الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

الجيش المصري وشعبه 28





-البداية
(25)
"ما أوسِعٌ الْبَابَ وَأرَحْبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَقُودُ إِلَى الْعُبُودِيّةِ! ومَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَىَ الْحُرّيّةِ! فَاِدْخُلُوا مِنْ البَابِ الوَاسِعِ وَاسْلُكُوا الْطَرِيقَ الْرَحْبِ، فَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ. وَاحْتَرِزُوا مِنْ أُولَئكَ الّذِينَ يَأْتُونَ إِليكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ لكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلِ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ يُحَاولُونَ إِقْنَاعَكُمْ بِأْنَّ خَلَاصَكُمْ هُوَ عَبْرَ دُخُول البَاب الضيقِ والصَبر عَلَى كَرْبِ الْطَرِيقِ. فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ حَقْاً فَلِمَا لاَ يَدْخُل مِنْهُ وَيَتَحَمْلَ كَرْبَ طَرِيقَهُ إِلَا القَلِيلِينَ؟! وَلِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لَيسَ كُلَ مَنْ يُنادِينِا وَيَقُولُ لِي: يَا ربُّ! يَا ربُّ! يَخْلُص، فكَثِيرُونَ هُمْ الّذِين سَيَأْتُونَ إِليَّ قَائِلينَ: يَا ربُّ! لِـمَا لاَ تَحْنُو عَلَينَا وَتُخلّصُنَا مِمْاَ نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ عَرّصْنَا، وَﻷِمْرِكَ سَمَعْنَا وَأَطَعْنَا، وَلِبِيادَتِكَ قَبْلّنَا وَتَضَرَّعْنَا وَصَلّيْنَا؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّخُ فِيهِمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا أَنْطَاعَ يَا أَولاَدَ الكِلاَبِ!”
الإصحاح الثامن والعشرون من سفر الشئون المعنوية


رأينا في التدوينات السابقة بعضاً من الجمُل المحفوظة والكليشيهات المُجمّدة التي يُرددها كثير من المصريين باعتبارها "حقائق خالدة" لا نقاش فيها؛ وإن كانت تلك الجُمل والكليشيهات قد استطاعت الخلود بتكرارها المُستمر المُمل المُقرف في الكُتب وعلى اﻷلسنة، إلا أنها ليست إلا أكاذيب مُخترعة وسفسطات فارغة بلا أي منطق أو معنى، وكل ما يمكن أن تحويه من حقيقة أو فائدة هي أنها تكشف لنا -بدقة- طبيعة العقول التي ألّفتها وفسّرتها، وتُطلعنا بشكل مُباشر وبلا أي رتوش تجميلية على مكونات البيئة التي نشأت وانتشرت فيها. فقد رأينا من قبل(1) الكليشيه المُتهافت العبيط الخالد الذي يجري علي ألسنة المصريين يقول أنّ "كل شئ قسمة ونصيب"، هذا الكليشيه يكشف لنا أنّ العقول التي انتجته وفسرّته هي عقول مريضة مُختلّة وجبانة؛ فهي مريضة لأنها اعتقدت أنّ واقعها لا يمكن تغييره بل رأت أن "كل شئ" قد أُعد وقُسّم ووزّع بـ"عدل" على الجميع وانتهى الأمر، وكل اختياراتك وأفعالك ليست إلا تحصيل حاصل ففي النهاية لن تأخذ إلا ما قُسِمَ لك ولن يزيد نصيبك عما حُدّد لك من قبل. وهي عقول مُختلّة لأنها في نفس الوقت تُطالبك بالاختيار والفعل وتُحاسبك على أفعالك واختياراتك تلك؛ بل وقد تحتقرك وتُعايرك وتسخر مما وقع عليك من نصيب وما أصابك من القِسمة. وأخيراً هي عقول جبانة لأنها بدل أن تواجه واقعها بشجاعة هربت منه بتشويهه وتزييفه وأعطتْ سلاحاً فتاكاً في أيدي من حصلوا -بالقوة- على نصيب الأسد من "القسمة والنصيب" في مقابل الغلابة المقهورين الذين رضوا بالفُتات اعتقاداً منهم أنّ "كل شئ قسمة ونصيب". ويُطلعنا هذا الكليشيه علي أن أهم مُكوّن من مُكوّنات البيئة التي نشئ فيها هو القهر الذي في بدايته يقف أمامه الإنسان مُتحدياً مُفكراً في طريقة لهزيمته، ثم حين يعجز يتحول كل تفكيره في كيفية مُصالحته ومُداهنته؛ ولا يكون هناك أمامه بديلاً لتحقيق هذا إلا بأن يُصدّق بأنّ الظُلم -وهو الابن الشرعي للقهر- الواقع عليه ليس إلا "قسمته ونصيبه" الذي يجب أن يرضي بهما، وعندما يصل لديه التصديق حد الاعتقاد والإيمان يأتيه الذُّل -وهو أشرس زبانية الظُلم- ليُخلّصه من آخر ما يملك، فيسحق كرامته ويُصبح رفيقه المُخلِص الّذي لا يُفارقه حتي بعد الموت فتري مكتوب علي شاهد القبر المُتهدّم الذي تُغطيه الزبالة "هنا يرقد العبد الذليل الذي رضي من قسمته ونصيبه بمتر في متر" . ولذلك فالبيئات التي ينتشر بها أمثال هذا الكليشيه هي بيئات لم تعرف يوماً إلا أن يكون هناك سيداً واحداً يقهر تحته ملايين من العبيد، فيها العدل هو ما هو كائن أو قائم لا ما يجب أن يكون أو يقوم. بيئات الكرامة فيها لا سوق لها ولا طلباً عليها، فالذُّل هو السّلعة الرائجة والمشروب المُفضّل الذي يتجرّعه الملايين.


