-البداية
(17)
"لَا تَدِينُوا
لِكَي لَا تُدانُوا، فَلَا تَقُولُوا هَذَا قَاتِلٌ غَادِرٌ وَهَذَا فَاسِدٌ لِصٌ وَهَذَا
كَاذِبٌ عَرْصٌ. حَتّيَ لَو رَأَيتُم بِأُمِ أَعْيُنِكُمْ فَسَادِهِمْ، وَلَو كَانُوا
يَسْرِقُونَكُمْ، وَلَو كَانُوا يَقْتُلُونَكُمْ أَنْتُمْ وَأَبْنَائَكُمْ، وَحَتّيَ
وَلَو كَذِبُوا وعَرّصُوا آنَاءَ الّليلِ وَأَطْرَافَ النَهَارِ. لأنكم بالدَّيْنُونَة
الَّتي بِهَا تَدِينُون تُدَانُونَ. وَلمَاذَا تَنُظُرونَ لِلأَخْشَابِ فِي عُيونِ
غَيْرُكمُ وَأْمّا القَذَي الَّذِي في عِيونِكُمْ لاَ تَفْطِنُونَ إَليهَ؟ يَا مُقْرِفُونَ
نَظِفُوا أْوَلاً قَذَي عُيُونِكُمْ وَ بَعدَ ذَلِكَ تَكَلَمُوا عَنْ أَخْشَابِ أْسْيَادِكُمْ.
لِتُلقُوا بُكُلِ مَا هُوَ مُقْدّسُ وَطَاهِرُ للكَلابِ وَالخْنَازِيرِ حَتّي تَتَخَلّصُوا
مِنْ أَحْلاَمِكُمْ العَبِيطَةِ، وَلاَ تُصَدِقُوا مَنْ يَقُولُ لَكُمْ: اِسْأَلوا
تُعُطُوا اُطُلُبُوا تَجِدُوا اِقْرَعُوا البَابَ يُفْتَحُ لَكُمْ، لأنّ مَعِي إِنْ
تَسْأَلُوني لَا أُجُيبَكُمْ وَإِنْ تَطْلُبُوا مِني لَا أُعْطِيكُمْ وَإِنْ تَقْرَعُوا
بَابي أُوصِدهُ دُونَكُمْ. إِذَا كَانَ الوَاحِدُ مِنْكُمْ -يَا حَميرَ- إِذَا مَلَكَ
بِضَعَ دَرَاهِمَ وَدَنانيرَ يَبْخَلُ بِهَا حَتّي عَلي أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ،
فَكَيفَ بِي وَأَنَا هُوَ حَاكِمُكُمْ الأَعَلَى الّذِي يَمْلُكُ المَلاَيين!
"
الإصحاح العشرون من سفر الشئون المعنوية
توقفنا
المرة السابقة عند انتصار (نابليون) على العثمانيين في معركة أبي قير واحتفاله
ومسئوليه وشيوخه بـ"المولد النبوي" الذي أقيم بنفس الفخامة والأبهة التي
تم بها أول مرة بحضوره وتم فيها عرض عسكري للجنود الفرنسيين. ليقطع كل الألسنة
التي تُشكك في إسلامه، وليُثبت للمصريين أنه جدير بأن يعبدوه هو دون غيره، فهو
أولي من عبادة الأضرحة والقبور-التي يعشقها المصريون- فهو "حي" وما
يعبدونه من دونه أموات لا يضرون ولا ينفعون. ويقول (نقولا) أنّ (نابليون) قبل
خروجه سراً من مصر، بدأ يُراسل الدولة العثمانية عن طريق الوزير مصطفي باشا آل
كوسا الذي تم أسره في المعركة «وابتدأ يُكاتب الدولة العثمانية
عن يد مصطفى باشا، ويذكرهم صداقة الفرنساويين القديمة، واتحادهم مع الدولة
العثمانية من اعوام عديدة وأيام مديدة. ويحرصهم من باقي الدول الافرنجية، وان
الاوفق لهم اقامة الفرنساوية في مصر، وانهم الأنسب من الغُزّ، ويُعاهدوا أن يكونوا
طايعين وإلى أوامر الدولة سامعين، وتبقى الخطبة والسكة كما هي باسم الدولة
العثمانية، ويمشي الحج كعادته القديمة، ويدفعوا الاموال المعتادة للخزينة. وأرسل
مصطفى باشا هذا الخطاب مع أحد اتباعه.» ويُخبر (نابليون) (كليبر) في الخطاب الذي ووجهه إليه
في 23 أغسطس 1799 (1) –والذي
رأينا جزء منه فيما سبق- بتعيينه قائداً عاماً للجيش ويقول له فيه مُبررات سرعة
عودته لفرنسا: في أن الأوضاع في أوربا ليست على ما يُرام وأنهم قد فقدوا إيطاليا
وهناك عدة مُدن محاصرة ويأمل أن تصمد حتى يعود لكي يُعيد الأمور لنصابها. ويُعلم
(كليبر) أنه سيصطحب معه الجنرالات: (مورا)، و(أنريوسي)، و(برتييه)، و(لانس)، و(مارمون)،
والمواطن (جاسبار مونج) الرياضي الشهير وعضو المعهد المصري العلمي الذي أنشئه
نابليون و(كلود لويس برتوليه) الكيميائي الشهير وأحد أعضاء هذا المعهد. هذا
بالإضافة على أن يعود لفرنسا الجنرال (يونو) والجنرال (ديزيه) في شهري أكتوبر
ونوفمبر وكذلك الحملة العلمية في الصعيد ومتعلقات وخدم (نابليون) ولـ(كليبر)
القرار في أن يُبقي منهم – من أعضاء الحملة العلمية- من يراه مُفيداً لمهمته.
ثم يُخبره (نابليون) عن رسالة
سيبعثها للصدر الأعظم عن طريق "أفندي" من أسري معركة أبي قير، غالبا هو
نفسه الرجل الذي من طرف (مصطفي باشا) الذي أخبرنا عنه (نقولا)، ويطلب منه تيسير
طريقه من خلال دمياط –حيث كان كليبر وقتها حاكم دمياط- ليتوجه لقبرص. ثم يُقدم له
الخطوط العامة لما يجب فعله خلال الفترة القادمة فيقول له أنه إذا "تأزم
الوضع" وحدث ما ليس في الحسبان ولم يأته الدعم والأخبار من فرنسا حتى شهر
مايو من 1800 وأنه رغم كل الاحتياطات استمر الطاعون في مصر وحصد من الجنود ما يزيد
عن 1200 جندي «أعتقد في هذه الحالة يجب
ألا تُغامر بمواصلة الحملة. ويكون حينها
لديك الصلاحية لتعقد سلاماً مع العثمانيين. حتى لو أُفترض أن هذا السلام شرطه
الأساسي هو الرحيل عن مصر.» لكنه
يطلب منه تأخير هذا "الانسحاب" إذا كان ممكنا حتى يتحقق سلام شامل مع
الدول المُحاربة لفرنسا. ويدعوه حين بدء المفاوضات أن تكون طلباته للعثمانيين
هي: خروجها من التحالف ضد فرنسا. الإفراج عن جميع الأسري الفرنسيين. والسماح
لفرنسا بحرية الملاحة في البحر الأسود. كما أن تكون هناك هُدنة حتى إتمام والتصديق
على اتفاقية السلام تلك.
ونري
في رسالة نابليون التي أشار إليها للصدر الأعظم صورة لوضع العثمانيين التي تتلاعب
بها الأمم من حولها. فما بين تحالفها مع عدوتها اللدودة روسيا وحلفائها ألمانيا
وانجلترا، وما بين الفرنسيين الذين يقدمون أنفسهم كأصدقاء مخلصين للبابا العالي
والذين ما أتوا لمصر إلا إنقاذ الإمبراطورية العثمانية من براثن أعدائها. يقف الباب
العالي وسُلطانه بلا حول ولا قوة مُستسلماً لمجريات الأمور استعداد للسقوط. ويقول (نابليون)
أنّ تصرفات الباب العالي اتجاه فرنسا كانت متهورة فهي قد أعلنت الحرب عليها وحبست
السفير الفرنسي الذي كان مُخول للتفاهم والتفاوض، ومع التحضيرات في غزة من أجل
الهجوم على الجيش الفرنسي في مصر؛ مما
اضطره إلى أن يستبق بالهجوم على الشام قبل أن يُداهموه في مصر. لكنه مع ذلك لم
يفقد الأمل في أن يتم التوصل لحل يُرضي جميع الأطراف. وأنّ الصدر الأعظم وهو شخص
"مستنير" –حسب وصف نابليون- يعلم مدي عمق العلاقات التاريخية بين الباب
وفرنسا، وأنه لا يمكن أن يغيب عن حكمته ووعيه الساسي أنّ فرنسا الجمهورية هي أقرب
للإسلام والمسلمين من فرنسا الملكية المسيحية؛ فالجمهورية قد حررت الأسري المسلمين
ووقفت سد منيع ضد الكاثوليك أعداء الإسلام والمسلمين. إلى أن يقول مُهدداً «جيشي قوي ومُنضبط ومنظم على أحسن ما يكون
ومُجهز بكل ما يحتاجه لهزيمة جيوش ولو كانت بعدد حبات الرمال. تنتشر في القلاع وعلى
السواحل وفي حدود الصحراء الكثير من المدافع، ولذلك فأنا لا أخشى شيئاً، فأنا هنا
في وضع لا يُمكن فيه هزيمتي.» لكنه يعود من استخدام لغة القوة إلى لغة
"الدبلوماسية" ويقول أنّ الباب العالي إن لم يكن واقعاً يستطيع الوصول
لأهدافه بالقوة العسكرية فهو يستطيع الوصول إليها بـ"التفاوض" وهو
مُستعد للبدء فيها علي شرط بأن يتخلى الباب عن مُهاتراته ويعرف أعدائه من أصدقائه.
(2)
ويقول (نقولا) أن نابليون حينما انتهي من ترتيب أوضاعه «أظهر أنه يُريد أن يدور على الاقاليم المصرية، لأجل
تطمين الرعية. وأخذ معه الجنرال إسكندر(برتييه)، وثلثماية من العسكر، والجنرال
ميراد (مورا). وقصد مدينة منوف. ومن هناك انتقل إلى الاسكندرية.» وقبل ان يرحل (نابليون) يُرسل
للديوان برسالة يقول فيها «سأغادر غداً إلى منوف وهناك سأقوم بجولات مختلفة في
الدلتا لأطلع بنفسي على المظالم التي قد تكون اُرتُكبت، وأيضاً لأتعرف على طبيعة
السكان والبلد. أدعوكم أن تحافظوا على الثقة بين الناس، وأن تقولوا لهم باستمرار
أنني أُحب المسلمين وأنّ نواياي هي أن أحقق راحتهم وسعادتهم. لتُعلموهم بأنني لدي
الوسيلتين الفعالتين التي أقود بهما الناس وهما الترغيب والترهيب فبالوسيلة الأولي
أكوّن أصدقائي. وبالثانية أدمر أعدائي. أود أن تعلموني قدر الإمكان بأخباركم.
وتُخبروني بتطورات الوضع أول بأول.» (3) وحين
يُعرف خبر رحيله يفرح «أهل مصر» و"يستبشرون خيراً"، ولكن كالعادة
لن يأتي هذا الخير، فأهل مصر أشبه بمجموعة يجلسون أمام التلفزيون ليشاهدوا أحد
المسلسلات الدرامية الكئيبة والتي فيها يبكون ويضحكون –حسب مُجريات الأحداث- لكنهم
أبداً لا يتحركون من مقاعدهم فهم مُدركون –بالرغم من توحدهم واندماجهم التام في
أحداثه- بأنه ليس في أيديهم أي شيء ليفعلونه إلا "الدعوات" لبطل المسلسل
والشتائم واللعنات على "الأشرار"؛ رغم أنّه حتى هذه الدعوات واللعنات
بلا أي قيمة، مجرد لغو لا طائل من ورائه فالمسلسل –بعيداً أنه تمثيل في تمثيل-
مُسجل وليس على الهواء مُباشرة. إن "أهل مصر" مستسلمون لمصيرهم وليس
أمامهم إلا الفرح والضحك والاستبشار أو البكاء والقنوط واليأس التام من أحداث
حياتهم المعروف سلفاً نهايتها.
