الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

الجيش المصري و شعبه 3


الجيش المصري و شعبه 3
-ما قبل الأسطورة
(2)

" ويَعرِفُ المصريون محمد علي في ذلك اليوم، ويقدمون ذبيحة و تَقدُمة و يُنذرون له نذراً و يوفون به. و يَضرب  مصر ضرباً، فيرجعون إليه فيستجيب لهم و يشفيهم و في ذلك اليوم تكون بركة يُبارك بها محمد علي مصر قائلاً: " مُبارك شعبي مصر العبيط جداً، و عمل يدي عبد الناصر المهزوم دائماً و وارثي السيسي المجنون قطعاً""
الإصحاح الثالث من سفر الشئون المعنوية


تعرفنا في المرة السابقة على الوضع بمصر قبل قدوم الحملة الفرنسية بقيادة نابليون وقد أصبح لدينا فكرة و لو بسيطة عن المناخ العام السائد وقتها فمن الباشا الوالي الذي ليس له من الأمر شيء إلي المماليك المُتقاتلين المُتناحرين ثم شيوخ و أقطاب ومشعوذي الأزهر و في النهاية أبناء البلد البُلهاء الذين يعيش علي "قفاهم " كُل هؤلاء. أما الآن سنطير إلي فرنسا بسرعة قبل أن تُداهمنا الحملة الفرنسية لنري ما الذي يجري هُناك.

في فرنسا -كغيرها- كان الملك هو "ظل الإله على الأرض" فله وحده الحق الإلهي للحُكم و أياً من يعترض عليه فهو يعترض علي الإله نفسه و بما أن المُلك هو منصب "إلهي" فهو بالتالي لا يصدر عنه الخطأ فهو "معصوم" و هو سبب قيام "المملكة" و القائم علي حفظها. فالمملكة تتجسد بشخصه وبالتالي فأي "خروج" عليه هي خطيئة لا تُغتفر يستحق مُرتكبها الحرمان الكنسي هذا غير لعنات القساوسة و"القديسين". تحت الملك يسجد الأمراء و النُبلاء والحاشية تُصاحبهم الكنيسة التي كانت تتمتع بامتيازاتها الخاصة و إيراداتها و اقطاعياتها في المُقابل وعرفاناً بالجميل فهي تضع الأرض الصلبة "للحكم الإلهي" للملك و "نظامه " ثم أخيراً تحت أقدام الجميع "يُصلي" الفلاحين و العمال و الغوغاء و الرعاع لكي يبقي "حُكم الملك" أبد الدهر آمين.

كانت الأوضاع في تلك الفترة علي صفيح ساخن فمن الثورة الصناعية في حوالي 1760-1780 التي بدأت في إنجلترا إلي الثورة أو حرب الاستقلال الأمريكية فيما بين 1772-1783م و التي شاركت فيها فرنسا تحت حُكم الملك لويس السادس عشر والتي حاربت إلي جانب "الانفصاليين" ضد جارتها و عدوها التاريخي اللدود إنجلترا علي أمل أن ذلك سيُضعفها و يقوي فرنسا .في البداية كانت مُشاركتها بتهريب البارود والبنادق لهم ثم بإمدادهم بالأموال و الجنود إلي أن نجح الانفصاليون بمساعدتها إلي الاستقلال و نشأة الولايات المُتحدة , تلك الحرب التي خرجت منها فرنسا مُثقلة بالديون بدون أن تستفيد منها شيئاُ هذا مع عودة الجنود الذين شاركوا في تلك الحرب بأفكار أكثر خطورة من الإفلاس الاقتصادي أفكار عن الثورة و الحُرية و الجمهورية.

فمن أزمة اقتصادية حادة و غلاء الأسعار و جوع و أزمة حتي في "رغيف العيش" بدأت الشرارة التي لن تنطفئ لسنوات قادمة فمن أحداث "شغب" في أكثر من مدينة , لمواجهات مع "القوات الملكية" التي أُرسلت لإخمادها, وبدأت الأمور في الخروج عن السيطرة و استمرت أعمال "العُنف" في التزايد و بدأت الدماء تسيل .فيُقرر لويس السادس عشر بناء علي نصائح مُستشارية بعمل إصلاحات ل "انسين ريجيم أو النظام القديم" فيأمر بعقد مجلس "طبقات الأمة العام" في 1789م و هو المجلس الذي يُمثل فيه طبقات فرنسا فمن طبقة النُبلاء و الأشراف إلي طبقة الكهنوت و رجال الدين و أخيراً طبقة العامة و الدهماء و هو المجلس الذي لم يُعقد مُنذ اكثر من 150 عاماً من اجل حل "مشاكل الناس".

فبدأت "المطالب" ترتفع أصواتها فمن مُطالب بإلغاء امتيازات النُبلاء إلي مُطالب بتحجيم دور الكنيسة لمُطالب بالمساواة التامة بين جميع "رعايا" الملك . هذا "المجلس" لم يكن إلا مُجرد واجهة لامتصاص غضب الناس و إلهائهم إلي أن تمر الأزمة, ثم جاء موت ابن لويس السادس عشر لكي يضع نهاية لهذا كُله فالملك في حداد و لا يستطيع أن يدير الأمور و هو في تلك الحالة و و مجلس الطبقات عاجز ليس بيده شيء فتم انشاء "المجلس الوطني" بتواطئي الطبقات الثلاثة و التي ستزيد شهيتها لتتقاسم السُلطة مع الملك وتحاول البدء في "صياغة دستور للبلاد". الملك بدوره سيشعر بخطورة هذا المجلس فيحاول تهميشه لكن يحدث أن يتمرد" الحرس الفرنسي" و يقف قادته و يدعموا المجلس الوطني ويتعهدوا بعدم اطلاق النار علي أي من "المُتظاهرين" ضد الملك و "حكومته". لقد اصبح لهذا المجلس "جيش يحميه و يحنو عليه". 

وفي يوليو 1789م استمر الوضع المعيشي في التدهور. فمن شُح رغيف العيش إلي أعمال شغب من أجل الحصول علي الطعام ترادفت مع مُظاهرات اعتراضاً علي الضرائب المفروضة, كُل هذا مع تناثر الشائعات أن الملك هو السبب في تلك "الأزمات" لكي يضغط علي الناس لكي لا تُساند المجلس الوطني. ثم وصول الأخبار أن الملك يُحضر "لعمل عسكري" لإطاحة بنواب المجلس. فهو قام بنشر قوات بباريس كثير منهم من الأجانب لكي يضمن أنه حين صدور الأوامر بإطلاق النار فهم لن يترددوا، هذا الأمر رفضه نواب المجلس و أعلنوا أن هذا سيكون له "عواقب وخيمة" و أعلن "الحرس الفرنسي" أنهم لن يسمحوا للأجانب بالمساس بالنواب و الشعب الفرنسي . ثم تصل الأمور في النهاية إلي المواجهة المحتومة فيبدأ الناس بتسليح أنفسهم و يشاركوا الحرس الفرنسي في التصدي لقوات الملك لكن المُشكلة كانت ليست في الحصول علي البنادق بل كانت المُشكلة في الحصول علي البارود فالملك كان يحسب حساب هذا و قام بتخزين البارود في سجن "الباستيل" الشهير. فما كان من "الجماهير المُحتشدة" إلا الذهاب هُناك و محاولة اقتحامه فيُهدد رئيس السجن بتفجير البارود إن لم ينسحب المهاجمين فلا يعيرونه اهتمام و يتم "قصف السجن" و اقتحامه و يحصل الناس علي وقود الحُرية "البارود". الملك مازال غير مستوعب لما يحدث يعتقد أن هذا كُله ما هي إلا "أعمال شغب" يقوم به "بلطجية و مُخربين" فيقول له أحدهم: " سيدي هذا ليس شغب , هذه ثورة ".

لقد انتصر "المجلس الوطني" و سيبدأ في "تقليم" مخالب الملك و أنيابه . فيُصدر في أغسطس 1789 اعلان حقوق الإنسان و المواطنين الذي ينص علي المُساواة التامة بين الجميع و الحرية لجميع المواطنين و أنّ المَلكيّة ليست مُطلقة بل مُقيدة برضي و قبول "مُمثلي الشعب". ثم صُدور قرارا بإلغاء امتيازات طبقة النُبلاء و اقطاعياتهم ثم بعدها بأسبوع قراراً آخر بإلغاء اعفائهم "الضريبي" فيستشاط الملك غضبا و يرفض تلك القرارات لكن الملك لم تعد لديه أية سُلطة فيستمر المجلس في هدم "النظام القديم".

و بينما المجلس و مُمثليه يتكلمون عن الحُرية و حقوق " المواطنة" كان الشعب يتضور جوعاً و يبحث عن قوت يومه فلا يجده بينما الملك و زوجته و "أصدقائها" و حاشيتهم يعيشون في رغد من العيش في قصرهم المنيف في "فرساي" يأكلون و يشربون و يحتفلون و لم يعد يشفع للناس ان الملك وافق علي قرارات المجلس أم لا. فتذهب مجموعة من النسوة في أكتوبر 1789 -اللائي سلّحن أنفسهن- لقصر الملك في فرساي للمطالبة بتوفير الطعام لأطفالهم و عائلاتهم فينضم لهم رجال و جنود "الحرس الوطني" الذي تم تشكيله ليكون جيش الثورة و الذي كان يقوده الماركيز "لافاييت" أحد الفرنسيين المُشاركين في حروب الاستقلال الامريكية فتذهب الحشود أمام القصر و يخاطب الماركيز "لافاييت" الملك بأنه ما جاء إلا ليضمن أن تظل "المظاهرات سلمية" و يرفع مطالب الجماهير للملك من أن يُزيد من حصة "الخُبز" لسكان باريس و أن يعود هو عائلته لقصره. فيفكر الملك ملياً في الأمر فينفذ صبر الجماهير الجائعة فتقتحم القصر و تبدأ في البحث عن الملك و حاشيته فيحميهم الماركيز وينجح في أن يُخلصهم من أيديهم قبل ان تفتك بهم و يُعيد الملك و عائلته لقصرهم بباريس.

بعدما سقطت "هيبة" الملك لم يعد امام المجلس الوطني إلا سُلطة الكنيسة لكي يهدمها هي الآخري فهي أحد أعمدة هذا "النظام القديم" و يكون الاقتراح من مٌمثلي الكنيسة نفسها في هذا المجلس "بتأميم" مٌمتلكات الكنيسة لتجنب افلاس الدولة و يقول أحدهم: "أن الدولة لم تُصنع للدين بل الدين هو الذي صُنع للدولة". ثم بعد نجاح تلك الخطوة يتم تحويل القساوسة إلي مُجرد موظفين عند الدولة يتقاضون منها الراتب الشهر و يقسمون الولاء للدولة و القانون. لكن الأمور بدأت في الخروج عن السيطرة فكثير من القساوسة رفض الخضوع لمثل تلك القرارات فهم يرون أن هذا تعدي ليس فقط علي الكهنوت بل هو تعدي علي الإله ذاته. في نفس الوقت كان الملك –أخيراً- قد ادرك أن مصيره سيكون مصير الكنيسة. فبدأت سراً التحضيرات "للثورة المُضادة" و إن كان في العلن يُعلن رُضوخه التام لمطالب و قرارات المجلس الوطني. فيُرسل الملك إلي مملكة النمسا لمُساعدته في حالة اضطراره لاستخدام القوة للمواجهة. الوضع أصبح عدائي تماما فالجماهير أصبحت تنتقد الملك علنا بل البعض يتساءل لماذا يجب ان يوجد ملك اصلاً. زوجة الملك "ماري أنطوانيت" تشعر بأن الوضع لم يعد آمناً فتُقرر هي و زوجها الهرب إلي النمسا لإدارة الثورة المُضادة من هُناك. و لكن خبر الهروب يتسرب و يُقطع طريق الهُروب لكن الزوجين لم يعد امامها أمل إلا الهرب ففي ابريل 1791 يتنكر الملك و عائلته مُتجهين للنمسا و لكن يتم التعرف عليه علي الحدود و الإمساك به فتثور ثائرة الفرنسيين و يسبون الملك و زوجته و يُحطمون كُل ما يمت بصله لتلك العائلة الملعونة. المجلس الوطني يُعلن أن تصرف الملك قد افقده "شرعيته" كحاكم و يقول أنه لم يعد هناك ملك لفرنسا بل ويتم إتهام الماركيز "لافاييت" بأنه من ساعد الملك علي محاولة الهروب . هُنا تُصبح الثورة أكثر وحشية فالثورة المُضادة تعمل بكامل طاقتها فيظهر "روبسبيير" , فلابد لأي ثورة أن يكون لها "أنياب" تُدافع عنها و تفترس كُل من يحاول الوقوف أمامها. وبدأت تناقضات الثورة تظهر علي السطح.

في نهاية 1791م بعد ان أعد المجلس الوطني دستور البلاد يحل نفسه و يتم تشكيل مجلس جديد تكون مُهمته هي مُعاقبة القساوسة الذين رفضوا قسم الولاء للدولة و العمل علي منع أي محاولة للثورة المُضادة ثم التحضير لحرب علي كُلاً من النمسا و بروسيا فكثير من النبلاء قد فروا إلي هاتين المملكتين و حرضوهم علي غزو فرنسا لإرجاع "النظام القديم" مما دعي المجلس إلي دعوة كُل من سافر للخارج للعودة و إعلانه "بيعته" وولائه للدولة بل وحتي تم إقرار الحُكم بإعدام من لم يرجع و يقسم قسم الولاء.

و في بداية 1792م المجلس الجديد يواجه صعوبات في إدارة البلاد فمن الثورة المُضادة التي يُحضّر لها . إلي استمرار تردي الوضاع الاقتصادية و المعيشية للناس و محاولة "الحكومة" التحكم في غلاء الأسعار و شُح المواد الغذائية و التي يرجع جزء منها لهروب "رؤوس الأموال" خارج البلاد. فيبدأ التذمر بين الناس من "الإدارة" الجديدة . فتبدا "ثورة الجياع" في القُري و المُدن تتحدي السُلطة الجديدة و تجد فيها قوي الثورة المُضادة فُرصة ذهبية للإنقضاض. فيتشكل جيش من النُبلاء الفارين تحت إمرة الإمبراطور النمساوي "ليوبولد الثاني" الذي يتحالف مع بروسيا للقضاء علي الثورة الفرنسية و إعادة لويس السادس عشر إلي عرشه. فيتبادل الملك الفرنسي و زوجته الرسائل التي تحوي معلومات عن نقاط ضعف و أسرار الجيش الفرنسي . المجلس الوطني من ناحيته شاعراً بالخطر لكنه يجهل تلك المُراسلات بين الملك و حُلفائه يُقرر "حربا من أجل الحرية" ويتم إعلان الحرب علي كلا من النمسا و بروسيا بل و يُجبر الملك نفسه علي قراءة اعلان الحرب أمام المجلس في أبريل 1792م. لتبدأ حروب الثورة الفرنسية في أوروبا حيث سيبزغ نجم نابليون كقائد عسكري مُحنك . نابليون الذي يدين له الحاج محمد علي باشا بأنه السبب المُباشر في نجاحه في أن يحكم مصر بسهولة.

بعد أن رأينا الأوضاع في مصر و فرنسا قبل مجيء الباشا المرة القادمة ستلتقي تلك القوتان بين أمة في طور التفسخ و التحلل و أمة آخري في طور الصعود والنتيجة الحتمية هي سيطرة الأخيرة علي الأولي مع ما يعقبه هذا من "انهيار النظام القديم" و بداية "نظام قديم" آخر.

في الختام بمناسبة الدعوة "للتظاهر" في 11-11. يجب أن تعرف أن من أهم "حقائق" التاريخ أن الشعوب هي "أبقر" كائن خلقه الله . واليوم نُشاهد بأنفسنا تلك "الحقيقة" الخالدة . فما هو الفرق بين الشعب المصري العبيط و الشعب الأمريكي العبيط ايضاً. من وجهة نظري لا فرق جوهري بين الأثنين . يكفي فقط ان تُتابع ما يُسمي "بالانتخابات" الأمريكية التي "يُختار" فيها بين "المعتوه" و "الهابلة" . فتجد مُعظم وسائل الإعلام "الحُرة" تُحقّر و تسخر بل و حتي تفتري الكذب علي "المعتوه" في حين أن "الهابلة" تُصوّر علي أنها "المدام" "الخبرة" "المٌحنكة". إنّ الفرق الوحيد بين الشعبين هو كالفرق بين البقر التي تُربي في "زريبة" و البقر التي تُربي في "مزرعة" مُجهزة بأحدث الأجهزة التكنولوجية. فالأولي لا تحظي لا بالعلف الجيد النظيف و لا بالرعاية الطبية المٌمتازة ويتم حلبها يدويا مما يُعرض ضروعها للالتهاب البكتيري و ما يُصاحبه من آلام. لكن الثانية تُحلب أوتوماتيكيا على انغام موسيقي هادئة بدون أن تشعر بشيء. فإن كُنت من "بقر الزريبة" و تسعي لتحول شعب مصر إلي "بقر المزرعة" فأُخبرك انك قطعت تقريباً نصف الطريق و لم يتبقى إلا القليل. فأنت لديك "البقر" و لم يتبقى إلا المزرعة فهنيئاُ لك و لأبقارك.

"العلاقة التاريخية بين الجيش المصري و نظامه و بين شعبه قد يُصيبها أحياناً بعض "الجفاف" لكن سُرعان ما تعود "المياه لمجاريها

المُشكلة ليست في أن يخرج مليون أو حتي 90 مليون. المُشكلة هي معرفتك أن هؤلاء ما هم إلا بقر سيتم خداعهم بأبسط الحيل و الطُرق و الأمس القريب خير شاهد إن مُجرد التفكير في هذا يجعلك تكتئب ليس يئسا بل مللاً من هذا التكرار الرتيب.

الخميس، 20 أكتوبر 2016

قبل السقوط و بعده

قبل السقوط و بعده.

القوات الإنجليزية في مُحيط الموصل 1923م



كنت قد كتبت تدوينة قبل ما يُقارب العام بعنوان: "هل هزيمة الدولة الإسلامية تعني نهاية مشروعها؟ " وما زال السؤال يُطرح عند كُل تراجع للدولة الإسلامية فالتحالف و حشوده علي مشارف الموصل قلب الدولة في العراق و سقطوها سيكون بمثابة انتهاء مفهوم "الدولة" لندخل من جديد لمفهوم "الجماعة أو التنظيم". فعملياً لن يكون هناك "دولة إسلامية في العراق" سيكون هناك "تنظيم" يعمل في العراق. تلك الكلمة "تنظيم" التي تعشقها "وكالات الإنباء" والتي تُردف "تنظيم" ب "دولة" فيُصبح لديك هذا المُصطلح العبيط الذي يُردده الإعلاميين بغبائهم المُعتاد: "تنظيم الدولة الإسلامية".

إن مشروع الخلافة الإسلامية هو مشروع المُسلمين الصادقين لذلك لا يمكن هزيمته إلا إذا اختفي هؤلاء من العالم- وهو أمر غير مُحتمل- لذلك قُلت في التدوينة أن : " العالم يبحث عن هزيمة الدولة الإسلامية عسكرياً لكي يُفشل مشروعها ويظهر ضعفها ويبعث اليأس في مؤيديها و مناصريها فبدون الهزيمة العسكرية وطالما الدولة الإسلامية صامدة متحدية ومنتصرة فمشروعها يصبح قادراً علي جذب المزيد من المقاتلين و المناصرين المستعدين لبذل كل ما يملكون لنجاح هذا المشروع".

حينما تواجه مُشكلة صعبة , عليك دائما ان تضع في حُسبانك أسوأ الاحتمالات المُمكنة وتتصرف على أساسها هكذا تضمن أنك مُستعد تماماً لمواجهتها و حلها. أما ان تقول أنّ هذا الأسوأ "لن يحدث" أو لماذا "نستبق الأحداث" فهذا غالبا ما سيُعقدها ويجعلك عند حدوث هذا الأسوأ تقف أمامها مُحبطاً يائساً عاجزاً لا تدري ماذا تفعل.

فاذا أخذنا بالأرقام التي تتداولها وسائل الإعلام في ان هناك ما يُقارب 100000 من القوات العراقية والأجنبية ما بين جيش و بيشمركة و حشد و غيرها هذا غير طيران و استخبارات التحالف في مُقابل ما يقارب 6000 مُقاتل من جنود الدولة الإسلامية. طبعا لا يوجد أي تكافئ في القوي حتى مع ما نعلمه من قوة وشجاعة جنود الدولة لكنها وحدها لا تكفي. فكما قُلت سابقاً أن الدولة الإسلامية أصبحت أمام عدو قد تكيف مع أساليبها وتكتيكاتها العسكرية وأصبح يستطيع التنبؤ بردود أفعالها الأمر الذي يُعطيه نقطة تفوق أُخري. نعم قد تستطيع الدولة الدفاع عن المدينة لعدة أسابيع أو حتى شهور لكن إن لم يكن لديك خطط بديلة لمواجهة "الأسوأ" فسيكون الوضع أسوأ مما تتخيل.

من بين الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الدولة هي أنها تركت رأسين من رؤوس الأفاعي السامة وهما السعودية وتركيا بدون أن توجه لهما جزء كبير من عملياتها فلا توجد ولا عملية واحدة في تُركيا أعلنت الدولة مسؤوليتها عنها رغم أنها أحد أهم قواعد و رؤوس التحالف في المنطقة حتي و إن حامت الشكوك حول وقوفها خلف بعض التفجيرات التي وقعت في تركيا كتفجيرات مطار اسطنبول علي سبيل المثال فيظل حجم وطبيعة تلك التفجيرات محدود بالأخذ في الإعتبار أنه كان لك حدود برية طويلة معها.  أما السعودية فالعمليات التي تمت بها كانت لمُجرد "اثبات وجود" ليس إلا. وعلي الجانب الإعلامي المُلاحظ هو -إن لم يكن غياب- فهو تراجع كبير لجهاز الدولة الإعلامي هذا التراجع الذي يعود جزء منه مع بداية "فوضي الإصدارات"  وجزء منه يعود لإستشهاد خيرة كوادرها و قادتهاإن أهم ما سيُشكل عودة "مُنحني الصعود" للدولة الإسلامية في المرحلة القادمة هو أن تتعلم من أخطائها -تلك الأخطاء التي هي جزء من طبيعة المرحلة- و لا تُصر عليها .

 لا جدال في أن النصر من عند الله . فالله سُبحانه و تعالي يقول: "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وأنّ علينا فقط الأخذ بالأسباب لكن هل يعني هذا أنه إذا هُزمت الدولة أنهم ليسوا مؤمنين كما يُروج لذلك أعدائها ومُبغضيها؟ بالطبع لا، "فالعاقبة للمؤمنين" في مُجمل الصراع بين الكُفر والإيمان و ليس في تفاصيله فنحن الآن داخل هذا الصراع الذي بدأ فصل جديد منه و كما فيه الانتصارات ففيه الهزائم و الانكسارات.فمازالت المعركة طويلة و لم ينتهي بعد فصلها الأوللكن المُشكلة في أصحاب التفكير الطفولي -وهم الأكثرية- الذين يُريدون دائما "البساطة" و عدم التعقيد فهم لا يروا الحق إلا مع "المُنتصر" فإن إنهزم أو تقهقر بحثوا عن مُنتصر بديل. إن هذا من "طبائع" البشر فهم يُقدسون المُنتصر و يخافونه بغض النظر عن قُربه من الحق أو بُعده و يحتقرون المُنهزم و يسخرون منه حتي لو كان يُدافع عنهم و عن أبنائهم تلك هي "حقيقة" من حقائق كوكبنا البائس.

الأحد، 16 أكتوبر 2016

الجيش المصري و شعبه 2



الجيش المصري و شعبه 2

-ما قبل الأسطورة.
(1)




"وقال الجيش: ليكن شعباً، فكان شعب, ورأى الجيش الشعب أنه حسن. وفصل الجيش بين الشعب و اليد, ودعا الجيش الشعب بقراً، واليد دعاها واحدة. وكان الجيش و البقر يداً واحدة"
الإصحاح الثاني من سفر الشئون المعنوية.


لفهم أي حدث لابد أولاً من فهم البيئة التي نشأ فيها. وبدون هذا سيكون حُكمنا عليه إما ظالماً أو مخطئاً حتى لو أصبنا في بعض جوانبه. لذلك لفهم أسطورة "الجيش المصري الوطني" والتي قُلنا قبل "الفاصل الإعلاني" لحرب أكتوبر "المجيدة" أنها ظهرت في وقت متأخر جداً بعد ان قرر محمد علي الاستعانة بالفلاحين المصريين كأنفار في جيشه الذي كان يهدف من وراءه تأمين وضعه كحاكم أبدي لمصر له ولأبنائه وهو الأمر الذي نجح فيه حتى وإن انهار هذا الجيش ولم يتبقى منه إلا الرُتب والأسماء و بند في الميزانية للنهب و السرقة.

قبل ظهور "ساكن الجنان الحاج محمد علي باشا الكبير" . علي مسرح الأحداث كانت الخلافة العثمانية في حالة موت إكلينيكي و تنتظر "الموت الرحيم" الذي يُخلصها من آلامها و معاناتها والذئاب تحرسها و تتربص بها. و مصر لم تكن إلا ولاية عثمانية يتم تعيين واليها من قبل السلطان العثماني من فترة لآخري مُهمته الأولي هي الإشراف علي أنّ الأمور تسير كما يجب و جمع الخراج المطلوب لإرساله إلي إسطنبول و من حين لأخر إذا احتاج السُلطان لجنود في حروبه فكان كُل ولاية يُطلب منها عدد مُعين علي الوالي تدبيره. لكن الحاكم الفعلي للبلاد كان المماليك و هي طبقة المُحاربين الذين كانوا يُجلبوا ويشتروا من أواسط آسيا صغاراً ليتم بعد ذلك تدريبهم علي فنون الحرب و القتال و كان الأيوبيون في القرن 12 الميلادي قد اعتمدوا علي هؤلاء العبيد لخوفهم و عدم ثقتهم بأبناء جلدتهم فتم الاستعانة بهم لضمان ولائهم ولكن كالعادة كان هؤلاء هم من أنهوا حُكم الدولة الأيوبية و أقاموا دولتهم الخاصة بعد نجاهم في صد الحملة الصليبية بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع و استمروا يحكمون كملوك و سلاطين إلي أن جاء سليم الأول السُلطان العثماني و هزمهم في معركتي مرج دابق غي الشام و الريدانية في مصر في 1517 م و لكنه ابقاهم كما هم و لكن علي أن يكونوا تبعاً له.

فالوالي العثماني المُعين يُعتبر "كمندوب سامي" يُشرف و يرسل الأموال و الجنود و الأخبار والذي تُرافقه حامية تُركية , و هناك طبقة المُحاربين و هم الماليك و هم جيش و شرطة و أمراء و اقطاعيي مصر ثم هناك طبقة مُهمة وسيطة بين هؤلاء و بين عموم المصريين "أبناء البلد" و هي طبقة الشيوخ و "طلبة العلم" لها احترامها و امتيازاتها و عطاياها الخاصة هذه الطبقة التي تعمل علي أن يظل الناس في حالة سُبات أبدي فكانت الصوفية هي مذهبهم و دينهم و التي إن دخلت أمة جعلتهم "أقطاب" و "مجاذيب" كما أن هؤلاء الشيوخ عملوا علي ترسيخ "ثقافة" عدم الخروج علي "ولي الأمر" حتي و إن "ضربك علي خدك الأيمن فأعطه قفاك" و إن "ضربك علي قفاك فأعطه مؤخرتك" أما إذا تطاول و تجاوز ولي الأمر "المؤخرة" فاصبر و احتسب فالله يُمهل و لا يُهمل. وكان لتلك الطبقة مُهمة أكثر أهمية هي إذا ما حدث و خرجت الأمور عن السيطرة و حصلت "هوجة" فالناس بطبيعة الحال ستتوجه لهم فهم عندهم "كلمة مسموعة " عند الأمراء المماليك فيذهب الشيوخ "بربطة المعلم" ليرفعوا مطالب الناس لهم فيُذعن المماليك ليوم أو اثنين ثم بعد أن تهدأ الهوجة يعودوا لسابق سيرتهم من ظُلم و عسف و فساد.

