتفل مع شيوخه بالمولد النبوي بأبهة وعظمة، مُعلناً لكل غيور على دينه بأن نابليون "مُسلم مُوحد". لكن قبل أن ينتهي الاحتفال بـ"المولد" فلندع المُحتفلين ينعموا بلحظات من السكينة والهدوء ونُكمل –إن شاء الله- المرة القادمة.

******************************************************************************************************
(1)  يجب ألا نُخدع بالعناوين، ومن ثم يجب التفريق بين "علاج السرطان" - أو أي عنوان آخر- وبين استخدامه كوسيلة للنهب والسرقة وهو الذي يتم فعلا. إن طريقة "الابتزاز العاطفي والديني" التي تتم في إعلام السُلطة لتُشير لأن تجارة " التبرعات والزكاة" مُربحة جداً. وقد يقول أحد الحمير المصرية: أنّ وجود مستشفى لعلاج مرضي السرطان أو علاج مرضي القلب أو رعاية الأيتام هو عمل "خير" في كُل الأحوال حتى لو حدثت "تجاوزات" وخلافه. لكن هذا التفكير الحميري هو الذي يجعل شعب كامل يشكر من يسرقه وينهبه ويستغفله تحت عنوان أنهم من ذوي "القلوب الرحيمة" أو أنه من أجل أن "تحيا مصر".
(2) هذا "المنظر المُقرف" غير موجود بالكتاب لكن أوردته فقط لكي تري مدي شاعرية ورومانسية الكاتب.
(3) Impressions d'Égypte Par Louis Malosse, 1896.
Égypte Et Palestine Observations Médicales Et Scientifiques, Par Ernest (4) Godard, 1867.
(5) The Life Of Napoleon Buonaparte, By William Hazlitt, Vol.2, 1828.
(6) مدينة ميت غمر وقرية دقادوس تابعتان لمحافظة الدقهلية.
(7) لا نعلم أي شيء عن هذا "المهدي" إلا من مصادر أعدائه. وإن كان ادعاء المهدوية لم يكن حدثا غريباً عبر التاريخ الإسلامي؛ إلا اننا لا نستطيع ان نؤكد أو ننفي صدق ما قالوه، لأنها من الممكن أن تكون جزء من محاولة تشويه تلك الشخصية. فكما سنري فيما بعد أن ما سُمي بـ "الحركة الوهابية" قد تعرضت لحملة ضخمة للتشوية وتم اتهام الشيخ محمد بن عبد الوهاب انه ادعي النبوة وأن تلك الحركة لم يكن غرضها إلا هدم الإسلام. وقد تعرضت الدولة الإسلامية –ومازالت- في وقتنا هذا لنفس "تكتيكات" الحملة الدعائية التي تعرض لها الوهابيون –كما أطلق عليهم- لكن في زمن بن عبد الوهاب كانت أصعب وأشد فلم تكن وسائل الاتصال الحديثة مُتاحة للرد على تلك الافتراءات وتفنيدها؛ ولأن تلك "الحركة" استطاعت النجاح والبقاء رغم الحرب عليها بالسيف وبالقلم، وأصبح لها دولة تُدافع وتنافح عنها استطعنا أن نكتشف كذب وتهافت أكاذيب أعدائها على الأقل فيما يخص الجانب العقدي.
(8) Courier De L’Égypte N°36 21 août 1799.
(9) يمكن أن يكون نشر الخبر كان في 15 ترميدور الموافق 2 أغسطس 1799م، لأن المعركة دارت كما يُذكر في البريد المصري العدد 35 التي نشرت جزء من رسالة (نابليون) للجنرال (دوجا) تحت عنوان "انتصار أبو قير" الذي يقول فيه أن المعركة دارت في 7 ترميدور الموافق 25 يوليو.

(10) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال