الثلاثاء، 21 فبراير 2017

الجيش المصري و شعبه 11

الجيش المصري و شعبه 11
-البداية
(8)


" هُوَذا الْحاكِمِ الْأعْلَى رَاكِب عَلَى حِمَارِهِ وَقَادِم إِلَى مِصْر ، فَيَرْتَجِفُ مَمَالِيكُهَا مِنْ وَجْهِهِ ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْر دَاخِلِهَا. فَيَنْزِلُ عَنْ حِمَارِهِ وَيَقُول: " سَأُهَيجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّين، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاه وَكُل وَاحِدِ صَاحِبِهِ لَنْ يَنْجُوَ أحَدٌ سأدخلها مَدِينَةُ مَدِينَة، وَقَرْيَةُ قَرْيَة وَدَار دَار وَزَنَقَة زَنَقَة حَتَّى أَجَعَلَهُمْ كَالْبَهائِمِ لَا تُفِقْهُ شيئاً، وَسَيَجُفُّ النَّهْرُ وَيُتْلِفُ الْقَصَبُ وَالْأَرْزُ وَالْخَشْخَاشُ، وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النَّيْلِ تَيْبَسُ وَتُتَلَاشَ. وَالْغَلاَّبَة يَبْكُونَ وَيَئِنُّونَ مِنَ الْأسْعَارِ، وَالْأَغْنِيَاءُ يُصِيبُهُمْ دَاءَ السُعَارِ. فَيَذْهَبُونَ يَسْتَشِيرُونَ الشُّيُوخَ الْكبار وَالزَّعامَات وَيَسْأَلُونَ الْعَرَّافِينَ وَالْعَرَّافَات. إِنَّ الشُّيُوخَ الْكبارَ أغْبِيَاء مَشُورَتِهُمْ بَهِيمِيَّة كَيْفَ يَقُول الْوَاحِدُ مِنْهُمْ :" أَنَا مِنْ وَرَثَةِ الْأنبياءِ ! أَنَا الْحَكِيمُ بْنُ الْحَكِيمِ !" فَأَيْنَ هِي حِكْمَتُهُمْ تِلْكً الَّتِي يَدَّعُونَ ؟ لَقَدْ أَضُلُّوا مِصْر فِي كُلِ عَمَلِهَا فَأَصْبَحْتْ كَالْسَّكْرَانِ يَتَرَنَّحُ فِي قَيْئِهِ فَلَا يُكَوِّنْ لِمِصْر بَعْدَ الْآنَ عَمَلُ تُعْمَلُهُ لَهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنْبَ.""
الإصحاح الحادي عشر من سفر الشئون المعنوية


انتهينا المرة السابقة من مُجمل "الرواية الأولي"، وهي رواية الشيخ (عبد الرحمن الجبرتي) فيما يخُص الحملة الفرنسية، والتي رأينا فيها صورة مُصغرة للواقع الذي مازلنا نعيشه حتي الآن مع اختلافات "شكلية"، تم فيها فقط تبديل المُسميات بوضع "وطني" بدلاً من مُحتل؛ فأصبح "جيش الاحتلال" هو "جيش وطني" -رغم أنه لا فرق يُذكر بين الإثنين- ومن شيوخ يرتدون العمامة و "الكاكولا" إلي شيوخ يرتدون البدلة و "الكرافت" -لكن هو هو نفس التعريص بلا أي تغيير- الذين ابدلوا "خليفة" و "والي" باسم "ملك" أو "رئيس"؛ ثم "عوام المسلمين" المُغفلون الذين يُسامون سوء العذاب أياً كان مَنْ يحكم ويدعوهم الشيوخ للتسليم بقضاء الله و عدم الخروج علي الحاكم و يحذرونهم من الفتنة و الدماء؛ لكن حين الحاجة إليهم يدعونهم لبذل دمائهم و لجهاد أعداء الله الخوارج الكُفار، أما الآن فلم يعودوا "عواماً للمسلمين" بل أصبحوا "مواطنين شُرفاء" مُستعدين لمسح موطئ أقدام خُدام الحاكم لكي يرضي عنهم، لكن مع هذا لم تتحسن أوضاعهم فمازالوا في أسفل "السلسة الغذائية" التي يتغذى عليهم مَنْ يحكمهم و مَنْ يُعرّص له.

ورغم أننا رأينا "ثورتين للقاهرة" (1) خلال سنوات تواجد الحملة الفرنسية في مصر إلا أننا رأينا أنها ثورات تُعاني من نفس ما تُعانيه ثورات اليوم من غباء القائمين بها والمشاركين فيها وعدم تعلمهم لدروس بسيطة وبديهية ، هذا طبعاً بالإضافة "للخيانة" و العمالة التي هي صفة مُميزة لقادتهم، مع الأخذ في الاعتبار أنه وقتها لم يكن ما فعلوه يندرج تحت مُسمي "ثورة" بل كان يُسمي "جهاداً"؛ فنصوح باشا الوالي في "ثورة القاهرة الثانية" حينما خاطب العامة لم يقُل لهم "ثوروا" ضد الاحتلال بل قال لهم: «اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم» لكن الكُتاب الوطنيون يأبون إلا أن تكون ثورة لأن الجهاد مُصطلح بالأساس لا يعترف بحدود "وطنية".

ثورة أم جهاد؟ نجد البعض يُحذر من استخدام مُصطلح "ثورة" ويُصر–بغباء- على الترديد الببغاوي بأنه لا ثورة في الإسلام وأنه لا يوجد إلا جهاد وحسب؛ وهذا راجع جزء منه للمفهوم الذي مازال يُردده الشيوخ إلى اليوم بأنه طالما الحاكم "مُسلم" وطالما أن "حدود الشريعة" تُطبق " وأنه "يُسمح" بإقامة الصلوات ولا تُمنع إقامتها، فلا سبيل إلى "خلع" الحاكم مهما كان ظالماً فاسداً عرصاً حماراً غبياً إمعة. رغم أنّ قراءة سريعة للتاريخ الإسلامي كافية بأن تجعل الأعمى يري القمر حين خسوفه، لكنه العناد الغبي، ففي القرون الثلاثة الأولي- وهي خير القرون- لا يُمكن بحال أن نُطلق علي ما نشب بين المسلمين من نزاع و احتراب و قتال علي "مَنْ هو أحق بالحكم و السُلطة" أن نُسميه "جهاد"؛ لأن تلك "الفتن" كما أُطلق عليها لم تكن من أجل "إعلاء كلمة الله" بل كانت من أجل الوصول للسُلطة، وهذا واضح، فالذين "ثاروا" علي عُثمان وقتلوه لم يكونوا يسعون لنشر "كلمة الله" بل فعلوا ذلك لتوليته "ذوي القُربي" و انتشار "المحسوبية" في "حكومته" ؛ والذين رفعوا قميصه المُخضب بالدماء لم يرفعوه طلباً للقصاص بقدر ما كانت حُجة "للقفز علي السُلطة"؛ والذين "تمسحوا" بآل البيت لم تكن عيونهم تزرف الدمع علي الحُسين وأخوته وبنيه الذين قُتلوا واحد تلو الآخر إلا لأن هذا من "شروط الولاية".

لقد كان العالم الإسلامي يموج بتلك "الثورات" من شرقه لغربه وإن كانت في كثير منها تحمل "شعارات دينية" أو كفّر "الخارجون" على السُلطة مَنْ يحكمون، أو شنّع الحاكم على "مُنافسيه" بأنهم "مجوس (2) زنادقة" إلا أنّ محور الصراع لم يكن الدين بل كانت السُلطة هي محوره ومبتغاه وما استُخدم الدين إلا وسيلة فقط لزيادة "السواد والأتباع"؛ إنّ تلك الصراعات والثورات كانت دليلاً على أننا أمام أمة فتيّة في أوج قوتها، على عكس ما نراه مُنذ قرون طويلة حيث تحولت تلك الأمة إلى "وليمة شهية" تتداعي عليها أمم الأرض؛ فالأمة التي لا تُشعل الثورات و الحروب هي أمة ذليلة ميتة ، فلو استطعنا أن نحذف الثورات و الحروب التي مرت عبر التاريخ الإنساني، فما الذي سيتبقى حينها منه إلا أحداث رتيبة مُملة عن أناس يأكلون و يشربون ويتناسلون، حتي أنك تستطيع اختصار هذا التاريخ كُله في عبارة واحدة: " كان يعيش هُنا بشر و ماتوا".

"أبو التاريخ" يسأل: "لماذا الشعب نائم؟"، فتجعلك إجابته تلعن أبو التاريخ علي أم التاريخ قائلاً: "وي كأن الهطل ليس حكراً على "الانقلابيين"!"

فإن كان البعض يقول-غباءً- بأنه: " لا ثورة في الإسلام هو جهاد وحسب"، فالبعض الآخر يقول هذا "تعريصاً" لصالح "ولي الأمر"، فالجهاد هو إما لقتال الكُفار ونشر الإسلام أو دفاعاً عن المُسلمين ومقدساتهم وحيث أنّ "طويل العُمر" حاكم مُسلم فلا محل للكلام عن جهاده، وبتأصيل أنه "لا ثورة في الإسلام" فهكذا لا يكون هناك أي تهديد "للعرش-للعرص"؛ ومن ثم يُدخلك في متاهات الجدال عن "نواقض الإسلام" والتكفير والتي تُستنفذ فيها طاقتك بدون أي جدوى لمحاولة اثبات "كُفر الحاكم". إن هؤلاء الذين لن يتحركوا مع ما يرونه من ظُلم وفساد وعمالة وخيانة إلا إذا كان الحاكم كافراً الأفضل أن يظلوا جالسين أمام الشاشات يُتابعون "عرب أيدول" أو "شيوخ أيدول" المُعرّصين فالأمر سيان فكُلها "أصنام".

لقد رأينا مَنْ يسأل عن: "لماذا لا يثور المصريون؟" فإذا أخذنا هذا السؤال وبدلنا الثورة بالجهاد وقلنا: لماذا لا يُجاهد المصريون؟ هل يا تُري ستتغير الإجابة؟ فلتفكر في الإجابة "مع نفسك" لكن خُذ حذرك فلو نزلت الشارع وسألت أحدهم سؤال كهذا لربما "سبلك الدين" ولو كررت عليه السؤال فغالباً سيُدرك أنك "مُختل عقلياً" أو "إرهابي إخواني ماسوني" أو في أفضل الأحوال سيبتسم قائلاً: "ماهو عزمي "مجاهد" بس عرص بن كلب؛ يا عم سيبك!". فمَنْ لم يتحرك من أجل "قوت يومه" وفضّل العيش بذلة واستمرئ المهانة وسحق الكرامة لا يُمكن أن تجد دعوته ليبذل حياته كي "تكون كلمة الله هي العليا" إلا نظرات السُخرية والاستهزاء. إنّ أي حاكم-مع استثناءات قليلة- مُسلماً كان أو كافراً، مُنذ فجر التاريخ أو حين نهايته، لا يتخلى عن السُلطة إلا بحد السيف؛ لذلك وبعيداً عن أي "تمويهات" جدلية أو مُماحكات فقهية، إن كان حُكام اليوم ومؤيديهم كُفار فجهادهم "واجب" وإن كانوا مُسلمين فالثورة عليهم "سُنة" من سُنن التاريخ.

الرواية الثانية التي سنستعرضها -كما قلنا- هي من كتاب (ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية) لمؤلفه (المعلم نقولا الترك) وحقق الكتاب العميد الركن د. (ياسين سويد) الذي يقول أنّ (المعلم نقولا): «كاتب شامي، اشتهر فيما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (1763م-1828م)، بألمعيته وشاعريته وسعة اطلاعه، وبنسيج من العلاقات الحميمة التي أقامها مع الأمراء والأعيان وكبار القوم في كل من مصر وبلاد الشام. إنه المعلم نقولا بن يوسف بن ناصيف آغا الترك.». ويصر المُحقق-من مُنطلق "وطني"- على كون (نقولا) "سورياً" وليس "لبنانياً" ويعتبر هذا: «افتئات علي الحقيقة التاريخية، وتجاوز للموضوعية العلمية، في سرد وقائع تاريخ هذا البلد.» وليجعلنا نُدرك: «المدى الذي وصلت إليه عملية التضليل التي كرسها بعض المؤرخين اللبنانيين "كحقيقة لا مراء فيها “وذلك من خلال كتابتهم لتاريخ لبنان» ويحتج بمُترجم الكتاب للفرنسية "ديغرانج اينيه Desgranges aîné "(3) الذي يذكر أنّ (نقولا): «"سوري"، وأنه ولد في " دير القمر" بسوريا» خاصة وأن (ديغرانج) نشر تلك الترجمة بعد عشرة سنوات فقط من موت (نقولا): «أي عام 1839، حين كانت "إمارة الدروز" أو "الإمارة الشهابية" لا تزال هي الكيان التاريخي المعروف لهذا الجزء من بلاد الشام.» وأياً كانت "الحقيقة" "فالباحثون" مجموعون-كما يقول- على أن مؤلف الكتاب: «(...) من أسرة يونانية استوطنت القسطنطينية عاصمة السلطنة العثمانية، واعتنقت الكثلكة في اوائل القرن الثامن عشر، ثم نزحت إلى بلاد الشام حيث استقرت في عاصمة الشهابيين. ومن جراء وجودها السابق بالقسطنطينية اكتسبت تلك العائلة لقب الترك.»

وإذا ذهبنا لترجمة (ديغرانج اينيه) والتي حوت كلا النصين؛ النص العربي الأصلي والفرنسي المُترجم، نجده يلفت انتباه قُرائه من »المُستشرقين الشباب الذين كرسوا حياتهم لدراسة لغة مُحمد« بأنه لم ينشر الكتاب فقط ليُقدم لهم نص سهل الدراسة وأسلوبه لا يخلو من جمال(4) ولكن أيضاً لكي «ينشر اسم فرنسا عالياً بين العرب أنفسهم» ورغم أن فرنسا قد خسرت مصر تلك "المُستعمرة الغنية" ولم تستطع الحفاظ عليها بعد أن سيطر عليها "30 ألف من أبناء فرنسا" إلا أن هذا لا يُقلل من أنّ "انتصاراتنا في مملكة الفراعنة القديمة" تدعو للإعجاب وهكذا فبعرضها علي "سُكان جبال الأطلس (5) وهم شهود علي عزيمة جنودنا التي لا تفتر و الأمراء الشباب في طليعتهم فسوف يُمكنهم تعلم تلك الوقائع الخالدة التي أظهرتها قواتنا علي ضفاف النيل»، ثم يقول (اينيه) أنّ كتاب (نقولا الترك) يبدو أنه كُتب "بوعي و موضوعية" رغم عدم معرفة كاتبه بالفرنسية و لم يرجع إلي أي من "الوثائق الرسمية" إلا أنّه قدم، بقدر عال من الدقة، الوقائع التي لم يكن هو شاهد عيان عليها، وعلي ما في الكتاب من أخطاء لكنها في مُجملها ليست ذات أهمية فهي تتعلق «بعدد القوات و أعدد القتلى و الجرحى و السجناء» وأنه في بعض الأحيان لم يكن إلا مُردداً للأخبار التي كانت تُقال في القاهرة. مع ذلك فلا نتوقع أن نجد في هذا الكتاب تحليل نقدي للأحداث التاريخية كما هو الحال «في كُتبنا التي تتناول الأحداث التاريخية والتي تجعل قرأتها كما هي مُفيدة فتكون أيضاً شيقة» كما يقول (اينيه) فهذه الطريقة في كتابة التاريخ «بعيدة عن الشرقيين» فكتاباتهم التاريخية ليست إلا تسجيل زمني للأحداث «خالي من أي بحث عن أسباب الأحداث وعلاقتها ببعضها وعواقب كُل منها» ويذكر (اينيه)-كما نقل مُحقق الكتاب- أنّ (نقولا الترك ) كاثوليكي «ولد عام 1763 في "دير القمر" بسوريا حيث عرفته» وأنّ «عائلته أصلها من إسطنبول كما يُخبرنا هو عن نفسه في قصيدة ألفها تكريما لبونابرت» وقد كان (نقولا) في خدمة الأمير (بشير الثاني) قائد الدروز حيث أرسله الأمير لمصر حيث قضي ثلاث سنوات مدة تواجد الحملة الفرنسية مما مكنه من جمع قدر كافي من المعلومات التي استخدمها في كتابة الكتاب الذي بأيدينا. ويذكر (اينيه) أيضا أنه في المكتبة الملكية بفرنسا يوجد كتاب آخر باللغة العربية يتناول الحملة الفرنسية لمؤلف «مُسلم قاهري يُدعي عبد الرحمن الجبرتي يروي فيه الوقائع التي حدثت في مصر ابان تواجد الجيش الفرنسي.» وأنّ هذا الكتاب يحوي تفاصيل «مثيرة جداً للاهتمام».

لكن قبل أن ندخل في محتوي الكتاب يجب أن نسرد بشكل موجز مُقتضب الأوضاع في الشام في تلك الفترة؛ والتي كانت لا تختلف عن الأوضاع التي رأيناها في مصر، فبدلاً عن الأمراء "المماليك" المجلوبين الذين يحكمون تحت عين ورعاية الباب العالي. كان في الشام هناك "أُسر" تحكم فنسمع عن آل عمر وآل شهاب وآل العظم وآل جنبلاط تلك الأسر الإقطاعية –كالمماليك- في حالة تنافس وتناحر وكل يسعي "للاستقلال" بما تحت يديه وتوسيع منطقة نفوذه. لذلك تجد أنّ هناك حالة سيولة ما بين تحالف وعداوة مستمرة؛ ثم دائما البحث عن قوة-غالبا ما تكون خارجية- للاستقواء والحماية من غضب الباب وسلطانه.

ويقول (فيليب حتى) في "تاريخه" (6) أن الأتراك أبقوا علي: «الدوائر الادارية في سورية على نحو ما كانت عليه في عهد المماليك؛ لكنهم بدّلوا بعض الشيء في نظام التسمية: فدُعيت "النيابة" "ولاية"، وعُرِف "النائب" بـ “الوالي". وصار لقب التعظيم الذي يلي اسم الوالي "باشا"، فصار "للباشوية" و "الولاية" مدلول واحد. وكانت ولاية حلب في وقت ما تشتمل على سبعة سناجق (اقاليم أو مناطق). اما ولاية دمشق، التي اتسعت بإضافة القدس وصفد (مدينة شمال القدس) وغزة اليها، فقد أنيطت بجان بردي الغزالي. وهو نائب دمشق الخائن الذي تواطأ مع زميله نائب حلب (خاير بك) على الغدر بالغوري. بحيث غدا الغزالي هذا النائب الفعلي للسلطان في سورية. اما سائر الدوائر الادارية فقد اسندت الى حكام من الترك. وعلى إثر حركة التمرد التي قام بها الغزالي (بعد موت السلطان سليم الأول) قسمت سورية الى ثلاث ولايات هي: دمشق، مشتملة على عشرة سناجق اهمها: القدس ونابلس وغزة وتدمر وصيدا وبيروت؛ ثم حلب وفيها تسعة سناجق بينها شمالي سورية؛ ثم طرابلس، وفيها خمسة سناجق منها: حمص وحماة وجبلة وسلمية وقد جُعلت صيدا سنة 1660م ولاية من اجل أن تكون مركزاً للرقابة على بيروت.»
خريطة استرشادية (7) للتقسيم الإداري العثماني للشام في 1914م.

لكن ظل (لبنان) له وضعه الخاص كما يقول (فيليب حتى) بسبب ما فيه من «الدروز الاشداء والموارنة المُعتصمين بالجبال(...) فقد قضت الضرورة على السلطة بوجوب اعترافها بمكانة الامراء الاقطاعيين من أهله، لاسيما والخطر الحقيقي إنما كان مبعثه مصر (حيث المماليك) وفارس (حيث الدولة الصفوية). وكان السلطان سليم قد استقبل، وهو في دمشق، وفداً من امراء لبنان على رأسه فخرالدين الأول المعني من أهل الشوف (منطقة جنوب بيروت)»


وكان (فخر الدين المعني الأول) قد نصح "أقرانه" في معركة مرج دابق الشهيرة بين العثمانيين والمماليك "بالتريث" وعدم أخذ جانب لأي من الطرفيين لحين رؤية مَنْ المنتصر لينضموا له. وحين قابل السلطان سليم ألقي خطبة "تعريصية" أعجبت السُلطان فـ «ثبته وباقي الامراء اللبنانيين في اقطاعاتهم، وترك لهم الامتيازات الاستغلالية التي طالما نعموا بها في عهد المماليك، ورتب عليهم جزية خفيفة نسبياً واُعتبر فخر الدين، من ثم، الزعيم الاكبر في الجبل، حتى عرف بـ "سلطان البر". ودرج سلاطين بني عثمان بعد ذلك على حكم الجبل، اما مباشرة بالاعتماد على اتباعهم من حكامه الأهليين، او بواسطة أحد الولاة السوريين المجاورين. وكان هؤلاء الحكام، بوجه العموم، مستقلين استقلالا داخلياً، يخلفون اقطاعاتهم ارثاً لبنيهم، ويمارسون السلطة المطلقة على رعاياهم. ويجبون الرسوم والضرائب على هواهم، ولا يلزمون مع ذلك بتأدية أية خدمة عسكرية الى السلطان؛ بل قد عمدوا احياناً إلى عقد المعاهدات مع الدول الاجنبية.» وكان المتعارف عليه وقتها أنّ تلك «الأسر الاقطاعية» يقوم الأمير بتقسيم ممتلكات الإمارة إلى اقطاعات وتُوزع على «"المقدمين" أو "المشايخ"».

ويقول (فيليب) أن تلك الانتهازية الميكافيلية لـ«زعماء لبنان الإقطاعيين» ليست غريبة عليهم فهم قد زاولوها "ببراعة" حتى قبل أن يكتب "ميكافيلي" رسالته "بقرون طويلة" «فلعبوا لعبتهم هذه في غضون القلاقل التي ادت الى قيام الفاطميين والايوبيين والافرنج والمماليك والتتر اسياداً عليهم. وعندما احتل الصليبيون بيروت وصيدا، استولى امراء الغرب من بني بحتر على بعض الأراضي المجاورة واتبعوها في قطاعاتهم، وقدموا خدمات عسكرية للإفرنج ولم يترددوا مع ذلك في انشاء علاقات مماثلة مع المماليك (...) وفي غضون النزاع الذي نشب بين التتر والمماليك، كان لهؤلاء الامراء احياناً ممثلون في الجهتين، وهو موقف يضمن لهم ان يكونوا في الجانب الفائز أيا كان هذا الجانب. وهكذا فان سياسة الانتظار والحذر والمداهنة، التي زاولها ابناء هذه السواحل في القرن الرابع عشر قبل الميلاد استمروا عليها حتى عهد فخر الدين والامير بشير.» ونتيجة لذلك وبعد الفتح العثماني أصبح "بنو معن" لهم الكلمة العليا في «لبنان الأوسط والجنوبي» وفي عام 1590م حين تولي (فخر الدين الثاني) -حيث بلغ نفوذ المعنيين ذروته- تسلم ولاية بيروت وصيدا من السُلطان أحمد في ذلك الوقت؛ لكنه سُرعان مع ازدادت شهيته للمزيد، فحمل على والي طرابلس (يوسف سيفا) في الشمال-مع أنه والد زوجته- و «انتزع من يده السيطرة على لبنان الشمالي. ولم يلبث بنو حرفوش من شيعة بعلبك؛ وزعماء البدو في البقاع وفي المنطقة الجنوبية حتى الجليل، ان خضعوا لأمير لبنان الناهض.»

ثم تحالف (فخر الدين) مع «ثائر من زعماء الاكراد اسمه على جانبولاد (جنبلاط) قد استأثر بالحكم في ولاية حلب سنة 1606م» واتسعت الرقعة التي يسيطر عليها وأصبح لديه من الموارد المالية ما مكنه من تشكيل جيش قوي وازدهرت حركة التجارة في عهده ثم أخير أفاق السلطان أحمد من سُباته العميق فوجه له جيشاً في عام 1613م «لم يتمكن أن يقوم بعظيم أمر في ثنايا الجبال» لكن حين وصول بوارج السُلطان من البحر لتحاصره قرر فخر الدين «بوحي العقل» أن يُغادر لبنان ويذهب لإيطاليا وترك الإمارة لأبنه (عليّ) يساعده أخو فخر الدين (يونس). لكنه يعود مرة آخري بعد خمس سنوات مٌحبطاً بعد أن فشل في أن يعود «بحملة من الدول الأوربية والبابا معه». ليستكمل ما بدأه ويسترجع ما فقده وتخدمه الظروف فيموت حماه (يوسف سيفا) فيصبح الطريق امامه خاليا مما يضطر الباب العالي في 1624م للتعامل مع الأمر الواقع والاعتراف بـ(فخر الدين) «سيداً على "عربستان" من حلب حتى حدود مصر» لكن المُلفت للنظر-والطريف في نفس الوقت- أنه لا أحد يعلم ماذا كانت "ملة" فخر الدين ومن جاء بعده من الأمراء حيث ينقل (فيليب حتي ) عن دارفيو(8) «أنّ الأمير كان علي دين قومه "الذين لا دين لهم"» والبعض يقول أنه تنصر و لكن (حتي) يُرجح أنه من «المحتمل أنه كان هو وسائر المعنيين قد اعتنقوا الاسلام في الظاهر، امام اصحاب السلطة من العثمانيين وأمام جمهور الناس، ولكنهم احتفظوا ضمناً بالدرزية ومارسوها مع ابناء قومهم.» هذه الشخصيات "الانتهازية" التي لا تعرف "ملتها" والمتلونة حسب "البيئة" المُحيطة هي النموذج السائد في تلك الفترة حتى الآن؛ وما "الحاج محمد علي باشا" مُنشئ اسطورتنا إلا نموذج مُبتذل لها.
"يُحكي أن مجلس من اللصوص والحرامية كان في مأزق خطر؛ فاستعان بجماعة من الانتهازيين والمعرّصتية ليُساعدوه، فلما زال الخطر وضع المجلس الجماعة في السجون لحين الحاجة إليهم، فظنت الجماعة أنهم "أصحاب قضية"" قصة قصيرة مُملة من حياة المصريين.

بعد أن وصل الأمر لهذا يوجه السلطان (مراد الرابع) واليه على دمشق (كوتشك باشا) في 1633م بالتوجه لمحاربة (فخر الدين الثاني) وفي نفس الوقت يتوجه اسطول من البحر لحصاره فيتفرق عن (فخر الدين) "حُلفائه" ويُقتل ابنه (عليّ) في المعارك فيهرب ليختبئ لكن يُكشف مكانه ويقاد مكبلاً للقسطنطينية عام 1635م حيث يتم «حز رأسه ورؤوس أبنائه الثلاثة الذين اعتقلوا معه» وهكذا تم انهاء حُكم المعنيين فينتخب أعيان لبنان عام 1697م الأمير (بشير الشهابي الأول) ليبدأ حُكم الشهابيون وبعد بشير الأول يأتي الأمير (حيدر الشهابي ) عام 1707م ثم ابنه (ملحم) في 1732م «الذي اضاف البقاع و بيروت الى ممتلكاته ، لكنه ابقى قاعدته في دير القمر. وتأتى عن هذا التوسع اصطدامه بوالي صيدا ووالي دمشق، وكلاها من آل العظم» ويؤدي هذا الصراع بين تلك "الأسر" «إلى قيام وضع جديد في سياسة الاحزاب اللبنانية، هو انقسامها الى جبهتين: آل جنبلاط، وآل يزبك، وكان بنو جنبلاط قد أصبحوا من اقوى الاسر الدرزية واوفرها ثروة. اما آل يزبك فقد تحدر إليهم هذا الاسم من زعيم لهم من آل عماد، وهم كذلك اسرة درزية جاءت اصلا من منطقة الموصل. وقد اتسع هذا الانقسام حتى تخطى الطبقة الارستقراطية وتسرب الى الموارنة. وهذا النزاع الذي نشب بين الاسر في العقود الاخيرة من القرن الثامن عشر، استمر ناشطاً حتى العقود الأولى من القرن العشرين.»

ثم يتنازل الأمير ملحم في 1754م عن الإمارة فيتنازع أخواه منصور وأحمد عليها؛ فيميل آل جنبلاط لمنصور بينما يميل آل يزبك لأحمد لكن حينما يبلغ (يوسف بن ملحم) أشده يحسم تلك الخلافات ويتولى الإمارة فيتنازل له منصور عنها ويُنادي بيوسف «حاكماً على الجبل». لكن قبل ذلك ظهرت شخصيتان تُنافس الشهابيين على مناطق النفوذ هما (ظاهر العمر-(1689م-1775م)) و (أحمد باشا الجزار-(1734م-1804م)) ففي «حوالي سنة 1737م ظهر على المسرح السياسي شاب بدوي اسمه ظاهر العمر (آل عمر)، كان الامير بشير الاول قد عين اباه شيخاً، والحقه بحاكم صفد.» لكن ظاهر استطاع توسيع منطقة "مُلكه" فضم طبرية واستعان «بالشيعة في الجليل الاعلى وهم الذين تحملوا طويلا ظلم الموظفين الاتراك، لتحرير المنطقة من حكامها. فكانوا على اتم الاستعداد لتأييد اي زعيم يعمل على تحريرهم. ولم تلبث نابلس والناصرة ان خضعتا له: وكانت الغنيمة الكبيرة التالية، التي وقعت في يده، مدينة عكا (1750م)؛ وكانت في حالة من الدمار الجزئي منذ عهد الصليبيين، فحضنها المغتصب الجديد وجعلها مقره» وتحالف ظاهر أيضا مع (علي بك الكبير) الذي استغل ضعف تركيا وهي مشغولة بحرب ضروس مع روسيا فأرسل تابعه (محمد بك أبو الذهب) -والذي سيخون سيده بدوره- للسيطرة على دمشق في 1770م فينجح في هذا. في تلك الفترة جاء أحمد الجزار هاربا من مصر؛ ويدخل في حماية الأمير يوسف الشهابي حيث ستبدأ أولي خطواته نحو "المجد".

ونقرأ في صحيفة "البريد المصري"(9) التي كانت تُصدرها الحملة الفرنسية للجنود لرفع الروح المعنوية لهم، نبذة عن تاريخ الجزار فتقول «لقد تكلمنا كثيراً عن الجزار باشا في هذه الصحيفة ولذلك فنبذة عن تاريخ هذا المُغتصب للحكم لن تكون في غير موضعها. ولد الجزار في البوسنة واسمه الحقيقي أحمد فرّ إلي القسطنطينية وعمره 16 عام هربا من العقوبة بسبب محاولته اغتصاب امرأة أخيه(10) ولما لم يكن يمتلك شيئاً باع نفسه لتاجر عبيد الذي كان يجلبهم لجيش المماليك» ثم بعد فترة حين جاء الجزار لمصر عمل لدي عبدالله بيك  كاشف البحيرة (11) لكن بدو البحيرة قتلوا هذا الكاشف فانتقم له الجزار بأن أعمل فيهم القتل و حز منهم الرؤوس الأمر الذي أكسبه شهرة و حصل علي اللقب "الشريف" الجزار، وأصبح من تابعي علي بيك الكبير الحاكم الفعلي لمصر في ذلك الوقت الذي استخدم "قُدرات" الجزار في التخلص من مُعارضيه فيُثبت جدارته و يمنحه علي بيك البكوية فيصبح أحمد بيك الجزار لكن حين يأمره بقتل صالح بيك –وهو مُنافس علي الكبير في الزعامة- يرفض الجزار لصداقته له فيأمر عليّ بيك تابعه محمد أبو الذهب بقتل كُلاً من صالح و الجزار؛ فأحس الجزار بذلك فهرب مرة ثانية لاسطنبول، ثم يدخل «كجندي في قوات الأمير يوسف أمير الدروز، حيث كان صعوده بشكل سريع فيُعيينه يوسف حاكماً علي بيروت المدينة الساحلية السورية لكن بالكاد تقع المدينة تحن سيطرته حتي يُسلمها للأتراك.» فيتحالف أعداء الأمس ظاهر العمر والأمير يوسف مع الروس لاستعادة بيروت فيهاجموها براً فحين تقصفها البحرية الروسية، فلا يجد الجزار بُدا إلا التسليم لكن (ظاهر العمر) يُعامله "برفق"-احتمال أنه رأي فيه شخصية يمكن الاستفادة من "قُدراتها" – ويدخله في تابعيه لكن الجزار يهرب من جديد ويدخل في حاشية السُلطان التركي وينعم عليه السُلطان عبدالحميد حين توليته بلقب باشا و يجعله حاكماً لصيدا ويصبح سيد الأمس أمير الجبل (يوسف الشهابي) تابعاً له فيظل الجزار مُتربصا به مضيقا عليه و يستغل ما بين الأمراء من نزاع  فيدعم آل جنبلاط لحربه وبعد أن يُدبر يوسف الشهابي انقلابا فاشلاً علي عدوه اللدود الجزار يتنازل عن الحُكم ويقوم الجزار بشنقه ليظهر أمير جديد للجبل تابعاً للجزار وهو الأمير بشير الثاني الذي كان لا يقل دهاء ووحشية عن الجزار نفسه. أما ظاهر العمر-الرفيق- فيبعث الباب العالي بناءً على دعوات الجزار، بأسطول يضرب عكا بالمدافع في حين يُحاصرها الجزار بقواته وفي النهاية يستسلم "الظاهر" ولكن الجزار لا يُظهر أي رفق به ويقتله ويأخذ عكا ضمن سًلطانه ويبدأ في تحصينها وتكوين "جيشه" الخاص حيث يُصبح "رجل الشام القوي".

في تلك الأجواء بدأ الشاب اليافع الأمير بشير الثاني "الكبير"(1767 م – 1850م) إمارته الذي تمرس على الخداع والمؤامرات والنفاق لكي يبقي؛ وهو كسابقيه لا تُعرف له ملة لكن في عهده ستبدأ عملية تنصير للشهابيين بسبب أن كثير من القري الدرزية ونتيجة للاستعانة بالموارنة كعمال وفلاحين أصبحوا أكثرية فرأي الأمير أن تكون "نُصرانياً" أفيد وبالتالي سنجد أن كثير منهم قد "غيّر دينه" –الغير معروف أصلاً- "للدين الجديد". وسينتج عن هذا التغير "الديموغرافي" الكثير من المشكلات تأخذ شكل "الحروب الأهلية" التي ستستمر حتى وقتنا الحاضر. وستستثمر "القوي العظمي" هذا التشرذم والتفتت" فتخضع كُل أقلية "لحماية" دولة كبري تستغلها للحفاظ على مصالحها فتكون النُصيرية تحت حماية روسية والموارنة النصاري تحت حماية فرنسية أما الدروز فحمايتهم انجليزية.

المرشحة للرئاسة الفرنسية (مارين لوبان) عن حزب الجبهة الوطنية اليميني "المتطرف" في زيارتها الأخيرة للبنان.

ولهذا نستطيع ان نفهم لماذا أرسل بشير الثاني المعلم نقولا لمصر أثناء الحملة الفرنسية عليها فهو كان يُريد أن يعرف هل تستطيع فرنسا مُساعدته؟ وهل ستستطيع الانتصار؟ لكي يري مَنْ سينتصر ليكون معه كما فعل فخر الدين قبلها بقرون. فنابليون -كما رأينا- في رواية الجبرتي كان قد بعث هدايا ورسائل للجزار فهو أيضا بعث برسائل لبشير الشهابي. فيقول نابليون في رسالته (12) للجزار بتاريخ 22 أغسطس 1798م يستميله ويعرض عليه صداقته بلهجة "رقيقة عذبة" «بقدومي لمصر ومحاربة البكوات (المماليك) قد فعلت ما هو في مصلحتك فهؤلاء كانوا أعدائك أيضاً فأنا لم آتي هنا لكي أحارب المُسلمين. يجب أن تعرف أنّ أول ما فعلته حين دخلت مالطا هو أني حررت 2000 من الأسري الأتراك الذين كانوا لسنوات يئنون تحت أغلال العبودية. وحين وصولي مصر طمئنت الناس وحميت المُفتين والأئمة والمساجد، ولم يري الحُجاج (لمكة) مثل ذلك الترحيب والعناية والمحبة من قبل؛ وكذلك المولد النبوي قد احتفلنا به بأبهة وعظمة لم تحدث أبداً. ابعث إليك بهذه الرسالة مع ضابط؛ والذي سيُعلمك وجها لوجه بنواياي أن نتعايش سوياً بسلام؛ وأن نتعاون فيما تُمليه علينا مصالح البلاد، فالمسلمين ليس لهم إلا الفرنسيين أصدقاء أعزاء.»

ويقول الجبرتي أن الجزار حين مقدم "بوفوازان" حامل رسلة نابليون «لم يواجهه ولم يأخذ منه شيئاً وأمره بالرجوع من حيث أتى، وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.» لكن (المعلم نقولا) ينقل لنا تفصيل أكبر لهذا المشهد حيث يقول «توجه ذلك الكوميسارية المدعو باظان (بوفوازان) من مصر الى دمياط، ومن هناك توجه في مركب احمد باشا الجزار الذي كان رابطاً في الميناء، واصحب معه ترجماناً واثنين من التجار. ولما وصل إلى اسکلة (ميناء) عکا، فكتب الكومیساریة باظان إلي الجزار يُعلمه عن قدومه من طرف أمير الجيوش بونابرته. ونزل القبطان إلي عكا، وحينما دخل امام الجزار فسأله عن مصر وعن احوالها، وعن سبب خلاصه من مدينة دمياط، فأجابه القبطان: ان الفرنساوية أطلقوا سبيلي، وحضر معی کومیساریة من طرف سر عسكر هم بكتابة، وهو الان معي في الركب، ثم اعطاه كتاب الكوميسارية باظان. فلما فهم الجزار ذلك الخطاب اشتد به الغيظ والغضب، وقال للقبطان: وجه هذا الكافر ودعه يسافر. وان لم يرجع في الحال من هذه الديار احرقته بالنار. ثم سأله من الذي اتي معه، فقال له القبطان: ليس معه سوي تُرجمانه واثنين من التجار، وهم نصارى من ابناء العرب. فقال الجزار: اخرج التجار بأرزاقهم الى البلد، ودع الكافر حالا يسافر. ورجع القبطان الي المركب واعلم الکومیساریة بما سمع من الجزار. وفي الحال احضر له مركباً صغيراً ورجع إلى دمياط من غير تأخير، وقبض الجزار على تلك التجار. وكان بين الجزار وبين الفرنساوية عداوة قديمة وبغضة جسيمة من طرد قناصلهم من بلاده، فلهذا السبب ما كان يود منهم امانا.»

لكن يبدو أن بونابرت لا يعرف اليأس فيبعث له رسالة آخري في 19 نوفمبر 1798م أكثر حزما بعد أن وصلته الأخبار بالتحضيرات التي تجري في الشام للهجوم عليه حيث كان المماليك الفارين والجزار قد أرسلوا "مكاتيب" تحث الناس على "الجهاد" ضد الفرنسيين وتُمنيهم بأنهم قادمون لنجدتهم قريباً؛ فيها يقول نابليون «أنا لا أريد أن أحاربك، طالما أنك لست عدوي، لكن حان الوقت لتُوضح موقفك، فإذا واصلت إيواء إبراهيم بك وأعطيته مأوي ووضعته على حدود مصر، سأعتبر هذا عمل عدائي وآتي لأحاربك في عكا. إذا أردت العيش بسلام معي؛ فلتُبعد إبراهيم بك لمسافة 40 ميلاً بعيداً عن حدود مصر، ولتدع التجارة تبحر بحُرية بين دمياط وسوريا. عندها أعدك أن أحترم ولاياتك وأن تكون هناك حرية تامة للتجارة بين مصر وسوريا سواء براً أو بحراً» لكن الجزار لن تُخيفه لهجة التهديد تلك وسيستمر في تحريضاته وتحضيراته فيبدأ نابليون الاستعداد لحملته علي الشام، ففي رسالة نابليون "للمكتب التنفيذي" الحاكم بفرنسا في 10 فبراير 1799م يخبرهم فيها أن الإنجليز قد حصلوا للجزار علي ولاية دمشق من الباب العالي و أن هناك تحضيرات "لغزو مصر" وأنه سيذهب لمُلاقاتهم ويخبرهم فيها عن شخصيه غريمه «الجزار باشا رجل عجوز يبلغ الستين عاماً؛ رجل متوحش ولديه كراهية شديدة للفرنسيين لقد ازدري كل المبادرات الودية التي قدمتها له أكثر من مرة» ثم يُقدم لهم أهداف حملته فيقول أنه يُريد أولاً أن يؤمن امتلاكه لمصر بأن يُنشي منطقة محصنة فيما بعد حدود مصر وبذلك يمنع أي جيش كان من دخول مصر براً بالتحالف مع جيش أوربي يأتي عن طريق الساحل. وثانياً أن يُجبر الباب العالي أن يكون في موقف الدفاع وأن يضغط عليه للقبول بالدخول بالمفاوضات. ثالثاً أن يحرم السُفن الإنجليزية من خط إمداداتها التي تعتمد عليه في سوريا.

وفي 9 مارس 1799م بعد دخول نابليون يافا يبعث برسالة آخري للجزار-لعل وعسى أن يُحكم صوت "العقل"- فيقول «مُنذ دخولي مصر قد أعلمتك أنّ ليس من نواياي مُحاربتك وأن هدفي الوحيد هو طرد المماليك، لكنك لم تُجب على أي من مُبادراتي التي قدمتها لك. ولقد أعلمتك أنني أريدك أن تُبعد إبراهيم بيك عن حدود مصر. لكنك بدلاً من أن تُبعده أرسلت قواتك إلى غزة (...) ولذلك كان على مُغادرة القاهرة وأن أحضر بنفسي لمُحاربتك، فكما يبدو ان هذا ما تسعي إليه (...) لم تعد أمامي إلا أيام قلائل لأصل عكا؛ لكن لأي سبب أنتزع ما تبقي من سنوات لرجل عجوز لا أعرفه؟  ماذا تفعل عدة أميال بجانب بلد قد فتحتها؛ وحيث أنّ الإله قد اعطاني النصر أريد أن أكون مثله كريماً رحيما؛ ليس فقط بإزاء الناس البُسطاء بل وللعظماء أيضاً. أنت ليس لديك أسباب حقيقية لتكون عدوي لأنك كنت عدواً للمماليك؛ ومنطقة حُكمك مفصولة عن مصر بغزة ورملة (شمال غرب القُدس) وبصحراء مصر الواسعة. فلتكن صديقي ولتكن عدواً للمماليك والإنجليز. فبقدر الأضرار التي سببتها لك والتي مازلت سأفعلها بك بقدر ما ستري مني من الخير. فلترسل لي ردك مع رجل مُفوض من قِبلك ويعرف نواياك وليُقدم نفسه لحراسي وهو يحمل راية بيضاء وسأعطي الأوامر لقادتي لأن يبعثوا إليك بتصريح مرور، ستجده مُرفق مع تلك الرسالة. سأتحرك إلى عكا في 24 من هذا الشهر لذلك يجب أن تبعث بردك قبل هذا.»

هناك جيوش تعبر البحار والقارات لتُسيطر على أمم وشعوب. أما الجيش المصري فمتُخصص في "بوس الواوا" وحرق "العشش".

 لكن الجزار مازال عند موقفه وفي آخر رسالة يبعثها له نابليون يقطع رأس حاملها. وعندما بدأت التحضيرات لحصار عكا يطلب الجزار من الأمير بشير مُساعدته، لكن الأمير يتلكأ ويُماطل ولكنه لم يعلن وقوفه جانب الفرنسيين صراحة؛ فيبعث نابليون برسالة للأمير يُغريه ويُمنيه، ويُعدد له إنجازاته في السيطرة على مصر وانه اتجه للشام بعد دخول قوات الجزار فأخذ العريش وغزة ويافا ودمر جيشه وأنه بدأ في حصار عكا ثم يقول «أنا مُتلهف لأعلمك هذه الأخبار لأني أعلم أنها ستسرك فتلك الانتصارات ستدمر طاغية متوحش والذي سبب الكثير من الآلام للأمة الدرزية الشجاعة كما سبب لكل الجنس البشري. أعتزم أن تحصل الأمة الدرزية على استقلالها وأن أخفف عنها الجزية التي تدفعها واعطيها ميناء بيروت والمدن الآخري الضرورية لحركة التجارة الخاصة بها. أرغب في أقرب وقت ممكن أن تأتي بنفسك أو تُرسل من يُقابلني هنا أمام أسوار عكا؛ من أجل أخذ كافة الترتيبات اللازمة لنتخلص من عدونا المُشترك. يُمكنك أن تُعلن في كل القُري الدرزية أن من يأتي بالمواد الغذائية لمعسكرنا وخصوصاً النبيذ والخمر سيُدفع لهم بدون نُقصان.» وسيتغاضي بشير عن إمداد الجيش الفرنسي بالمواد الضرورية لإعاشته لكنه في نفس الوقت لن يجرؤ أن يرد علي نابليون بالموافقة أو القبول حتي يتأكد من رؤية رأس الجزار مُعلقة علي أسوار عكا. لكن الجزار بمًساعدة الإنجليز سيصمد أمام حصار نابليون. وحين يرجع الفرنسيون من حصارها للأسباب التي وردت في رواية الجبرتي السابقة سيهرب الأمير بشير من وجه الجزار علي متن السُفن الإنجليزية وتحت حماية سيدني سميث أدميرال البحر الإنجليزي لكنه سيعود مرة آخري بعد فترة قصيرة ليُنكل بمُعارضيه ويستعيد إمارته من جديد لكن حكمه لن يستقر - إلي حين- إلا بعد موت الجزار في 1804م.

بعد تلك المُقدمة نستطيع أن نبدأ في رؤية الرواية الثانية وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الجبرتي إلا في بعض التفاصيل والاختلافات القليلة والتي قدمت لنا الخطوط العامة لما جري أثناء الجملة الفرنسية. فيمكن اعتبار رواية نقولا الترك-بشكل عام- كتلخيص لرواية الجبرتي تخلو من التفاصيل الكثيرة- وخصوصا فيما كان يجري في القاهرة- التي حوتها الرواية لذلك ومنعا للتكرار -الذي لن يُفيد- سنحاول أن نُركز علي ما قد تضيفه تلك الرواية للظروف والأجواء التي نشأت فيها اسطورتنا؛ لكن هذا سيكون –إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) بما أن الجبرتي كان من سُكان القاهرة فمن الطبيعي –خصوصا في تلك الفترة- أن تكون هي المركز الذي تدور حولها روايته.
(2) ومازال إلى اليوم يتم استخدام نفس الاسلوب -بل وحتى نفس التسميات- فيُطلق على الرافضة "مجوس-يهود" أو يُطلق علي الدولة الإسلامية "خوارج-ملاحدة" ورغم ما تحوي تلك الأوصاف من تناقض إلا أنه يبدو أن لا أحد يُعير هذا انتباهاً.
(3) Histoire De L’expédition Des Français En Egypte Par Nakoula El-Turk Publiée Et Traduite Par M. Desgranges Aîné Secrétaire Interprète Du Roi Louis-Philippe, 1839.
(4) لا أعرف أي جمال هذا فأسلوب الكتاب في غاية الركاكة.
(5) جبال الأطلس الشهيرة التي تمتد من تونس وحتى المغرب. في تلك الفترة كانت فرنسا تحتل تونس والجزائر وأجزاء من المغرب.
(6) تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، تأليف الدكتور (فيليب حتى) وهو ترجمة لكتابه باللغة الإنجليزية: History Of Syria.
(8) لوران دارفيو (1635م-1702م) رحالة ودبلوماسي فرنسي.
(9) Courier De L’Egypte N°6 29 Jan 1799.
(10) لا نعرف دقة هذه "المعلومة" خصوصاً انها تأتي من أعداء الجزار. وينقلها (فيليب حتى) بقوله انه ارتكب "جُرماً أخلاقياً" وينقل “قصة" آخري عن وحشيته في قتله نسائه حين اكتشافه خيانتهم بطريقة مروعة نجد هذه "القصص" وغيرها في كتاب:
Edouard Lockroy., 1888Ahmed le Boucher. La Syrie et l'Égypte au XVIIIe siècle, 
(11) كل ولاية كانت تُقسم إدارياً لـ"سناجق" وكل سنجقيه تُقسم ايضاً بدورها ويطلق على "رئيس" هذا القسم من السنجقية "كاشف".
(12) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte,Tome 2.0

الأربعاء، 1 فبراير 2017

الجيش المصري و شعبه 10

الجيش المصري و شعبه 10
-البداية
(7)

" فَأَجَابَه الشَّعْبُ قائلين: " حَاشَانَا أَنْ نَعْبِسَ فِي وَجْهِكِ أَوْ نَتَذَمَّرَ مِنْ حُكْمِكِ فَلَيْسَ لَنَا حاكِمٌ غَيْرَكَ أَنْتَ وَحْدُكَ مَنْ يَسْتَحِقْ، فَقَدْ خَلّصْتَنا مِنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ، وَوَحَدْكَ صَنَعْتَ عَجائِب وطَرَائِف وحَفْرْتَ قَنَواتْ وتِرعَ عَلى النَاشِفْ ". فَيضْع الْباَشَا سَوطْه ويقول: " هَا أَنْتُمْ قُلْتُم، أَنْتُمْ مَنْ استَدعَيتمُوني، فَكُوِّنُوا شُهُودً عَلَى أَنْفُسِكُمْ لِأَنَّكم إِنْ طَلَبْتُم مِني الرَحِيلَ أَوْ ذَهَبْتُم تَبْحَثُونَ عَنْ غَيْرَي فَلَنْ تَأْخُذَنِي بِكَمْ رَحْمَة ". فَيرفَع الشَّعْبُ أَياديه مُبتهلاً: " فَلَتَشْهَد عَلَينَا غِرْبَان السَّمَاءِ وَفِئْرَانُ الْأرْضِ أَنَّكَ وَحْدُكَ حاكِمُنَا، بِكَ نَكُونً وَبِدونَكْ لَا يَكُون شَيْء، اِفْعَلْ مَا تَرِي وَاُمْرُنَا بِمَا تُرِيد، سَنكونْ طَوْعًا لِأُمرِكَ وَخَاتَماً لِإِصْبَعِكَ بَلْ حَتَّى لَوْ أَرَدْتَ سَنكُونْ ضِبَاعاً وكِلاباً تَحرُسَكَ وبِغَالاً ونِعَالاً تَحْمِلكَ". في تِلك اللحْظَة تُسْمِعُ أَصْوَاتَ تَأْتِي مِنْ خَلفِ البَاشَا تَهْتِف: " أَنْتَ هُوَ حاكِمُنَا الْأعْلَى ... أَنْتَ هُوَ حاكِمُنَا الْأعْلَى ". فَيَخِروا له سُجوداً مُردْدْين: " نَعَمْ أَنْتَ هُوَ ..... أَنْتَ هُوَ ""
الإصحاح العاشر من سفر الشئون المعنوية


توقفنا المرة السابقة عند تسلم عبد الله جاك مينو في 18 يونيو 1800م "الرئاسة" بعد مقتل كليبر وكان نابليون بعد انتصاره المُدوي على القوات العثمانية والتي كانت تُساندها البحرية الإنجليزية وقبل مغادرته لفرنسا قد أرسل لمينو خطاباً (1) في 23 أغسطس 1799م بتعيينه حاكماً لرشيد والإسكندرية والبحيرة جاء فيه: "    أيها المواطن جنرال (2) فلتذهب على الفور للإسكندرية فسوف تأخذ قيادة الإسكندرية ورشيد والبحيرة حيث سأغادر هذا المساء لفرنسا. الجنرال كليبر سيعود إلي رشيد في غضون يومين أو ثلاثة تأكد أن تُسلمه في وقت مناسب الظرف المطوي المٌلحق بهذا الخطاب والذي أعطيتك نسخة منه [...]"  و حينما نقرأ الرسالة التي أرسلها نابليون لكليبر نجد فيها إخباره بتعيينه قائداً للجيش و تعليمات و ارشادات و نصائح لما يجب عليه عمله و لكيفية إدارة الأمور في حال اضطر إلي الدخول في مفاوضات مع العثمانيين للخروج من مصر, لكن ما يهمنا الآن ما يقوله عن كيفية السيطرة علي "الجماهير" بدون أن يدخل في صدام مع ما يؤمنون به ويعتقدونه , حتي إذا تمكن من ذلك صار من السهل عليه هدم تلك المُعتقدات بسهولة مع الوقت . فبعد أن يوضح أهمية مصر لفرنسا حيث أنّ: " [...] الإمبراطورية التركية يتهددها الدمار من كُل جانب فهي اليوم في طريقها للسُقوط والرحيل عن مصر سيكون أعظم حسرة من أن نري تلك الولاية الجميلة تقع في أيد أوروبية آخري غيرنا[...]" يخبره بما يجب عليه فعله لكي يُحكِم سيطرته: " أنت تعرف أيها الموطن جنرال وجهة نظري في الطريقة التي يجب أن تُدار بها السياسة الداخلية في مصر. فالنصارى سيكونون دوماً أصدقائنا لذلك عليك أن تمنعهم من أن يكونون مُتغطرسين أكثر من اللازم لكيلا يوجه لنا الأتراك نفس التعصب (3) الذي يوجهوه لهم وعند هذا نكون قد جعلنا الأمر غير قابل للحل فأولاً يجب تخدير التعصب قبل أن نقتلعه من جذوره. إنه بأسر والاستحواذ على آراء شيوخ القاهرة الكبار نكون استحوذنا على رأي مصر كُلها وكل الزعامات التي من الممكن أن تكون لهذا الشعب. ليس هناك شيء أكثر خطورة من شيوخ خائفين جُبناء لا يعرفون القتال ولكنهم مع ذلك –كأشباههم من القساوسة- يثيرون التعصب في نفوس الناس بدون أن يكونوا هم أنفسهم مُتعصبين [...] لقد طلبتُ بالفعل عدة مرات أن تأتي (لمصر) إحدى الفرق المسرحية، لذلك سوف اُولي الأمر عناية خاصة لأرسلهم لك فهذا في غاية الأهمية للجيش وللبدء في تغيير عادات وتقاليد هذا البلد[...] إن المنصب الهام الذي ستشغله كقائد سيضع مواهبك التي أعطتك إياها الطبيعة موضع التنفيذ. إنّ الفائدة لما سيحدث هنا جلية واضحة للعيان ونتائجها ستكون هائلة على التجارة وعلى الحضارة. إنّ هذا سيكون عصراً يُؤرخ فيه لثورات عظيمة [...] "

لكن كليبر لم يستمع لنصائح وإرشادات "المعلم نابليون" ولم "يُلاطف ويُلاعب" الشيوخ الكبار فكانت نهايته علي يد "أهوج، آثم", أما عبد الله جاك مينو فيبدو أنه حاول أن يتفوق على استاذه فأعلن إسلامه وتزوج من "مُسلمة" (4) حتى لو تسبب هذا في أن يُصبح موضع سخرية الجنود الفرنسيين التي كانت تسخر من هذا القائد الذي يُصلي خلف الشيوخ، لكن مينو لم يمنعه استهزاءهم من أن يستمر "مُسلماً" حتى يخرج الفرنسيون ويعودا لبلادهم فيرجع مرة آخري "كافراً" بمنتهي البساطة. فيخبرنا مينو في بعض مُراسلاته عن لمحة "لمُعتقده الديني". فنجده في مُراسلاته -على سبيل المثال- مع الفارس بول لويس لاسكاريس الذي كان مينو يسخر من "مشاريعه" و طموحاته فلاسكاريس يبدو أنه كان من النوع "غريب الأطوار" الذي يعتقد في نفسه أنّه مع موعد مع القدر ليظهر عبقريته التي لا مثيل لها حيث يقول في رسالته لمينو يشرح له فيها مشاريعه و أفكاره في 13 يوليو 1800م: " كُل انسان في هذه الدُنيا يتبع دون أن يدري الطريق –خيراً أو شراً- الذي رسمه له القدر فالبعض يصنع الانتصارات و البعض يصنع الأحذية [...] أما أنا، أيها المواطن جنرال, فأصنع المشاريع هذا هو قدري! [...] دائما ما أضع نفسي فوق هذا العالم المادي والأخلاقي. هناك في العدم حيث أغرقتني الصُدفة مُنذ سنوات أُفكر بسهولة ويُسر, وإذا جرؤت أن تتحدي قُوتي الهائلة أي صعوبة فبسرعة تستطيع مُخيلتي أن تتغلب عليها[...]"

مع ما قد يبدو أن لاسكاريس كان يُعاني من حالة مُتأخرة من "تضخم الذات" إلا أن "مشاريعه" تم تحقيقها فيما بعد ولكن ليس "بالطريقة" التي تخيلها، ثم يواصل رسالته لمينو مع علمه أنه سيسخر منه كما يقول: " لقد انتهزت الفرصة، أيها المواطن جنرال، لأقدم لك كيفية السيطرة على مصر للأبد عن طريق الاثار السلبية لتعصب سُكانها. وقد ظللت تضحك من تلك الفكرة والتي قلت أنها كانت من الممكن أن تؤدي بصلب كريبيون(5)[...]" وكان مينو قد ارسل له رسالة ساخرة في 10 يوليو 1800م يقول له فيها: " لا اعرف أيها المواطن إذا كنت تعرف قصة كريبيون الابن الذي كان يُريد أن يُصبح زعيم ديني فتكلم مع أبوه عن ذلك فقال له و هو يُمسك بالصليب: "انظر بني لقد استطاعوا استيعاب هذا المصلوب هنا علي الصليب" بالنسبة لي لا أزعم أبداً أنني أُمجد الصليب فأنا ببساطة مُكتفي بديني العقلي الصغير وسأدع حُرية العبادة كاملة لسُكان هذا البلد فمن أراد أن يُصلي للإله وهو مطأطئ الرأس أو أن يُصلي له و هو يرفعها".

ويشرح لاسكاريس لمينو "مشاريعه" التي يُريد منه تنفيذها فهو لديه أفكار للتحكم في مياه النيل بحيث يستطيع أن يستخدمها في ري جميع أراضي مصر وأنه سيجعل "الصحرا خضرة" بل ويُفكر في انشاء مدينة باسم مينو نفسه سماها "مينوبولس" ستكون في الدلتا وسيبني حولها جداراً مُحصناً ليحميها من أي اعتداء وستكون تلك المدينة مُلتقي القارات والتجارات.  لاسكاريس هذا هو صاحب فكرة "استقلال" مصر و تكوين جيش من الأقباط "أصدقائهم" كما يقول وأن يكونوا هم "ذراع" فرنسا في مصر و مدخل لعودتهم إليها في حال إذا اضطروا للرحيل و لتُحافظ لها كما يقول علي : "تأثيرها السياسي و التجاري و تساعد فرنسا من جانب في حين هم هاجموها من جانب آخر" ويري لاسكاريس أن أفضل شيء أن يبدأ "الأقباط" من الصعيد فيساعدوا مُراد بك في طرد العثمانيين و الاستقلال بمصر و في مُقابل هذا يُترك الصعيد-باتفاق سري مع مراد بك- للأقباط ليحكموه كما فعلوا هم معه وأنه إن تركنا الأقباط و انسحابنا بدون أن نضمن هذا فسوف يكون مصيرهم الذبح و الاضطهاد كما حدث معهم في "التمرد الأخير" (ثورة القاهرة الثانية).

بعد مراسم استلام الرئاسة يبدأ مينو في 20 يونيو 1800م في حملة "لاستتباب الأمن" يتم فيها  مُصادرة الأسلحة فيذهب هو و نائبه الجنرال أوغسطين بليار للأزهر حيث: " طافوا به أيضاً وأرادوا حفر أماكن للتفتيش على السلاح ونحو ذلك " فلما رأي مجاورو الأزهر ذلك أدركوا أنّ هذه "أيام سودة" فبدأوا: " في نقل أمتعتهم منه ونقل كتبهم وإخلاء الأروقة ونقلوا الكتب الموقوفة بها الى أماكن خارجة عن الجامع" و جاءت الأوامر بعد أن كُتبت أسمائهم اسماً اسماً بألا: " يؤووا عندهم غريب ولا يؤووا إليهم آفاقياً (من خارج مصر) مُطلقاً وأخرجوا منه المجاورين من طائفة الترك" و لما شاهد الشيوخ ذلك راؤوا أنّ "المصلحة" هي في غلق الأزهر كُلياً منعاً "لوجع الدماغ" فقد يأتي "أهوج" أو "آثم" فيرتكب جريمة شنعاء و يُؤخذوا هم "في الرجلين" أو يدس "العدو" -كما يقول الجبرتي- مَنْ يبيت فيه ويأخذها حجه لينال "غرضه" من "المسلمين والفقهاء" فذهبوا عند: "  كبير الفرنسيس منو واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره فقال بعض القبطة الحاضرين للأشياخ : "هذا لا يصح ولا يتفق" فحنق عليه الشيخ الشرقاوي وقال: " اكفونا شر دسائسكم يا قبطة" ."

ثم تستمر الحملة المحمومة لجمع أكبر قدر من المال فتُفرض "فردة" آخري قدرها: " أربعة ملايين وقدر المليون مائة وستة وثمانون ألف فرانسة وكان الناس ما صدقوا قرب تمام الفردة الأولى بعدما قاسوا من الشدائد ما لا يوصف ومات أكثرهم في الحبوس وتحت العقوبة وهرب الكثير منهم وخرجوا على وجوههم الى البلاد ثم دهوا بهذه الداهية أيضاً" حتي البيوت فرضوا عليها أموال يدفعها المالك و المستأجر , و إن كان حظك العاثر أنّ جارك لسبب أو آخر ترك بيته و أغلقه فسوف تُلزم بدفع ما عليه أيضاً و لذلك يجب أن لا تدعه يذهب و "يهرب" من الأصل.

ولما زاد فرار الناس هرباً من الدفع تم إمهالهم 32 يوما للعودة والدفع ومَنْ لم يعد: " نهبت داره وأحيط بموجوده وكان من المذنبين". لم يعد هناك ملجأ و لا مُنجي من هذا البلاء الذي حل بهم حتي الحاكم المُسلم مينو لم يعد يسمع لهم: " وامتنع من مقابلة المسلمين وكذلك عظماء الجنرالات وانحرفت طباعهم عن المسلمين زيادة عن أول واستوحشوا منهم ونزل بالرعية الذل والهوان" ولم يتوقف الذُل عند هذا بل: " وتطاولت عليهم الفرنساوية وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام إليهم عند مرورهم ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه الى الحبس بالقلعة وضربوه واستمر عدة أيام في الاعتقال ثم يطلق بشفاعة بعض الأعيان." في ظل تلك الظروف لابد أن نتوقع أن تقوم ثورة لا تُبقي ولا تذر على الفرنسيين وأعوانهم وشيوخهم ومُعرِّصيهم لكن "صبر المصريين " (6) لا ينفذ فقد تزول الجبال وتنشق السماء وتفني الكواكب والمجرات ويظل المصري "يتجرع" الصبر صباح مساء لاعناً الموت والحياة لكنه أبداً لا يتحرك.

س: ما الذي يمنع هؤلاء من رؤية الحقيقة الواضحة أنّ "أيامهم سودة" وأن القادم أسود؟ج: إنه التمسك بالأمل-كبديل سهل- بأن الغد سيكون أفضل لأن البديل الأصعب هو أن يُدركوا أنه "لا أمل" طالما لم يتحركوا ويبذلوا إذا تطلب الأمر حتى الدماء لكي يصنعوه.
هذا دعي الكثيرين للتساؤل عن سر ذلك فهذا أحد الفرنسيين: شارل فرانسوا ماري، دوق هاركورت، والذي زار مصر عدة مرات، يتساءل-مُنذ أكثر من 120 عام وتحديداً في 1893م- في كتابه "مصر والمصريون" (7) عن تلك "البلادة" (8) التي "تُميز" المصريين فيسرد القصص والحكايات التي كان هو شاهد عيان على بعضها عن كيفية مُعاملة المصريين وأنه لا ينفع معهم إلا العصا والضرب على القفا وأن "حكومته" ليل نهار تنهبه وتنهب قوته بدون أن تجد منه أي مقاومة.  فمثلا يحكي أنه في عهد إسماعيل حفيد الحاج محمد تم اصدار قرار بتعديل طول القصبة-عصا من الخيزران والتي كانت تُستخدم كوحدة لقياس مساحة الأرض- من 3 متر و70 سم إلى 3 متر و55 سم وعلى أساس هذا بالطبع تم تصغير طول العصا للطول الجديد ولم يُدرك أحد حينها "الحكمة" في صدور هذا القرار وأنّ "الأمر بسيط" فكُلها 15 سم. إلا أنه بعد شهور تم إصدار أمر بعمل مسح شامل لكل "حيازات" الأراضي ومن "الطبيعي" أنه تم قياسها بالطول الجديد للقصبة. ولو بحثنا سنجد أنّ الفدان يساوي 333.3 قصبة مُربعة أي أنّ الفدان كان يساوي بمقياس القصبة القديمة: x333.3(3.7)2  =4563م2~ لكنه بمقياس القصبة الجديدة يساوي: 4200م2~ يعني الفرق بينهما 363م2 في الفدان الواحد. فكانت "الحكومة" تنزل الأرض وبعد أن يتم حساب مساحة الأرض وطبقاً للحيازة و"رتبة" الشخص فلنفترض أن له "الحق" في حيازة 12 فدان وبحساب بسيط سنجد أنه طبقاً للقياس الجديد فهذا الشخص يحوز 13 فدان وليس 12 -يعني حرامي ابن حرامي- لكن من" طيبة الحكومة وعدلها" كانت تُخير الشخص ما بين أن يتم مُصادرة الفدان "الزائد" –الذي لا يُعرف أين موقعه هل هو في منتصف الأرض أو على أطرافها حسب الظروف أنت وحظك-أو أن يشتريه منها. هذا كان يحدث مع الموسرين أصحاب "الطين" فما بالك ما كان يحدث مع "الطين" نفسه الذي كان الضرب بالعصي والكرباج لنهبه عمل "عادي" وكانت "بطولة" هذا الطين و "رجولته" هي أنّ يتحمل الضرب وسحق الكرامة لأقصي ما يستطيع دون أن يدفع. ويُدهش شارل فرانسوا-ونحن معه- أنّ مثل تلك الإجراءات تتم بهدوء ودون اعتراض من أي أحد أو على الأقل من أولئك الذين وقعوا ضحية لها ويقول: "[...] هكذا كان الأمر دائماً بالنسبة للمصريين، ففكرة المقاومة والمواجهة تبدو مُتعارضة مع طبيعتهم، إنهم لا يُدافعون عن أنفسهم إلا بالكلمات والمُدارة والخداع لكنهم ابداً لا يستخدمون القوة للدفاع عنها." لعل هذا يكون جواباً مؤقتاً عن السؤال الذي رأيناه المرة السابقة عن لماذا لا يثور المصريين.

 ستكون لنا عودة-إن شاء الله- لهذا الكتاب فهو على ما فيه من "مُلاحظات" جيدة عن طبيعة المصريين مازلنا نراها ماثلة أمامنا، إلا أنه مع ذلك يُهاجم "نُسخة الإسلام" في هذا الوقت واعتباره سبب في حالة التخلف التي تعيشها المنطقة وقتها مع "كليشيهات" وضع المرأة في الإسلام وتعدد الزوجات إلى آخر "الأسطوانة" التي مازلنا نسمعها إلى الآن. لكنك لا تملك إلا أن تتفق معه في بعض ما ذهب إليه لأنه كما رأينا في رواية الجبرتي التي بين أيدينا قد تحول الدين إلي مُجرد "تعريص" مُستمر لصالح من يحكم أياً كان حتى لو كان كافراً أباً عن جداً، نسخة الإسلام تلك التي نري اليوم آخر تطوراتها من سلفية هي أقرب للوثنية حيث عبادة الحاكم والشيخ تستتر خلف آيات وأحاديث ومن إسلام "مُتحرر" من كُل ما هو إسلامي تحت ذريعة تنقيح "التُراث" وتجديد الخطاب الديني.

حينما تكون ضعيفاً مُتخلفاً لن تجد أحد يمدحك بالتأكيد بل سيظل الجميع يسخر منك ومما تؤمن به مهما كان راقياً أو عادلاً أو حقاً. كُل فلسفة أو نظام أو دين "على الورق" في عالم المثل تظل ساحرة ورائعة ما لم تنزل إلى الواقع وتُطبق وتُحدث فيه التغيير الذي تدّعيه -حيث يكون الاختبار الحقيقي- فإما يكتشف الناس زيفها وتهافتها أو يروا ثمرتها وصلابتها. لكي يعود الإسلام كقوة عالمية تقود الإنسانية يجب أولاً أن يكون للإسلام "دولة" ولكي تكون له دولة يحب أن يمتلك أسباب القوة المادية التي بها يُنشئ ويبني ويحافظ على تلك الدولة.

ستستمر الشهور القادمة في عمر الحملة الفرنسية على نفس المنوال حتى يُصيبك الملل والزهق: " وفيه اشتد أمر المطالبة بالمال وعين لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله فنزل بالناس منه ما لا يوصف فكان يدخل الى دار أي شخص كان لطلب المال وصحبته العسكر من الفرنساوية والفعلة وبأيديهم القزم فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرر وقت تاريخه من غير تأخير الى غير ذلك وخصوصاً ما فعله ببولاق فإنه كان يحبس الرجال مع النساء ويدخن عليهم بالقطن والمشاق وينوع عليهم العذاب." المفروض كانوا يسموه "لعنة الله" وليس "شُكر الله".

ثم حملات النهب و الهدم و كل ما يمكن أن يأتي منه مال: " والأمور من أنواع ذلك تتضاعف والظلومات تتكاثف [...] فكانوا إذا دهموا داراً وركبوها للهدم لا يمكنون أهلها من نقل متاعهم ولا أخذ شيء من أنقاض دارهم فينهبونها ويهدمونها وينقلون الأنقاض النافعة من الأخشاب والبلاط الى حيث عمارتهم وأبنيتهم وما بقي يبيعون منه ما أحبوا بأبخس الأثمان ولوقود النيران وما بقي من كسارات الخشب يحزمه الفعلة حزماً ويبيعونه على الناس بأغلى الأثمان لعدم حطب الوقود ويباشر غالب هذه الأفاعيل النصارى البلدية فهدم للناس من الأملاك والعقار ما لا يقدر قدره" ليس هذا و فقط بل حتي من هُدمت داره كان عليه دفع ما علي البيت المهدوم من "الفردة" فيجتمع: " على الشخص الواحد النهب والهدم والمطالبة في آن واحد وبعد أن يدفع ما على داره أو عقاره وما صدق أنه غلق ما عليه إلا وقد دهموه بالهدم فيستغيث فلا يغاث فترى الناس سكارى وحيارى" لا والأدهى و الأمرّ و الدرجة التي وصل إليها الأمر  أنه يجب عليك دفع "المنكسر" الذي علي فردة البيت المهدوم نتيجة التأخير في دفعها بالإضافة "لحق الطريق" للأشخاص الموكلون بالتحصيل: " [...] وذلك أنهم لما قسموا الأخطاط (النواحي) كما تقدم وتولى ذلك أمير الخطة وشيخ الحارة والكتبة والأعوان وزعوا ذلك برأيهم ومقتضي أغراضهم فأول ما يجتمعون بديوانهم يشرع الكتبة في كتابة التنابيه وهي أوراق صغار باسم الشخص والقدر المقرر عليه وعلى عقاره بحسب اجتهادهم ورأيهم وعلى هامشها كراء طريق المعينين ويعطون لكل واحد من أولئك القواسة عدة من تلك الأوراق فقبل أن يفتح الإنسان عينيه ما يشعر إلا والمعين واقف بابه وبيده ذلك التنبيه فيوعدوه حتى ينظر في حاله فلا يجد بداً من دفع حق الطريق فما هو إلا أن يفارقه حتى يأتيه المعين الثاني بتنبيه آخر فيفعل معه كالأول وهكذا على عدد الساعات فإن لم يوجد المطلوب وقف ذلك القواس على داره ورفع صوته وشتم حريمه أو خادمه فيسعى الشخص جهده حتى يغلق ما تقرر عليه بشفاعة ذي وجاهة أو نصراني [...]"

وحينما تجد الناس بدأت في "الهمهمة" ادعو لانتخابات رئاسية أو برلمانية أو شكل حكومة جديدة إذا كان مُمكناً "مش مهم" المهم هو أن يظل "بصيص" الأمل موجود. لذلك بدأوا في تشكيل ديوان جديد –ليس له أي لازمة كسابقيه- لكن هذه المرة من تسعة من الشيوخ فقط و ليس به نصاري أو عسكريين ولا غيره التسعة هم نفس الأشكال "المُعرِصة": "  الشيخ الشرقاوي، رئيس الديوان، والمهدى، كاتب  السر والشيخ  الأمير، والشيخ  الصاوي وكاتبه، والشيخ موسى السرسى، والشيخ  خليل  البكري ،  والسيد على الرشيدي نسيب (أخو زوجة مينو)  ساري  عسكر،  والشيخ  الفيومي،  والقاضي  الشيخ  اسماعيل  الزرقاني" هذا بالإضافة للكتبة و المترجمين و هم: "  كاتب سلسلة  التاريخ السيد اسماعيل  الخشاب، والشيخ على  كاتب  عربي، وقاسم  افندي كاتب رومي، وترجمان  كبير , القس  رفائيل،  وترجمان صغير، الياس  فخر  الشامي،  والوكيل  الكمثارى (9)  فوريه (10) ، ويقال  له  مدبر  سياسة  الاحكام  الشرعية، ومقدم  وخمسة قواسة (لزوم الأمن و الحراسة)  " 
فلما وصل الخبر للناس بأمر الديوان الجديد وأنه من كان له مظلمة فلابد أنه سيجد "صدر حنون" يبكي عليه ويد عطوفة تمسح دموعه لكن لا يطمع في أكثر من هذا: " سُرّ الناس بذلك لظنهم أنه انفتح لهم باب الفرج بهذا الديوان ولما كانت الجلسة الثانية ازدحم الديوان بكثرة الناس وأتوا إليه من كل فج يشكون." إنّ الأمل من أكثر أعداء الإنسان خداعاً فهو يُعميه على أن يري الحقيقة الواضحة الجلية فيظل مُتمسك بخيوطه الواهية-التي ستودي به في النهاية- على أن ينظر للحقيقة وجهاً لوجه ويعمل على ما تُمليه عليه أيا كانت.
ثم يبعث مينو في 2 يناير 1801م برسالة لشيوخ الديوان التي يقول فيها بعد البسملة و الشهادة و الديباجة المعتادة بأنه يُريد تنظيم البلد: " [...] فجناب حضرة بونابارته الشهير النبيل ، الصنديد الشجاع الجليل ، قد تقدم فأمر بأن يُحرر دفتر يُكتب فيه اسماء كامل الميتين والان حضرتكم قد طلبتم مني دفترا آخر خلافه فيه يتحرر أسماء المولودين أيضا [...] وهكذا أيضا بتحرير دفتر الزواج ، إذ كان ذلك اشد الهمات ، والحوادث الواجبات ، ثم يتبع ذلك بتجديد نظام غير قابل التغيير في ضبط الأملاك ، والتمييز الكامل عمن ولد ومات من السُكان ، وهذا يُعرف من اهالي كل بيت ، فعلي هذا الحال يتيسر للحاكم الشرعي بالعدل والانصاف ، وينقطع الخلف والخصام بين الورثة وتقرر الولادة ، ومعرفة السلالة التي هي الشيء الأجل والأوفر استحقاقا في الإرث [...] كل وقت يقتضى لنا أن ندبر أشياء تستفيد بها هذه المملكة التي قد تسلمنا سياستها[...] " و لا ينسي أن يشكر شيوخه علي أنهم هنئوه بولادة ابنه: "[...] فيا حضرة المشايخ والعلماء الكرام ، إننا نشكر فضلكم علي ما اظهرتم لنا تهنئة بولادة ولدي السيد سليمان مراد جاك منو".
وفي 20 يناير 1801م وصل مكتوب من فرنسا بوقوع الصلح بينها و بين الجزائر و كانت فرنسا مدينه بمبالغ ضخمة لما كان يُعرف وقتها ب"إيالة الجزائر" -كانت اسما تابعة للدولة العثمانية- في البداية كانت فرنسا في عهد لويس السادس عشر تأخذ القمح منها و تدفع لها أثمانها مُباشرة ثم غيرت فرنسا طريقة الدفع فكانت هي تتعامل مُباشرة مع تاجريين يهوديين و هما بكري و بوشناق –اللذان كانا يحتكران تجارة القمح بالجزائر- علي أن يُسدد بكري و بوشناق الأموال لحكومة الجزائر وكما رأينا سابقاً في تلك الفترة الأوضاع الاقتصادية في فرنسا كانت مُتردية و كانت هناك أزمة في "رغيف العيش" فكانت تتعثر في الدفع لليهوديين و هما بالتالي لا يدفعوا ما عليهم للجزائر حتي ثقل هذا الدين و نشأت خلافات بين الجانبين و التي ستستمر حتي يُهزم نابليون و يتم استعادة الملكية فيبدأ لويس التاسع عشر في دفع أجزاء منه وتُنشئ "لجان" للجدولة مروراً بالمُماطلة في الدفع حتي تجد فرنسا أنه من الأجدى أن "تمتلك" هي الأرض بما عليها فهذا "أرخص" من أن تظل تدفع و تستدين فيبدأ التفكير و التحضير لاحتلال الجزائر كما سنري فيما بعد.
في 8 فبراير 1801م: " ضُربت مدافع كثيرة بسبب ورود مركبين عظيمين من فرنسا فيهما عساكر وآلات حرب وأخبار بأن بونابارته أغار على بلاد النمسه وحاربهم وحاصرهم وضايقهم وأنهم نزلوا على حكمه وبقي الأمر بينهم وبينه على شروط الصلح وأنه استغنى عن هذه الأشياء المرسلة وسيأتي في أثرهم مركبان آخران فيهما أخبار تمام الصلح ويستدل بذلك على أن مملكة مصر صارت في حكم الفرنسيس لا يشركهم غيرهم فيها هكذا قالوا وقراؤوه في ورقة بالديوان."  حيث بعد أنْ حقق نابليون عدة انتصارات يعقد في فبراير "مُعاهدة لونافيل" مع النمسا لتكون إعلاناً لنهاية "التحالف الثاني" الذي شُكل للقضاء على الثورة. لكن سُرعان مع يبدأ الأمر من جديد فإنجلترا بعد أن تعقد هي الأُخري في مايو 1802 "مُعاهدة أميان" مع نابليون التي لن تستمر إلا عدة شهور لتُعلن إنجلترا الحرب على فرنسا ثانية ويبدأ تشكيل "التحالف الثالث".
في 15 فبراير بدا الطاعون يظهر من جديد: " فانزعج الفرنساوية من ذلك وجردوا مجالسهم من الفرش وكنسوها وغسلوها وشرعوا في عمل كرنتينات (حجر صحي) ومحافظات." ثم "رسالة" جديدة من مينو يُحذر فيها " الأشقياء والمفسدين " من نشر: " [...] أخباراً رديئة تزويراً لتخويفكم وتخويف المملكة وكل ذلك كذب وافتراء فإنما نحن نخبركم جميعاً أن كلاً من الأهالي المذكورة من أي طائفة وملة كان الذي يثبت عليه بالإشهاد أو النشر من نفسه بينكم تلك الأخبار الرديئة المكذوبة تخويفاً لكم وإضلالاً بالناس ففي الحال ذلك الرجل يمسك وترمى رقبته بوسط واحدة طرق مصر." ويذكر الجبرتي أنّ الناس كانت في "عالم تاني" ولا همّ ولا تفكير لهم إلا: "[...] في بواقي الفردة وما لزمهم في المليون ولا شغل لكل فرد إلا بتحصيل ما فرض عليه[...] " وأن تلك الرسالة من الممكن أن تكون بسبب "مُراسلات" كانت بين: " سيدي محمود وأخيه سيدي محمد المعروف بأبي دفية [...]وبين علي باشا الطرابلسي" علي باشا الطرابلسي هذا كان موجود عند دخول الفرنسيين القاهرة ثم هرب من بين من هربوا إلى الشام لكنه سيعود ثانية بعد خروج الفرنسيين كوالي لمصر. من بين تلك المُراسلات كانت هناك أوراق مكتوبة بالفرنسية كان:" فيها الأمر بتوزيعها ووضعها في أماكن معينة حيث سكن الفرنساوية فوزع اثنين وقصد وضع الثالثة في موضع جمعيتهم فلم يمكنه ذلك إلا ليلاً فأعطاها خادمه وأمره أن يشكها بمسمار في حائط ذلك المكان وهو بالقرب من الحمام المعروف بحمام الكلاب ففعل وتلكأ في الذهاب فاطلع عليه بعض الفرنسيس من أعلى الدار فنزل إليه وأخذ الورقة وقبضوا على ذلك الخادم".

وأخيراً يأتي الفصل الختامي للحملة الفرنسية ففي شهر مارس تبدأ الأخبار تتواتر بوصول مراكب "الإنكليز" لأبي قير ولما سُئل المفوض فورييه في الديوان عن هذا جاوب بثقة عن أنّ: " [...] الفرنساوية كانت تحارب القرانات (التحالف) والآن وقع صلح بينهم وبين القرانات ما عدا الانكليز فإنه الآن مضيق عليه وربما كان ذلك سبباً لرضاه بالدخول في الصلح" و سيأتينا سلاح و ذخيرة وهكذا: " [...] تعين خُلوص مصر الى جمهور الفرنساوية وفي سالف الزمان كانت جميع القرانات التي بالجهة الشمالية ضداً للفرنساوية وقد زالت الآن هذه الضدية ومتى انقضى أمر الحرب عمت الرحمة والرأفة والنظر بالملاطفة للرعية والذي أوجب الاغتصاب والعسف إنما هو الحرب ولو دامت المسالمة لما وقع شيء من هذا فقال بعض أهل الديوان: " سنة الملوك العفو والصفح وما مضى لإبعاد فارحموا واعفوا عما سلف" فقال الوكيل: "قد وقع الامتحان ولم يبق إلا السلم والمسامحة"." وسيستمر مينو و قادته في حالة "الإنكار" هذه و أن الأمر "بسيط" وإن تجرأ أحد ووضع "رجله في مصر" فهو سوف يقطعها  فيقول مينو في رسالته للديوان: " من عبد الله جاك منو سر عسكر أمين عام جيوش دولة جمهور الفرنساوية بالشرق ومظاهر حكومتها ببر مصر حالاً الى جميع الكبير والصغير الأغنياء والفقراء المشايخ والعلماء وجميعهم الذين يتبعون الدين الحق والحاصل لجميع أهالي بر مصر سلمهم الله بمقام السر عسكر الكبير بمصر [...] أن الله هو هادي الجنود ويعطي النصرة لمن يشاء والسيف الصقيل في يد ملاكه يسابق دائماً الفرنساوية ويضمحل أعداؤهم أن الانكليزية الذين يظلمون كل جنس للشر في كل المواضع فهم ظهروا في السواحل وإن كان يتجرأوا يضعوا أرجلهم في البر فيرتدوا في الحال على أعقابهم في البحر والعثمانيين متحركين كهؤلاء الانكليزية يعملون أيضاً بعض حركات فإن كان يقدموا ففي الحال يرتدوا وينقلعوا في غبار وعفار البادية[...]" لذلك عليكم يا أهالي "مملكة ومحروسة مصر" أن "تبقوا مستريحين في بيوتكم ومقيمين كما كنتم في أشغالكم وأغراضكم فحينئذ لا خوف عليكم" ولكن إن لعب الشيطان بعقولكم و حدثكم عن الثورة فأقسم بالله: " العظيم وبرسوله الكريم أن رأس ذلك المُفسد تُرمى تلك الساعة" ولا تنسوا ما حدث لكم بالأمس القريب حين "عملتم فيها رجالة" فتم مُحاصرتكم وأُريقت: "دماء آبائكم ونسائكم وأولادكم في كل مملكة مصر وخصوصاً محروسة مصر وخواصكم انتهَبوا تحت الغارات وطرحوا عليكم فردة قوية غير المعتاد" فيا "شعبي الحبيب المهاود" : "أدخلوا في عقولكم وأذهانكم كل ما قُلت لكم الآن والسلام على كل من هو في طريق الخير, فالويل ثم الويل على كل من يبعد من طريق الخير ممضي خالص الفؤاد عبد الله جاك منو."

وفي حين أن مينو يمتلك "الحكمة السياسية" إلا إنّ قُدراته العسكرية محدودة فيُشير عليه الجنرال جان لويس رينيه بضرورة تحصين الإسكندرية (11) لمواجهة الإنزال الإنجليزي فيروي الجبرتي أنّ: "  ساري عسكر رينه كاشف القليوبية والشرقية أخبره بعض عربان المويلح بأنهم شاهدوا مراكب انكليزية ترددت بالقلزم فأرسل بخبر ذلك الى ساري عسكر منو ويقول له في ضمن ذلك ويشير عليه بأن يتوجه صحبة جانب من العسكر ويحصن نواحي الاسكندرية خوفاً من ورود الانكليز تلك الناحية وأن رينه يتكفل له بمن يرد الى ناحية الشرق وأكد عليه في ذلك" لكن مينو لا ينزل علي رأي رينيه و يخبره أنّ الإنجليز لن تأتي عن طريق الإسكندرية بل عن طريق ساحل الشام. ثم تتردد المُراسلات بين الاثنين فمينو يستعجله للذهاب جهة الشام ورينيه يُماطل لعلمه أن الإنجليز لن يأتوا إلا عن طريق الإسكندرية وفي النهاية يعلم مينو -بعد أن ضيع الوقت- بوصول الإنجليز إلي أبي قير فيبعث برسالة لرينيه يخبره بوصولهم لأبي قير: " وطلعوا الى البر وتحاربوا مع أمير الاسكندرية ومن معه من الفرنساوية وظهروا عليهم ويستعجله في الرجوع والذهاب الى الاسكندرية فقال رينه هذا ما كنت أخمنه وأظنه وارتحل راجعاً وعدى على بر انبابة بعساكره وتقدم ساري عسكر منو وسبقه الى الاسكندرية."

في 24 مارس 1801م وصلت الأخبار بتقدم العثمانيين حتي وصلوا العريش فيجتمع فورييه بالديوان و يُخبر الشيوخ: " أن ساري عسكر قبل ذهابه رسم لهم رسوماً وأمرهم بإجرائها والمشي عليها في أوقاتها وأنه عند سفره قصد أن يعوق المشايخ وأعيان الناس ويتركهم في الترسيم رهينة عن المسلمين فلما ظهر له وتحقق أن الذين وردوا الى أبي قير ليسوا من المسلمين وإنما هم انكليزية ونابلطية (من ايطاليا) وأعداء للفرنساوية وللمسلمين أيضاً وليسوا من ملتهم حتى يتعصبوا من أجلهم والآن بلغنا أن يوسف باشا الوزير وعساكر العثمانية تحركوا الى هذا الطرف فلزم الأمر لتعويق بعض الأعيان وذلك من قوانين الحروب عندنا بل وعندكم ولا يكون عندكم تكدر ولا هم بسبب ذلك فليس إلا الإعزاز والإكرام أينما كنتم [...] ثم انتهى الكلام وانقضى المجلس على تعويق أربعة أشخاص من المشايخ وهم الشيخ الشرقاوي والشيخ المهدي والشيخ الصاوي والشيخ الفيومي فأصعدوهم الى القلعة في الساعة الرابعة من الليل مكرمين وأجلسوهم بجامع سارية ونقلوا الى مكانهم الشيخ السادات فاستمر معهم بالمسجد وأمروا الأربعة الباقية من أعضاء الديوان وهم البكري والأمير السرسي وكاتبه أن يكون نظرهم على البلد ويجتمعون بشيخ البلد ولا ينقطعون عنه وأن المشايخ المحجوزين لا خوف عليهم ولا ضرروهم معززون مكرمون وأطلقوا لكل شيخ منهم خادماً يطلع إليه وينزل ليقضي له أشغاله وما يحتاج إليه من منزله والذي يريد من أحبابهم وأصحابهم زيارتهم يأخذ له ورقة بالإذن."

ثم في 3 ابريل 1801م وردت الأخبار بهزيمة الفرنسيين وقد كان الفرنسيون هُزموا في "موقعة الإسكندرية" في 21 مارس علي يد الإنجليز بقيادة الجنرال جون هلي هتشنسن, فيتهم مينو الجنرال رينيه والجنرال فرانسوا إتيان داماس أنهما:  " سبباً لهزيمته فيما يظن ويعتقد فقبض عليهما وعزلهما من إمارتهما " ويذكر الجبرتي سبب الخلاف بين الجنرالات أنّهم: " [...] اجتمعوا للمشورة على عادتهم ودبروا بينهم أمر المحاربة فرأى ساري عسكر منو رأيه فلم يعجب رينه ذلك الرأي وإن فعلنا ذلك وقعت الغلبة علينا وإنما الرأي عندي كذا وكذا ووافقه على ذلك داماص وكثير من عقلائهم فلم يرض بذلك منو وقال أنا ساري عسكر وقد رأيت رأيي فلم يسعهم مخالفته وفعلوا ما أمر به فوقعت عليهم الهزيمة وقتل منهم في تلك الليلة خمسة عشر ألفاً وتنحى رينه وداماص ناحية ولم يدخلا في الحرب بعسكرهما فاغتاظ منه ونسبهما للخيانة والمخامرة عليه وتسفيههم لرأيه وأكد ذلك عنده أنهما لما حضرا الى الاسكندرية أخذا معهما أثقالهما وما كان لهما بمصر لعلمهما عاقبة الأمر وسوء رأي كبيرهما فاشتد إنكاره عليهما وعزل عنهما العسكر وحبسهما ثم أطلقهما ونزلا الى المراكب مع عدة من أكابرهم وسافر الى بلادهما وكان منو أرسل الى بونابارته يخبر عن ورود الانكليز ويستنجده فأرسل إليه عسكراً فصادفوا الجماعة المذكورين في الطريق فأخبروهم عن الواقع وردوهم من أثناء الطريق [...]"

في نفس يوم وصول تلك الأخبار يرد خبر وصول حسين باشا القبطان إلي أبي قير ليُساند القوات الإنجليزية ويأتي معه قائد مغمور يُدعي "محمد علي" مُنشئ اسطورتنا وباني المخروبة المُسماة مصر. وبهذا تتأكد أخبار هزيمة الفرنسيين: " وظهرت لوائح ذلك الفرنسيس مع شدة تجلدهم وكتمان أمرهم وتنميق كلامهم." لكن سيستمر الفرنسيون في التظاهر أن الإنجليز هُزموا شر هزيمة فيخبر فورييه الديوان أنّه: " قد مات جماعة من كبراء الانكليز وأن أكثر عساكرهم مريضون بمرض الزحير(الدوسنتاريا) والرمد وربما يحصل الصلح عن قريب ويرجعون الى بلادهم وأن العطش مضارهم وبعثوا عدة مراكب لتأتيهم بالماء فتعذر عليهم ذلك" ويبعث مينو برسالة من الأسكندرية "المُحاصرة" يقول لشيوخه أن كُل شيء تمام  "وما النصرة إلا من الله وبشفاعة رسوله الكريم عليه السلام الدائم" ,وأنّ العثمانيين تلقوا الأوامر من السُلطان سليم بالخروج من مصر وإلا فروسيا ستُحاربهم: " بمعية مائة ألف عسكرية ضد العثمانية وضد قسطنطينية فبناء على ذلك أرسل السلطان سليم أوامره بفرمانه خطابه الى عساكره لتخلية بر مصر ولكامل من بالبر المذكور" لكن الإنجليز نجحوا في خداع و رشوة بعض العساكر العثمانيين وعليكم أن تقولوا للناس تلك "الحقائق" و: " أعلنوا وأخبروا كل ذلك الى أهالي مصر فانتظموا كما كنتم دائماً بالخير واعتمدوا واعتنوا بحماية وصيانة دولة الجمهور الفرنساوية والله تعالى يديم فضائلكم عن الإلهام بالخير والسلامات [...]"

ولا تأتي المصائب فُرادي فرجل فرنسا في الصعيد مراد بك يُصيبه الطاعون و يموت في 26 ابريل 1801م والفرنسيون مستمرون في نسج القصص عن هزيمة الإنجليز وأنه: " قد هلك من الانكليز خلق كثير وباقيهم أكثرهم مرمودون الأعين وبمرض الزحير وجاءت طائفة منهم الى الفرنساوية وانضموا إليهم من جوعهم وعطشهم" و أنّ تقدم الإنجليز ليس إلا خُدعة لكي نسحق ما تبقي منهم: " ولتعلموا أن الفرنساوية لم يُسلموا في رشيد قهراً عنهم بل تركوها قصداً وكذلك أخلينا دمياط لأجل أن يطمعوا ويدخلوا الى البلاد وتتفرق عساكرهم فنتمكن عند ذلك من استئصالهم" وأنكم تعلمون أن الفرنسيين "مابيكذبوش أبداً" فلابد أن تُصدقوهم حتي لو رأيتم بأعينكم غير ما يقولون ولتعلموا أنّ: " الفرنساوية لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبداً لأنها صارت بلادهم وداخلة في حكمهم وعلى الفرض والتقدير إذا غلبوا على مصر فإنهم يخرجون منها الى الصعيد ثم يرجعون إليها ثانياً ولا يخطر في بالكم قلة عساكرهم فإنهم على قلب رجل واحد وإذا اجتمعوا كانوا كثيراً".

مع تقدم الإنجليز تصاحبهم القوات العثمانية شمالاً وصولا للرحمانية (جنوب مدينة رشيد) يتقدم العثمانيين بقيادة الصدر الأعظم من جهة الشرق فيصلوا لمدينة بلبيس في 8 مايو 1801م ويستمر تقدمهم حتي وصلوا إلي: "  القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف، فتأهب قائمقام بليار للقائهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل، ثم خرج هو في آخر الليل، فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قائمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة، فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيئاً."

ثم يجتمع الشيوخ بالديوان كالعادة و يخبرونهم: " [...] أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى" ولا تعتقدوا أن هناك أحد قد يُغير هذا فهؤلاء الإنجليز ليسوا إلا: " ناس خوارج حرامية وصناعتهم إلقاء العداوة والفتن والعثملي مغتر بهم، فإن الفرنساوية كانت من الأحباب الخلص للعثملي فلم يزالوا حتى أوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور، وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة" ولولا ذلك لكنا محونا أي ذكر لهم في الأرض و نحن قد "ملكنا" مصر في 18 يوم فقط أما هم: " فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم الى البر والى الآن لم يصلوا إلينا [...] فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا [...]" الحقيقة لو كانوا يخاطبون بهائم لكانت ضحكت من أقوالهم لكن لابد أنهم "حمدوا الله" أنهم يخاطبون المصريين.
إنّ انتشار تلك الكائنات بيننا لمؤشر واضح علي أصل المصريين "الفضائي".

ونتيجة للحرب الدائرة تلك يقول الجبرتي أنّ الأوضاع المعيشية و الاقتصادية ازدادت سوءً : " فعند ذلك عزت الأقوات, وشحت زيادة على قلتها, وخصوصاً السمن والجبن والأشياء المجلوبة من الريف [...] وشح اللحم أيضاً وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام [...] وأما الزيت فلا يوجد البتة وغلت الأبزار(التوابل وما شابهها) جداً" وينقل قصة "غريبة" حدثت له هو "شخصيا" ليُرينا "حجم المُعاناة": "[...] احتجت الى بعض أنيسون فأرسلت خادمي الى الأبزارية على العادة يشتري لي منه بدرهم فلم يجده وقيل له إنه لا يوجد إلا عند فلان هو يبيع الأوقية بثلاثة عشر نصفاً، ثم أتاني منه بأوقيتين بعد جهد في تحصيله فحسبت على ذلك سعر الأردب فوجدته يبلغ خمسمائة ريال أو قريباً من ذلك[...] " وهذا يُذكرني "بمدام عفاف شعيب" بعد 25 يناير كانت "مش عارفة تجيب بيتزا" لأبن أخيها –علي ما أتذكر- بسبب "الثورة". إنّ هذا ما يُسمي "عزّة وإباء المصريين" فرغم المحن والمآسي والثورات إلا أن هناك أشياء "لا يُفرطون فيها أبدا" فهم قد يتنازلون عن دينهم وكرامتهم وأرزاقهم بل وحتى عن أعراضهم لكن أبداً لا يتنازلون عن "الينسون والبيتزا".

في مصر "العبث" ليس مُجرد "اسم" بل هو "فعل" مُستمر.

علي نفس المنوال الفرنسيين "مُصممين" علي أنهم سيسحقون الإنجليز و العثمانيين, و الإثنين مستمرون في التقدم شرقاً و غرباً حتي يأتي يوم 29 يونيو 1801م فيسمع الناس: " [...] صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية ثم سمع منها أذان العشاء والفجر، فلما أضاء النهار نظر الناس فإذا البيرق(العلم) العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها، فعلموا بتسليمها، وكان ذلك المدفع إشارة الى ذلك ففرح الناس وتحققوا أمر المُسالمة، وأشيع الإفراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضاء أشغالهم."  لقد تم عقد "الصُلح" مع الفرنسيين حيث تُلصق أوراق باللغتين العربية والفرنسية لشرطين من شروط هذا الصُلح ,التي تُطمئن الناس أنه لن يُضار أحد من "الخونة" تبدأ بنسب الصُلح "لإرادة الله" ثم يتم ذكر الشرطين وهما:
 " الشرط الثاني عشر: كل واحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت الذي يريد أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة، وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه ما أحد يعارضهم.
 الشرط الثالث عشر: لا أحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت يكون قلقاً من قبل نفسه ولا من قبل متاعه. جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي بمدة إقامة الجمهور بمصر".

في 3 يوليو 1801م يتم عقد الديوان ويُخبر فورييه الشيوخ ببقية الشروط أهمها أن على الفرنسيين الرحيل إلي رشيد في مدة أقصاها خمسين يوماً وأنْ: " [...] يُساق الجيش من طريق مختصر وسر عسكر الانكليز والمساعد يلزم أن يقوما لهم بجميع ما يحتاجونه من نفقة ومؤونة وجمال ومراكب [...] ولابد من كون المؤونة التي تترتب لهم كالمؤونة التي كانوا يعطونها هم لجيش الانكليز ورؤسائهم، وعلى رؤساء عساكر الانكليز وحضرة العثملي القيام بنفقة الجميع. والحكام المتقيدون بذلك يحضرون لهم المراكب ليسفروهم الى فرانسا من جهة البحر المحيط. [...] وأن الفرنساوية لا يدخلون مينة إلا مينة فرانسا والأمناء والوكلاء يقدمون لهم ما يحتاجون إليه نظراً لكفاية عساكرهم[...] وكل من أهل الإقليم المصري إذا أراد التوجه معهم فهو مطلق السراح مع الأمن على متاعه وعياله، وكذلك من داخل الفرنساوية من أي ملة كانت فلا معارضة له إلا أن يجري على أحواله السابقة[...]".

ثم "العشاء الأخير" للديوان و شيوخه و فرنسيّه ويبدو أنها كانت "حصة قراءة"  فتُقرأ رسالة من مينو يظهر أنها كتبها قبل أن تضع "الحرب أوزارها" ثم يقرأ استوف مدير الحدود هو الآخر  رسالة يتكلم فيها عن المحبة و " العيش و الملح" الذي اكله الفرنسيون و المصريون مع بعض و أنهم كانوا كأنهم "رعية واحدة" وأن نابليون "الشجاع الأعظم المُعان بقوة الله الذي عقله ما له مثيل" وأنه كان يستحق "أن يكون حاكماً عليكم" لكن "انتو ناس رمم مالكمش في الطيب نصيب" فلا تعتقدوا أننا سنذهب بلا عودة بل ما هي إلا "هُنيهة" و نعود لكم لكي تعود "ليالينا الحمراء" معكم و نُطفئ أشواق "لوعتنا" في أحضانكم "الدافئة".

ويخرج الشيوخ من عند السيد القديم لمقابلة السيد الأقدم الوزير يوسف باشا لتقديم فروض الولاء والطاعة: "سلموا على ابراهيم بك وتوجه معهم الى الوزير، فلما وصلوا الى الصيوان أمروهم برفع الطيلسانات (أوشحة) التي على أكتافهم وتقدموا للسلام عليه، فلم يقم لقدومهم فجلسوا ساعة لطيفة وخرجوا من عنده." من "الدروس" المُستخلصة من كُتب التاريخ أن الشيوخ (12) هم "كلاب أي سُلطة" فالسلطة لها "كلابها البوليسية" التي تُدافع وتُحامي عنها بالأنياب والمخالب وهناك أيضاً "الكلاب البلدية" التي تَستخدم الآيات والأحاديث هجوماً ودفاعاً عنها، لكن هذا لا يمنع أنه يوجد شيوخ مُخلصون لا "يأكلون" بآيات الله ولا "يلحسون" تراب أقدام الحاكم ولا يُعرّصون من أجل دراهم معدودات ولا يحرفون الكلام عن مواضعه خوفا من أن تفضحه "الجهات الأمنية" لكنهم يبقون استثناءً نادراً لا يُقاس عليه.

أمّا بالنسبة "للخونة" النصاري فيُرسل إبراهيم بك: "أماناً لأكابر القبط فخرجوا أيضاً وسلموا ورجعوا الى دورهم." أما "يعقوب وجنوده" فقد قرروا المُغادرة مع الفرنسيين لكن اجتمع عائلات "الجنود" ونسائهم: " الى قائمقام وبكوا وولولوا وترجوه في إبقائهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقراء وأصحاب صنائع ما بين نجار وبناء وصائغ وغير ذلك، فوعدهم أنه يرسل الى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه."

وفي 10 يوليو 1801م يبدأ "الخروج الكبير" فيخرج: " المسافرون مع الفرنساوية الى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الإفرنج والمترجمين وبعض مسلمين ممن تداخل معهم، وخاف على نفسه بالتخلف وكثير من نصارى الشوام والأروام مثل يني وبرطلمين [...] " وهكذا يرحل الفرنسيون فكانت: " مدة الفرنساوية وتحكمهم بالديار المصرية ثلاث سنوات واحداً وعشرين يوماً فإنهم ملكوا بر انبابة والجيزة وكسروا الأمراء المصرية يوم السبت تاسع شهر صف سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف(20يوليو1798) وكان انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم وانخلاعهم عن التصرف والتحكم ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر صفر سنة ست عشرة ومائتين وألف(3يوليو1801) فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه". وهكذا تنتهي صفحة سوداء من تاريخ مصر لتبدأ صفحة آخري أشد سوادً. وبهذا نكون قد انتهينا من مُجمل الرواية الأولي وسنتوقف عند هذا الحد ولنا عودة مرة آخري للجبرتي لكننا سنبدأ-إن شاء الله- المرة القادمة في فحص الرواية الثانية.
******************************************************************************************************
(1) سنتعرض لبعض تلك الرسائل حين رؤيتنا لرواية الغزاة .
(2) أصدر المجلس الوطني "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" في أغسطس 1789م فأصبح الجميع "مواطنين" متساوو الحقوق-على الورق طبعاً- فأصبح لقب كل فرنسي هو "مواطن" وهو شبيه بلقب "رفيق" في النُظم الشيوعية ولقب "سيد" في مصر بعد 1952م، فأنت سيد لكن "على نفسك" كذلك لقب "مواطن" كلها مُجرد ألفاظ توحي بأن هناك مُساواة لكن الواقع أن الأوضاع كما هي مجرد أسماء تغيرت فقط.
(3) كل مؤمن بدين أو مذهب فكري يمكن وصفه "بالتعصب" طالما كان هذا التعصب ليس في صالح المؤمن الآخر بدين مُخالف أو مذهب فكري مُعادي. لكن لو كان في صالحه لرأيت أوصاف "التسامح" و "قبول الآخر" و"الوسطية" .... إلخ تُطلق عليه وعلى ما يعتقده.
(4) يقول مينو في رسالة لنابليون حين حصار الإسكندرية وتأكد هزيمة الفرنسيين يطلب منه أن يُراعي زوجته وابنه: " زوجتي تُدعي ستي زبيدة من نسل مُحمد من ناحية أمها وأبيها وهذا ما يُطلق عليه "الشريف". وابني يُدعي سُليمان مُراد سيكون هو أيضا شريف إنهما مُميزين بعمامتهما الخضراء فأنا لا أعرف شكله. فظروف الحرب أبعدتني عن زوجتي لفترة طويلة. أتمنى أنّ يُصبح ابني رجل مُستقيم وأن يكون فرنسي جيد فهذا أفضل من كُل كنوز الأرض"
(5)  كلود بروسبر دو كريبيون (1707م-1777م) روائي فرنسي.
(6) الصبر –ككل شيء- له مواضع يكون فيه فعل وصفة حميدة لكنه في مواضع آخري يكون جُبن وحقارة.
(7)  par le duc d'Harcourt, L'Égypte et les égyptiens  
(8)  البلادة هي الوصف الأنسب لما يُسمي "صبر المصريين".
(9) الكمثاري هو نطق لكلمة "commissaire" وتعني المُفَوض.
(10جوزيف فورييه (1768م-1830م) الرياضي الفرنسي الشهير وكان عضواً بالمعهد المصري الذي أنشأه نابليون ليختص بالكشوف والبحوث العلمية وهو المعهد الذي أخرج كتاب "وصف مصر" الشهير.
(11) وقد كان من ضمن نصائح وارشادات نابليون لكليبر في رسالته التي نقلنا منها جزء في البداية حيث يقول لكليبر أن مُفتاح تحصين مصر هما العريش والإسكندرية وأنه كان ينوي انشاء حصون من النخيل من الصالحية لقطية ومن قطية للعريش.

(12) وينطبق هذا الوصف على "الطبقة" التي تُسمي برجال الدين-في أي دين- فهم خدم وعبيد السُلطة التي تعمل على انشاء وتعليم وتمويل تلك الطبقة طبقا لمصالحها حتى تُصبح السُلطة الحاكمة هي أحد "أركان" الدين نفسه.