لكن القائمقام الجنرال شارل
دوجا لم يُعجبه هذا "الفرح" وأمر الديوان بأن يُصدر بيان ليُنغص به علي
أهل مصر فرحتهم، جاء فيه: «من محفل الديوان الخصوصي، خطاباً إلى ساير الأقطار
المصرية، من الأقاليم جهة القبلية والبحرية، وكامل الرعايا وفقهم الله. نُخبركم أنّه حضر إلى الديوان مكتوب من حضرة الجنرال
دوكا القيمقام، بأن ساري عسكر بونابرته الكبير، أمير الجيوش الفرنساوية، توجه الى
البلاد الفرنساوية، لأجل حصول الراحة الكاملة إلى الاقطار المصرية. وأنّه كان حضر
له استعجال من الجمهور في بلاده لطول غيابه. وأخبرنا الساري عسكر دوكا بأن السر عسكر
الكبير، قبل غيابه، اقام عوضه رجلاً كاملاً عاقلاً، فيه شفقة ورحمة عامة على
الرعية، جعله اميراً على الجيوش الفرنساوية. وأخبرنا القيمقام أننا نكون في غاية
الأمان والاطميئنان على ديننا ومتاجرنا وأموالنا وأسباب معاشنا، كما كنا في زمان
حضرة السر عسكر الكبير بونابرته. فننصحكم يا أيّها الرعايا لا تُطيعوا أهل الفساد،
واتركوا الفتن والعناد، وامتثلوا أمر خالق العباد. والسلام عليكم ختام.»
يحضر الجنرال (كليبر) من دمياط للقاهرة ويسكن في بيت
الألفي المُطل على بحيرة الأزيكية –حيث أصبح مقر الحُكم- ويأتي الجنرالات والمسئولين
والوجهاء والشيوخ والعلماء لتهنئته بالجلوس على كُرسي "البابوية"(4)، فيُقابلهم كليبر «بوجه باش، وأمّنهم وطمّنهم وأمرهم يطمّنوا الرعية. فشملهم الاندهاش من
هيبته والانذهال من صولته، اذ كان هذا المقدّم أسداً درغام، ذا قوام واعتدال،
مهاباً بالرجال، حسناً بالجمال، له صورة ترعش الكبود وترعب الاسود.» لكننا رأينا الجبرتي "المُفتري" يقول لنا أنهم لم «يروا
منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابارته، فإنه كان بشوشاً ويباسط الجلساء ويضحك
معهم.» وعلى أي الأحوال سواء افتري عليه (الجبرتي) أو كذب
علينا (نقولا) فقد أدركوا أنهم أمام شخصية مُختلفة وأنّ أيامهم القادمة ستكون
كأيامهم السابقة الذي سيتغير فقط هو "درجة السواد". وبدأ (كليبر) أولي
مهامه بعقد "مباحثات الصُلح" بينه وبين مصطفي باشا " الوسيط"
الذي كان يُراسل الصدر الأعظم والذي بدأ تحركه بجيشه في اتجاه مصر. كما لم ينسي
(كليبر) المشاركة في احتفالات المصريين فكان على رأس «الجموع بمحفل عظيم مع
ساير الجنود وقُطّان القاهرة. وكانت أيام ظاهرة وأفراح وافرة ومواكب فاخرة وأمن عظيم
وأُنس جسيم. وضرب في تلك الوقت مدافع ليس لها عدد. «
لكن (كليبر) لم يكد يهنئ بالجلوس على الكرسي حيث بدأت
"القلاقل" فيقول (نقولا) أنّه «حضر
نحو خمسين مركب من مراكب الدولة العثمانية إلى ثغر دمياط مشحونة بالعساكر. وبعض
مراكب من مراكب الانكليز المقيمين على البواغيظ (الموانئ).» تلك المراكب كانت من ضمن الأسطول العثماني الذي هُزم
في أبي قير لكنها استطاعت الفرار والعودة مرة آخري لتهاجم ميناء دمياط وينزل
عساكرها إلى قرية العزبة، والتي مرت علينا من قبل حين رأينا "أحداث المنزلة"
وسيرة الشيخ "لمجاهد" (حسن طوبار)، لكن الجنرال (جان-أنطوان فردييه)، الذي تولي دمياط بدلا
من (كليبر)، يتصدى لعملية الإنزال تلك وما هي إلا «بُرهة من الزمان، حتّي ذاقوا الموت أشكالاً والوان. فارموا سلاحهم وطلبوا
الامان. وأكثرهم ألقوا أنفسهم في البحر، خوفاً من الموت والقهر والذلّ والأسر.
فمنهم من صعد إلى المراكب، ومنهم من مات غريق. وكانوا ثلثة آلاف، فأسروا منهم
ثمانماية بلا خلاف. «ويأسر (فردييه) قائد تلك الحملة ويُطببه من جراحه لكنه
يموت فيُقيم له "جنازة عسكرية" تليق بـ"أصدقائهم" العثمانيين.
وحين تصل أخبار هذا الانتصار لـ(كليبر) بدل أن يفرح بها نجده يلوم (فردييه) «على عجلته عليهم بسرعة القدوم إليهم، وانه
كان واجب امهال إلى حين تخرج الجميع من المراكب، ويبليهم بالهلاك والمعاطب.»
إن موقف كليبر هذا، والذي لا يبحث عن "انتصارات زائفة"، بل يُريد سحق أعدائه
بحيث لا تقوم لهم قائمة فهذا هو الحل الوحيد لتـأمين ما امتلكه بحد سيفه، يجعلك
تسخر –هذا بالإضافة للاحتقار- من أصحاب نظرية "التمثيل المُشرف" والتي
غالباً ما يستدعيها هؤلاء لإخفاء حقيقة أنهم هُزموا وبدل أن يُفكروا في معالجة
الإخطاء -فكل هزيمة هي نتاج خطأ بالضرورة- تجدهم يحولونها إلى انتصار مُدوي في
"الصمود" أمام "جحافل الأعداء" وكأن المعركة كانت عبارة عن "مُسابقة"
لمن يصمد أكثر. إنه كما نقلنا من قبل عن (د. جمال حمدان) (5) الذي "أتحفنا" بأن عبقرية المصريين
ليست في أنهم هزموا أعدائهم وغُزاتهم –لا سمح الله "واحنا وش ذلك"- بل
عبقريتهم هي في "امتصاص الغزاة". فالمصري من أفضل "مصاصي"
الغزاة عبر تاريخ البشرية. إنّ هؤلاء في البداية يرفضون رؤية الأمر الواقع ويُصرون
على أنهم لا يمكن أن يُهزموا أو أنّ "السقوط" لا يمكن ان يحدث، ثم شيئاً
فشيئاً ينتقلون من "الإصرار" إلى "التعريص" بأن ما يحدث هو عبقرية
في "المص" أو في إيقاع الإعداء في مصيدة الاستنزاف، هذا على أساس أنّ
أعدائهم غير مستمتعين بـ"المص" أو أنّ أعدائهم هم فقط الذين
يُستنزفون!!!، ثم حين لا ينفع التعريص نجدهم بسرعة يلجئون لـ "التمثيل المُشرف"
أو بالأحرى "المص المُشرف"- فمصر "المصاصة" باقية عبر الأجيال
(6)- كورقة التوت الأخيرة والتي يضعونها
ليس على عوراتهم التي يراها الجميع، بل على عيونهم لكيلا يروا الواقع كما هو. (7)
هل من المُمكن أن يتكلم الحمار؟ وهل إذا تكلم يمكن أن يفهمه البشر؟ وإذا فهموه هل يعني هذا أنهم حمير مثله؟ الإجابة عند المصريين.
وفي أول سبتمبر 1799 وصل جيش الصدر الأعظم إلى الشام
ويصف لنا (نقولا) هذا الصدر بقوله «وكان وزيراً عادلاً
عاقلاً فاضلاً، وعن أمور الشريعة مناضلاً. يبغض الظلم والعدوان، ويُحبُّ العدل والأمان
(...) ونشر العدل والامان في جميع
القرايا والبلدان. وطمن الرعية.»
لكن الجبرتي كان قد أخبرنا حين وصول يوسف باشا وجيشه وحاشيته أنهم «عسفوا في البلاد الشامية وضربوا
عليهم الضرائب العظيمة وجبوا الأموال» لكن يبدو أن الجبرتي هو "الأصدق" لأنّ (نقولا)
يقول لنا أنه الصدر الأعظم طلب من
(أحمد باشا الجزار) «المسير إليه بعساكره القوية، فاعتذر عن الحضور، وتباين
بالعصاوة والنفور، وامتنع عن تقديم الذخاير وارسال العساكر، وخالف الامر الشريف
الفاخر.» مما
يُشير إلى أن الأوضاع في الشام كانت في أسوأ ما يكون، لدرجة ألا يحسب الجزار أي
حساب لجيش الصدر المُفترض أنه في مهمة "مُقدسة" لطرد الكُفار من أراضي
المسلمين، على أية حال، يصل جيش العثمانيين إلي غزة والذي ينضم إليه المماليك
الفارين، حيث ستبدأ أولي جولات التفاوض بين يوسف باشا والفرنسيين بوساطة انجليزية.
ويعقد كليبر "لجنة" من الجنرالات ليستطلع آرائهم فيري ان الأغلبية تري
الخروج من مصر خصوصاً بعد انقطاع المدد القادم من فرنسا، فينزل كليبر على رأي
الأغلبية ويوافق على "الخروج المُشرف" من مصر، وهو يعلو درجة واحة فقط
عن "التمثيل المُشرف"، في
تلك الأثناء يقول لنا المعلم نقولا أنه وردت (كليبر) رسائل من الصدر الأعظم فيها «تهديد
وتوعيد بالوبال والدمار، إن لم يخرجوا من تلك الديار. ويدهمهم بالرجال والابطال
كالرمال، والسيل إذا سال، بفرسان جبابرة وسيوف باترة. وأن يسلموا البلاد ويربحوا
دماهم ودما العباد. وإن لم يسمعوا نصيحته ولا يخشوا سطوته، فيحلُّ بهم العدم،
ويندموا حيث لا ينفع الندم.» وهي نفس "الجعجعة" الفارغة التي مازلنا
نسمعها من ملوك ورؤساء وجماعات وأفراد، فيرد عليه (كليبر) باحتقار يليق بتلك
"الجعجعة" «أمّا قولك ان عساكرك مثل نجوم السماء فهذا حقيق معلوم، إلا
أنها بعيدة عن طاعتك كبعد الارض عن النجوم. وأمّا قولك إنها كالرمال هذا ليس فيه
محال، فهم كثيرون في العدد قليلون على الصبر والجلد. وقلوبهم أصغر من حبة الرمل،
وقوّتهم أضعف من قوّة النمل. وأما عساكرنا الشداد، فهي قليلة التعداد، ولكنها قوية
البطش في الجلاد، قريبة الينا ودايماً طَوعّ لدّينا. فان دفعناها الى الموت تندفع،
وان ردنا رجوعها ترتجع، وان منعناها تمتنع. ونحن في كل دقيقة من الزمان، مستعدّين
للحرب والطعان، وقهر الفرسان والشجعان، وقبول ما يقدّر علينا العزيز الرحمان.»
لكن لم يكن الجنود الفرنسيين دائماً منضبطين ومُطعين
كما يُصور لنا الجنرالات الفرنسيين بل في الحقيقة حدثت عدة "تمردات"
داخل الجيش الفرنسي، نتيجة للغُبن الذي شعر به الجنود بأنهم قد أُلقوا للتهلكة بلا
ثمن. ففي العريش وأثناء تواجد طليعة جيش الصدر الأعظم بالقرب من قلعتها وأثناء مفاوضات
السلام تلك التي كان يحضرها الجنرال (ديزيه) و (بوسيليج) من الجانب الفرنسي.
اقتحمت طليعة الجيش القلعة وسيطرت عليها بلا مقاومة تُذكر ورفض الجنود القتال،
وتمردوا على قائدهم الجنرال (لويس-جوزيف كازال)، والذي يُسميه (نقولا)
"غزال"، وساعدوا العثمانيين في اقتحامها، لكن العثمانيين لم تأخذهم بهم
رأفة فقتلوا البعض وأسروا البعض الآخر وكان من بين الأسري (كازال) نفسه (8).
هذا وينقل لنا (نقولا) رواية مختلفة لموقعة العريش
تلك، فيقول إنه لما انتشرت أخبار الصُلح تقدم بعض عساكر العثمانيين ونصبوا معسكرهم
أمام قلعة العريش والتي كان بها 300 جندي «وسر عسكر الجنرال غزال. وبقي البعض
من العساكر يتقدمون إلى القلعة، ويخاطبون العساكر الصلدات ويعرّفوهم في الصلح الذي
توقع فيما بينهم، وصارت الصلدات الفرنساوية تنزل من القلعة ويختلطون في عساكر الاسلام.
ووقع الوداد بين الجنرال غزال وبين مصطفي باشا أرناووط، فدعا الجنرال المذكور
مصطفى باشا إلي القلعة وصنع له وليمة عظيمة» لكن (مصطفي باشا) كان يُضمر
"الخيانة" فأمر عساكره أنه بعد أن يُنزل الفرنسيين الجسر لكي يعبروا من
الخندق المحيط بالقلعة ان يهجموا مرة واحدة «على الباب، ويملكون القلعة ويقتلون
من بها.» وهكذا استطاعوا دخلوا القلعة واعملوا السيف في الرقاب «وعندما
نظرت الفرنساوية هذه الخيانة، سارع أحد الصلدات إلى جبخانة البارود وألقى فيها
النار، وطلعت الجبخانة والناس متزاحمة، وطارت تلك العوالم. ويا لها من ساعة كانت مهولة
أذ قد احترق بها خلق ما له عدد من العساكر العثمانية والصلدات الفرنساوية. وسقط
محيط القلعة الى ناحية الباب. ومات مصطفى باشا حريقاً بالنار. ولم يبق من
الفرنساوية سوى نحو ماية نفر، فترا كمت العساكر وقبضوا عليهم.» لكن في رواية
الجبرتي بعد أن يقول إنه وقع قتال بين العثمانيين وحامية العريش ويستطيعوا
اقتحامها –بدون أن يُخبرنا بأي تفاصيل- إلى أن يقول «وصعد مصطفى باشا الذي باشر أخذ
القلعة مع جملة من العسكر وبعض الأجناد المصرية وضربت النوبة وحصل لهم الفرح
العظيم، فاتفق أنه وقعت نار على مكان الجبخانة والبارود المخزون بالقلعة، وكان
شيئاً كثيراً فاشتعلت وطارت القلعة بمن فيها واحترقوا وماتوا وفيهم الباشا المذكور
ومن معه (...)» لكن
الرواية الأولي –الخاصة بتمرد الجنود- هي الأقرب للصحة، خصوصاً وأنّ (نقولا) نفسه
يُخبرنا عن أكثر من تمرد للجنود الفرنسيين في نفس الفترة، ففي بلبيس أخبر حاكمها (كليبر) «أنه
طلب الصلدات إلي المسير فامتنعوا.» وأخبره الجنرال (فردييه) في
دمياط أنه «دقّ
طبول المسير إلى أراضي قطية حسب أمر أمير الجيوش، فامتنعت الصلدات وابدت التنكير وأبت
عن المسير.» وفي الإسكندرية منع الجنود «بعض الكوميسارية
المسافرين بأمر أمير الجيوش إلى البلاد الافرنجية، ومنعوهم عن السفر بالكلّية.
وقالوا لهم: نحن نظيركم بالسوية وبالحرّية، ومن المحال أن ندعاكم
تسيروا بهذه الأموال، ونحن نقاسى الوبال والنكال. إمّا اننا نسير سوّية، وإمّا
نمكث سوّية.» وفي طنطا يقول إن أحد الجنرالات «خرجت عليه شرذمة من العربان والفلاحين،
وكان صحبته ثلاثة الاف صلدات، فلم يرضوا يحاربوهم.»
حين علم كليبر بما حدث في العريش
أحضر مصطفي باشا آل كوسا وأخبره بما حدث من "الغدر والخيانة" وقرر
أن يزحف بجيشه لملاقاة جيش العثمانيين، وقبل أن يتوجه إلى الصالحية أحضر المسئولين
والأعيان والشيوخ والحكام «وأوصاهم على الصيانة وعدم الخيانة، ورفع البلابل
والقلاقل، وحفظ الديار من القوم الاشرار. ويوعدهم بالدمار والدثار إن كانوا يذكرون
عوايدهم السابقة، ويتبعون الرأيات المنافقة والمشاقة.» لكنه رأي في عيون جنوده
«بفطنته الزكيّة، فوجد قلوبهم مُنقسمة ووجوههم غير مُبتسمة. ونفوسهم قلقانة ومن
النفور ملانة. وقلوبهم الى السفر طمأنة. ومتحسّرين من نفور أهل الكنانة. وخاشين من
الخيانة.» بالإضافة للأخبار التي وردته بتمرد الجنود في أكثر من مكان فما كان
منه إلا أن «كتم ذلك في سره، وعمل علي الصُلح والتسليم»
ويتم التوقيع على معاهدة الصُلح
والتي تحوي 22 بنداً أو شرطاً والتي نقلها كاملة كُل من (الجبرتي) و(نقولا)، والتي
تشترط "وقف الأعمال العدائية" والتمهيد لانسحاب تدريجي للقوات الفرنسية
من الأراضي المصرية في فترة 45 يوماً. وقد قُلنا سابقاً أن تكاليف ومصروفات هذا
"الانسحاب" سيكون على حساب "صاحب المحل". ولكن لا تنتهي دائما
"الروايات" بأن يعيش الجميع في "تبات ونبات". فالإنجليز –وهم كانوا
"رُعاة هذا السلام"- بعدما قام نابليون بانقلابه واستيلائه على السُلطة
في فرنسا وانشغاله بمشاكله الداخلية، وجدوها فرصة لوضع أنف من تبقي من الجيش
الفرنسي في التُراب ورفضوا المعاهدة إلا أن يُسلم الفرنسيين أنفسهم كأسري، وهذا ما
لن يقبله أبداً (كليبر) وسيقلب الطاولة على رؤوس أعدائه، ومن كان بالأمس يتجهز
للرحيل سنجده يتربع على "عرش مصر" بلا مُنازع، لكن هذا ما سنراه –إن شاء
الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) Correspondance Inédite Officielle Et
Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte.
(2) Bonaparte en Egypte (1789-1799) , Désiré
Lacroix, 1899.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) الحاكم في مصر، وفي غيرها من الدول التي
تُشابه عقلية شعوبها عقلية الشعب المصري، هو الـ"بابا" لكل مواطن بالغ و
الـ"ماما" لكل مواطنة بالغة، و الـ"خاخا" –من أخ- لكل طفل ولد
كان أم
بنت، و الـ"عاعا" –من الراعي- لكل حيوان بغض النظر عن نوعه وفصيلته علي
أرض الوطن. لذلك فمن الأفضل والمُناسب أن يُسمي "كُرسي الحُكم" بكُرسي
البابوية أو الماموية أو الخاخوية أو العاعاوية علي حسب الفئة التي "تعبد
الكُرسي".
(6) من ضمن الأقوال العبيطة والتي تجعلك تتعجب من
"حمورية" من يرددونها ولا تدري أين ستذهب تلك البقعة الجغرافية التي
يسمونها "مصر" هل كان من المُفترض أن تختفي من الخريطة مثلاً؟! وما هي
"العبقرية" في أنها مازالت موجودة؟! أم يا تُري يقصدون بذلك "الشعب
المصري العظيم"؟ لكن إن كان هذا ما يعنون فعلاً، فلابد لي حينها أن أقدم أسفي
واعتذاري للحمير بأني قد شبهت هؤلاء بهم.
(7) تري
استدعاء هذا "التمثيل المُشرف" في كل شيء بدءً من الأعمال التافهة
ومباريات كرة القدم انتهاءً بالحروب والمعارك المصيرية، وقد انتقل هذا
"الداء" أخيراً حتى إلي "المُتطرفين" وفي هذا انظر لما قيل قبل وبعد سقوط الموصل–على سبيل المثال- ستسمع ترديد لنفس الكلام بنفس
الترتيب. إنّ الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها هو بداية أي نجاح والتعامي عنها واعتبار
هذه الأخطاء "نجاحات" سيؤدي فقط إلى أن يستمر أعدائك في هزيمتك، هذه
بديهية لا تحتاج إلى أن يتم ذكرها أصلاً.
(8) Kléber Et Menou En
Egypte Depuis Le Départ De Bonaparte, Par M. F. Rousseau, 1900.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال