الجمعة، 21 أبريل 2017

الجيش المصري و شعبه 16

الجيش المصري و شعبه 16
-البداية
(13)
"كَيفَ جَلَسْتْ وَحْدَهَا البَلَدُ الكَثِير شَعْبَها؟ كيَفَ صَارتْ كَأرْمَلَة العَظيِمَةَ بَينَ الأُمَمِ؟ أُمُ الدُنْيَا أَصْبَحتْ تَحتَ الأَحَذْيَة! تَبْكِي فِي اللَيلِ ودُمُوعَها عَلى خَدَيها. ليْسَ لهَا مُعزّ مِنْ كُلِ مُحِبيهَا. قَدْ سُبِيّتْ مِصرَ مِنَ المَذَلةِ ومِنْ كَثرةِ العُبُودِيةِ، تَسْكُنْ بَينَ الأُممِ، لَكِنْ لاَ تَجُدَ رَاحَة. طُرُقَها نَائِحةٌ لِعَدمِ الآتينَ إلى السيّاحةِ، أَبَوابُها خَرِبَةٌ، شِيُوخُها يُولولونَ، قَسَاوسَتُها يَنُحُونَ، وبَناتُها وشَبَابُها أَعْبَاط مُغَفَلون. قَدْ أَذَلَها كَثْرة خَطَايَاها وذُنُوبَها فَصَارَ رؤسَائِها كَجُحُوش بِلا مَرْعَي يُنَفِذونَ مَا يَأْمُرهُم بهِ الرَاعِي؛ مِن أَجْلِ ذَلِكْ صَارتْ نَجِسة. كُل مُكَرَمِيها يَحتَقِرونَها لأنَهُم رَأوا عَورَتِها. تَتأوه مِن وَجَعِ الخَطِيةِ ونَجَاسَتِها تُلاحِقُها. لَمْ تَذْكُر آخِرتها وانحطَت اِنَحطَاطاً عَجيباً. شَعْبُها يَئنُ ويَطَلبُُ خُبزاً وأَصْبَح كُلَ هَمهِ أَنْ يَأكُلَ ويَتَناسَلَ. اُنْظُر يَا حَاكمِنَا الأعَلَى وتَطَلع لأَنّ مِصرَكَ صَارتْ مُحْتَقَرة."
الإصحاح السادس عشر من سفر الشئون المعنوية


رأينا المرة السابقة تصور لتركيب السُلطة، وطبقاً لهذا التصور فإذا أردت أن تُنشئ سُلطة جديدة تستند على مبادئ وأفكار مُختلفة؛ فيجب أولاً هدم مركز السُلطة القديمة لكي ينهار "النظام" تلقائيا. وأنه تغيير الأشخاص في أي سُلطة لن يُنتج إلا تغيير "شكلي"، لكنه لن يؤدي إلى أي تغيير جوهري في بنيتها. هذا مع العلم أنه لا يمكن أبداً أن تأتي بأشخاص لا توافق عليهم قوي السُلطة -في أي سُلطة إسلامية كانت أم كافرة ديمقراطية أم مُستبدة- وأنه لو افترضنا أنه جاء مثل هؤلاء "المخلِّصون"، فبالإضافة إلى أن وجودهم حتى مع موافقة قوي السُلطة له تأثير محدود في احداث أي تغيير؛ فسيتحول وجودهم مع عدم موافقتها إلى مجرد "خيالات" مآته لا يُخيف أحد إلا المغفلين. وقد يتبادر لذهن القارئ مثال (د. محمد مرسي) أنه قد جاء رغماً عن الجيش ومؤيديه وأنه جاء بإرادة "الناخبين" التي لم "يستطع" الجيش تزويرها، وبالتالي خطط الجيش وبقية قوي السُلطة لإزاحته وخلعه فيما بعد. والواقع أن (د. مرسي) لم يأت رغماً عن قوي السُلطة؛ بل لجأت السُلطة لاستخدامه كجسر عبور لكي تُعلن عبر "خلعه" تحرير البلاد من "الأفكار الشيطانية" وتُصبح السُلطة نفسها هي صاحبة وراعية وأم كُل "ثورة". لم تكن السُلطة يوماً واحداً في "يد" مُرسي، لكن هذا لا يعني أنه "برئ" هو وجماعته والمتعاطفين معهم؛ بل هم سبب رئيس في نجاح السُلطة في أن تقوم من كبوتها بأقل الخسائر المُمكنة. فانتهازيتهم العبيطة جعلت قوي السُلطة تتلاعب بهم كقطع الشطرنج، فأدوا أدوارهم أفضل مما لو كان هناك حتى "اتفاق سري" بينهم. وهذا يؤكد أنه طالما مركز السُلطة حي يتنفس فإن أي كلام عن "نجاح" أي ثورة هو محض "سذاجة وعبط".


ويقودنا هذا إلى القوة الثانية التي تتصدر المشهد –أو بالأحرى التي "يتم تصديرها"- ورافقت الإخوان في طريقهم حتى أوصلتهم لمصيرهم "المحتوم"، وضحكت على "قياداتهم" الذين "يعرفون كُل شيء" هذه القوة هي ما يُسمي بـ"التيار السلفي" ومنهجها كالإخوان فهم "إصلاحيون" يعتمدون علي منهج "تاتا تاتا"، ويرون أن "الخروج" علي الحاكم –حتي مع التسليم بظلمه وفساده أو حتي بكُفره- ليس فيه "مصلحة" بل سيؤدي إلي إراقة الدماء "المعصومة" وخراب الديار و انهيار العمران. وأن ليس علينا –نحن السلفيون- إلا بذل النصيحة للحاكم لنصحه وارشاده وهو "حُر" بعد ذلك فيما يفعله وحسابه علي الله. ولكن علينا أن نلتزم ونُلزِم من هم تحت "ولايتنا" "بالدين الصحيح" مظهراً وملبساً مأكلاً ومشرباً فرائضاً وسُنناً. علي أمل أنه بعد فترة - غالباً بعد قرون حينها يكون نبتت "قرون" لأتباعهم- ستتحول الأرض إلى جنة تخضع بإرادتها ودون أي دماء إلى "شريعة الله". وكما قُلنا عن "إخلاص وتضحيات" الإخوان نقول نفس الشيء عن هذا التيار الذي اذا افترضنا "صدق و إخلاص" أفراده -مع تأكيدنا علي عمالة و غباء رموزه- فإن "منهجهم السلفي" كما يَدّعون لا يمكن بحال من الأحوال أن يؤدي لشيء، وأنّ استمرار وجودهم ليس لشيء إلا لأنه في صالح السُلطة؛ فهي من ناحية تستخدمهم "كمادة" للسُخرية من الدين و مبادئه، ومن ناحية أُخري يتم تحريكهم وتجيشهم–خصوصاً وقت الأزمات- لتقوم بالدور التاريخي الذي كان يقوم به شيوخ الأزهر والذين لم يعد لهم أي تأثير علي "الجماهير"، فتجدهم في القري والنجوع –حيث قوتهم الحقيقية- يدعون الناس إلي التسليم بقضاء الله، والرضا بما قسمه لهم. وأن لا خير يأتي من محاولة الخروج علي الحاكم، ثم لا ينسوا في نهاية كل خُطبة للدعوة لولي الأمر بالخير والصلاح وبدعوة "أهل الخير" لتقديم التبرعات لبناء "مسجد" القرية أو لتأثيثه أو لترميمه أو أي شيء آخر قد يأتي منه "الفلوس".


وقد ذكرتُ هذا التيار مع أنه لا يسعي للسُلطة لسببين؛ أولاً: لأنه من خلاله يتم اختراق – فكري وأمني- لبقية القوي الإسلامية. وثانياً: لأنه يتم تحريكه بشكل يجعله قوة "مُنافسة" للقوي الأخري التي ذكرناها سابقاً. ويتم تقديم هذا النموذج السلفي –في بعض الأحيان- على أساس أنه "مُعارض" وفي أحيان آخري يتم "تلميع" صورة قادته ليظهروا بصورة "الحكيم" أو "المُصلح" أو "المُحايد". ولقد رأينا هؤلاء "السلفيون" وقادتهم خلال 25 يناير وما بعدها، فتم استخدامهم في البداية "لتكفير" ولعن الذين خرجوا منددين بـ"النظام"، ثم تحولوا إلي "مُطالبين" بتطبيق الشريعة. حيث سمعنا الجميع من على المنابر وعلى الشاشات يُعلنها "حرب شعواء" على "العلمانيين الكفرة"، ورأينا "استفتاء" مارس 2011 -أو غزوة الصناديق- يتحول إلي حرب فاصلة بين "الإيمان والكُفر". والآن بعدما انتصر "الكُفر" لا تري أي ردة فعله منهم؛ فعادوا إلى ما كانوا يفعلونه قبل ذلك، فتجد الآن خُطبهم عن "العيش المشترك"، وتكريم "مريم وابنها" في القرآن. ومن قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً. وعن الخوارج الملاحدة عملاء إسرائيل، والتي تُساعد جيشهم في القضاء على نفس "الخوارج" الذين صنعتهم، فسُبحان الذي جعل الجحوش تعتلي المنابر. إنّ الإسلام في مفهوم هؤلاء هو فهم السُلطة له، حتى لو بدا هذا الفهم مُناقضاً لمبادئه وأركانه. فلابد انها "أفهامنا السقيمة" هي التي لم تري "الحكمة" فيما تقوله، لكننا لو امعنّا النظر وبحثنا قليلاً لوجدنا قولها هو عين الصواب وصحيح الدين وأساس الحكمة. ولا تستعجب حينما تري كثير منهم –حين تأمر السُلطة- بمنع الحجاب أو النقاب، أو بحلق اللحى أو إطالة الجلباب أو حتى بحذف أحاديث و"تعطيل" العمل بآيات؛ أن يهللوا لها ويوافقوا عليها ويؤيدوها بأحاديث وآيات آخري. وإن كان البعض منهم سيبدأ في "الهبهبة والهوهوة" –فقط للاستعراض- لكنهم سُرعان ما يهدئون ويُقدمون "العقل" بعد أن كانوا "يؤخرونه"، ويرون أنّ "المصلحة" في السكوت مُقدم علي "المفسدة" بالكلام، وأن تسكت خير من أن تُهدَر "الدماء المعصومة".


إذاً لقد تحول هذا التيار الذي خلال سنتي2011-2013 لم يتوقف عن "المُطالبة" بتطبيق الشريعة إلى الوقوف مع "القوي المدنية" التي أقصي ما يمكن أن توافق عليه هو أن تكون هناك مادة بالدستور–الذي بالأساس بلا أي قيمة- تقول إن الإسلام هو دين الدولة –هكذا-  و "مبادئ" الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. هذا التحول لم يأتي عن طريق "مُراجعات فكرية" بل هو فقط تبع لتوجه السُلطة. فإن كانت السُلطة قد أخرجت هؤلاء من "اعتكافهم" السياسي -وهذا من المفارقة فهم أصلاً لا يعترفون بالديمقراطية ويرونها "كُفر بواح"- فقط لـ"تخويف" بقية القوي من هؤلاء "السلفيين الجهلة الرجعيين"؛ ولتُظهر أنّ ديكتاتور "علماني" مُستعد للإصلاح السياسي خير من "فاشية دينية" لن تقبل بوجود أي آخر مخالف لها. "القوي المدنية" بدورها –وهي أيضاً قوي إصلاحية- قامت بدور مشابه لدور هذا التيار السلفي فمن "هتافاتها ومُطالبتها" بالحرية وبالكرامة تحولت خلال سنتين فقط لتقف في مُعسكر السُلطة للانقلاب على "الديمقراطية البلهاء" التي طالما "كافحوا" من أجل تحقيقها. فوجدنا تلك القوي تغض الطرف عن مذابح السُلطة بل وشجع وحرض ونادي بها بعضهم باعتبار أن هذا ظرف "استثنائي" لن يطول وبعدها ستعود الأمور إلى "المسار الديمقراطي" وننعم بالحرية والكرامة. فلا هم احترموا قواعد "اللعبة الديمقراطية" ولا حتى السُلطة قدمت لهم أي تنازلت من الممكن أن تُعوض ما قدموه لها من خدمات.


تلك القوي المدنية هي خليط غير متجانس من أفكار وتوجهات ورؤى وإن كانت تُردد نفس "الشعارات"، لكن يجمعهم والقوتين السابقتين –الإخوان والتيار السلفي- قدر هائل من "السذاجة والعبط" والذي دائماً ما يقودهم إلى الفشل. ليس معني أنك جماعة "إصلاحية" أن تأخذ دائماً على "قفاك"، بل لابد لك من أن تحصل من السُلطة القائمة على الاعتراف بوجودك وبأخذ ردة فعلك في الحُسبان، فأنت "تخدم" تلك السُلطة بأن تُقدم للناس "الأمل" في غداً أفضل بدون أن يدخلوا في صدام دموي معها، فقط يعترضوا أو يعتصموا أو يغضبوا؛ وهو بديل مُناسب لكثير من الناس التي ترتعب من رؤية دمائها تسيل لكن ليس لديها أي مُشكلة في أن تسيل دماء غيرهم طالما خرجت عن "الإجماع الوطني". إنّ أي جماعة اصلاحية تُشكل "ستار" للسُلطة لتغطي على أفعالها وتحميها من "الراديكاليين" الذين لا يقبلون بالحلول الوسط، وبالتالي فمن الغباء أن تُقدم تلك "الخدمات" لها وفي المقابل يتم "لطعك على قفاك".


القوة الأخيرة هم "الراديكاليون" وهم فئة نادرة الوجود أصلاً ووجودهم أشد نُدرة في مصر "المحروسة"؛ ولعل اسم المحروسة جاء من قلة "راديكاليّها" لذلك كانت دائما تسير على نفس الوتيرة بلا أي تغيير مُنذ عشرات القرون –7000 سنة "حضارة" -  فاعتقد الناس ان هذا بسبب "حراسة" ربانية لها وليس بسبب "وسطية" سُكانها تلك الوسطية التي لا تعرف إلا الخضوع وأي أفكار آخري غير الخنوع تبدو لسُكان هذا الوادي "مُتطرفة" لا تُناسب طبيعتهم. هذه القوة يُمثلها بشكل رئيسي الآن ولاية سيناء التابعة للدولة الإسلامية، وهي تعرف "أصل الداء" وما هو "العلاج الشافي". لكن المرضي غالبا ما يكرهون الأطباء وأدويتهم؛ وبعض هؤلاء المرضي يرفض حتى الاعتراف بمرضه، ويُصرّ على إنه "زي البمب" ويتهم الطبيب بأنه "جزار" يُحب رؤية الدماء وتقطيع الأوصال واستئصال الأورام ليُشبع رغبته المريضة السادية لتعذيب وايذاء الأخرين. 

 وبما أنّ تلك القوة راديكالية فلا يوجد في قاموسها أي "حلول وسط" ولا ترضي إلا باقتلاع "الشجرة الخبيثة" من جذروها.  وقد دخلت تلك القوة في صدام مُباشر لا هوادة فيه مع مركز السُلطة ومؤيديه؛ وبدأت استراتيجيتها في التبلور وان تكون أكثر نضوجاً، والتفجيرات الأخيرة لكنائس النصارى خطوة للأمام، ورأينا كيف أن هذه التفجيرات لها تأثير أكبر بعشرات المرات من موت مئات الجنود في سيناء، وهم أصلاً لا يُشكلون قوة المركز الحقيقية، وكما ذكرت في تدوينه آخري (1) أن "جنود النظام" "اكتر من الهم علىى القلب"، وهو مستعد للتضحية بالآلاف منهم، بل وسيتاجر بهم باعتبارهم "شهداء الوطن"، في مقابل أن يقضي علىى جنود الولاية. لذلك الأمر لا يتعلق "بالكم" أي بـ"الأرقام" وكم قتلت من جنود ودمرت من آليات، بل يتعلق بالكيف أي أهمية الأهداف للنظام وهذا يظهر من ردة فعلة إعلامياً وعلي الأرض. وقد ظهر فزع السُلطة من أن تتكرر تلك "الحوادث"، الأمر الذي اضطرها لإعلان حالة الطوارئ، وهي في الواقع لم تكن تُريد هذا، فهي بدون هذا الإعلان تفعل ما تفعله بإعلانه فلم تستفد إلا "الشوشرة" على أن هناك "عدم استقرار" و"قلاقل أمنية"؛ الأمر الذي يؤثر على "سمعة الدكر الرئيس" الذي أصبح "أنثي تبيض". إذاً هو إعلان كعدمه لأن السُلطة في مصر لا تحترم أساسا أي قانون حتى القوانين التي قام "ترزيوها" بتفصيلها لتناسبها. فهذا الإعلان هو فقط "للشو الإعلامي" أمّا الواقع فنحن في طوارئ منذ عشرات السنوات وسنظل هكذا سواء كان هناك إعلان أم تم "إلغاءه". ونأمل في قادم الأيام أن تُنوع الولاية من أهدافها، فكل الأنظار متوجهة "للكنائس" وحراستها، فضربة لرجال الأعمال ومصالحهم –أي كانت ملتهم- ستكون خطوة جديدة للأمام. وباستمرار هذا التنوع لن يجد "مركز السُلطة" بديلاً عن مزيد من التوحش مما يزيده انكشافاً ويسهل بعد ذلك هزيمته –بإذن الله- لكن بالأخذ في الحسبان أن الوقت ليس دائماً في صالحك وأن السُرعة هي مفتاح رئيسي لهزيمة خصمك الذي يُساعده "مراكز" محلية ودولية.


في إصدارها الأخير (صاعقات القلوب) قدمت لنا ولاية سيناء عمليات قنص لجنود الجيش والذي يُظهر لنا بوضوح أنّ هؤلاء الجنود بلا أي قيمة وأن "خُسارة" فيهم حتى الرُصاصة، لكن على أيه حال هي أهداف جيده للتدريب وخصوصاً حينما يجرون كالفئران حيث تظهر قُدرة القناص الحقيقية. المشهد الأخير في هذا الإصدار رائع حيث تنطلق رصاصة القناص لتصيب رأس "الهدف" مباشرة فيسقط على الفور. وهذا ما يجب فعله لتأسيس أي سُلطة جديدة فلتضرب السُلطة في مركزها و "أم رأسها" لتتهاوي صريعة على الأرض، هذا هو الطريق الوحيد للنجاح وكل الطُرق الأخرى "مسدودة". وكما قُلنا إننا لا نُناقش "إسلام" أو "كُفر" أي من تلك القوي السابقة، نحن فقط نري "منهجها" في هدم السُلطة: هل هو المنهج الصحيح، أم منهج فاشل ولن يؤدي لشيء فقط مجرد تضييع للوقت بلا أي فائدة؟ لأننا لو دخلنا في مثل هكذا نقاش سيكون غالباً نقاش عقيم نتوه فيه في "فذلكات" فقهية لا تُقدم ولا تؤخر. لذلك ولقطع الطريق على "المتفذلكين والأنطاع" رأيت أنه من الأجدى والأفيد أن تتم مناقشة مآلات كل منهج بدلاً من مُناقشة مُنطلقاته. فما أكثر القوي التي تدعو لـ"لتحكيم الشريعة" ولكننا نراها تقف وتُردد ما يقوله أعدائها. وما أكثر "الكُفار" الذين أشبعونا كلاماً عن الحُرية والديمقراطية وعند أول اختبار تجدهم يُسبحون بحمد الديكتاتور أو الطاغية الذين كانوا بالأمس يلعنونه.

إما أن تضرب مركز السُلطة في مقتل أو ستكون الرصاصة التالية في رأسك أنت.

لقد بات واضحاً مما سبق مَنْ معه "الحق" ومَنْ هو على الطريق الصحيح؛ وإن لم يُعجبك هذا، فالأمر بسيط استمر فيما أنت فيه، وتلقي الصفعة وراء الأخرى على "قفاك" مُردّداً " "والصفع علي القفا في سبيل الله أسمي أمانينا" إذا كنت إخوانياً، أو "أُفضل أن يتم لطعي علي قفايا و لا أن اعترض علي شيخنا سيدنا ومولانا" إذا كنت سلفياً، أما إذا كنت من "القوي المدنية" فردّد نشيد "مصرك الغالية" "بلادي بلادي بلادي لكي كرامتي ومؤخرتي وقفايا" ولا تُكمل قراءة، فأنت "مش فاضي" فـ"قفاك" مشغول بتلقي الصفعات -كان الله في عونك- فلا تُضيّعه في قراءة لا تفيد أمثالك يا "قفا"، فسوف أبدأ في استكمال رواية المعلم (نقولا).


توقفنا المرة السابقة عند انتهاء "ثورة القاهرة الأولي" واطمئنان قلب (نابليون) واستعداده لبدء حملته على الشام حيث «بعد نهاية تلك الحركات التي قد حدثت وقتل الجنرال دبوي شيخ البلد» الذي فرح الناس بمقتله «لأنه كان صعب الأخلاق وبطل لا يُطاق.» تم تولية الجنرال (ديستان) بدلا منه «وكان هذا عاقلاً فاضلا.» وتم أيضا تعيين مصطفي أغا جربجي، أو شوربجي وهي رتبة في صفوف الإنكشارية تُعادل رتبة عميد، حيث سيخدم الفرنسيين بـ"ضمير" «وكان صادقاً في خدمته شديداً في همته» بدلاً عن محمد آغا الإنكشارية الذي هرب «حينما قامت الإسلام على الفرنساوية» وحين تحرك (نابليونلحملته سيلجأ محمد آغا إلي الجزار لكنه لن يثق به «وحين دخل على الجزار قال له: انت الذي كنت اغة الإنكشارية؟ قال: نعم، ولكنني هربت منهم وأتيت إليك. فقال له الجزار: ما انت إلا جاسوس. ثم أمر بقلته.» وأما مصطفي آغا سيُقتل –كما رأينا في رواية الجبرتيفي أحداث "ثورة القاهرة الثانيةحيث سيتهمه "الثواربموالاته للفرنسيين هو والشيخ البكريوكان بين مصطفي هذا والبكري بالإضافة لمنافستهم على "حب الفرنسيين"؛ كانا يتنافسان على امتلاك مملوك "حليوة"، حتى وصل الأمر إلى التقاتل عليهفلما تدخل الفرنسيون لحل هذا النزاعنظر الجنرال (دوجافي الأمر، وقرر أن يكون المملوك "الحليوةمن نصيب الشيخ البكري -دائماً محظوظعلى أن يدفع البكري تعويضاً لمصطفي آغا (2).


وهكذا "استكانتمصر و "كَلّأهلها «من الحروب مع الفرنساوية، وطاعتهم الطاعة الرغمية، لما كابدوا من شدة باسهم وقوة مراسهم هذا بالإضافة أنّ الفرنسيين قد جذبوا أكثر الناس –كما يقول- «بحسن أحكامهم العادلة، وعدم ميلهم للمشاكلة، وحسن سياستهم وعدم خيانتهم، وحبهم المفرط للمسلمين ورفع المظالم عن الفلاحين» وعلى الفور شرع الجنرال (كافاريللي) في بناء القلاع التي أمر بها نابليون «وفي أيام قليلة تمت الأربع قلع، ونقل إليها جبخانة والمدافع والقنابر، وحصنها بالعساكروبنى في القلعة الكبيرة أبراحاً، ونقل إليها مدافع كثيرةوأرسل إليها الزيت والمشاقة (فتائل من الصوفليرى أهالي مصر أن إذا نهضوا مرة ثانية يُتلف المدينة بالحراقةوهكذا خبر علماء هم أن يُخبروا الرعية ثم بدأت التحضيرات للحملة على الشام فاستمر توافد العساكر والإمدادات إلى بلبيس والصالحية استعداد للتحرك نحو العريش. ورغم أنه كما رأينا سابقاً أنّ الجنرال (كليبر) جُرح في "فتح" الإسكندرية جُرح كبير حيث نجده في رسالة لـ(نابليون) -الذي أخبره بأن يستعد لحملة الشام- في 22 سبتمبر 1798م"يُقدم طلب" بالعودة لفرنسا «اليوم حالتي الصحية وألمي الذي يُسببه جُرحي لا يسمحان لي بأن أتابعك في مسيرتك اللامعة، لقد أخبرت الجنرال (كافاريلليبنفس الشيء لكي يحصل لي منك على التصريح بالعودة لفرنساوسأتقبل بصدر رحب ما ستُقرره في هذا الشأن.» (3) لكن نابليون سيرفض هذا الطلب "بلاطفه"" ويخبره أن يأتي للقاهرة «آمل أن هواء النيل سيُفيدك، وبخروجك من رمال الإسكندرية ستجد أنّ مِصرُنا أقل سوءً مما اعتقدنا في البدايةكان لدينا بعض المشكلات المختلفة مع عرب الشرقية وبحيرة المنزلة، وقد تم هزيمتهم في دمياط وقبل أمس في ميت غمر. (ديزيهقد ذهب حتى أسيوط وقد طرد المماليك إلى الصحراء وبعضاً منهم لجأ للواحاتإبراهيم بيك موجود بغزة ويُهدننا بالهجوم علينا، لكنه لن يفعل شيئاً، أما نحن فلا نُهدد بل نستطيع أن نطرده من هناك.» وسيتم هزيمة "المجاهدالشيخ حسن طوبار، وقطع رقبة الشيخ سليمان الشواربي شيخ قليوب كما رأينا ليُصبح الطريق مؤمناً للعريش.


وكنُّا قد رأينا أنّ (نابليونحاول استمالته الجزار والي عكا لكن الجزار قد "ازدري كل المبادرات الوديةبتعبير نابليون في رسالته، التي ذكرناها حينما كُنا نتكلم عن الأوضاع في الشام، إلى المكتب التنفيذي الذي يوضح فيها الغرض من حملته على الشامفلما علم الجزار بتحضيرات نابليون أسرع «بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار، خشية من هجوم الكفار واستيلائهم على تلك الأقطاروحصّن مدينة عكا بالابرجه والأسوار، ووضع عليها القنابر والمدافع الكباروحصّن أيضاً مدينة حيفا، وأرسل إلى يافا العساكر وحصنها بالمدافع والقنابروامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشایره، ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش وأقاموا بهاواتصل الایراد إلى ساير البلادوتنبهّت الغزّ للجهاد.» وسيتوجه (كليبر) والجنرال (رينيه) إلى العريش من دمياط براً على طريق قطیه. لكن قبل أن يلحق بهم (نابليون) كان لديه مهمة آخري فقد جمع شيوخ الديوان و "المسئولين المهمين" وأخبرهم بعزمه لمحاربة المماليك حتى لو ذهبوا لـ"نهاية العالم" وبما أنهم «قد التجوا إلي احمد باشا الجزار، المتولّي بتلك الديار. فجمع لهم العساكر، وحضروا إلى العريش، وعازمين على الحضور إلى الديار المصرية، لأجل خراب البلاد وقتل العباد وهلاك الرعية. فلذلك أخذتني الغيرة، واستخرت الله وهو نعم الخيرة. وعزمت أنني أسير إليهم بالعساكر، وأخرجهم من قلعة العريش بقوة سيفي الباتر. وابذرهم بتلك البراري والقفار، واجعلهم عبرة للناظر واقطع أثارهم من تلك الديار، بعون الواحد القهّار، وأريح منهم مصر وتلك الديار.» ويُخبرهم أنّ نائبه هو الجنرال (دوجا) وأنهم يجب أن يكون "مُطيعين مهاودين" ولكلام الجنرال (ديستان) شيخ البلد سامعين. وأن يغطوا مؤخراتهم قبل النوم فالجو برد وممكن يحدث لهم -لا قدر الله- ما يُخشي أن يؤدي إلى الموت «فعليكم أيها الحكام والأعيان والتجار، أن تنبهوا على أهل هذه الديار برفع الأذية والأضرار. وان تكون الرعايا مطمأنين وفي منازلهم آمنين. وان كان يبدأ، في غيابنا، أدني حركة من الحركات ضد العساكر والصلدات، فقد أمرت القايمقام وشيخ البلد وحاكم القلعة أن يهدموا البلد بالمدافع والقنابل، ويقتلوا أهلها بحد السيف الباتر، فكونوا على حذر من القضاء والقدر.» فطمئنوه وقالوا «أننا ضامنين وكافلين هدو الجمهور وعدم حدوث أمر من الأمور.»


وقد صدر عن هذا الاجتماع "منشور" وزع علي الأقاليم المصرية ليعرف الجميع "عدالة" قضية نابليون، مع دعوتهم للتسليم والاستسلام لمجريات الأمور «إلي جميع الأقاليم المصرية : نُخبركم أن امس، تاريخه خامس شهر رمضان المعظم (فبراير 1799م )، توجه حضرة الدستور المکّرم سر عسكر الكبير بونابارته، أمير الجيوش الفرنساوية،، مسافراً يغيب مقدار ثلثين يوماً، لأجل محاربة إبراهيم بيك الكبير وبقية المماليك المصرية، حتى يحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم ولا رحمة في دولتهم على احد من رعيتهم. وقد وصل الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش. وعن قريب يأتيكم خبر قطيعة إبراهيم بيك ومن معه من المماليك، نظير ما وقع قطيعة أخيه مراد بيك ومن معه في إقليم الصعيد. فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتام. ويُبطل القيل والقال، وتذهب الكاذبة التي تسمعونها من أوباش الرجال.» ثم الكلام عن أن نابليون سيجعل مصر "جنة" «ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين. فالتزموا يا أهل الأرياف والفلاحين حسن المعاملة والأدب» فأحسنوا واستقيموا لكي يرضي عنكم (نابليون) «وينظر إليكم بعين الشفقة» لكن إن صدر منكم أدني مُشاغبة «حل بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم، ولا یقرّ لكم قرار» وهكذا هي "إرادة الله"، فما هُزم المماليك إلا «بقضاء الله وقُدرته. ونُصرة سُلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره. والعاقل يمتثل إلى أحكام الله ويرضي بمن ولاه. والله يؤتي مُلكه من يشاء.» وسيظل هذا المنشور هو "الماستر كوبي" لبقية "المناشير" فمن التحدث عن عظمة وعبقرية السيد "الزعيم" إلى الوعد بالراحة والأمان في حالة "حسن السير والسلوك"، والوعيد لمن يُفكر في الخروج عن "الطاعة والإجماع" وأخيراً استدعاء "القضاء والقدر" لكي تجعل الناس تخشي "العقاب الإلهي" في حالة الاعتراض.


يحكي لنا المعلم (نقولا) بعد ذلك عما واجهه الجنرال كليبر في طريقه للعريش فيقول إنه "تاه" في الطريق هو وجنوده لمدة ثلاثة ايام حتى اضطروا لأكل لحوم الخيول لكن "الله سلم" واستطاعوا أن يصلوا العريش. وفي طريقهم لقلعتها قابلوا عدد من عساكر الجزار التي كانت تحمل الإمدادات والذخيرة للمتواجدين في القلعة فلما رأوا الفرنسيين تركوها "غنيمة" للفرنسيين وهربوا. وقد كان نابليون قد حذّر كليبر مما سيواجهه في طريقه للعريش فيقول في رسالته له في 31 يناير 1799م «لكي تنجح أمامك عدوين يجب التغلب عليهما هما العطش والجوع والأعداء المتواجدين بغزة؛ والذين خلال يومين من الممكن أن يعودوا للعريش. فلتقول لسكان المناطق التي ستمر بها أنك ليس معك أمر إلا بالسيطرة علي العريش وخان يونس وطرد (إبراهيم بيك)، وأنك لا تُريد غيره. وسائل المواصلات التي تحت تصرفك الآن في قطية هي التي ستُحدد وحدها عدد القوات التي تستطيع إرسالها للعريش؛ فطليعة الجيش بقيادة الجنرال (رينيه) ستستنفذ كل وسائل المواصلات الممكنة، لأنه من الضروري أن يتنقل عليها الجنود لثلاثة أيام وأن تصحبهم قافلة تحمل المؤن الكافية لمدة 12 يوماً. حين وصولك لخان يونس يمكن أن تكتب لـ(عبد الله باشا) أنّ الأخبار المنتشرة تقول أن السُلطان قد عينه باشا مصر، ولو أن هذه الأخبار صحيحة فسوف نُدهش بأنه لم يأتي لمصر ليتسلم منصبه؛ فنحن أصدقاء السُلطان. وتخبره أيضاً بأنك ليس لديك أي نوايا عدائية له وليس معك أمر مني إلا بالسيطرة علي بقية مصر وطرد (إبراهيم بيك) وليس لديك أي شك في أنه لو أعلمني بأمر تعيينه باشا مصرر أنني سأستقبله بكل ما يليق به منصبه من حفاوة. بالإضافة إلي أنك مقتنع بأنه لو كان حقاً موظف لدي الباب العالي فهو بالتالي ليس لديه أي علاقة بطاغية كـ(إبراهيم بيك) عدو الباب العالي والجمهورية الفرنسية معاً.» ثم يُخبر كليبر أنه سيلحق به بعد عدة أيام.