هذا المُعجم الضخم للجمُل البلهاء والكليشيهات العبيطة الذي تلوكه ألسنة المصريين ليس مُرتباً تبعا لترتيب الحروف الأبجدية ولكنه مُبّوباً طبقاً للظرف والحدث أو المناسبة المُراد المشاركة فيها، فإذا أردتّ أن تخدع نفسك فتُخلي مسئوليتك عن خيبتك وفشلك، أو لو كُنتَ تُريد أن تُحلّل ما حصلت عليه من الغش والرشوة، أو حتي لو رغبت في إغاظة الحاسدين الحاقدين عليك من ثروتك التي جمعتها من النصب والسرقة، فكُل ما عليك فعله هو أن تفتح باب "القسمة والنصيب" وتعيد وتردد ما فيه؛ فعند عند كُل خيبة وفشل قُل "المكتوب علي الجبين لازم تشوفه العين" ومُلحقاته، واذكر مع كُل سرقة أو رشوة بأنها "أرزاق ومقسّمها الخلاّق"، وابسط أصابعك الخمسة في وجه حُسّادك الحاقدين عليك غائظاً لهم وأنت تُغني "العين صابتني ورب العرش نجاني". ولو ظلمك من الشُّرطة "أمين" أو هتك عرضك "غلبان" من العساكر أو اغتصب امرأتك "شريف" من ضُباط الجيش "الوطني". أو لو عُذّب ابنك أو اُعتقل أو حكم عليه "قاضي الأرض" ظُلماً بالإعدام شنقاً. أو لو لم يكتفْ مَنْ يحكمونك بسرقة قوتك وقوت عيالك؛ بل وأمروك بأن تشكرهم وتحمدهم لأنهم تركوك تتنفس الهواء أنت وهم دون أن يُطالبوكم بثمنه. فلا تُكلّف نفسك عناء مُقاومة الأمين، أو تُحاول أنْ تنتقم لكرامتك وشرفك المهدور من قبل "خير الأجناد"، أو تُفكّر أن تقتل كل قضاة "القضاء الشامخ" لتحمي الناس من شرِّهم، أو تعتقد أنه يُمكنك أن تسترد قرشاً واحداً إذ لم تُطع الأوامر وتوقفت عن شكر وحمد مَنْ نهبوك؛ وبدلاً من هذا فأنت -والحمد لله- لديك طريقين: طريق"سلمي" وآخر "ثوري"؛ فإذا كُنتَ من لاعقي وعبيد "الشباشب" والأحذية والبيادة، أو كُنتَ من ضعاف القلوب الذين لا يتحملون سماع كلمة واحدة قد تؤذي أسماع أصحاب العصمة والسّيادة، أو كانت لديك "حالة نفسية" تتفاقم سوءًا إذا حدثت هزة عنيفة في خصر الاستقرار، أو -لا قدر الله- تعطلت عجلة الإنتاج عن الدوران، أو حتي كُنتَ مجرد عضو عامل عبيط في أحد جماعات "اللاعُنف" ضد "عُنف الدولة”. في هذه الحالة فالطريق الأول السلمي هو وجهتك وبُغيتك وعليك أن تبدأ بفتح باب "التعريص" -وهو أكبر أبواب المُعجم- وتبدأ في استخدامه لمُناشدة الشُّرطة والجيش والقضاء ورئيس الجمهورية بأن يأتوا لك بحقك ويعيدوا لك كرامتك وعرضك، ويُخرجوا ابنك من المُعتقل ويقبلوه في الكُلّية الحربية دون فلوس أو واسطة ليُدافع عن "شرف الوطن" كي يُحقق الحُلم الذي عاشت ﻷجله أُمُّه المُغْتَصَبة؛ وأنْ يعتبروا ابنك المعدوم الذي راح ضحية تلفيقات مزوّرة "شهيداً"(2) ويُدرج اسمه ضمن معاشات القوات المُسلّحة. ولكن لكي تبقي في "المنطقة الآمنة" ولا يُفهم تعريصك علي أنك -لا سمح الله- تعترض أو تنتقد أو "مش عاجبك" حال البلد، فعليك أن تُردف مُناشدتك بأنْ تُعلن صراحة ثقتك في كل "المؤسسات السيادية"، وأنّه إذا كان السكوت عن سحق كرامتك واستباحة عرضك وامرأتك وسرقة قُوْتَك وهدر حياة أبنائك هي الثمن الذي يجب أن يُدفع كي تبقي تلك المؤسسات شريفة وكي تبقي "هيبة الدولة" فأنت مُستعد للتضحية بكل هذا، وأنك جاهز لتظهر في كل القنوات التليفزيونية والجرائد والمواقع الإخبارية لتوجه رسالة لكل موتور أو مأجور يحاول استغلال ما جري لك لكي ينال من "سُمعة الوطن" مضمونها "ما أحلاها عيشة الذُّل والمهانة. فحياة بلا كرامة في وطن، خير من حياة بكرامة بلا وطن!!! فلا شرف يفوق أن تُضحي بـشرفك من أجل أن يحيا الوطن!!!".


أمّا إذا كُنتَ من كارهي الرائحة النتنة للشباشب والأحذية والبيادة، أو كان قلبك يطير فرحاً حين تَسُبُّ وتلعن الأمهات والزوجات والبنات العاهرات لأصحاب المعالي والفخامة، أو كانت حالتك النفسية لا تستقر إلا علي أنغام هزات الاستقرار، أو كُنت لا تنام ملء عينيك إلا حين يتوقف ضجيج عجلة الإنتاج عن الدوران، أو حتي كُنتَ مجرد عضو عامل أهبل في أحد الجماعات الأناركية أو المحظورة؛ فالطريق الثاني الثوري هو ما يجب أن تسلكه، ولذلك عليك أنْ ترتدي قناع "فينديتا" أو تُلوّن وجهك كـ"الجوكر"، وهدّدهم في رسالة مصوّرة بأنك لن تسكت عن حقك وستصُب اللعنات والويلات الموجودة في باب "الولولة" من المُعجم ، والذي يبدأ بـ "ويلٌ ثم ويلٌ"؛ حتي تستعيد حقك المسلوب وشرفك المُغتَصبْ وكرامتك المُهدرة وحتي تحصل علي شهادة مختومة بختم النسر من القاضي "النزيه" يُقرُّ فيها بأنه لم يحكم بإعدام ابنك "الشهيد" إلا بعد أن استقر في يقينه براءته!!! وإلا ستدعو "قاضي السماء" بأن ينتقم من كل "القُضاة اﻷرضيين”؛ وحَذِّرهم بأنه إذ لم يتم ذلك في غضون ثلاثين سنة فسوف تُرتّل أيضاً صباح مساء باب "الحسبنة" الذي يبدأ بـ"حسبي الله هو يتصرّف من غير ما أنا أتحرّك" وينتهي بـ"اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأنا قاعد أتفرج". وأرعبهم في قصورهم الفارهة وحصونهم المنيعة وثكناتهم المُكيّفة ونغّص عليهم رحلاتهم واستمتاعهم واستجمامهم في شواطئ وملاهي وبارات أوروبا حين يعرفوا أنك قد أوصيت أحفادك من بعدك أن لا يحيدوا عن الطريق الذي سِرت فيه مهما كانت المُغريات والصفقات المعروضة؛ وإنْ اضطروهم لتصعيد الأمور فالبادي أظلم، فلا يجبنوا وليُصعّدوا دون شفقة أو رحمة وليضيفوا -متواكلين علي الله- باب "الشحتفة" للورد اليومي. لكن هذا "الطريق الثوري" يجب أيضاً أن تجعل له "باب للرجعة" فلا تعلم ما الذي تُخبّئه وتُدّبره وتحيكه لك "الأقدار"؛ ومِنْ ثَمَ فعليك أن تلجئ لباب التعريص وتحشر بين الجملة والجملة تأكيدك علي أنك وإن كنت "راديكالي" لكن يمكن بسهولة التفاوض والوصول لحل يُرضيهم معك! وكونك تكره المُعرّصين فهذا لا يعني أبداً أنهم لا يستطيعوا الاستفادة من تفوقك في التعريص علي أعرص مُعرِّصيهم!! وقولك أنك لن تتراجع أنت وأحفادك مهما كانت المُغريات والصفقات المعروضة إنما هو من قبيل المُبالغة السخيفة الممجوجة!!! فإن فضحت فساد الجيش ووضّحت خيانته فأردف قولك بأنك لا تقصد "الجيش الوطني" "جيشنا العظيم" "جيش العبور"، جيش التعمير والبناء جيش الفسيخ والرنجة الطازجة، وأنك تقصد فقط قيادات هذا الجيش فكلها قيادات خائنة فاسدة!!!(3) وأن هناك الكثير من "الضباط الشرفاء" ،وافتح يديك على امتدادهما وأنت تقول "الكثير" لكي يفهم الأطفال الذين يُشاهدونك معنى الكثرة، هؤلاء الضباط يتواصلون معك ويعبرون لك عن سخطهم من "بحر الفساد" -وهم من صنعه وأول المُستفيدين منه- ويبررون عدم تحرّكهم طوال تلك المُدّة رغم علمهم بفساد وخيانة القيادات، لا أنهم راضين بذلك -حاشا وكلّا- أو فرحين بامتيازاتهم الجديدة أو طامعين في أن يحصلوا على زيادة مُناسبة لظروف "بدل الولاء" أو فيلا في مارينا أو المعمورة أو محل صغير للأولاد لبيع "فائض منتجات الجيش" في العاصمة اﻹدارية الجديدة؛ بل لأنهم قد أقسموا بـ"أيمانات المُسلمين" علي حماية الدستور والقيادة السياسية وإنْ هم أخلّوا بهذا القسم فسيكون عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام مُتفرقة أو مُتتابعة، وهذا -كما هو معروف للجميع- لا تستطيع أن تتحمله أي نفس بشرية. لكنهم مع الشعب بـ"قلوبهم" يدعون لهم مع كل زيادة في المُرتب والمعاش ويرجون من الله ألا تذهب تضحيات هذا الشعب من أجلهم هباء ويوافق مجلس النائبات والنواب على وضع بند في الدستور ينص على أنه لا يجوز ﻷحد مُطلقاً تولي حُكم مصر إلا أن يكون من "الضُباط الشُرفاء".
حين يمتلك جيش دولة فمن العادي والطبيعي أن يكون أفضل من يُديرها هم "أبناء" هذا الجيش الذين سيحافظون علي "ميراث" أجدادهم

وافعل المِثل إنْ كشفت دناءة وحقارة رجال الشرطة، أو تجاوزت في الحديث عن القضاء الشامخ ونِلتَ من القضاة وقلت عنهم أنهم بهائم لا تعرف حتي القراءة، أو "شرشحت" للمخابرات المصرية وتهكمت علي أبطالها الخالدين كـ"جمعة الأشكيف المُخيف" أو "رأفت أبو رجل مسلوخة"، أو "ردحت" للإعلام المصري ونشرت الملابس الداخلية لزوجتي تامر أمين ومصطفي بكري، أو قُلت أن عمرو أديب هو الثعبان اﻷقرع الذي يُعَذّب اﻷحياء بجهله وغبائه، أو أخبرت الناس أنّ أحمد موسي هو الدّابة التي تُكلم ملايين الدّواب فتُقنعهم بأن "الزريبة" التي يعيشون علي أرضها خيراً من الدُّنيا وما فيها، أو أظهرت فيديوهات جنسية لمجموعة من الضباط الشرفاء يُجامعون منى الشاذلي وريهام سعيد وبسمة وهبة وعبد الحليم قنديل وإبراهيم عيسى، أو ألمحت لوجود "علاقة شاذة" بين بعض ضباط الشُّرطة وأسامة كمال ومحمود سعد ووائل اﻹبراشي ويوسف الحسيني ومنى عراقي ولميس الحديدي، أو كشفت عن أكبر شبكة دعارة في الشرق اﻷوسط فيها كُل نجوم ونجمات وفناني وفنانات ومذيعي ومذيعات وصحفيي وصحفيات وملاحدة ورجال ونساء دين من جميع مِلَل ونِحَل ومذاهب وأحزاب مصر المحروسة. فأعقب هذا كله بأنّ رغماً عن ذلك مازال يوجد ببن هؤلاء "رجال شرفاء جداً ونساء شريفات خالص" مُنتظرين الضوء الأخضر للتحرك من "آبانا الذي في السماء"، وجاهزين لتسلم النياشين والدروع والأنوطة من "شرفاء الجيش" ومستعدين لكي يُحْمَلوا على أعناق الشعب ويركبوا على قفاه وظهره ومؤخرته في حال نجاح أي "ثورة" قادمة.


هذه بعض نماذج من شخصيات مصرية ومع ما قد يبدو من تباين وتباعد بينها إلا أننا يمكننا بسهولة أن نري خيط واحد قوي يربطها مهما كان الإختلاف الأيدولوجي أو السياسي، وهو أنّ الشخصية المصرية -بطبيعتها- مُعَرِصة



ورغم ضخامة هذا المعجم إلا أنّ مُحتواه في غاية الفقر والضّحالة فمُعظم ما فيه ليس الغرض منه معرفة مجهول أو نفيه، أو الوصول لحل لقضية أو مُشكلة، أو بيان أو تفسير مُبْهَمْ أو مُعْضِلْ، أو نقل أمين لواقع جرى تشويهه وتزييفه، أو حتى مجرد محتوى أدبي تستمتع بقراءته بدلاً من مُشاهدة أفلام ومُسلسلات وبرامج وحوارات وتحليلات هابطة تُعرض على شاشة التليفزيون أو في الفضاء اﻹلكتروني؛ لكنّ محتوي المُعجم ليس إلا إفرازات نتنة عفنة لعقول -كما قلنا- مريضة مُختلّة جبانة لم تُبال في أن تتمخط وتبول وتتبرّز وتقيئ في آذان وأفواه وعقول المحيطين بها لكي تتخلص منها؛ بل وصدّقت وأقنعت من حولها أنها تُسدي لهم خدمة جليلة باعتقادها أنّه يكمن في تلك اﻹفرازات الحل السحري لجميع أمراض وهموم ومشاكل ومتاعب الحياة. تلك العقول لم تدع شيئاً إلا شوّهته وصبغته بصبغتها حتي بات من الصعب أن تسمع ما اقتبسته من توراة و انجيل أو قرآن وحديث أو فلسفة وحكمة دون أن ينتابك إحساس داخلي بالقرف والنفور والاشمئزاز من طول تكراره وابتذاله وتجاوره وربطه مع بلاهات تلك العقول التي لديها قدرة هائلة علي ابتذال وتسخيف أي شيئ وكُل شئ، فاستطاعت أن تحوّل "أطيعوا الله وأطيعوا الرَسول وأولي اﻷَمر مِنكم" لتُصبح النشيد الوطني للأنطاع والمُعرّصين، ثم ألحقت بها "إنَّ مَنْ يُقاوم السُّلطان يُقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيَأْخذون لأنْفسهمْ دَينونة" كي تجعل كُل المُقاومين "كفرة". وصيّرت "حَسبي الله ونِعْم الوكيل" إلى الشعار المُفضّل للأذلاء والجُبناء والعجزة، ثم استخدمت من بعده " مَنْ ضَربك علي خَدك اﻷيمن فحوّل له الآخر أيضاً" لتُداري ذِلتها وجُبنها وعجزها. وفسّرت "قُل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا" بأنه لا داعي ﻷن تدّعو أو تشكو ما حاق بك أو تتحرك أو تُغيّر فساد ما حولك أو تدفع أو تُعاقب مَنْ أصابك وأهانك وأذلّك وظلمك فكل شئ "مقدّر ومكتوب"، ثم اتخذت من بعده "لا تَدينوا لئلا تُدانوا“ لتُخْرِس كل اﻷلسنة التي تُحاول أن تصرخ أو تعترض، وتقطع بها كل اﻷيدي التي تمتد لتأخذ حقها أو حتي تُحاول أن تُشير بأصابعها اتجاه المُجرمين والظلمة. وكتبت "إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" علي نصل سيفاً ورقياً صنعته من قُصاصة خُطّ عليها "مَنْ كان مِنْكمْ بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر" لتُقاوم به كل مَنْ يُحاول أن يُفكّر في أن يرمي بحجر اتجاه العاهرات والمنافقين والمُعرّصين والفسدة.


نرى في الاقتباس اﻷخير مدي براعة وقدرة تلك العقول على التسخيف والابتذال، حيث استطاعت تحويله إلي "مبدأ أخلاقي" للدفاع عن العاهرات والراقصات وأشباههن، واستخدمته هو نفسه كحجر تُلقي به في وجوه الجميع لتعايرهم بأنهم بشر يخطئون، وساوت بين أخطائهم وبين خطايا كل "عاهرة وراقصة"؛ بل وزادت في اﻷمر بأنْ أبطنتْ بأنّهما أفضل منهم جميعاً فَهُمَا يفعلان ما يفعلانه في العلن بلا خوف أو خجل أما هُمْ فمنافقون مُرائون. وإن كانت اﻵلية التي تقف خلف تلك البراعة والقدرة في غاية البساطة -ولذلك برع فيها المصريون- وتقوم علي نزع الاقتباس من سياقة ثم وضعه في سياقات جديدة مُناقضة وتكراره حتي يُصبح رؤية الاقتباس ضمن سياقه القديم مُثير للاستهزاء والسُّخرية، ومع مرور الوقت من كثرة ابتذاله يتسلل للنفوس القرف والنفور والاشمئزاز من رؤيته في أي سياق كان؛ إلا أنّه لكي تُحقق تلك العقول النجاح المُبهر الذي نراه وتجعل من سخافاتها وابتذالها مثار الدّهشة والسُّخرية ومضرب المثل والهبل، فهي تحتاج لما أُطلق عليه "عبقرية المصريين"، وهو تعبير يُستخدم لإخفاء "عتاهة المصريين" والتي تنطلق منها كل تناقضات الشخصية المصرية كما اشرنا لذلك سابقاً (4 كي تُصبح عاجزة عن رؤية التناقض فيما تقوله وتكتبه وتقرأه وتفعله فتصل لحدود من التفاهة والسّفالة والسّخافة والابتذال لم يكن يتخيل أحد أنّه يمكن الوصول إليها حتي (يسوع) نفسه، وهو "إله" يعبده قطاع كبير من المصريين، لم يكن ليخطر بباله أنْ يأتي اليوم الذي تُحوّل فيه تعاليمه وعظاته إلي مسّخرة تُصيب اليتامي والأيامى والثكالى بهستيريا الضحك في تصوّر المصريين وتصوريهم لـه- وهو الغيور علي الشريعة- يقف مُمجداً مُدافعاً عن العاهرات والراقصات رافعاً يديه مُتضرعاً لـ"أبيه السماوي" يدعوه في أن يُحقق أمنيته الوحيدة في أن يكون كل أتباعه وعابديه زُناة.


لكن لو فحصنا كلام (يسوع) الذي سخّفته وابتذلته عتاهة المصريين سنجده هو أيضاً لا يخلو من سفسطة، فـ(يسوع)(5) الذي نشأ وتربي في وسط فرّيسي وأصبح يُعلّم في الهيكل ويعظ الناس ويُفْتيهم حتي ناداه عوام اليهود بـ "ربِّي -רבי" بمعني سيّدي أو مُعلّمي (6) لم يكن صدامه في البداية مع الفرّيسيين يدور حول "تحكيم الشَّريعة" وضرورة الالتزام بحدودها وأحكامها وهو القائل تزول السماء واﻷرض ولا يزول حرفاً واحداً منها، لكنّه كان يدور حول كيف حُوّلت الشَّريعة من رحمة للناس لتُصبح عقاباً وسيفاً مُسلّطاً علي رقابهم! ومن أين يتأتّى أن تحض علي اﻷمانة ولا يتورع الواحد منهم عن أكل أموال الناس بالباطل باسم الشَّريعة نفسها!!! وهل يمكن أن تدعوا الشَّريعة للصدق كي تُحوّل كُل أتباعها لمُنافقين مُرائين كذبة!! فرؤيته وفهمه للشَّريعة كان اقرب لرؤية وفهم الفرّيسيين من أي فرقة آخري، إلا إنه ناقض نفسه حين حاول أن يصيغهما في تعاليم وردود يُلقيها علي أسماع مُريديه ومُنتقديه، فمن جانب اتخذ موقفاً أكثر تطرفاً من الفرّيسيين أنفسهم حين عرض رؤيته وفهمه؛ بقوله إذا كانت الشَّريعة تقول لا تقتل! وأنّ القاتل يستحق العقاب، فيضيف إليها أنه حتى مجرد أن تقول ﻷخيك يا أحمق -وقد تكون صادقاً- فأنت تستحق نار جهنم. وإنْ حرّمت الشَّريعة الزنا، فإنّ فهمه يقوده للقول أنّ مجرد النظر إلي امرأة بشهوة فهو أيضاً زنا والواجب أن تقلع عينيك خيراً من أن يهلك جسمك كُله في الجحيم. وإذا أباحت الشَّريعة الطلاق، فقد رأي (يسوع) الزواج كعلاقة أبدية لا تنفصم أبداً -إلا لعلة الزنا (7)- وعلي هذا قرّر بأن أي زواج آخر يعقب طلاقاً فهو زنا. وإنْ أَمرتك الشَّريعة بأن تبرّ بِقَسَمك؛ فهو يأمرك بألا تُقْسِمْ أبداً من اﻷساس ﻷنك لا تملك من أمرك شيئاً. علي الجانب اﻵخر نجده ينقض الشريعة نقضاً دون أن يطرف له جفن، فإذا قررت الشَّريعة حقك في القصاص فـ"عينٌ بِعيْنٍ وسِنٌّ بِسِنٍّ" فيُقوّض هذا الحق ويُقرّر أنّه إذا جاء مَنْ يصفعك علي خدك اﻷيمن فبدل أن ترد له الصفعة فعليك أن تُدير له خدّك اﻵخر ليضربه. ليس هذا فحسب بل ويذهب لموقف أكثر تطرفاً -ولكن في الاتجاه المُعاكس- بأنّ عليك أنْ تُباركه وتُحبّه وتُصلّي وتدعو له بالرحمة والغُفران. وإن كانت الشَّريعة تُطالبك بألا تخضع للطُغاة والمُستبدين، لكنه يقول لك فلتُعطي "مال قيصر لقيصر" بمعني أنّ عليكَ أن تخضع لما هو قائم وأنك لست مُطالباً بتغييره.