أحد المؤلفات المُهمة التي تؤرخ تلك الفترة هو مؤلف الجبرتي الشهير " عجائب الآثار في التراجم و الأخبار" و أهميته لا تأتي من أنه مُحايد و موضوعي في نقله الأحداث فيقول مُحققا كتاب "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس" :

"هناك تباين شديد بين موقف الجبرتى من العثمانيين فى عجائب الأثار و مظهر التقدیس، فبینما هو یمدحهم ویثنی علیهم فی مظهر التقدیس، اذا هو يُهاجمهم ويصفهم بأقبح الصفات فى عجائب الأثار فالعثمانيين فى مظهر التقديس هم الدولة العلية المدافعة عن الدين لطرد المشركين من مصر، وسلطانها هو الخاقان الأعظم، ووزيرها هو الصدر الأعظم ، ورجالها خير الرجال وبواسل الأبطال أما فى عجائب الأثار فهم الترك المتخلفين وسلطانهم الضعيف المتخاذل ،و وزیرهم الجبان الذی یفر دون قتال، والظالم الذی عسف بالقری الشامیة والمصرية، ورجاله وجنودة مجموعة من اللصوص والمرتشين، لا أخلاق لهم ولا دين"

"یتحامل الجبرتی فی معظم کتاباته علی عامة الصریین، ویصف مشارکتهم فى ثورتى القاهرة بأنها كانت أعمالاً همجية غير منظمة، كما يتحامل على الأقباط ، وخاصة من خرج منهم من الصف وانضم إلى العدو مثل يعقوب ورجاله، كما يهاجم العربان ويصفهم بأنهم مجموعة من اللصوص الذين لا مبدأ لهم ولا عهد ولا أمان لهم وكذلك يتحامل على المماليك ويحملهم السبب فى دخول الفرنسيين، وإن كان تحامله عليهم فى مظهر التقديس أخف حدة من عجائب الآثار . أما الزعماء من العلماء والمشايخ والأعيان، فقد انصفهم الجبرتى، وإن كان سبب ذلك أنه واحد منهم، و مع ذل فانه قد تحامل علی بعضهم مثل السید محمد کریم علی سبیل المثال، والخلاصة أن تغيير المواقف كان بالدرجة الأولى مقتصراً على الفرنسيين والعثمانيين".

ولا تأتي أهمية الكتاب من أسلوبه الفريد فهو ملئ بالأشعار التي بلا فائدة و بوفيات الشيوخ و الأعيان و الأمراء و لكن أهميته تكمن في أنه حفظ لنا –بعيداً عن الحشو– الكثير من نواحي الثقافة السائدة وقتئذ . طبعاً هذا الكتاب يطير به "الوطنيون" فرحاً باعتباره بداية نشأة وعي المصريين بمصريتهم ودور الأزهر "المرموق" و "مقاومة" المصريين "للبغاة المستبدون" فيقول د.عبدالعظيم رمضان في تقديمه للكتاب:

"وقد استطاع الجبرتى أن يصور أصدق تصوير أنواع المظالم التى عاناها الشعب المصرى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر من الحاكم المستبد الجاهل ؛ وموقف المصريين ومقاومتهم لهؤلاء الحكام البغاة ، وكيف كان شيوخ الأزهر وسطاء لوقف طغیان الممالیك ، و کیف کان الآزهر یحتل مکانة مرموقة فی الحیاة المصریة."

و لكنك حين تقرأ الكتاب ستجد أن ما يقوله عن "مقاومة المصريين" و أزهرهم كالعادة ليست إلا مُبالغات و تخيلات و هلاوس و التي هي "علامة الجودة" للكتابات "الوطنية". ولنري بأنفسنا هذا في الإقتباسات الطويلة التي سأوردها هنا من الكتاب للفترة قبل الحملة الفرنسية .والكتاب مُتاح علي الإنترنت تستطيع بنفسك أن تقرأه كاملاً وتُقارن بين وجهة النظر هنا و ما ذهب إليه "مُؤرخينا العظام" .


الباشا الوالي:


لعل أبلغ وصف لما وصل إليه وضع باشا مصر المُعين هو ما يقوله الجبرتي في أنه :

" استهلت(1775م) ووالي مصر خليل باشا محجور عليه ليس له في الولاية إلا الأسم والعلامة على الأوراق والتصرف الكلي للامير الكبير محمد بك أبي الذهب والأمراء واعيان الدولة مماليكه واشراقاته (أتباعه وصبيانه) والوقت في هدوء وسكون وامن والاحكام في الجملة مرضية والاسعار رخية وفي الناس بقية وستائر الحياء عليهم مرخية."

فالوالي لا يُذكر إلا مع وصول جواب التعيين أو العزل و تعيين والي جديد. اللهم إلا أن يقع بينه و بين الماليك بعض المناوشات أو يخطفه الموت من براثنهم.

فنري الخبر المُتكرر : " ووصل مسلم محمد باشا السلحدار ، فأخبر بولاية محمد باشا السلحدار ، وقدم من البصرة ، سنة خمس وأربعين ومائة وألف (1732م) ؛ ونزل عبدالله باشا إلى بيت شكر بره . و استمر محمد باشا واليا على مصر إلى سنة ست وأريعين (1733م)، ثم عُزِل."

و حين وصول الباشا الجديد تذهب التشريفة لمُلاقاته. حيث لن تستمر ولايته –في الغالب- لأكثر من سنة حيث كان يخاف العثمانيين من أنه اذا طالت اكثر من هذا فقد يلعب الشيطان به و يلتف الشيوخ و الغوغاء حوله فيفكر في "الإستقلال" بما تحت يديه. فيقول الجبرتي :

"ووصل الخبر بولاية الشريف عبدالله باشا، ووصل إلى اسكندرية ، ونزل أحمد باشا إلى بيت البيرقدار، وسافرت الملاقاة للباشا الجديد ، ثم وصل إلى مصر فى شهر رمضان سنة أربع وستين ومائة والف (1751) ، وطلع إلى القلعة ، فأقام فى ولاية مصر إلى سنة ستة وستين ومائة وألف(1753م) ، ثم عزل عن مصر ، وولى حلب ، فنزل إلى القصر بقية العزب. وهاداه الأمراء ثم سافر إلى منصبه ، ووصل محمد باشا أمين ، فطلع إلى القلعة ، وهو مُنحرف المزاج ، فأقام فى الولاية نحو شهرین ، و توفی فی خامس شهر شوال سنة ست وستین و مائة والف (1753م)".

هكذا كان الباشا والي مصر "انسان غلبان " يعلم ان إقامته بها لن تطول فينتظره فيها إما العزل أو الموت.

المماليك:

لقد بلغ التناحر و الإقتتال بين المماليك بعضهم البعض درجة من العبث و الغباء هذا غير الظُلم و الذل الذي أذاقوه للناس. لدرجة انك قد تتعجب كيف لمثل هؤلاء أن يحكموا كُل تلك الفترة بدون أن يسقطوا سقوطا مروعاً ذلك السقوط الذي لن يأتي علي أيدي "المصريين" ومقاومتهم المزعومة و لا علي يد الباشا صاحب الأسطورة القادم محمد علي و لكن نهايتهم الحقيقة كانت علي أيدي "الغُرباء" الفرنسيين الذين أظهروا مدي تفسخ و ضعف تلك الطبقة و ما كان علي محمد علي إلا أن يضع المسمار الأخير في الشاهد الذي سيوضع علي قبورهم. إن مُعظم أخبار الجبرتي عن المماليك هي جماعات تُحارب جماعات آخري فتذهب المُنهزمة منهم إلي الصعيد أو الشام لتعاود الكرّة ثانية بعد أن تستجمع قواها فتُهزم أو تُصَالحَ ليُعاد هذا السيناريو من أوله فيقول الجبرتي مثلاً أنه :

"في ثاني شهر شوال من السنة ركب الأمراء إلى قراميدان (ميدان يؤدي لقلعة الباشا) ليهنئوا الباشا بالعيد فلما حضروا في ذلك اليوم المذكور وهنأ الأمراء الصناجق (حُكام الأقاليم) الباشا وخرجوا إلى دهليز القصر يريدون النزول وقف لهم جماعة وسحبوا السلاح عليهم وضربوا عليهم بنادق فاصيب عثمان بك الجرجاوي بسيف في وجهه وحسين بك كشكش أصيب برصاصة نفذت من شقه وسحب الآخرون سلاحهم وسيوفهم واحتاط بهم مماليكهم ونط أكثرهم من حائط البستان ونفذوا من الجهة الاخرى وركبوا خيولهم وهم لا يصدقون بالنجاة[…] وباتوا على ذلك فلما أصبحوا اجتمعوا وطلعوا إلى الأبواب وأرسلوا إلى الباشا يأمرونه بالنزول فنزل إلى بيت أحمد بك كشك بقوصون وعند نزوله ومروره بباب العزب وقف له حسين بك كشكش وأسمعه كلاما قبيحا[…] وبطل أمر العيد من قراميدان من ذلك اليوم. وتهدم القصر وخرب وكذلك الجنينة ماتت أشجارها وذهبت نضارتها […] ثم أن علي بك اجتمع عليه المنفيون وهوارة وخلافهم وأراد الانضمام إلى صالح بك فنفر منه فلم يزل يخادعه وكان علي كتخدا الخربطلي هناك منفيا من قبله وجعله سفيرا فيما بينه وبين صالح بك هو وخليل بك الأسيوطي وعثمان كتخدا الصابونجي فأرسلهم فلم يزالوا به حتى جنح لقولهم. فعند ذلك أرسل إليه محمد بك أبو الذهب فلم يزل به حتى انخدع له واجتمع عليه بكفالة شيخ العرب همام وتحالفا وتعاقدا وتعاهدا على الكتاب والسيف […] وأرسلوا بذلك إلى شيخ العرب همام فانسر بذلك ورضي به مراعاة لصالح بك وأمدهم عند ذلك همام بالعطايا والمال والرجال واجتمع عليهم المتفرقون والمشردون من الغز والاجناد والهوارة والشجعان ولموا جموعا كثيرة وحضروا إلى المنية وكان بها خليل بك السكران. فلما بلغه قدومهم ارتحل منها وحضر إلى مصر هاربا واستقر علي بك وصالح بك وجماعتهم بالمنية وبنوا حولها اسوارا وابراجا وركبوا عليها المدافع وقطعوا الطريق على المسافرين المبحرين والمقبلين. "

وتستمر "المعمعة" :

"وفي يوم السبت مُستهل ربيع الأول خرج الأمراء إلى ناحية معادي الخبيري وحضر مراد بك إلى بر الجيزة وصحبته جمع كبير من الغز والاجناد والعربان والغوغاء من أهل الصعيد والهوارة ونصبوا خيامهم ووطاقهم قبالتهم في البر الآخر فأرسل إليه إبراهيم بك عبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابورى وآخرين في مركب فلما عدوا إليه لم يأذن لهم في مقابلته وطردهم ونزل أيضا كتخدا الباشا وصحبته إسمعيل افندى الخلوتي في مراكب أخرى ليتوجهوا إليه أيضا لجريان الصلح فلما توسطوا البحر و وافق رجوع الأولين ضربوا عليهم بالمدافع فكادت تغرق بهم السفن ورجعوا وهم لا يصدقون بالنجاة […] واستمر الحال بينهم على ذلك من أول الشهر إلى عشرين منه واشتد الكرب والضنك على الناس وأهل البلاد وانقطعت الطرق القبلية والبحرية برا وبحرا وكثر تعدى المفسدين وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها. وفي تلك المدة كثر عبث المفسدين وأفحش جماعة مراد بك في النهب والسلب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات ولم يتركوا على وجه الأرض عودا اخضر وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين وظن الناس حصول الظفر لمراد بك واشتد خوف الأمراء بمصر منه. "

ثم بعد عدم الحسم "الصُلح" يُصبح خيراً:

"وفي أواخر شهر جمادى الأولى اتفق رأى إبراهيم بك على طلب الصلح مع مراد بك فسافر لذلك لاجين بك وعلي أغا كتخدا جاوجان (أصلها جاويشان و هم فرسان أحد كنائب الحامية العثمانية بمصر) وسبب ذلك أن عثمان بك الشرقاوى وأيوب بك ومصطفى بك وسليمان بك وإبراهيم بك الوالي تحزبوا مع بعضهم وأخذوا ينقضون على إبراهيم بك الكبير واستخفوا بشأنه وقعدوا له كل مرصد وتخيل منهم وتحزر وجرت مشاجرة بين أيوب بك أغا كتخدا جاوجان بحضرة إبراهيم بك وسبه وشتمه وأمسك عمامته وحل قولانه وقال له: ليس هذا المنصب مخلدا عليك فاغتاظ إبراهيم بك لذلك وكتمه في نفسه وعز عليه علي أغا لأنه كان بينه وبينه محبة أكيدة ولا يقدر على فراقه فشرع في اجراء الصلح بينه وبين مراد بك فاجتمع إليه الأمراء وتكلموا معه فقال: نصطلح مع أخينا أولى من التشاحن ونزيل الغل بيننا لاجل راحتنا وراحة الناس ويكون كواحد منا وإن حصل منه خلل أكون أنا وأنتم عليه. وتحالفوا على ذلك "

هذا الصُلح الذي لن يتم لتبدأ المعارك من جديد لتزاد أحوال الناس بؤساً علي بؤس فيحيطهم من ناحية القحط و الغلاء و من ناحية آخري القتال و النهب و السرقة.

الشيوخ و طلبة العلم والأزهر "الشريف":


ماذا تتوقع أن تجد عن الأزهر و شيوخه و طلبته؟ عبد الرحمن الجبرتي و هو من أبنائه و أبوه كما يحكي عنه الجبرتي يبدو أنه كان "قامة" من قاماته فيقول لنا أنه لما تولي أحمد باشا ولاية مصر عام 1750م و الذي كان شغوفاً بالعلوم الرياضية قابل صدور العلماء و منهم شيخ الأزهر عبد الله الشبراوي –قُدس سره- و غيره من الشيوخ ليُناقشهم و يُباحثهم فأحجموا و قالوا أنهم لا يعرفون مثل تلك العلوم. فتعجب الوالي و سكت. ثم في أحد الأيام سأل الباشا شيخ الأزهر و قال له :

" المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. فقال له الشيخ: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم فلم أجد عندكم منها شيئا وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل ونبذتم المقاصد. فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة إلى علم الفرائض والمواريث كعلم الحساب والغبار. فقال له: وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية بل هو من شروط صحة العبادة كالعلم بدخول الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك. فقال: نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والأمور العطاردية وأهل الأزهر بخلاف ذلك غالبهم فقراء واخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك. فقال: وأين البعض فقال: موجودون في بيوتهم يُسعى إليهم."

ثم أخبره عن والد الجبرتي الشيخ حسن و مدحه فطلب الباشا أن يُرسل إليه فقال له الشيخ :" يا مولانا إنه عظيم القدر وليس هو تحت أمري." واقترح علي الباشا أن يكتب في طلبه و هو لن يمتنع عن الحضور. ففعل الباشا و يذهب الشيخ حسن و يتردد علي الباشا كل سبت و اربعاء مدة ولايه الباشا كُلها حتي أن الباشا نفسه من إعجابه بوالد الجبرتي قال :"لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني."

ومن ساعتها و الشيخ عبد الله الشبراوى كلما التقي مع الشيخ حسن يقول له : " سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا ، فإنه لولا وجودك ، كُنا جميعا عنده حمیرا . "

فعلينا جمعياً –كمصريين- أن نشكر الجبرتي و أبوه الذي أنقذ "سُمعة" مصر فلولاهما لكُنا جميعاً "حميراً". ولكن الحمد لله لقد أدرك العالم كُله أنه و إن كان "مُعظم" المصريين حميراً إلا أنه هناك منهم أُناس ليسوا بحمير عليك فقط ان تبحث جيداً و أن لا تتسرع في حُكمك. شيخ الأزهر الحمار هذا -كما قال هو- عبدالله الشبراوي كان قد أخذ "رشوة" ليُعطي فتوي للنصاري ليستطيعوا "الحج" إلي بيت المقدس فيقول الجبرتي :

"ومن الحوادث أيضا في نحو هذا التاريخ أن نصارى الاقباط قصدوا الحج إلى بيت المقدس وكان كبيرهم إذ ذاك نوروز كاتب رضوان كتخدا فكلم الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك وقدم له هدية وألف دينار. فكتب له فتوى وجوابا ملخصه أن أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم. فلما تم لهم ما أرادوا شرعوا في قضاء أشغالهم وتشهيل أغراضهم وخرجوا في هيئة وابهة واحمال ومواهي وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم ومعهم طبول وزمور ونصبوا لهم عرضيا عند قبة العزب واحضروا العربان ليسيروا في خفارتهم واعطوهم أموالا وخلعا وكساوي وانعامات. وشاع أمر هذه القضية في البلد واستنكرها الناس فحضر الشيخ عبد الله الشبراوي إلى بيت الشيخ البكري كعادته وكان علي افندي اخو سيدي بكري متمرضا فدخل إليه بعوده فقال له: أي شيء هذا الحال يا شيخ الإسلام على سبيل التبكيت كيف ترضي وتفتي النصارى وتأذن لهم بهذه الافعال لكونهم رشوك وهادوك. فقال: لم يكن ذلك. قال: بل رشوك بالف دينار وهدية وعلى هذا تصير لهم سنة ويخرجون في العام القابل بازيد من ذلك ويصنعون لهم محملا ويقال حج النصارى وحج المسلمين وتصير سنة عليك وزرها إلى يوم القيامة. فقام الشيخ وخرج من عنده مغتاظا وأذن للعامة في الخروج عليهم ونهب ما معهم وخرج كذلك معهم طائفة من مجاوري الأزهر فاجتمعوا عليهم ورجموهم وضربوهم بالعصي والمساوق ونهبوا ما معهم وجرسوهم ونهبوا أيضا الكنيسة القريبة من دمرداش وانعكس النصارى في هذه الحادثة عكسة بليغة وراحت عليهم وذهب ما صرفوه وانفقوه في الهباء. "

فكان منصب شيخ الأزهر الذي أنشأه العثمانيون منصب مُربح جداً حتي أن الصراع بين الشيوخ بدأ مُبكراً علي مشيخة الأزهر حتي أن الشيخ عبد الرحمن العريشي احتال للحصول عليها فينقل الجبرتي القصة مطولة محاولا تخفيف وطاة الأمر:

"تاقت نفس المترجم (عبدالرحمن العريشي) لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلماء فاحب الاستيلاء عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقهاء والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهورى أقامه وكيلا عنه وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهورى فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده استمالة الأمراء وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام وكاد يتم الأمر فأنتدب لنقض ذلك بعض الشافعية الخاملين وذهبوا إلى الشيخ محمد الجوهرى وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكرى وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل الشيخ أحمد العروسي والشيخ أحمد السمنودى والشيخ حسن الكفراوى وغيرهم وكتبوا عرضحال إلى الأمراء مضمونه أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدا وخصوصا إذا كان آفاقيا وليس من أهل البلدة. […] وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بك فتوقفوا وأبوا وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض ورجع الجواب للمشايخ بذلك فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به. وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يؤول إليه هذا الأمر […] وتوجه وحضر مراد بك أيضا للزيارة فكلمه الشيخ محمد وقال لا بد من فروة تلبسها للشيخ العروسي وهو يكون شيخا على الشافعية وذاك شيخا على الحنفية كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليه وهو يأمرك بذلك وإن خالفت يخشى عليك. فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة وركب مراد بك متوجها وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك ولم يكن الأمراء رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمة. فذهب الشيخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور. واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمراء فألبسوه فروة أيضا فتفاقم الأمر وصاروا حزبين وتعصب للمترجم طائفة الشوام للجنسية وطائفة المغاربة لانضمام شيخهم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر وتوعدوا من كان مع الفرقة الاخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع وابن الجوهرى يسوس القضية ويستميل الأمراء وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن اسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك واحتد الأمراء الاتراك للجنسية وأكدوا في طلب المحاققة وتصدى العريشي للشوام المذب عنهم وحصل منه ما حصل لأجل خلاصهم. فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديق عدوا وانحرف عنه الأمراء وطلبوه فاختفى وعين لطلبه الوالي واتباع الشرطة وعزلوه من الافتاء أيضا. وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فأختفوا وفروا وغابوا عن الاعين فأغلقوا رواقهم وسمروه أياما ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفا وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقارش في شيء ولا يتداخل في أمر فعند ذلك اختلى بنفسه وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القرآن ونزلت له نزلة في أنثييه من القهر فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه وتوفي "


بل كان "التنافس" علي هذا المنصب المُربح يصل في بعض الأحيان إلي استخدام البنادق فيحكي الجبرتي أنه بعد موت شيخ الأزهر محمد النشرتي في عام 1120ه-1709م حدثت :

" فتنة بالجامع الأزهر بسبب المشيخة والتدريس بالاقبغاوية (مدرسة أنشأها آقبغا مُدير البيوت السُلطانية للسلطان محمد بن قلاوون 740ه-1339م) وافترق المجاورون فرقتين ,فرقة تريد الشيخ أحمد النفراوي والاخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني ولم يكن حاضرا بمصر فتعصب له جماعة النشرتي وأرسلوا يستعجلونه للحضور فقبل حضوره تصدر الشيخ أحمد النفراوي وحضر للتدريس بالاقبغاوية فمنعه القاطنون بها وحضر القليني فانضم إليه جماعة النشرتي وتعصبوا له فحضر جماعة النفراوي إلى الجامع ليلا ومعهم بنادق واسلحة وضربوا بالبنادق في الجامع واخرجوا جماعة القليني وكسروا باب الاقبغاوية واجلسوا النفراوي مكان النشرتي. فاجتمعت جماعة القليني في يومها بعد العصر وكبسوا الجامع وقفلوا أبوابه وتضاربوا مع جماعة النفراوي فقتلوا منهم نحو العشرة انفار وانجرح بينهم جرحى كثيرة وانتهبت الخزائن وتكسرت القناديل. وحضر الوالى ، فأخرج القتلى ، وتفرق المجاورون ، ولم يبق بالجامع أحد ، ولم يعمل فيه ذلك اليوم ، وفى ثانى يوم اطلع الشيخ أحمد النفراوى إلى الديوان ، ومعه حجة الكشف على المقتولين ، فلم يلتفت الباشا إلى دعواه لعلمه بتعديه ؛ وأمره بلزوم بيته ، وأمر بنفى الشيخ محمد شنن إلى بلده الجدية ، وقُبض على من كان بصحبته وحبسوھم فی العرقانة (سجن شهير وقتها) ، وکانوا اثنی عشر رجلاً ، وتطاول حسن أفندي نقيب الاشراف ، علی الشیخ النفراوی ، والشیخ شنن فی الدیوان ، بحضرة الباشا ، ومن جملة ما قال له : " جماعتك المفاسيد اللذين هم عاملون طلبة علم يصعدون على المنارة ، ويقولون فى محل الأذان : " يا آل حرام ، ويضربون بالرصاص فی المسجد" .

وبالإضافة لذلك كانت الصوفية هي الدين الرسمي آن ذاك حتي أنك تقرأ في الكتاب مجموعة من الخرافات و الخُزعبلات الصوفية مُنتشرة في طول الكتاب و عرضه نجده مثلاً في تأبين "الإمام العارف" " صاحب الكرامات" الشيخ محمود الكردي الخلوتي يقول :

"حضر إلى مصر متجردا مجاهدا مجتهدا في الوصول إلى مولاه زاهدا كل ما سواه فأخذ العهد وتلقن الذكر من الأستاذ شمس الدين الحفني وقطع الأسماء وتنزلت عليه الأسرار وسطعت على غرته الأنوار وأفيض على نفسه القدسية أنواع العلوم المدنية. وله رسالة في الحكم ذكر أن سبب تأليفه لها أنه رأى الشيخ محي الدين العربي رضي الله عنه في المنام أعطاه مفتاحا وقال له: افتح الخزانة. فاستيقظ وهي تدور على لسانه ويرد على قلبه أنه يكتبها. قال: فكنت كلما صرفت الوارد عني عاد الي فعلمت أنه أمر الهي فكتبتها في لمحة يسيرة من غير تكلف كأنما هي تملي على لساني من قلبي وقد شرحها خليفته شيخ الإسلام والمسلمين سيدي الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر شرحا لطيفا جامعا مانعا استخرج به من كنوز معانيها ما اخفاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وشرحها أيضا أحد خلفائه الأستاذ العلامة السيد عبد القادر بن عبد اللطيف الرافعي البيارى العمرى الحنفي الطرابلسي شكر الله صنيعهما ذكر في أولها ترجمة الأستاذ كما سمعه من لفظه أن مولده ببلدة صاقص من بلاد كوران ونشأ في المجاهدة وهو ابن خمسة عشرة سنة صائم الدهر محيي الليل كله في مسجد ببلدته معروف حتى اشتهر أمره وقصده الناس بالزيارة فهجر ذلك المكان وصار يأوى الخراب خارج بلدته بحيث لا يشعر به أحد. وأخبرني غير مرة أنه كان لا يغمه بالليل إلا سماع صوت الديكة لانذارها بطلوع النهار لما يجده في ليله من المواهب والاسرار. وكان جل نومه في النهار وكثيرا ما كان يجتمع بالخضر عليه السلام فيراه بمجرد ما ينام فيذكر الله معه حتى يستيقظ. وكان لا يفتر عن ذكر الله لا نوما ولا يقظة. وقال مرة جميع ما في كتب احياء العلوم للغزالي عملت به قبل أن أطالعه فلما طالعته حمدت الله تعالى على توفيقه اياى وتوليته تعليمي من غير معلم. وكان كثير التقشف من الدنيا يأكل خبز الشعير وفي بيته يصنع خاص دقيق البر وكثيرا ما كان يلومه أخوه على ذلك وكان أخوه الكبير كثير اللوم له على ما يفعله من مجاهداته وتقشفاته[…] ولما صار عمره ثمان عشرة سنة رأى في منامه الشيخ محمد الحفناوى فقيل له: هذا شيخك فتعلق قلبه به وقصده بالرحلة حتى قدم مصر واجتمع به وأخذ عنه الطريق الخلوتية وسلك على يديه بعد أن كان على طريقة القصيرى رضي الله عنه. وقال له في مبدأ أمره: يا سيدي إني أسلك على يديك ولكن لا أقدر على ترك أوراد الشيخ علي القصيرى فأقرأ اوراده واسلك طريقتك. فأجابه الشيخ إلى ذلك ولم يشدد عليه في ترك أوراد الشيخ القصيرى لما عرفه من صدقه من المذكور فلازمه مدة طويلة ولقنه اسماء الطريقة السبعة في قطع مقاماتها […] ولما قدم شيخ شيخه السيد مصطفى البكرى لازمه وأخذ عنه كثيرا من علم الحقائق وكان كثير الحب فيه فلما رآه لا يقرأ أوراد الطريقة الخلوتية ويقتصر على أوراد القصيرى عاتبه في ذلك وقال له أيليق بك: أن تسلك على ايدينا وتقرأ أوراد غيرنا إما أن تقرأ أورادنا وأما أن تتركنا. فقال: يا سيدي أنتم جعلكم الله رحمة للعالمين وأنا اخاف من الشيخ القصيرى أن تركت أوراده وشيء لازمته في صغرى لا أحب أن اتركه في كبرى. فقال له السيد البكرى: استخر الله وانظر ماذا ترى لعل الله يشرح صدرك. قال: فاستخرت الله العظيم ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم والقصيرى عن يمينه والسيد البكرى عن يساره وأنا تجاههم فقال القصيرى للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أليست طريقتي على طريقتك اليست اورادي مقتبسة من أنوارك فلم يأمر السيد البكرى هذا بترك أورادى فقال السيد البكرى يا رسول الله رجل سلك على أيدينا وتولينا تربيته أيحسن منه أن يقرأ أوراد غيرنا ويهجر أورادنا فقال الرسول عليه السلام لهما: "اعملا فيه القرعة" واستيقظ الشيخ من منامه فأخبر السيد البكرى فقال له السيد معنى القرعة: انشراح صدرك انظره واعمل به قال الشيخ رضي الله عنه: ثم بعد ليلة وأكثر رأيت سيدى أبا بكر الصديق رضي الله عنه في المنام وهو يقول لي يا محمود خليك مع ولدى السيد مصطفى ورأى ورد سحر الذى ألفه المذكور مكتوبا بين السماء والأرض بالنور المجسم كل حرف منه مثل الجبل فشرح الله بعد ذلك صدره ولازم أوراد السيد البكرى وأخذ من أوراد القصيرى ما استطاع. وأخبر رضي الله عنه أنه رأى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض المرائي وكان جمع الفقراء في ليلة مباركة وذكر الله تعالى بهم إلى الفجر وكان معه شىء قليل من الدنيا فورد على قلبه وأراد زهد ففرق ما كان معه على المذكورين وفي أثناء ذلك صرخ من بين الجاعة صارخ يقول الله بحال قوى فلما فرغوا قال للشيخ: يا سيدى سمعت هاتفا. قول يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى قال: ثم إني بعدما صليت الفجر نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: يا شيخ محمود ليلتك قبلت عند الله تعالى وهات يدك حتى أجازيك فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد الشيخ والسيد البكرى حاضر بالمجلس فأخذ يده ووضع يده الشريفة بين يديهما وقال أريد أن أخاوى بينك وبين السيد البكرى وأتخاوى معكما الناجي منا يأخذ بيد أخيه فأستيقظ فرحا بذلك فلم يلبث إلا يسيرا ورسول السيد البكرى يطلبه فتوضأ وذهب إلى زيارته وكان من عادته أنه يزوره كل يوم ولا يدخل عليه إلا على طهارة فلما رآه قال له: ما أبطاك اليوم عن زيارتنا فقال له: يا سيدي سهرنا البارحة الليل كله فنمت فتأخرت عنكم فقال له السيد: هل من بشارة أو إشارة فقلت يا سيدى البشارة عندكم فقال: قل ما رأيت قال: متعجبت من ذلك وقلت يا سيدي رأيت كذا وكذا فقال: يا ملا محمود منامك حق وهذه مبشرة لنا ولك فإنه صلى الله عليه وسلم ناج قطعا ونحن ببركته ناجون ومناقبه رضي الله عنه كثيرة لا تحصر. وكان كثير المرأى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما تمر به ليلة إلا ويراه فيها وكثيرا ما يرى رب العزة في المنام ورآه مرة يقول له: يا محمود إني احبك وأحب من يحبك فكان رضي الله عنه يقول من أحبني دخل الجنة. وقد أذن لي أن اتكلم بذلك"

فإن غضننا الطرف عن شيوخ الأزهر و "أوليائه" و "مجاذيبه" فلن يتبقي إلا المشعوذين و الشحاذين و"السحرة" فيقول الجبرتي :

" من الحوادث المستهجنة أن امرأة تعلقت برجل من المجاذيب يقال له: الشيخ علي البكرى مشهور ومعتقد عند العوام وهو رجل طويل حليق اللحية يمشي عريانا واحيانا يلبس قميصا وطاقية. ويمشي حافيا فصارت هذه المرأة تمشي خلفه أينما توجه وهي بازارها وتخلط في ألفاظها وتدخل معه إلى البيوت وتطلع الحريمات واعتقدها النساء وهادوها بالدراهم والملابس وأشاعوا أن الشيخ لحظها وجذبها وصارت من الأولياء ثم ارتقت في درجات الجذب وثقلت عليها الشربة فكشفت وجهها ولبست ملابس كالرجال ولازمته أينما توجه ويتبعهما الأطفال والصغار وهوام العوام ومنهم من اقتدى بهما أيضا ونزع ثيابه وتخجل في مشيه وقالوا أنه اعترض على الشيخ والمرأة فجذبه الشيخ أيضا. وأن الشيخ لمسه فصار من الأولياء. وزاد الحال وكثر خلفهم أوباش الناس والصغار وصاروا يخطفون اشياء من الأسواق ويصير لهم في مرورهم ضجة عظيمة وإذا جلس الشيخ في مكان وقف الجميع وازدحم الناس للفرجة عليه وتصعد المرأة على دكان أو علوة وتتكلم بفاحش القول ساعة بالعربي ومرة بالتركي والناس تنصت لها ويقبلون يدها ويتبركون بها وبعضهم يضحك ومنهم من يقول الله الله وبعضهم يقول دستور يا أسيادى وبعضهم يقول لا تعترض بشيء. فمر الشيخ في بعض الأوقات على مثل هذه الصورة والضجة ودخلوا من باب بيت القاضي الذى من ناحية بين القصرين وبتلك العكفة سكن بعض الاجناد يقال له: جعفر كاشف فقبض على الشيخ وادخله إلى داره ومعه المرأة وباقي المجاذيب فأجلسه وأحضر له شيئا يأكله وطرد الناس عنه وأدخل المرأة والمجاذيب إلى الحبس وأطلق الشيخ لحال سبيله وأخرج المرأة والمجاذيب فضربهم وعزرهم ثم أرسل المرأة إلى المارستان وربطها عند المجانين وأطلق باقي المجاذيب بعد أن استغاثوا وتابوا ولبسوا ثيابهم وطارت الشربة من رؤوسهم وأصبح الناس يتحدثون بقصتهم. واستمرت المرأة محبوسة بالمارستان حتى حدثت الحوادث فخرجت وصارت شيخة على انفرادها ويعتقدها الناس والنساء وجمعت عليها الجمعيات وموالد واشباه ذلك."

أو الشيخ صادومة "عنتيل" تلك الفترة :

" أن شيخا يسمى الشيخ أحمد صادومة وكان رجلا مسنا ذا شيبة وهيبة وأصله من سمنود وله شهرة عظيمة وباع طويل في الروحانيات وتحريك الجمادات والسميات ويكلم الجن ويخاطبهم مشافهة ويظهرهم للعيان كما أخبرني عنه من شاهده وللناس اختلاف في شأنه وكان للشيخ الكفراوى به التئام وعشرة ومحبة أكيدة واعتقاد عظيم ويخبر عنه أنه من الأولياء وأرباب الأحوال والمكاشفات بل يقول: إنه هو الفرد الجامع ونوه بشأنه عند الأمراء وخصوصا محمد بك أبا الذهب فراج حال كل منهما بالآخر. فاتفق أن الأمير المذكور اختلى بمحظيته فرأى على سوأتها كتابة فسألها عن ذلك وتهددها بالقتل فأخبرته أن المرأة الفلانية ذهبت بها إلى هذا الشيخ وهو الذى كتب لها ذلك ليحببها إلى سيدها فنزل في الحال وأرسل فقبض على الشيخ صادومة المذكور وأمر بقتله والقائه في البحر ففعلوا به ذلك وأرسل إلى داره فاحتاط بما فيها فأخرجوا منها أشياء كثيرة وتماثيل ومنها تمثال من قطيفة على هيئة الذكر فأحضروا له تلك الأشياء فصار يريها للجالسين عنده والمترددين عليه من الأمراء وغيرهم ووضع ذلك التمثال بجانبه على الوسادة فيأخذه بيده ويشير لمن يجلس معه ويتعجبون ويضحكون ويقول :"انظروا أفاعيل الشيوخ""

انظروا أفاعيل الشيوخ مقولة مازالت أصدائها تتردد إلي الآن وستستمر إلي الغد و بعد بعد الغد .

أبناء البلد(المصريون):

إن لم يكن قد تكونت لديك فكرة عن طبيعة و شكل "الشعب" الذي تحكمه الطبقات السابقة فإن الإقتباسات التالية سترسم الخطوط العامة لعقليته وسذاجته و تغفيله. فقد وصل المُخلص الذي بعثه السُلطان ليُنقذ "المصريين" من براثن و أنياب المماليك الأشرار :

"وفي يوم الإثنين وصلت الأخبار بورود حسن باشا إلى ثغر رشيد يوم الأربعاء سادس عشرة وانه كتب عدة فرمانات بالعربي وأرسلها إلى مشايخ البلاد وأكابر العربان والمقادم وحق طريق المعينين بالفرمانات ثلاثون نصفا فضة لا غير وذلك من نوع الخداع والتحيل وجذب القلوب ومثل قولهم أنهم يقرروا مال الفدان سبعة أنصاف ونصف نصف حتى كادت الناس تطير من الفرح وخصوصا الفلاحين لما سمعوا ذلك. وأنه يرفع الظلم ويمشي على قانون دفتر السلطان سليمان وغير ذلك. وكان الناس يجهلون أحكامهم فمالت جميع القلوب إليهم وانحرفت عن الأمراء المصرية وتمنوا سرعة زوالهم. وصورة ذلك الفرمان وهو الذي أرسل إلى أولاد حبيب من جملة ما أرسل […] نعرفكم أنه بلغ حضرة مولانا السلطان نصره الله ما هو واقع بالقطر المصرى من الجور والظلم للفقراء وكافة الناس وإن سبب هذا خائنون الدين إبراهيم بك ومراد بك واتباعها فتعينا بخط شريف من حضرة مولانا السلطان أيده الله بعساكر منصورة بحرا لدفع الظلم ولايقاع الانتقام من المذكورين وتعين عليهم عساكر منصورة برا سارى عسكر عليهم من حضرة مولانا السلطان نصره الله وقد وصلنا إلى ثغر اسكندرية ثم إلى رشيد في سادس عشر رمضان فحررنا لكم هذا الفرمان لتحضروا تقابلونا وترجعوا إلى أوطانكم مجبورين مسرورين أن شاء الله تعالى فحين وصوله اليكم تعملوا به وتعتمدوه والحذر ثم الحذر من المخالفة وقد عرفناكم […] وفي ليلة الثلاثاء حضر المشايخ ومن معهم من ثغر رشيد فوصلوا إلى بولاق بعد العشاء وباتوا هناك وذهبوا إلى بيوتهم في الصباح. فأخبروا أنهم اجتمعوا على حسن باشا ثلاث مرات الأولى للسلام فقابلهم بالاجلال والتعظيم وأمر لهم بمكان نزلوا فيه ورتب لهم ما يكفيهم من الطعام المهيأ في الافطار والسحور ودعاهم في ثاني يوم وكلمهم كلمات قليلة وقال له الشيخ العروسي: يا مولانا رعية مصر قوم ضعاف وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس. فقال: لا تخشوا من شيء فإن أول ما أوصاني مولانا السلطان أوصاني بالرعية وقال: أن الرعية وداعة الله عندى وأنا استودعتك ما أودعنيه الله تعالى. فدعوا له بخير ثم قال: كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران وترضونهم حكاما عليكم يسومونكم العذاب والظلم لم إذا لم تجتمعوا عليهم وتخرجوهم من بينكم. فأجابه إسمعيل أفندى الخلوتي بقوله يا سلطانم هؤلاء عصبة شديد والباس ويد واحدة. فغضب من قوله ونهره وقال: تخوفني ببأسهم فاستدرك وقال: إنما أعني بذلك انفسنا لأنهم بظلم أضعفوا الناس […] في يوم الأحد اشاعوا اشاعة مثل الأولى مصطنعة واظهروا البشر والسرور وركب إبراهيم بك في ذلك اليوم وذهب إلى الشيخ البكرى وعيد عليه ثم إلى الشيخ العروسي والشيخ الدردير وصار يحكي لهم. وتصاغر في نفسه جدا وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثوه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت فإنه كأنه يخاف ذلك جدا وخصوصا لما اشيع أمر الفرمانات التي أرسلها الباشا للمشايخ وتسامع بها الناس وفي وقت ركوب إبراهيم بك من بيت الشيخ البكرى حصلت زعجة عظيمة ببركة الأزبكية وسببها أن مملوكا أسود ضرب رجلا من زراع الملقاتى فجرحه فوقع الصياح من رفقائه واجتمع عليهم خلق كثير من الأوباش وزاد الحال حتى امتلأت البركة من المخلوقات وكل منهم يسأل عن الخبر من الآخر ويختلقون أنواعا من الأكاذيب. فلما رجع إبراهيم بك إلى داره أرسل من طرد الناس وفحصوا عن أصل القضية وفتشوا على الضارب فلم يجدوه فأخذوا المضروب فطيبوا خاطره واعطوه دراهم."

هل فهمت شيء ؟ الشاهد في هذا الإقتباس أنك تستطيع أن تخدع هذا الشعب بسهولة فقط "أوعدهم" بالخير و بأنهار العسل ستجدهم ملك يمينك فالغباء فيهم وراثة و السذاجة تميز و التغفيل مهنة . ورغم أنهم سُرعان ما يكتشفون أنك خدعتهم إلا انهم لن يفعلوا شيئاً فقط "سيتمنون" زوالك. فشعب مصر "شعب مُسالم" لا يستطيع رؤية دماء ملوكه و رؤسائة و جيشه و حكومته. فيقول الجبرتي :

"وفيه قررت المظالم على البلاد وهي المعروفة برفع المظالم وكان حسن باشا عندما قدم إلى مصر أبطلها وكتب برفعها فرمانات إلى البلاد فلما حضر إسمعيل بك حسن له اعادتها فأعيدت وسموها التحرير وكتب بها فرمانات وعينت بها المعينون وتفرقوا في الجهات والأقاليم بطلبها مع ما يتبعها من الكلف وحق الطرق وغيرها فدهى الفلاحون وأهل القرى بهذه الداهية ثانيا على ما هم فيه من موت البهائم وهياف الزرع وسلاطة الفيران الكثيرة على غيطان الغلة والمقاثي وغيرها وما هم فيه من تكلف المشاق الطارىء عليهم أيضا بسبب موت البهائم في الدراس وادارة السواقي بأيديهم وعوافيهم أو بالحمير أو الخيل أو الجمال لمن عنده مقدرة على شرائها وغلت أثمانها بسبب ذلك إلى الغاية فتغيرت قلوب الخلق جميعا على حسن باشا وخاب ظنهم فيه وتمنوا زواله وفشا شر جماعته وعساكره القليونجية في الناس وزاد فسقهم وشرهم وطمعهم وانتهكوا حرمةالمصر وأهله إلى الغاية."

هذا الشعب تستطيع أن تحلبه إلي آخر قطرة فقط عليك أن "تحنو عليه" وأن تُخبره أن "الحلب" يُفيد القوي الجنسية للرجال و يجعل العاقر امرأة ولود .

"وفي خامسه طلب إسمعيل بك دراهم قرضة مبلغا كبيرا فوزعوا منهاجانبا على تجار البن والبهار وجانبا على الذين يقرضون البن بالمرابحة للمضطرين وجانبا على نصارى القبط وعلى الأروام والشوام وعلى طوائف المغاربة بطولون والغورية وعلى المتسببين في الغلال بالسواحل والرقع وكذلك بياعو القطن والبطانة والقماش والمنجدون واليهود وغير ذلك فانزعج الناس وأغلقوا وكائل البن والغورية ودكاكين الميدان. وفي يوم السبت خامس عشره اجتمع جملة من الطوائف المذكورة وحضروا إلى الجامع الأزهر وضجوا واستغاثوا من هذا النازل وحضر الشيخ العروسي فقاموا في وجهه وأرادوا قفل أبواب الجامع فمنعهم من ذلك فصاحوا عليه وسبوه وسحبوه بينهم إلى جهة رواق الشوام فمنع عنه المجاورون وأدخلوه إلى الرواق ودافعوا عنه الناس وقفلوا عليه باب الرواق وصحبته طائفة من المتعممين وكتبوا عرضا إلى إسمعيل بك بسبب ذلك وأرسلوه صحبة الشيخ سليمان الفيومي وانتظروه حتى رجع إليهم ومعه تذكرة من إسمعيل بك مضمونها الأمان والعفو عن الطوائف المذكورة. وفيها أن هذا المطلوب إنما هو على سبيل القرض والسلفة من القادر على ذلك فلما قرئت عليهم التذكرة قالوا: هذه مخادعة وعندما ينفض الجمع وتفتح الدكاكين يأخذونا واحدا بعد واحد ثم قام الشيخ وركب وحوله الجم الغفير والغوغاء وبعض المجاورين يدفع الناس عنه بالعصي والعامة يصيحون عليه ويسمعونه الكلام غير اللائق إلى أن وصل إلى باب زويلة فنزل بجامع المؤيد وأرسل إلى إسمعيل بك يخبره بهذا الحال فحنق إسمعيل بك وظن أنها مفتعلة من الشيخ وأنه هو الذي أغراهم على هذه الأفعال فأجابه الرسل وحلفوا له ببراءته من ذلك وليس قصده إلا الخلاص منهم فقال: أنا ارسلت إليهم بالأمان ودعوهم ينفضوا وما أجد يطالبهم بشيء فانفضوا وتفرقوا ومضى على ذلك يوما فأرسلوا إلى أهل الصاغة والجواهرجية والنحاسين وطالبوهم بالمقرر والموزع عليهم فلم يجدوا بدا من الدفع ثم طالبوا وكالة الجلاية وتطرق الحال إلى باقي الناس حتى بياعي الفسيخ ومجموع ذلك نحو اثنين وسبعين حرفة"

قبل أن أختم , لا أقول أنّ "الشعب" ظل "ساكتاً" لا "ينطق" طوال تلك الفترة فبعيداً عن الطواعين و القحط و غلاء الأسعار و تسلط المماليك عليهم كانوا للإمانة "ينفجرون" من آن لآخر في شكل "هوجات" سُرعان ما تنتهي للاشئ. لكن هل كان "الشعب" يُقاوم كما يحاول هؤلاء إخبارنا ؟ الإجابة بالتأكيد لا .فبين المصريين و المقاومة كما بين المشرق و المغرب. احتمال "يفيق" المصريون حينما تُشرق الشمس من مغربها لكن حتي هذا أصبح أمر مشكوك فيه فالجبرتي يُحبطنا بقوله :

"ومن الحوادث الغربية : ... انه یوم الأربعاء رابع عشرين الحجة آخر سنة سبع وأربعين ومائة و ألف (1735م) اشيع في الناس بمصر بان القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشري الحجة وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف وودع الناس بعضهم بعضا ويقول الإنسان لرفيقه بقي من عمرنا يومان وخرج الكثير من الناس والمخاليع الغيطان والمنتزهات ويقول بعضهم لبعض دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة. وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون في البحر. ومن الناس من علاه الحزن وداخله الوهم ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي واعتقدوا ذلك ذلك ووقع صدقه في نفوسهم. ومن قال لهم: خلاف ذلك أو قال: هذا كذب لا يلتفتون لقوله ويقولون هذا صحيح وقاله فلان اليهودي وفلان القبطي وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه. وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له: احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فأقتلني ونحو ذلك من وساوسهم وكثر فيهم الهرج والمرج إلى يوم الجمعة المعين المذكور. فلم يقع شيء. ومضى يوم الجمعة وأصبح يوم السبت فانتقلوا يقولون فلان العالم قال أن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل الله شفاعتهم. فيقول الآخر اللهم انفعنا بهم فاننا يا أخي لم نشبع من الدنيا وشارعون نعمل حظا ونحو ذلك من الهذيانات:
و کم ذا بمصر من المضحکات........ ولکنه ضحك کالبکاء."

سنستمر في المرة القادمة في رؤية المناخ العام قبل ظهور الأسطورة لكن المُلاحظ أنه بعد أكثر من 300 سنة وكأن التاريخ لا يتحرك فوضعنا اليوم يكاد يكون نُسخة من الماضي فلم يتغير أي شئ .هي هي نفس الطبقات مع تغيير المُسميات فقط . فمن الباشا الوالي "المُعين" إلي الرئيس أو الملك الذي يتم تعيينه أو علي الأقل يأخذ "ختم" الموافقة من أمريكا و حلفائها إلي طبقة المماليك و التي تُسمي الآن جيش و شرطة و مخابرات و قضاء "وطنيون". إلي طبقة الشيوخ و "طلبة العلم" لكن هذه الطبقة هي أكثر المُتضررين لأنه يُشاركها الآن "جحافل" من الإعلاميين و الصحفيين و المُثقفين و الفنانين و الفنانات و الطبالين و الراقصات و حتي القساوسة و الإمعات. طيف واسع جداً فمن سلفية مُدعاة تضع الحاكم فوق الله نفسه إلي راقصات صاحبات الإسلام الوسطي ذلك الإسلام الذي يُعامل الله كشخص يؤخذ من كلامه و يُرد .كلهم يلعبون علي الطبقة الوحيدة التي لم تتغير كل تلك القرون , أبناء البلد فنفس الظُلم و القهر و الغباء و التخلف لكن بدل من أن نراه "بالأبيض و الأسود" لأننا لم نُعاصره, فنحن نراه الآن "بالألوان الطبيعة".