الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 8

الجيش المصري و شعبه 8
-البداية
(5)

"إلى متى تنسانا يا باشا كُل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عنّا؟ إلى متى نجعل همومنا في أنفسنا، وحزناً في قلوبنا كُل يوم؟ إلى متى يرتفع أعداؤنا علينا؟ انظر واستجب لنا. أنر عيوننا لئلا ننام نوم الموت. لئلا يقول الغرب عنّا أنّا بهائم.  لئلا يشمت بنا الإخوان. ولترضي عنّا، ها نحن تحت نعليك، وترقص نسائنا لجنودك."
الإصحاح الثامن من سفر الشئون المعنوية

قال أحد الشيوخ المعرّصين(الشعراوي) تأييداً لمُبارك (*) أنّ الله: "يؤتى الملك من يشاء، فلا تآمر على الله لملك ولا كيد على الله لحكم لأنه لن يحكم أحدا في ملك الله إلا بمراد الله." وقد رأينا أنّ "شيوخ" الحملة الفرنسية قبل أن يقول هذا العرص مقولته هذه بنحو 200 عام قد استخدموا نفس "المنطق" لشرعنه الاحتلال وأنه طالما "أراد" الله –هكذا يُدلسون- أن يحكمكم الفرنسيين فلا سبيل أمامكم إلا أن تُسلموا: " يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله". إن هذا المنطق هو أحد الأسباب التي أوصلت منطقتنا إلى حالة الموات التي نراها اليوم.

بداية من المعلوم-هذا إذا كنت مؤمناً- أنه لا يتم شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله. فما شاء كان وما لم يشاء لا يكون. فكل مشيئة غير مشيئته متعلقة بها ومتوقفة عليها. فنابليون حينما غادر فرنسا ليحتل مصر لم يكن ليستطيع لو لم "يسمح" الله بهذا. لكن هذا لا يعني أنّ الله "أراده"، وبالتالي فنستطيع أن نقول –بيقين- أن كل حدث يحدث في هذا الكون ويخرج لحيز التنفيذ أنه تم "بمشيئة الله"، لكن لا نستطيع –في غالب الأحوال- أن نقول أنّ هذا هو "مراده" فيما عدا ما أخبرنا هو عنه سواء في كتاب أو سُنّة.

مثلاً أن يأتي "السيسي" رئيساً هذا –قطعاً- تم بمشيئة الله، لكن لا نستطيع أن نقول أن الله "أراد" أن يكون السيسي رئيساً. فمجيئه على رأس السُّلطة لم يأتي هكذا بلا أي أسباب. بل هناك أسباب كثيرة-شاء الله حدوثها- منها هبل الشعب المصري وتخلفه وأنه حصن أمان لإسرائيل كما أنّ جهله وعبطه يُمثلان "ميزتان" لمُحركيه. فإذا فسّرنا "المُلك" على أنه "الحُكم" وليس شيء آخر وأنّ مشيئة الله-فيما يختص بأفعال البشر- هو أن "يسمح" أو لا يسمح بحدوثها فيُمكن القول أنّ الله "شاء" أن يكون السيسي "ملكاً" بمعني أنه سمح بحدوث هذا الأمر ولكن هذا لا يعني أنه أراده. فهناك فرق دقيق بين المشيئة والإرادة ولكن غالباً ما يتم استخدامهما بمعني واحد و من هُنا يأتي اللبس. فالمشيئة "ثابت" لا فكاك منه فكل الأحداث لابد ان تمر عبرها فإن شاء الله كانت وإن لم يشأ لا تكون. أما إرادة الله ومراده فتارة تكون مُتعلقة بكون الأشياء أو ما يُطلق عليه علماء الدين "إرادة كونية" كأن يريد الله أن تكون شمساً أو تكون النار برداً وسلاماً أو ينشق البحر وهذا نافذ ومتحقق لا محالة وتارة لا تكون إرادته نافذة ومتحققة أو ما يُطلق عليه "إرادة شرعية" فالله يريد من الناس أن تؤمن به ولا تكفر. ويريدهم ألا يسرقون أو يزنون لكن الله ترك للناس "الحُرية" لكي توافق "إراداتهم" إرادته وهنا محل "الإختبار".

وبالتالي فمشيئة الله بأن يأتي السيسي رئيساً لا تعني أنّ من يحاول "الخروج" عليه وهدم دولته هو معترض على إرادة الله وكاره "لحُكمه". فكما أن الله "يؤتي الملك مَنْ يشاء" فهو أيضاً "ينزع المُلك مِمنْ يشاء" والسيسي نفسه قد نزع "مُلك" مرسي. وكُل التاريخ الإسلامي -بل كل التاريخ الإنساني- عبارة عن سلسلة من مُلوك ينزعون مُلك مُلوك آخرين ومن ثم فخدعة أن أي ملك أو رئيس أو وزير أو خفير هو "مُعين" من قبل الله وأنّ هذه هي "إرادته" وأنّ أي اعتراض أو خروج عليهم يكون "كُفراً وخارجية" هي خُدعة سخيفة وغبية.

فحينما نتكلم عن أفعال البشر، فأن يشاء الله أن تحدث تلك الأفعال هي غير أن يُريد الله أن تحدث. فمثلا لو افترضنا أنك عزمت على أن تقتل انسان ما وأعددت العُدة ووضعت خطة لذلك ورتبت واتخذت كافة الاحتياطات التي تكفل عدم اكتشاف جريمتك. وفي يوم الذي وضعته للتنفيذ نهضت مُبكراً وتناولت فطورك وذهبت للمكان الذي تنتظر فيه ضحيتك ثم حين رأيته بدأ قلبك ينتفض وسري الأدرنالين في شرايينك، وفي اللحظة المناسبة انقضضت عليه وطعنته في رقبته وصدره وحين  سقط علي الأرض فتشت جيوبه فأخذت ما بها من أموال و أوراق، ثم لاحظت أنه مازال يتنفس فقمت بخنقه وبعد ان تأكدت أنه فارق الحياة وضعت جُثته في عربتك و نقلتها إلي مكان بعيد حيث كنت قبلها قد جهزت حفرة لدفنه فيها، فأهلت عليه التُراب وبعدها رجعت لشقتك حيث أخذت حماماُ دافئاً و جلست أمام التليفزيون لتُشاهد فيلم كوميدي وأنت تتناول وجبة العشاء. هذه العينة البسيطة من سلسلة من الأحداث كُلها تمت "بمشيئة الله" ولو شاء الله لما وقعت. ولكن هل الله هو الذي أرادها وأوقعها؟ لوكان الله هو مَنْ أرادها كيف إذاً نُعاقبك على جريمتك؟ هل تكون هناك أي مسئولية عليك؟ ألست تكون مثلك مثل السكين الذي قتلت بهِ ضحيتك؟ ألا تكون مُجرد أداة عمياء بلا أي إرادة أو اختيار؟ سلسلة الأحداث هذه لا تختلف في شيء عن أن يأتي نابليون لمصر أو أن تحتل أمريكا العراق أو أن تهزم إسرائيل "المُسلمين" فكلها أحداث تمت بمشيئة الله لكن كُلها أيضاً أسبابها بأيدينا فالتخاذل والجُبن والخيانة هي من أسباب الهزيمة ولو كُنا أعددنا العُدة وأخذنا بأسباب النصر لتغير الأمر.

وباستخدام منطق الشيوخ المعتوه هذا من أدراهم أن الله لا "يُريد" أن ينزع "مُلك" ملكهم أو رئيسهم؟ وكأن الله يؤتي المُلك فقط وأن هناك "إله" آخر هو الذي ينزعه. بل مما نري نستطيع ان نقول –مُطمئنين- أن الله يُريد فعلاً أن يُذِل هؤلاء وينزع منهم المُلك والحُكم فهم يستهزئون بدينه ليل نهار، حتى وإن تظاهروا بالدفاع عن "الدين الوسطي المُعتدل" الذي هو عبارة عن دين بلا دين، عن مجرد اسم بلا مُسمي. دين تكون فيه مُسلماً كافراً. دين تشهد فيه أن لا إله إلا الحاكم. أن تصلي علي النبي لكن "تتبرأ" من أفعاله. أن تقرأ في القرآن: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" ثم تقول بعدها أن النصارى يعبدون "الله" وأنهم ليسوا كفارا وبأن من يقول هذا فهو "إرهابي" يُشعل نار "الفتنة" الطائفية-وقد سمعنا هذا بالفعل في تفجير الكاتدرائية الأخير- إن منطقهم هذا هو سبب رئيس في حالة التخلف والهبل التي اصابت كثير من "المُسلمين".

المشعوذ مكاري يونان -بعد تفجير الكاتدرائية- يقول :"كل مرة هايحصل فيها أحداث هانزيد محبة لاخواتنا المسلمين" فاللهم أكثر "الأحداث" ليزدادوا "محبة لأخواتهم"

توقفنا المرة السابقة عند وصول طلائع القوات العثمانية لأبي قير وقد جاءت بمساعدة البحرية البريطانية-وهي المُحرك الرئيسي للأحداث-حيث كان على رأس تلك الحملة مصطفي باشا. فيقول الجبرتي أنه في 15 يوليو 1799م: " وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الاسكندرية وأبي قير وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية." كان نابليون علي علم بتلك التحركات فبادر مُسرعاً بتجميع عساكره مصطحباً المعلم "جرجس الجوهري" -أحد "قديسي" الكنيسة القبطية الوطنية"-مُتجهاً لمُلاقاتها ولم ينسي قبل مٌغادرته في أن يُرسل: " مكتوباً الى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة."

وفي 20 يوليو 1799م: " ورد الخبر بأن عثمان خجا (كان حاكماً لرشيد) وصل الى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنساوية وملكوها وأسروا من بقي بها" سيطير الناس فرحاً بتلك الأخبار لكن سُرعان ما سيخيب ظنهم. فالفرنسيين لم تخلو جعبتهم بعد من المفاجآت فيبعث نابليون برسالة للديوان في طريقه لمواجهة تلك الحملة يُستهل فيها بالشهادتين  وبعد السلام و الأشواق  يخبرهم أنه: " وصل ثمانون مركباً صغاراً وكباراً حتي ظهروا بثغر الإسكندرية، و قصدوا أن يدخلوها، فلم يُمكنهم الدخول من كثرة البنب وجل المدافع النازلة عليهم ، فرحلوا عنها ، وتوجهوا يرسلون بناحية أبى قير ، وابتدأوا ينزلون في البر وأنا الآن تاركهم ، و قصدي أن يتكامل الجميع في البر ، وأنزل عليهم أقتل مَنْ لا يُطيع ، وأخلى بالحياة الطائعين ، وآتيكم بهم محبوسين تحت السيف لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر" وأنّ السبب في مجيء تلك الحملة ليس "تحريركم" منّا بل من أجل: " نهب البلاد وخراب القطر المصري" و أنّ في تلك الحملة و "العياذ بالله" كُفار من روسيا-التي كانت أحد الدول المُشاركة في التحالف الثاني ضد فرنسا- فهم ليسوا مثلنا -نحن الفرنسيون- فهم لا يحترمون القرآن و لا الإسلام و يكرهون "الموحدين" و يقولون أن الله ثالث ثلاثة "تعالي الله عن الشُركاء" وأنّ: "الله تعالى هو الواحد الذى يعطى النصرة لمن يوحده هو الرحمن الرحيم" وبما اننَا "موحدون": " قدّر(الله) و حكم بحضوري عندكم إلي مصر ، لأجل تغييري الامور الفاسدة و انواع الظلم ، وتبديل ذلك بالعدل والراحة مع صلاح الحكم" ولذلك فالمسلمين الذين يُحاربون معهم: " يكونوا من المغضوب عليهم لمخالفتهم وصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ، بسبب اتفاقهم مع الكافرين الفجرة اللئام ، لأن أعداء الإسلام لا ينصرون الإسلام ، و يا ويل من كانت نصرته بأعداء الله ، وحاشا الله أن يكون المُستنصر بالكُفار مؤيداً أو يكون مسلما ، ساقتهم المقادير للهلاك والتدمير ، مع السفالة والرذالة ، وكيف المسلم أن ينزل في مركب تحت بيرق الصليب ، ويسمع في حق الواحد الأحد الفرد الصمد من الكفار كل يوم تخريف واحتقار، ولاشك أن هذا المسلم في هذه الحال أقبح من الكافر الأصلي في الضلال" يالها من" خُطبة رائعة"  لا تأتي إلا من شيخ مُعرِّص تربي في أروقة الأزهر، ثم يختم بعد كل هذا "الحشو" بلهجة حادة بأنه يريد من "أهل الديوان" أن يقولوا هذا: " الخبر جميع الدواوين والأمصار ، لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعية في سائر الأقاليم والبلاد ، لأن البلد الذى يحصل فيه الشر ، يحصل لهم مزيد الضرر والقصاص ، انصحوهم يحفظوا أنفسهم من الهلاك خوفا عليهم من أن نفعل فيهم مثل ما فعلنا في أهل دمنهور" وكما رأينا المرة السابقة أنه كان قد ظهر رجل مغربي وادعي أنه المهدي في البحيرة و اتخذ دمنهور قاعدة له و دعي الناس للجهاد ضد الفرنسيين حتي انه بمساعدة البدو و بعض المغاربة استطاع أن يباغت الحامية الفرنسية للمدينة المكونة من 115 جندي و تم ذبحهم فلما علم الفرنسيون بذلك بعثوا حملة انتقامية –التي ارتكبت واحدة من أفظع المذابح التي ارتكبها الفرنسيون في مصر- و بعد مناوشات هرب المغاربة و البدو فأوقع الفرنسيين انتقامهم علي "المدنيين" العُزل بالمدينة حتي أنه تم قتل المئات منهم ممن حاول الهرب و قتل ما يُقارب 1500 حرقاً أو بالرصاص و أصبحت "دمنهور" كما يقول الجنرال "شارل دوجا" :" لم يعد لها أي وجود" هذا غير مع تعرضت له المدينة من نهب و سلب علي يد الفرنسيين.

ثم في 24 يوليو 1799م وصلت الأخبار بانتصار الفرنسيين على العثمانيين وأنهم: "ظهروا عليهم وقتلوا الكثير منهم و نهبوا و ملكوا منهم قلعة أبي قير، و أخذوا مصطفى باشا أسيراً وكذلك عثمان خجا وغيرهم" و حين يرجع نابليون بعد انتصاره سيلوم الشيوخ و الأعيان علي أنهم: " لما سافر الى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه، وأما في هذه المرة فليس كذلك لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم، فكنتم فرحانين ومستبشرين " "فيلاطفوه" حتي "ينجلي خاطره" و تعود "المياه" "للمجاري".

وفي 5 أغسطس 1799م قبض الفرنسيون على واحد من أعيان بولاق وهو الحاج مصطفي البشتيلي –والذي سيكون أحد رؤوس ما سُمي ب "ثورة القاهرة الثانية" كما سنري فيما بعد- بعد أن وشي بعض جيرانه من "المواطنين الشُرفاء" بأنه: " يدخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود" فلما داهموا تلك المخازن تأكد لهم صحة "الوشاية" فحبسوه في القلعة. في خلفية الأحداث يُشارك الفرنسيين في المٌناسبات الرسمية من "المولد" و "وفاء النيل" أو احتفالاتهم الخاصة فتُعقد الموائد ويحضر الشيوخ وتطلق الأعيرة النارية والمدافع ابتهاجا ولا يمنع من أن يكون هناك "رقص و طبل" و بعض "الخلاعة و المجون"، "فساعة الحظ" لا تعوض كما يقول المصريون.

هنا سيعود نابليون لفرنسا بسرية تامة ليرُسل بعد وصوله "بالسلامة" رسالة "لأهل مصر" فيجمع القائممقام الجنرال "شارل دوجا" اعضاء الديوان  ليقرأها عليهم ومضمونها كما ينقل الجبرتي أنّه: " سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور (23 أغسطس 1799م) إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر فيغيب نحو ثلاثة أشهر، ويقدم مع عساكره فإنه بلغه خروج عمارتهم ليصفوا له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين، وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعاً كهلبر ساري عسكر دمياط."

مع كليبر ستتغير الأوضاع فهو على النقيض من نابليون. فالعلاقة بين الإثنين لم تكن على ما يرام حتى أنّ نابليون لم يُكلف نفسه أن يُخبره برحيله لفرنسا وتعيينه بدلاً منه ك "ساري عسكر" مما أثار غضب كليبر كما أنه كان يري أن "مُغامرات" نابليون قد ورطت فرنسا فهو كان مُعارضاً من البداية لغزو مصر. كليبر أيضاً رجل عسكري "مثالي" لا يعرف "الاعيب السياسة" والتظاهر والنفاق بأنه "مُسلم" أكثر من المُسلمين أنفسهم كما كان يفعل نابليون. ثم هو أخيراً بعد كُل هذا وبوصول وضع الجيش الفرنسي لما وصل إليه كان يري أن فرنسا ليس لديها فرصة في الإحتفاظ بمصر تحت سيطرتها لفترة طويلة.

وفي 31 أغسطس 1799م يأتي كليبر للقاهرة فتُضرب: " لقدومه المدافع من جميع القلاع وتلقته كبار الفرنساوية وأصاغرهم وذهب الى بيت بونابارته الذي كان ساكناً به." ثم تذهب "التشريفة" من "أكابر البلد" من الشيوخ والأعيان لمُقابلة "سيدهم" الجديد: " للسلام عليه فلم يجتمعوا به ذلك اليوم ووعدوا الى الغد." المشايخ والأعيان لابد أنهم أصابهم "إسهال حاد" فالسيد الجديد لا يبدو كالقديم فينصرفوا ويحضروا ثاني يوم: " فلم يروا منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابارته، فإنه كان بشوشاً ويباسط الجلساء ويضحك معهم." ستبدأ زيارات كليبر للشيوخ والأعيان وزياراتهم له تتخذ "الشكل الرسمي" فهذا يدعوه على العشاء وهو يدعوهم على الغذاء لكن ستكون أشبه بلقاءات "عمل" وليس فيه شيء من "المداعبة والملاعبة والمناغشة" التي تكون عادة بين "الأحباء".

وفي 7 أكتوبر 1799م بعد أن أنهك كل من مُراد بيك الأمير الهارب للصعيد والفرنسيين ستُعقد مُهادنة بين الطرفين: " وترددت بينه (مراد بيك) وبين ساري عسكر الرسل والمراسلات ووقع بينه وبينهم الهدنة والمهاداة، واصطلح معهم على شروط منها تقليده إمارة الصعيد تحت حكمهم." هنا أخبار "الهجوم المُضاد" للعثمانين علي الشام ستكون أخبارها وصلت الجميع ففي 29 نوفمبر يقول الجبرتي أنّه: " كثرت الأقوال وتواترت الأخبار بوصول الوزير الأعظم يوسف باشا الى الديار الشامية وصحبته نصوح باشا (كان والياً علي مصر قبل الحملة الفرنسية) […]وعسفوا في البلاد الشامية وضربوا عليهم الضرائب العظيمة وجبوا الأموال، فلما كان في منتصفه وردت الأخبار بوصولهم الى غزة والعريش وأنهم حاصروا قلعة العريش وقاتلوا من بها من عسكر الفرنساوية حتى ملكوها في تاسع عشره(17 ديسمبر 1799م)"   يُكمل الجبرتي أن كليبر كان قد بعث برسائل لسيدني سميث ضابط البحرية البريطانية ليتوسط بين الفرنسيين و العثمانيين في الصُلح و أن الصدر الأعظم قد طلب رجلين من الفرنسيين من "رؤسائهم و عقلائهم ليتشاور معهم ويتفق معهم على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين على ما سيشترطونه بينهم" فيبعثون ب "بوسيليج" المُدير المالي و "ديزيه" قائد جبهة الصعيد. لكن حدث تأخير و استمر زحف العثمانيين بعد سيطرتهم علي العريش في اتجاه الصالحية (شرق محافظة الشرقية)، فيتهيأ كليبر و جنوده لمُلاقاتهم.

لكن في 19 يناير 1800م: " ورد الخبر بقدومهما (بوسيليج و ديزيه) […] الى الصالحية، فأرسلوا لهما الخيول وما يحتاجان إليه وحضرا الى مصر" حيث ينتشر خبر الصُلح أو ما سُمي "بمعاهدة العريش" ويظهر: " الفرنساوية الخداع والخضوع حتى تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطاً." تلك الشروط التي تُمهد لإنسحاب "تدريجي" للجيش الفرنسي من مصر على أن تكلفة هذا الانسحاب ومعاش ومأكل الجنود كُله على حساب "صاحب المحل" طبعا ليس العثمانيين بل "المصريين البُلهاء" وكأن فرنسا لم تقتل وتذبح وتنهب منهم ما يكفي، بل لابد من مواساتها على فشل حملتها ومساعدتها على تخطي محنتها لكي يشتد عودها لكي تعود مرة آخري ولكن هذه المرة نرجو من الله أن تنجح. هذا هو مُلخص "الشروط" التي توصل إليها العثمانيين البهائم. طبعاً الفرنسيين مُدركين أن المسألة مسألة وقت "لإنسحابهم" ولكن يجب قبل ذلك "تعويض" فاتورة الحملة بشكل مُرضي وإلا ستكون صورة "الاحتلال" في خطر. لذلك سيماطلون في الانسحاب حتى جمع ونهب أكبر قدر من المال.

فيبدأ العثمانيون في جمع المال اللازم لانسحاب الفرنسيين من المصريين فيُرسلون محمد أغا الذي يجمع "العلماء" والأعيان وكبار النصارى من الأقباط والشوام حيث يقرأ "فرمانا" مضمونه:" أن الوزير أقام مصطفى باشا الذي كان أسر بأبي قير وكيلاً عنه وقائمقام بمصر الى حين حضوره وأن السيد أحمد المحروقي كبير التجار ملزوم ومقيد بتحصيل الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية." فيبدأ السيد المحروقي بجمع الأموال "بهمة ونشاط" فهذه مهمة "عظيمة" فكان كل من وجب عليه جزء من المال دفعه: " عن طيب قلب وانشراح خاطر وبادر بالدفع من غير تأخير لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية، ويقول سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة " هؤلاء الكلاب الكفرة الذين كانوا بالأمس "مُسلمين موحدين" وكانوا قد جاءوا "بإرادة الله و قدره و حُكمه". و زادت حماسة " الرعايا وهمج الناس من أهل مصر " –و التي غالباً ما تكون مؤشر علي أنهم سيواجهون مُصيبة قادمة لأن تلك الحماسة نابعة من غبائهم و ليست ناتجة عن قراءة واعية للأحداث- فيقول الجبرتي: " إنهم استولى عليهم سلطان الغفلة ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الاعتبار وكشفوا نقاب الحياء معهم بالكلية وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور ولم يتركوا معهم للصلح مكاناً، حتى أن فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقاً وطوائف حسبة وهم يجهرون ويقولون كلاماً مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم، كقولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان، ونحو ذلك، وظنوا فروغ القضية ولم يملكوا لأنفسهم صبراً حتى تنقضي الأيام المشروطة ."

سيبدأ الفرنسيون في: " بيع أمتعتهم وما فضل عن سلاحهم ودوابهم، وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس." يترادف هذا مع تدرج دخول العثمانيون لمصر: " وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة، وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم، فاجتمع العامة وأصحاب الحرف الى مصطفى باشا قائمقام وشكوا إليه، فلم يلتفت لشكواهم لأن ذلك من سنن عساكرهم وطرائقهم القبيحة." هنا قد يلاحقك سؤال ويُلح عليك بالإجابة: هل استطاع "المصريون" اكتشاف أنهم من أغبي شعوب الأرض؟ فهم بعد كل "حماسة" و "هياج" و "تسلم الأيادي" يرون أنهم تم "خوزقتهم" ممن رقصوا وهتفوا و "لحسوا" له. و ليس عليك إلا أن تُلقي في وجه هذا السؤال الإجابة الأكيدة: بالطبع لا!  هل يُمكن أن "يكتشف" الغبي غبائه؟!!

ثم في 3 مارس 1800م سيبدأ "التلكيك" من جانب الفرنسيين وبما أنه كُل من الجيش العثماني والفرنسي أصبحوا متواجدين في قلب القاهرة إستعداداُ "لإنسحاب" الفرنسيين الذي وضع في الشروط مدة 45 يوماً لانسحاب القوات الفرنسية منها. فيُخبرنا الجبرتي أنه حدثت حادثة بداية لسلسلة من الحوادث التي ستقود في النهاية لأحداث "ثورة القاهرة الثانية" حيث: " وقعت حادثة بين عسكر الفرنساوية والعثمانية وهي أول الحوادث التي حصلت بينهم، وهو أن جماعة من عسكر العثمانية تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنساوية فقتل بينهم شخص فرنساوي." فيصيب الخوف الناس وتُغلق المحلات ويتترس العثمانيين وتقع بينهم وبين الفرنسيين مناوشات يُقتل فيها من الطرفين عدد قليل ويعزم كل طرف علي حرب الآخر لكن: " توسطت بينهم كبراء العسكر في تمهيد ذلك، وأزالوا المتاريس وانكف الفريقان" ويبحث مصطفي باشا نائب الوالي عمن أثار هذه "الفتنة" من عساكره فيجدهم ستة أنفار فيقتلهم ويُرسلهم إلي: " ساري عسكر الفرنساوية فلم يطب خاطره بذلك." ويُصر على أن ينحسب عسكر العثمانيين إلى "ثكناتهم" حتى: " تنقضي الأيام المشروطة، وإذا دخل منهم أحد الى المدينة لا يدخلون إلا بطريقة وبدون سلاح." و المفروض أنّ العثمانيين هم المنتصرون و أن الجيش الفرنسي لا يُملي أي شروط فهو جيش مهزوم و يكفي أنهم تركوهم يرجعون لبلادهم "آمنين سالمين غانمين" لكن رغم هذا يرضخ مصطفي باشا "للأوامر" و يأمر بدوره: " بخروج الداخلين من العساكر ولا يبقى منهم أحد، ووقف جماعة من الفرنساوية خارج باب النصر فإذا أراد أحد من العسكر أو من أعيان العثمانية الدخول الى المدينة، فعند وصوله إليهم ينزل عندهم وينزع ما عليه من السلاح ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان أمامه حتى يقضي شغله ويرجع، فإذا وصل الى الفرنساوية الملازمين خارج البلد أعطوه سلاحه فيلبسه ويمضي الى أصحابه" مُنتهي الذِلة و الإهانة. وحينما يري كليبر وجنوده ذِلة وهوان الجيش العثماني وعساكره: "وتحققوا حالهم وعلموا ضعفهم عن مقاومتهم" يبدأون في الإستعداد: " للمقاومة والمحاربة وردوا آلاتهم الى القلاع، فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه وقيدوه بها من عساكرهم واستوثقوا من ذلك خرجوا بأجمعهم الى ظاهر المدينة جهة قبة النصر وانتشروا في تلك النواحي." أما كُلاً من العثمانيين ومن وراءهم المصريين مغيبون تماماً فقد: "غلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل."

وفي 19 مارس 1800م: " ركب ساري عسكر كلهبر قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب وقسم عساكره طوابير، فمنهم من توجه الى عرضي(جيش) الوزير(يوسف باشا) ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليها فلم يسعهم إلا الجلاء والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم، وركب نصوح باشا (الوالي) ومن كان معه وطلبوا جهة مصر، فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من إخوانهم الى جهة العرضي فلما قاربوه أرسلوا الى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره". في "غمضة عين" تم طرد العثمانيين من مصر وحيث كان الجيش الفرنسي مشغول في هذا سيبدأ "أصحاب المصالح" ممن توقف حالهم في "تهييج العامة" لتبدأ أحداث "ثورة القاهرة الثانية" وهي أخت "ثورة القاهرة الأولي" في نتائجها ودروسها وإن كانت تختلف في تفاصيلها وهذا ما سنعرفه-إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(*)كُنت قد نقلت كلمته هذه في تدوينة "البحث عن الجين المفقود 3"

الخميس، 1 ديسمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 7

الجيش المصري و شعبه 7
-البداية
(4)

"اسمعي أيتها السماوات وأصغي أيتها الأرض، لأن الباشا يتكلم: ربيت شعبي وحنوت عليه فعصاني. الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما شعب مصر فلا. شعبي لا يفهم شيئاً. ويل للشعب الخاطئ! نسل فاعلي الشر، أولاد مُفسدين تركوني، استهانوا بعظمة أفعالي وآياتي، ارتدوا إلى وراء. ما الفائدة من مُعاقبتكم؟ تزدادون زيغاً، كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم. مصركم خربة. مُدنكم غارقة في الفقر. وغبائكم لا علاج له. لولا أني أبقيت لكُم جيشاً، لصرتم مثل سوريا والعراق"
الإصحاح السابع من سفر الشئون المعنوية.


"الشعب المصري مُتدين بطبعه" هذه العبارة من ضمن الأكاذيب الرائجة والتي يعرف قائلوها إنها كاذبة فهي –كما قلنا سابقاً- كعبارة أن الشعب المصري "غلبان" و "طيب" و "صبور" و "متواضع " والتي يقصدون بها أنه شعب حقير أهبل جبان و وضيع. كذلك فهم في الحقيقة يعنون بشعب مُتدين أنه شعب مؤمن بالخرافات عابد للموتى و "العفاريت" والقبور يُقدس السحرة والمُشعوذين. لذلك كُل دين "آمن" به المصريون سُرعان ما يتحول إلى قبر يُزار سواء أطلق على "ساكنه" "قديس" أو "وليّ"، وأحجبة وتمائم تُصنع سواء كانت "باسم يسوع" أو "باسم الله" ثم حاكم من سُلالة "الآلهة" سواء كان للإله "ابن" أو كان "لا شريك له" هذا الحاكم الذي يُصبح شريك للإله فهو "الواسطة" بينهم و بينه. فلا يصح إيمانك إلا أن تُسبح بحمد الحاكم ليل نهار ولا تُتَقَبْل صلاتك إلا بدُعائك له بطول العمر وأن تُبقي دولته أبد الأبدين ولا يُقْبَل صيامك إن ذكرته بسوء أو تذمرت من الفقر والغلاء أما زكاتك فهي دائما مقبولة طالما ستدفعها إلى مؤسسات الحاكم "الخيرية". يقولون أليس الله "يؤتي المُلك مَنْ يشاء"؟ -فتكون إجابة "المُتدينين" طبعاً بلا شك. وما هو حُكم من يعترض على إرادة الله؟ -من يعترض على إرادة الله كافر بلا جدال. حاكمنا "أتاه" الله المُلك فهل يجوز لنا الاعتراض؟ -بالتأكيد لا نحن نُسلم لإرادته ونخضع لُحكمه ونسمع ونطيع حتى لو سرق مالنا واغتصب وهتك أعراضنا بل حتى لو كان حاكمنا كافراً مٌلحداً فالله قد آتاه المُلك وليس أمامنا –إذا كُنا مؤمنين حقا- إلا التسليم لذلك بل ومُحاربة من "يخرجون" عليه أو يُعارضونه.

انتهينا المرة السابقة عند نهاية "ثورة القاهرة لأولي" والتي لم تستمر أكثر من يومين اثنين فهي قد بدأت يوم الأحد 21 أكتوبر 1798م وانتهت بدخول الفرنسيين الجامع الأزهر يوم الإثنين بخيولهم حيث: " تغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه".

ثم في يوم الثلاثاء 23 أكتوبر: " اصطف منهم (أي العساكر الفرنسيين) حزب بباب الجامع فكل من حضر للصلاة يراهم فيكر راجعاً" وستبدأ حملة "مُداهمات" و "اعتقالات" و تفتيش للقبض علي المحرضين و لا يمنع أيضا أن يُصاحب ذلك عمليات نهب و سرقة:" بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب " و يلوم الجبرتي "ثورة القاهرة" أو كما يُسميها "الحركة" و "الفتنة"  علي ما فعله الفرنسيون بالأزهر و مجاوريه :" وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع، والفرنساوية لا يمرون بها إلا نادراً ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر، فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع، ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفاً مئيناً وألوفاً فإن مر بهم أحد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه." 

فيظهر "برطلمين" الذي كان قد تم تنصيبه "كتخدا مستحفظان" –منصب مدير الأمن- بعد دخول الفرنسيين القاهرة في 27 يوليو 1798م وكان يُطلق عليه الناس "فرط الرمان" لحُمرة وجهه و يقول الجبرتي أنه: " من أسافل نصارى الأروام العسكرية القاطنين بمصر" و كان يعمل عند أحد الأمراء و هو محمد بك الألفي ويبدو أن هذا "السافل" كان يُذيق "أبناء البلد" الويلات حتي أنه كما  سنري عند خروج الفرنسيين كان الناس تهتف :"الله ينصر السلطان، ويهلك فرط الرمان"

 " وانتدب برطلمين للعسس على من حمل السلاح أو اختلس وبث أعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم وما ينهيه النصارى من أبغاضهم فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده. ويأخذ منهم الكثير ويركب في موكبه ويسير وهم موثوقون بين يديه بالحبال، ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال فيودعونهم السجونات ويطالبونهم بالمنهوبات ويقررونهم بالعقاب والضرب، ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب، ويدل بعضهم على بعض فيضعون على المدلول عليهم أيضاً القبض […]وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله"

 ثم في يوم الأربعاء يذهب الشيوخ "جميعاً" إلي حيث يسكن نابليون ليطلبوا منه "العفو والسماح" و "المسامح كريم" و "معدوش يعملوا كده تاني" فيطلبوا منه:" العفو ولاطفوه والتمسوا منه أماناً كافياً وعفواً ينادون به باللغتين شافياً لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية" نابليون بطبيعة الحال طلب منهم: " بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، وحرضهم على الخلاف والقيام". وعندما حاول الشيوخ المراوغة أخبرهم أنه: " يعرفهم بالواحد" ثم يتم القبض على مجموعة من الشيوخ وغيرهم ويتم حبسهم وتفشل كُل محاولات الشيوخ للتوسط عند نابليون للإفراج عنهم حيث سيتم إعدامهم ودفنهم خفيه. حتى أنه لن يعلم أحد مكان قبورهم حتى "الجبرتي" نفسه.

 فيقول الجبرتي في ترجمة  الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان -و هو رأس "الفتنة"- أنه :" تولى شيخاً على العميان […]وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالاً عظيمة وعقارات" و قد كان هذا الجوسقي "رجل أعمال" من الطراز الأول فكان :" يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلاً وعيناً، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بداً من الدفع، […] وله أعوان يرسلهم الى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقاً ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزاً لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والأزقة" حتي أن من مات من هؤلاء الشحاذين العميان :" ورثه الشيخ المترجم المذكور(الجوسقي) وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت" حتي صار –من كثره ما جمعه من مال- من:" أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تُخشى سطوته وتُسمع كلمته، ويقال قال الشيخ كذا وكذا وأمر الشيخ بكذا وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال وأتباعه محدقة به. وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات واشترى السراري البيض والحبش والسود، وكان يفرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة". ثم يقول الجبرتي أن الجوسقي: "حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كبر إثارة الفتنة التي أصابته وغيره، وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر".

 ولا تعرف أين كان هذا الشيخ و "أمواله الطائلة" هو و غيره من الشيوخ و التجار الذين كنزوا المال كنزاً حينما قال محمد كُريمّ –طبقا لرواية الجبرتي- :" اشتروني يا مسلمون" فبعد أن دخل نابليون و جنوده الإسكندرية -التي كان كُريّم حاكماً لها- تم أسره ثم أُفرج عنه و أبقاه نابليون حاكما لها لكن بلغه أن كُريمّ مُستمر في تحريض الناس و :" الحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم" فاغتاظ الفرنسيون و احضروه و حبسوه و فرضوا عليه مبلغاً كبيراً ليفتدي به نفسه فاستغاث كُريّم بالمشايخ و نقيب التجار أحمد المحروقي فحضر إليه "بعضهم" ويُبرر الجبرتي سبب تخليهم عنه أنهم: " ليس بيدهم ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه" فقتله الفرنسيين :" ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبوت وطافوا بها بجهات الرميلة والمنادي يقول: "هذا جزاء من يُخالف الفرنسيس""

لكن رغم كل ذلك السواد مازال هناك نقاط بيضاء -وإن كانت قليلة- لكنها موجودة فُيخبرنا الجبرتي عن الأمير أيوب بك الدفتردار(المُدير المالي) وهو من مماليك محمد بك أبو الدهب , فيقول أنه لما دخل الفرنسيون: " إلى بر انبابة عدى المترجم (أيوب بك) قبل بيومين وصار يقول أنا بعت نفسي في سبيل الله، فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعدما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه. وقال اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك، واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم. واستشهد في ذلك اليوم وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر."

أو هذا "الذئب المُنفرد" و سط شعب من " الخرفان" حيث "يحكي" لنا الجبرتي عن :" أن رجلاً رومياً من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية خرج لصلاة العيد ورجع الى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلداً بسلاح ومتزيياً بمثل ملابس القليونجية(العاملون علي المراكب الشراعية التي تُسمي غليون أو قليون)، فقال له من أين لك هذا اللباس، فقال من عند جارنا فلان العسكري" فيأمره بنزع تلك الملابس فيرفض غيصربه ويشتمه فيُقرر "الغلام"  قتل سيده فيتربص به لكن يحضر ضيف فيتردد فيري سيده ذلك فيغلق الباب دونه فيصعد الغلام للسطح و بدأ ينتقل من سطح لسطح و يقرر –هكذا- قتل الفرنسيين :"ثم تدلى بحبل الى أسفل الخان وخرج الى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول: "الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس" ونحو ذلك من الكلام، ومر الى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصاً وهرب الإثنان" فيهرب الغلام و "المواطنين الشُرفاء" يجرون وراءه للإمساك به و يسري الخوف في نفوس الفرنسيين: " وظنوا ظنوناً أخر وبادروا الى القلاع وحضرت منهم طائفة من القلق يسألون عن ذلك المملوك، وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم". ثم تبدأ المُطاردة فيسأل الفرنسيون : " عن ذلك المملوك والناس يقولون لهم: "ذهب من هنا" حتى وصلوا الى ذلك الدرب، فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه وتدلى ببئر في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البئر وأخذوه ".

  ولابد أنه دار في خُلد الفرنسيين و أبناء البلد أن هذا المملوك لابد أنه "مُختل عقلياً" أو "مريضاً نفسياً " أو "مأجوراً" من جهات "أجنبية" "للوقيعة" بين المصريين و " أحبابهم" الفرنسيين فيسألوه:" عن أمره وما السبب في فعله ذلك. فقال: " إنه يوم الأضحية فأحببت أن أضحي على الفرنسيس"، وسألوه عن السلاح، فقال إنه سلاحي فحبسوه لينظروا في أمره". ثم بعد أن تأكدوا أن هذا المملوك ما هو إلا استثناء و أنّ كل شيء تمام, قتلوه ثاني يوم مُباشرة و الحمد لله "سكنت الفتنة" كما يقول الشيخ  ابن حسن.
                   
وفي 1 نوفمبر 1798 وصلت عدة مكاتبات من الشام من أحمد باشا الجزار وإبراهيم بك مضمونها: " بعد براعة الاستهلال والآيات القرآنية والأحاديث والآثار المتعلقة بالجهاد ولعن طائفة الإفرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم وتحيلهم". فلما اطلع على تلك المراسلات "صاري عسكر بونابارته" قال: " هذا تزوير من ابراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة، وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن والياً بالشام ولا مصر لأن والي الشام ابراهيم باشا، وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام فأنا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة. وورد خبر أيضاً بانفصال محمد باشا عزت (الصدر الأعظم –رئيس الوزراء في النظام العثماني) عن الصدارة وعزل كذلك أنفار من رجال الدولة". سيبدأ الفرنسيون في تحصين القاهرة والاستعداد لأي مفاجأة فيبدأون في: " تحصين النواحي والجهات، وبنوا أبنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصيناً زائداً، […] وهدموا عدة مساجد […] وقطعوا نخيلاً كثيرة وأشجار […] وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير ذلك، […] وخربوا دوراً كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك."

وفي 10 نوفمبر 1798م كتب الفرنسيون عدة أوراق كما يقول الجبرتي على "لسان المشايخ" -لكي يُخلي مسؤوليتهم عما جاء فيها- وأرسلوها الى المدن وألصقوا منها نسخاً بالأسواق والشوارع. لكن الحقيقة أن ما قاله الفرنسيون في تلك الأوراق هو نفس ما يقوله الشيوخ مُنذ قرون إلى الآن بلا أي اختلاف. ولتحكم بنفسك:" نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ الى الله من الساعين في الأرض بالفساد، نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية (طائفة من المهمشين أصحاب العاهات و المتسولين و غيرهم كان لهم زعامات و قادة) وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا أصحاباً وأحباباً لسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته. وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة الى الفقراء والمساكين ولولاه لكانت العسكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر، فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم، فإن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد، وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا من آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد، ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واشتغلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم وادفعوا الخراج الذي عليكم الدين النصيحة والسلام."

ناقص فقط أن يقولوا " واللي بيحب مصر ما يخربش مصر". إن "شيوخنا" شيوخ مُتخصصين في "الفتنة" طالما أنها ضد الحاكم و جيشه و نظامه أما إذا كانوا هم الفاعلين لا المفعول بهم فالأمر ليس "فتنة" بل هو "جهاد و شهادة". الله "أراد" أن يحكمنا "الذي يحكمنا" أياً كان. فلابد أن "نُسلم" لذلك ولا "نخرج" عليه، ولا نقول "اديتنا ايه مصر" بل نقول "هنديها إيه"  وأن نكتفي فقط بالبحث عن "لقمة العيش" و "تربية العيال" أحسن لك ولعيالك.

بعد تلك "الفتنة" "تنافرت قلوب" الفرنسيين من المسلمين حتى أنهم: " أمروا بقية السكان (الفرنسيين) على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليسكنوا بها جماعتكم المتباعدين منهم ليكون الكل في حومة واحدة، وذلك لما دخلهم من المسلمين حتى أن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخولهم البلد لا يمشون به أصلاً إلا لغرض، والذي لم يكن معه سلاح يأخذ بيده عصا أو سوطاً أو نحو ذلك".

ومرة ثانية في 17 نوفمبر 1798م :" كتبوا عدة أوراق وأرسلوا منها نسخاً للبلاد وألصقوا منها بالأخطاط(المناطق)  والأسواق، وذلك على لسان المشايخ أيضاً ولكن تزيد صورتها عن الأولى" و يبدو أنّ "لسان المشايخ نشف" من كثرة "الكتابة عليه" , لكن هذه المرة التحذير من فتنة "الأمل" في أن يأتي مدد من الخارج :"يا سكان الأرياف من العربان والفلاحين إنّ ابراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات الى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة" , فهؤلاء يريدون :" أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية" . فهم يستخدموكم فقط لأجل مصالحهم وذلك: "  لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية"  و الفرنسيون كما تعلمون -أيها الشعب العبيط- دوناً عن: " بقية الطوائف الإفرنجية دائماً يحبون المسلمين وملتهم ويبغضون المشركين وطبيعتهم، أحباب لمولانا السلطان قائمون بنصرته وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته يحبون من والاه ويبغضون من عاداه" فنصيحة لوجه الله من كافر:" أيها الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية فيحصل لكم الضرر والهلاك، ولا تسمعوا كلام المفسدين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فتصبحوا على ما فعلتم نادمين وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين" فحضرة صاري عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق مع شيوخنا على تطبيق "الشريعة" و رفع المظالم عن الناس و "كل سنة وإنتم طيبين" و "بعودة الأيام " و عليه : " لا تعلقوا آمالكم بابراهيم ومراد وارجعوا الى مولاكم مالك الملك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الأكرم الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم عليه أفضل الصلاة والسلام." هل تُلاحظ أي خلاف بين ما جاء في تلك "الأوراق" و "الهري" الذي مازال يُردده الشيوخ اليوم؟ -نعم هناك اختلاف كبير فبونابرت قد مات أما "الفتنة" فهي"حية" لا تموت.

وفي 24 ديسمبر 1798م: "سافر صاري عسكر بونابرته الى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي (نقيب التجار) وابراهيم أفندي كاتب البهار، وأخذ معه أيضاً بعض المدبرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري والطون أبو طاقية وغيرهم، وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات" فما كان من أهل السويس كما هي العادة: " لما بلغهم مجيء الفرنساوية هربوا وأخلوا البلدة فذهبوا الى الطور وذهب البعض الى العرب بالبادية"


أما في 25 ديسمبر 1798م فقد أعاد الفرنسيون تشكيل الديوان للخروج بأفضل "توليفة" مُمكنة فقسموا الديوان لقسمين قسم خصوصي وآخر عمومي. الديوان الخصوصي يتكون من 14 عضوا "مُنتخبين" من الديوان العمومي ويتكونون من خمسة من الشيوخ واثنان من التجار ومثلهم من الأقباط واثنان من السوريين وثلاثة أوروبيين. ومهمة هذا الديوان حل مشاكل الناس اليومية. أما الديوان العمومي فيتكون من 60 عضوا ربعهم تقريبا من الشيوخ ونصفهم من مشايخ التجار والصناع و 11 من العسكر و4 من الأقباط و 3 من الأجانب. من الممكن اعتبار الديوان العمومي "كمجلس تشريعي" أما الخصوصي " كمكتب تنفيذي". و أصدر نابليون نفسه وثيقة بمناسبة "شكل الحكومة الجديد" يقول الجبرتي عن تلك الوثيقة أن فيها :" من التمويهات على العقول والتسلق على دعوى الخواص من البشر بفاسد التخيلات التي تنادي على بطلانها بديهة العقل، فضلاً عن النظر وهي مقولة على لسان بونابارته كبير الفرنسيس " حيث جاء فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم، من أمير الجيوش الفرنساوية خطاباً الى كافة أهالي مصر الخاص والعام نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخليين من المعرفة وإدراك العواقب سابقاً أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم لله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة، والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد، فامتثلت أمره وصرت رحيماً بكم شفوقاً عليكم" ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بحسب تحريك هذه الفتنة بينكم، ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وصلاح أموالكم من مدة شهرين[...]أيها العلماء والأشراف أعلموا أمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه من ضلال عقله وفساد فكره فلا يجد ملجأ ولا مخلصاً ينجيه مني في هذا العالم، ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى، والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه، ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة، وأعلموا أيضاً أمتكم أن الله قدر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي، وقدر في الأزل أني أجيء من المغرب الى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها وإجراء الأمر الذي أمرت به، ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه".

 إن نابليون –أو مَنْ يكتب له- لابد أنه من خريجي الأزهر اللعين. فهذا المنطق هو المنطق الرائج مُنذ قرون بعيدة . فكل حاكم هو "مُكلف" من الله بمهمة "عظيمة" بل أن :"القرآن العظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل وأشار في آيات أخرى الى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم، فلترجع أمتكم جميعاً الى صفاء النية وإخلاص الطوية". نعم إن الجبرتي كان مُحقاً حينما قال عن وثيقة نابليون أنها "تمويهات" لكنه كان يجب أن يتهم "شيوخه" بذلك لا نابليون "العبد الفقير" الذي تتلمذ على تمويهاتهم و تعريصهم. ثم يُضيف نابليون: "[…] واعلموا أيضاً أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أحد منكم، لأنني أعرف أحوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما أراه، وإن كنت لا أتكلم ولا أنطق بالذي عنده، ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يرد، وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي، فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية وإخلاص السريرة والسلام." نعم كُل ما يفعله "حُكامنا" هو "حُكم إلهي" لا يُرد . فكل أفعال الحاكم لا يأتيها الباطل وحتي و إن آتها، فبالتأكيد الحاكم "ليس له ذنب" بل من حوله هم "المُذنبون". هذه هي النتيجة الطبيعية لمنطق الشيوخ قُدماء ومُعاصرين.

ثم في 17 يناير 1799م تبدا الحملة علي الشام فيذهب:" عدة من العسكر الفرنساوية الى قطيا(قرية علي طريق القنطرة العريش حينها) وشرعوا في بناء أبنية هناك، وأشيع سفر ساري عسكر الى جهة الشام والإغارة عليها."

ثم في 26 يناير :" كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس الى جهة الشام وطلبوا وهيئوا جملة من الهُجن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط، ثم رسموا على الأهالي عدة كبيرة من الحمير وكذلك عدة من البغال، فطلب شيخ الحمارة وأمر بجمع ذلك […] فاختفى غالب أصحاب الحمير وخاف الناس على حميرهم."

ثم نقرأ مرة آخري منشور جديد -في الحقيقة ليس جديد تماماً- فهو تكرار لبيان "سماحة" و " طيبة" نابليون "مبعوث العناية الإلهية" فهو قد :" عفا عفواً شاملاً وأعاد الديوان الخصوصي" لأجل " قضايا حوايج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام " و أن نابليون سيُحارب "الفساد" و المُفسدين و لن تأخذهم بهم رحمة حتي لو كانوا فرنسيين وأنه يُريد أن :" يفتح الخليج الموصل من بحر النيل الى بحر السويس " فهذا مشروع قومي: " لتخف أجرة الحمل من مصر الى قطر الحجاز الأفخم وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق" , لذلك عليكم "ألا تأكلوا مصر" وأن تشتغلوا :" بأمر دينكم وأسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الاستقامة لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة."

ثم في يوم السبت 9 فبراير 1799م اجتمع نابليون بالشيوخ و "المسئولين" ويُخبرهم بعزمه على السفر لغزة في إثر المماليك فهو بعد ان قضي عليهم في الصعيد فيجب القضاء عليهم في الشام:" لأجل سلوك الطريق ومشي القوافل والتجارات براً وبحراً لعمار القطر وصلاح الأحوال " ولذلك "يطلب" نابليون منهم: " ضبط البلد والرعية في مدة غيابنا ونبهوا مشايخ الأخطاط والحارات كل كبير يضبط طائفته خوفاً من الفتن مع العسكر المقيمين بمصر","فيلتزموا" له بذلك.

وفي 2 مارس 1799م :" ورد الخبر بأن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش، وطاف رجل من أتباع الشرطة ينادي في الأسواق أن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش وأسروا عدة من المماليك" فلما سيطروا عليها كتبوا "يؤصلون" فيه "لشرعية" حربهم :" حررنا لكم هذه السطور نعلمكم أننا حضرنا في هذا الطرف لقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم، والى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه، والى أي سبب أيضاً أرسل عساكره الى قلعة العريش بذلك هجم على أراضي مصر، فلا شك كان مراده إجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه" أما "المدنيين" فهم لم يقصدوهم بأي: " أذية ولا أدنى ضرر فأنتم استمروا في محلكم ووطنكم مطمئنين ومرتاحين وأخبروا من كان خارجاً عن محله ووطنه أن يرجع ويقيم في محله ووطنه ومن قبلنا عليكم ثم عليهم الأمان الكافي والحماية التامة، ولا أحد يتعرض لكم في مالكم وما تملكه يدكم" ثم لا ينسي أن يُذكر بأنه "حامي الشريعة" وأنّ :" دين الإسلام لم يزل معتزاً ومعتبراً والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين. إذ كل خير يأتي من الله تعالى، وهو يعطي النصر لمن يشاء."

ولما سيطروا على غزة أرسلوا منشوراً آخر ومن كثرة تلك "المناشير" لابد أن تلعن آلات الطباعة و مَنْ اخترعها إن كُل اختراع الذي كان من المفترض أنه سيشكل تغيير جوهري في "عقول" الناس سُرعان ما يُصبح هو نفسه "آلة جُهنمية" لجعلهم أكثر غباءً و تخلفاً. حتى يومنا هذا فالإنترنت الذي كان من المُفترض أنه سيشكل مجال "لحُرية المعلومات" أصبح هو نفسه المصدر الرئيسي "لفبركة" المعلومات، والمصدر الرئيسي "للتجهيل" والسيطرة على تلك المليارات حول العالم. المهم أنهم ألصقوا ذلك المنشور في الأسواق و قُرئ في الديوان أهم جزء فيه هو التالي:" فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله وتأدبوا في أحكام مولاكم الذي خلقكم وسواكم والسلام". فعلاً لابد من الرضي "بقضاء الله". لكن يبقي السؤال كيف عرفوا أن هذا هو "قضائُه"؟ لا أحد يستطيع الإجابة على هذا السؤال إلا أن يلجأ لإستخدام "التمويهات" العقلية التي يتوه فيها عقول المُغفلين ويصبح المخرج الوحيد هو "التسليم" بقضائه.

وفي 20 مارس 1799م سيطر الفرنسيون على قلعة يافا ثم –كما هي العادة- منشور جديد يسرد ما وقع ويختم بكلام عن "قضاء الله", ثم في 3 ابريل يصلون لمدينة يافا نفسها و يُضرب حصار حولها ثم تجري معركة بين عسكر الجزار و الفرنسيين ينهزم فيها عسكر الجزار ويُقتل فيها الكثيرون منهم. لكن لأن نابليون "حُنين" فيقول الجبرتي: " حصل عند ساري عسكر شفقة قلبية وخاف على أهل يافا من عسكره إذا دخلوا بالقهر والإكراه فأرسل إليهم مكتوباً من رسول" يقول فيها أنه ما آتي إلا لإخراج عسكر الجزار من المدينة فقط  لأن الجزار :" تعدى بإرسال عسكره الى العريش ومرابطته فيها، والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا فلا يناسبه الإقامة بالعريش لأنها ليست من أرضه، فقد تعدى على ملك غيره" وأن نابليون :" لمزيد رحمته وشفقته خصوصاً بالضعفاء من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكره المحاربين إذا دخلوا عليكم بالقهر أهلكوكم أجمعين، فلزمنا أننا نرسل لكم هذا الخطاب أماناً كافياً لأهل البلد والأغراب" فيحبس عسكر الجزار الرسول فيشتد غضب الفرنسيين و يبدأون قصف عنيف و ما هي إلا فترة قصيرة حتي ينهدم سور المدينة: "وفي الحال أمر حضرة ساري عسكر بالهجوم عليهم وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية جميع البندر والأبراج، ودار السيف في المحاربين واشتد بحر الحرب وهاج وحصل النهب فيها تلك الليلة." ويتابع الجبرتي ويقول أنه لما تحقق الناس من صحة تلك الأخبار: " تعجبوا وكانوا يظنون بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصاً في المدة القليلة، ولكن المقضي كائن." "والمكتوب علي الجبين لازم تشوفه العين"،"و هنعمل ايه ربنا عايز كده" "وده وعد و مكتوب" " والمكتوب مافيش منه هروب" ..... قاموس "قدري" مصري أصيل يُنتج شعب من العبيد.

ثم في 11 ابريل 1799م حضرت رسالة مضمونها أنّ الفرنسيين أخذوا: " حيفا وبعدها ركبوا على عكا وضربوا عليها وهدموا جانباً من سورها، وأنهم بعد أربعة وعشرين ساعة يملكونها" طبعاً هذا لن يحدث فسيستمر الحصار لقرابة الشهرين وستتحطم آمال نابليون تحت أسوار عكا. وفي نفس اليوم حضر: " مغاربة حجاج الى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقولوا بأنهم عشرون ألفاً حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس" يبدو أن المصريين "زهقوا" من المقاومة و "قرفها" فانتظروا "المُخلص" القادم من الخارج ولكن لخيبة أملهم فقد "أرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طائفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين، فأذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضاء أشغالهم" يعني "ناس علي باب الله" لا "ليهم في المقاومة و لا الجهاد" و لا غيره.

التسلسل الزمني للحملة الفرنسية علي كُلاً من مصر و الشام

وفي 2 مايو 1799م حينما انقطعت الأخبار عن مصير الفرنسيين المُحاصرين لعكا حيث "فات" بدل 24 ساعة التي قال عنها نابليون أيام و أسابيع, فبدأت الناس تتهامس فيما بينها فطبع الفرنسيون –الله يخربيتك يا جوتنبرج- منشور جديد: " قُرئ بالديوان وطبع منه عدة نسخ وألصقت بالأسواق على العادة." جاء فيه أن كل شيء تمام و الأمور تحت السيطرة و "مش بعيد" قبل ما تخلصوا قراءة المنشور نكون دخلنا عكا أما بقية الشام ف "فركة كعب" فإنهم : "  لنا طائعون وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون، يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا أفواجاً بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم، وهذا من فضل الله علينا ومن شدة بغضهم الجزار باشا" وأن الجنرال "يونو" هزم 4000 و هو و حاميته  عددهم  نفر 300 فقط وهذا: "  أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب، أن ثلثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس" و أخيراً "الديباجة" اللازمة لإضفاء الشرعية: " فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة". ثم قُرئ منشور آخر للجنرال "شارل دوجا" -الذي عينه نابليون حاكما علي القاهرة أثناء حملته علي الشام- "يأمر" فيه الشيوخ و المسئولين بأن يُلزِموا: " الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والإنصاف ويتركوا الكذب والخراف، فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين" ولا ينسي "دوجا" الوصفة التقليدية و هي شبيهة بوصفة "أنا أو الفوضى"  التي لا تخيب فمن الدعوة إلي "التسليم" بقضاء الله إلي الإشتغال "بأكل العيش" بدل "ما تقلب ضلمة عليكم وعلي اللي جابوكم": " فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار، والأولى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه، فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال ويشتغلون بإصلاح الأحوال ويرجعون الى الكبير المتعال والسلام."

هنا كان الطاعون قد بلغ أشُده و أصبح يتخطف الناس خطفاً وفي 5 مايو تصدر أوامر جاء فيها بالحكم بالموت لكل "عاهرة" أو من "يُسهل" لها - أي كانت ملته أو جنسيته - الدخول إلي القاهرة و ضواحيها لأنهن –كما يقولون- سبب رئيس في انتشار الطاعون:" من محفل الديوان العمومي الى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة، إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري وهو تشويش الطاعون عدم المخالطة مع النساء المشهورات لأنهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور، فلأجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا الى مدة ثلاثين يوماً من تاريخه أعلاه لجميع الناس، إن كان فرنساوياً أو مسلماً أو رومياً أو نصرانياً أو يهودياً من أي ملة كان، كل من أدخل الى مصر أو بولاق أو مصر القديمة النساء المشهورات إن كان في بيوت العسكر أو من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت، كذلك من قبل النساء والبنات المشهورات بالعسكر إن دخلن من أنفسهن أيضاً يقاصصن بالموت."

وفي 13 مايو 1799م حضر الى السويس مراكب بها بضائع "لشريف" مكة فمنعها الإنجليز الذين كانت بعض سُفنهم قد رست علي الشاطئ و ضربت مدافعها المدينة وكان الشريف –الذي لا يمتلك أي ذرة من شرف-  قد كاتب "بوسيليج" المدير المالي للحملة الفرنسية و أرسل له هدايا و مكاتبات فأعفي الشريف من دفع العشور لكن الإنجليز "الملاعين" أبوا إلا إنه "لازم يدفع عشان يعدي".

وفي 5 يونيو 1799م حضر مجموعة من الفرنسيين بخطاب من نابليون بالعامية يقول فيه –كذباً- أن كُل شيء تحت السيطرة و أنه دمر: " سراية الجزار وسور عكا وبالقنبر هدمت البلد ما أبقيت فيها حجراً على حجر وجميع سكانها انهزموا من البلد الى طريق البحر والجزار مجروح ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر". و أنه في "غاية الشوق" للعودة لرؤيه شيوخه و مسئوليه: " لأني بشوف أنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم" لكنه يعلم أنّ هناك:" جملة فلاتية دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس" ثم يواصل الجبرتي أنه لمّا فشل الفرنسيون في السيطرة علي عكا و يُقرر نابليون الرجوع لمصر أرسل نابليون رسالة لقادته يشرح فيها الأسباب التي دعته لفك الحصار و العودة وهي كما نقلها الجبرتي خمسة عشر سبباً لكن يمكن اختصارها في أربعة أسباب رئيسية:

السبب الأول: هو دخول إنجلترا علي الخط: " فالستة مراكب التي توجهت من الاسكندرية فيها المدافع الكبار أخذها الانكليز قدام يافا" ثم قام الإنجليز بتحصين المدينة بتلك المدافع. ثم زيادة الوجود العسكري الإنجليزي علي طول الساحل المصري الأمر الذي يُمثل تهديد مُباشر لأي تحرك فرنسي.

السبب الثاني: الأوضاع في الداخل الفرنسي أصبحت حرجة فالجيش الفرنسي قد مُني بعدة هزائم في مواجهة "التحالف الثاني" والأوضاع الاقتصادية مازالت في أسوء حال الأمر الذي سيدعو نابليون للعودة لفرنسا بسرية بعد رجوعه من عكا حيث سيقوم بانقلابه بمساعدة أخيه و بعض أعضاء المكتب التنفيذي و سيتم حل مجلس 500 ليُصبح نابليون "المُستشار الأول" للجمهورية و مع الوقت سُيصبح "الأمبراطور" بعد ان يتخلص من "أصدقائه". 

السبب الثالث: الطاعون الذي انتشر بين العساكر لفرنسيين حتي وصل الأمر أن: " يموت كل يوم خمسون وستون عسكرياً." هذا بالإضافة إلي شح المواد الغذائية و المستلزمات اليومية للجنود: "لخراب البلاد قريب عكا"

أخيراً السبب الرابع: الأوضاع في مصر تُنذر بالخطر فقد وصلت المعلومات بتحضيرات العثمانيين لحملتهم على مصر بالتعاون مع الإنجليز هذا بالإضافة إلى أنه في 7 مايو كان قد ظهر رجل مغربي يدّعي أنه المهدي: " ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد وصحبته نحو الثمانين نفراً، فكان يُكاتب أهل البلاد ويدعوهم الى الجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا الى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية واستمر أياماً كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق والمغربي المذكور تارة يُغرب وتارة يُشرق." كما أن مراد بك الأمير الهارب للصعيد قد قويت شوكته حتى أنّ: " وقعة مراد بك مع الفرنساوية في الصعيد مات فيها مقدار ثلثمائة فرنساوي".


وبمناسبة ذكر المهدي و ما فعله "ميزو" فقد كنت قد كتبت تدوينة بعنوان " فصل الدين عن الدين" عن كيف يتم هدم و تسخيف الدين . فميزو في تصريحاته لصحيفة المصري اليوم لتفسير إعلانه "المهداوية" قال :" إن الهدف من العملية إظهار ما جاء بهذا الخصوص في حديث البخاري على أنه مجرد "كلام فارغ". ثم هو يُريد: " تنقية التراث الإسلامي باستخدام الصدمة في الثوابت التي يعتقد المسلمون فيها ويروج لها شيوخ الأزهر، ورجال الدين المسلمين". وأنّ همه الشاغل هو انقاذ: "المسلمين من الخرافات التي تربوا عليها منذ ولادتهم". كما قُلت في تلك التدوينه أنه ليس الهدف من كل تلك "الحوارات" إلا أن تجعل الناس "تهزأ" بالدين و تحطيم أي مُقدس وتحقيره وجعل الدين شيء "مُبتذل" و عادي. فميزو و أمثاله هم بين ثلاث فئات –كلهم يتم تحريكهم عن بعد أو "قُرب"- إما معتوه أو مأجور أو الإثنين معاُ. و ميزو -بالتأكيد- من الفئة الثالثة. إن الأنظمة لا تُريد فصل الدين عن السياسة كما يروج له بل يريدون فصل الدين الصحيح عن الدين "الوسطي الجميل" عن طريق الطعن و "التريقة" و الضحك و "الفرقعات الإعلامية" السخيفة . فيصبح "الدين الصحيح" موضع سُخرية باستمرار فالأنظمة لا تريد هدم الدين بالكُلية فهو "سلاح" قوي للسيطرة علي الشعوب إذا استطعت "تكييفه" و "تفصيله" لما يُناسب أغراضك . فإن كُنت في محنة "فآيات الجهاد" تُكتب علي الحوائط و الأتوبيسات لتدعو الناس للدفاع عنك . أما إذا كانت الأمور مُستقرة و لا تُريد "وجع دماغ" "فالله محبة".

"شاهي و ميزو نموذجان "للشيخ" مُتعدد الإستخدام اتصل الآن قبل نفاذ الكمية تخفيض خاص للدول التي بها "ثورات


الحقيقة ليس هُناك فرق يُذكر بين الشيوخ "الميزوات" و بين من يُحاورنهم سواء كانوا شيوخاً أو افراداً . لأن تلك "الفرقعات الإعلامية" تتغذي علي ذلك لكي تستطيع ان تصل لأكبر عدد ممكن و تكون "رسالتها" قد وصلت. إن الحمير التي تعتقد أنها "تُدافع" عن الدين بالظهور جنباُ لجنب مع هؤلاء هم في الحقيقة قد ساهموا –مُعظمهم بشكل واعي- في أن يتحقق "للقابع في الأعلى" أهدافه. فمن ناحية هو موضوع تظل الناس "تهري" فيه يومين تلاته ومن ناحية آخري تنشره بين أكبر عدد مُمكن بين "الجُمهور" المُستهدف. طبعا سيستمر مُسلسل "الهُزء" بالدين هذا طالما هُناك بغال كُلما سمعت كلباً يعوي "ألقمته" حجراً. إن العلاج الفعّال لأشباه ميزو – وهم كُثر حتي أنّ كثير من الشيوخ علي الساحة بداخله ميزو "صُغنن"- و مَنْ يُحركهم ليس بالتأكيد "حوار" عقل يُخاطب عقل و كُلاً يُقدم ما لديه من حُجج و براهين بل هو حوار من نوع آخر حيث "أيدي" تُحاجج "قفاهم" و "أرجل" تتلاقي "بمؤخراتهم".

نُتابع رواية "الشيخ" حيث في 14 يونيو 1799م يذهب الشيوخ والمسئولين ليكونوا في استقبال "الفاتح" بونابرت "بالطبل والزمر" ويدخل القاهرة من باب "النصر". وكانت قد سرت الشائعات أن نابليون قد مات في حصار عكا . "فطبعوا" منشوراً "جديداً قديماً" و ألصقوه في الأسواق لكن هذه المرة لا يقول الجبرتي إنها علي "لسان الشيوخ" بل هي: " من ترصيف وتنميق بعض الفصحاء" و لا تعرف ما هي الفصاحة فيها إلا اذا أريد بالفصاحة هي أن تكذب و تُدلس و تُعرّص جاء فيها بعد الإستهلال بالآيات القرآنية :" على العاقل أن يتدبر في الأمور قبل أن يقع في المحذور، نخبركم معاشر المؤمنين أنكم لا تسمعوا كلام الكاذبين فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وقد حضر الى محروسة مصر المحمية أمير الجيوش الفرنساوية حضرة بونابارته محب الملة المحمدية ونزل بعسكره في العادلية سليماً من العطب والأسقام، […]، وخرجت أهل مصر لملاقاته فوجدوه وهو الأمير الأول بذاته وصفاته وظهر لهم أن الناس يكذبون عليه شرح الله صدره للإسلام" لكن خذوا حذركم من "الكذبة الفجرة" الذين يُريدوننا أن نحارب الفرنسيين: "ومرادهم بهذه الإشاعة هلاك الرعية وتدمير أهل الملة الإسلامية وتعطيل الأموال الديوانية، لا يحبون راحة العبيد، وقد أزال الله دولتهم من شدة ظلمهم أن بطش ربك لشديد,[…] والغز والعربان يطمعوكم ويغروكم لأجل أن يضروكم فينهبوكم، وإذا كانوا في بلد وقدمت عليهم الفرنسيس فروا هاربين منهم كأنهم جند إبليس".

 أما "نابليون الحبيب" فقد: " أخبر أهل الديوان من خاص وعام أنه يحب دين الإسلام ويُعظم النبي عليه الصلاة والسلام ويحترم القرآن ويقرأ منه كل يوم بإتقان، وأمر بإقامة شعائر المساجد الإسلامية وإجراء خيرات الأوقاف السلطانية، وأعطى عوائد الوجاقلية وسعى في حصول أقوات الرعية فانظروا هذه الألطاف والمزية ببركة نبينا أشرف البرية". بل و "المفاجأة المُدويّة" التي لا تعرفونها و التي ستُدهش أهل الأرض و ملائكة السماء أننا: " عرفنا أن مراده أن يبني لنا مسجداً عظيماً بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار عليه أفضل الصلاة وأتم السلام", ثم أخيراً "الخلاصة" التي تُشبه الأدوية المُسكنة التي تُعطي لمريض في مراحل متأخرة من مرض مُميت و قد وقف الأطباء عاجزين عن فعل شيء له. فقط يعطونه تلك المسكنات القوية لكي يقضي ما تبقي من أيامه الأخيرة بأقل قدر مُمكن من الألم. لكن هنا تُعطي للتخلص من كل "مقاومة" لرفض ما يقولونه فيلجئون مباشرة إلي "الإكليشيه المحفوظ": "فسلموا يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله، ولا تسعوا في سفك دمائكم وهتك عيالكم ولا تتسببوا في نهب أموالكم ولا تسمعوا كلام الغز الهربانين الكاذبين ولا تقولوا إن في الفتنة إعلاء كلمة الدين، حاشا الله لم يكن فيها إلا الخذلان وقتل الأنفس وذل أمة النبي عليه الصلاة والسلام." أُمة مذلولة مخذولة و لكنها تخشي من الخُذلان و الذُل فيقف "العجب" مُتعجباً من عجب ما يري و يسمع.

في 15 يوليو 1799م ستبدأ أولي "طلائع" القوات العثمانية لمهاجمة نابليون و قواته في "أبي قير" , والتي سينجح نابليون في صدها ليكون هذا "الإنتصار" آخر ما يفعله نابليون بمصر حيث سيغادر لفرنسا ليواجه "قدره" المحتوم. لكن لندع القوات ترتاح قليلاً و نُكمل المرة القادمة إن شاء الله.