إن كان (يسوع) قال العبارة السابقة رداً على الفرّيسيين الذين -كما ينقل اﻹنجيل- كانوا يحاولون اﻹيقاع به في سؤاله بهل يحلّ دفع الجزّية لقيصر أم لا؟ فإن قال لا يحلّ، وقع في مشكلة مع السُّلطات الرومانية التي كانت تحكم المنطقة باعتباره يُحرّض الناس علي شق عصي الطاعة. وإن هو أجابهم باﻹيجاب، فهو إذا يوالي تلك السُّلطة الوثنية الكافرة وحينها يكون كل كلامه عن الشَّريعة لغو بلا معني. لكن لو تجاوزنا نظرة اﻹنجيل للفرّيسيين، وهي نظرة لا نقول أنها تحوي تحامل بل هي افتراء صريح عليهم، ونظرنا من الجانب اﻷخر، أليس من الممكن أن يكون سؤال الفرّيسيين له ليس بغرض اﻹيقاع به بقدر ما كانت محاولة للتأكد من إن كان هو المسيح المُنتظر كما يزعم أم لا؟ فلو كان كما يقول فهو إذاً الذي سيقودهم للتحرر من حكم الرومان، وسيكون جوابه حينها بمنع دفع الجزّية، أمّا إذا أقرّ بدفعها فيكون مجرد كذّاب مُدّعي؛ وما يؤيد تلك النظرة أن (يسوع) راوغ -كعادته- في أن يجاوب إجابة مُباشرة ولجأ إلى السفسطة التي عادة ما تراها في كلام الفلاسفة، فكانت إجابته تجمع نعم ولا في نفس الوقت !!! إلا أن المسمار اﻷخير الذي وضعه في نعش الشَّريعة هو قوله في الاقتباس الذي نقلناه "مَنْ كان منكم بلا خطيئة" والذي يدور حول فكرة إذا كُنّا كُلنا خُطاة فكيف يحكم خاطي علي خاطي آخر أو خاطية؟! هذه الفكرة قد تبدو ﻷول وهلة منطقية معقولة لكنها في حقيقتها مُتناقضة مُتهافتة، فالشَّريعة التي قال (يسوع) أنّه ما جاء لينقضها هي التي أقرت الحُكم والعقاب، ونفس تلك الشريعة لا يوجد فيها ما ينص علي أنّ مَنْ يقوم بتنفيذ اﻷحكام والحدود يجب أن يكون إله مُنزّه أو بشر بلا خطيئة؛ بل هي تُقرّ بأن الكُل يُخطئ ولذلك كان وجودها ضروري في حياة الناس. هذا التناقض الداخلي في رؤية (يسوع) للشَّريعة، والذي قد يكون بسبب إيمانه بأنّ القيامة علي اﻷبواب وما هي إلا شهور أو سنوات معدودات ويأتي بعدها "ملكوت السماء"، أنشئ نظرة مُغايرة لها وأدي لظهور نواة فرقة جديدة ضمن الفرق التي كانت تتصارع بالفعل وقتها؛ مما جعل الفرِّيسيّون ينظرون إلي كلامه كهرطقة وكُفر وإلحاد، وقد صدقت نظرتهم في النهاية، فلم يأخذ اﻷمر إلا عدة رسائل من (بولس الرسول (شاول-شاؤول שׁאוּל)- وهو فرّيسي أيضاً- حتي يواري الشَّريعة التراب ويؤسس لدين جديد … لكن احتراماً لمراسم الدفن فلنتوقف عند هذا الحد ونري – إن شاء الله – المرة القادمة صراع الفرّيسيين من أجل أن تحيا الشَّريعة.
******************************************************************************************************
(2) لم تسلم الشهادة -كغيرها- من ابتذال المصريين حتي لو مات لهم عسكرياً غلباناً أو كلباً جرباناً أو بغلاً عنيناً قالوا: "لقد مات شهيداً". وينسب المصريون الشهادة لنوعين لا ثالث لهما: فهناك "الشهداء" الذين ماتوا دفاعاً عن النظام ويدخل في هذا النوع المنتسبين للجيش والشرطة والقضاء واﻹعلام ... إلخ؛ والنوع الثاني ينتمون لمُعارضي النظام "السلميين" الذين قتلهم المُدافعون عن النظام؟!!! في حين يرى المصريون الذين يستخدمون السلاح - حتى لو كان الحجارة- في مواجهة رشاشات ودبابات وطائرات النظام ليسوا إلا "خوارج كُفار".
(3) هذا مثال بسيط على عتاهة الشخصية المصرية، فكيف تكون أي مؤسسة -جيش أو غيره- كُل قيادتها عملية خائنة ثم تتكلم عن وطنية وشرف تلك المؤسسة؟! فتفصل بين القيادة -وهي أهم وأخطر- وبين العاملين معها؛ فتقول هؤلاء عملاء خونة لكن أولئك وطنيين شُرفاء، رغم أنه لا يوجد أي دليل على هذا صحة هذا الفصل؛ بل العكس كل الأدلة تُشير إلي أن "القواعد" على نفس القدر من الخيانة والفساد كقيادتهم، يكفي فقط رضاهم بما يجري والذي يظهر في"إطاعتهم للأوامر". حيلة الفصل بين القيادة الفاسدة و"الضُباط الشرفاء" ظهرت في أعقاب أحداث 25 يناير في الشعار الشهير "الجيش بتاعنا والمجلس مش تبعنا" وكان الغرض منها أن تضحك علي الجماهير الغاضبة كيلا تصطدم مع الضباط والعساكر الذين نزلوا في الشوارع لقمعهم، وقد نجحت تلك الحيلة نجاحا مُبهراً فرأينا المُتظاهرين يأخذون الصور التذكارية بجوار الدبابات والمدرعات بدل أن يحرقوها -فضلاً عن أن يستخدموها- والتي اعتقدوا أنها نزلت لتحميهم!! وبعضهم بالغ في اﻷمر فحضن وقبّل رؤوس الضُباط والعساكر. ولا يزال "المُعارضون" للنظام يستخدمون تلك الحيلة التي اخترعها النظام نفسه إمّا ببغاوية منهم -وهي واحدة من خصائص المصريين الشهيرة- أو غباءً أو عِمالة. المُضحك في اﻷمر أن تلك الحيلة لم ينجح استخدامها مع المؤسسة الشُرطية فلم نري أحد يقول "الشرطة تبعنا ورئاسة الداخلية مش تبعنا" رغم أنه كانت هناك أصوات تنادي بأن "ضباط الشرطة" غلابة مجبورون مأمورون لكن لم يلتفت أحد إليها، ﻷنّ الكُل يعلم سواء من خلال سنوات طويلة من الخبرة اليومية معهم أو في المواجهات مع عساكر اﻷمن المركزي "الغلابة"، أنّ ضُباط الشرطة وأمنائها وعساكرها ليسوا إلا مجموعة حقيرة من المرضى النفسيين الحرامية والبلطجية المرتزقة؛ والحقيقة التي لم تراها الجماهير -أو خافت أن تراها- هي أن ضباط وعساكر الجيش على نفس القدر -إن لم يكن يزيد- من المرض والحقارة .
(5) بالعبرية يشوع-ישׁוע وفي اﻷصل يهوشع יהושׁע-יהושׁוע بمعنى يهوه هو المُخلّص أو الغنّي.
.A Hebrew And English Lexicon Of The Old Testament, Wilhelm Gesenius
(6) كلمة "ربِّي -רבי" تتكون من رب "רב" وتعني قائد أو سيد وياء المتكلم "י"، وارتبطت بمُعلمي الفرّيسيين فأصبحت من ضمن مدلولاتها أيضا معني مُعلّم، وهناك كلمة آخري وردت في اﻹنجيل لها نفس المعني وهي "ربّوني" وهي كلمة آرامية، وقد كانت اللغة اﻵرامية هي (اللغة اﻷجنبية اﻷولي– Lingua Franca) التي تتواصل بها شعوب منطقة شرق المتوسط، وفي زمن (يسوع) كانت هي اللغة المحكية في منطقة اليهودية وانحصر استخدام اللغة العبرية علي الطقوس والشَّعائر. وقد نقل (متى) في إنجيله علي لسان (يسوع) حين بدأ في صب الويلات على الفرّيسيين لقسوتهم ونفاقهم وريائهم كما يدّعي؛ أنهم كانوا يحبون أن يناديهم الناس بـ"ربّ"، فيقول أنهم وإن كان ظاهرهم الالتزام بتعاليم الشريعة إلا أنهم أهملوا أهم ما جاءت به من العدل والرحمة واﻷمانة، فكل ما كان يعملونه كان لغرضاً واحداً هو أنْ « يَلْفِتُوا نَظَرَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ. فَهُمْ يَجْعَلُونَ عَصَائِبَهُمْ عَرِيضَةً وَيُطِيلُونَ أَطْرَافَ أَثْوَابِهِمْ؛ وَيُحِبُّونَ أَمَاكِنَ الصَّدَارَةِ فِي الْوَلاَئِمِ، وَالأَمَاكِنَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْمَجَامِعِ،  وَأَنْ تُلْقَى عَلَيْهِمِ التَّحِيَّاتُ فِي السَّاحَاتِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: يَامُعَلِّمُ، يَامُعَلِّمُ.» (مت 5:23-7) وما زالت تلك الكلمة كما هي تُطلق علي شيوخ اليهود اليوم، وإن كان لها نُطق آخر حسب النطق الغربي للعبرية، فتُبدل الباء ڤاء فيقال مثلاً "راڤ-Rav” (داڤيد كوهين) بدلاً من ربّ (داود كوهين).
(7) في هذا الاستثناء تحديداً لم يوضّح (يسوع) هل يدخل "زنا العين" -وهو يفضي بفاعله للجحيم- ضمن تلك العلة أم لا؟! لكن علي أية حال قد يكون ما دفع (يسوع) لهذا الموقف المتشدد اتجاه الطلاق أنه لا يتوافق مع الفكرة السائدة وقتها أن الزوجين في الحياة الدُّنيا سيجتمعان مرة آخري في اﻵخرة، وقد جاء إليه الصدوقيون الذين لا يؤمنون بقيامة اﻷموات كما رأينا سابقاً، ساخرين يُجادلونه من فكرة البعث وضربوا له مَثَلْ المرأة التي تتزوج بسبعة أخوة واحداً بعد اﻵخر، وسألوه ﻷي زوج منهم ستكون في الحياة اﻵخرة؟! فأجابهم يسوع أنّه لا زواج في العالم اﻵخر بل هي حياة كحياة الملائكة، وأنّ فهمهم قاصر عن تدّبر نصوص التوراة التي تؤكد قيامة اﻷموات فـ(يهوه) رب أحياء وليس برب أموات !!