لكن ستبدأ المشاكل فحين وصول كُلاً من الجنرال (رينيه) و(كليبر) لقلعة العريش حاول (رينيه) أن يقوم بهجوم خاطف -لكنه مُتعجل- على القلعة فلم ينجح في اقتحامها خصوصا أنه قد حدث هجوم بعص قوات الجزار القادمة من غزة. لكنه استطاع بمعونة (كليبر) أن يُسيطر على معسكر المماليك خارج القلعة ولما غادر (نابليون) والجنرال (دومارتان)، قائد سلاح المدفعية، ووصلوا للصالحية في 12 فبراير وصلتهم الأخبار بفشل (رينيه) باقتحام القلعة فأسرع (نابليون) المسير حتى وصل العريش في 17 فبراير. ومع هُطول الأمطار أصبحت الرمال مشبّعة بالماء والجرحى من الاشتباكات لا يجدون مكاناً يستلقون عليه إلا سعف النخيل مع وجود نقص شديد في المواد الغذائية والمياه مما اضطرهم لذبح الجمال وتجميع مياه الأمطار لكنها لم تكفي لتروي ظمأ الجنود والخيول. وكان يصحب (نابليون) خيرة قادته لكنه خاف من أن بداية الحملة لا تُبشر بالخير -وكان علي حق- فبدأ على الفور في حصار القلعة. لكن مازالت مشكلة عدم توفر المواد الغذائية والمياه مستمرة. ويبعث الجنرال (برتييه) برسالة إلى (ابراهيم أغا) قائد القلعة بالاستسلام؛ لكن (ابراهيم) تردد. فأمر (نابليون) بالبدء بقصف عنيف على القلعة؛ لكي يدرك (ابراهيم) أنه لا فائدة من المقاومة فاستسلم في 19 فبراير. بعد هذا أعطي (نابليون) قيادة طليعة الجيش للجنرال (كليبر) بدلا من (رينيه) وكان كليبر قد خدعه "الدليل" الذي يصحبه في تلك الصحاري فما كان من (كليبر) إلا أن قتله وظل "تائهاً" ليومين كاملين. (4)


ويقول (نقولا) أنّ في القلعة كان هناك «ثمانمایة مقاتل، وكان بينهم احمد كاشف الكبير تابع عثمان بيك الاشقر، وابراهيم بيك كاشف الحبشي. وفى تانى الايام، أرسل إليهم امير الجيوش ان يسلموا القلعة، فلم يرضوا بذلك. فامر بضرب المدافع. وبقي الحصار على القلعة ثمانية ايام.» فلما فرغت مؤونة المُحاصرين داخل القلعة طلبوا الأمان «فأعطاهم الامان، وان يخرجوا من القلعة بغير سلاح، ويحصل الصلاح ويفوزوا بالنجاح، فلم يرضوا بذلك.» وبعد يومين حضر قاسم بيك المسکوبي (الروسي) بمجموعة من العسكر والمؤن والذخيرة وحاول خداع نابليون وانتظر حتىى يهجم عليه ليلاً لكن بلغ «امير الجيوش وصوله، وربطوا عليه الطريق، وكبسوه ليلاً وذبحوا عساكره، ولم يسلم منهم غير القليل. وقتل قاسم بيك وعدة من الكشاف والماليك. واخذوا كل ما كان معهم.»  ولما بلغ ذلك المُحَاصرين طلبوا مرة آخري أن يخرجوا بسلاحهم فوافق نابليون على ذلك وبعضهم طلب الرجوع للقاهرة «الى منازلهم وعيالهم فأذن لهم بذلك وارسلهم مع بعض من الصلدات لأجل حمايتهم في الطريق. وساروا الى القاهرة وأدخلوهم على قايمقام الجنرال دوكا وشاعت اخبارهم في مصر، وحضرت خلايق كثيرة لأجل الفرجة عليهم. ودخلوا الى دار الكنانة بكل ذل واهانة، راكبين الحمير بملابس رثة.»

ومن الطبيعي بعد هذا "الفتح المُبين" أن نري "منشور" جديد فأرسل نابليون إلى «علماء الديوان بأن يوزعوا الكتابات كما جرت لهم العادة.»  حيث جاء فيها بعد الشهادتين ومقدمة بظروف المعركة؛ يتم ذكر "مرؤة" نابليون في انه صفح عن أعدائه «وأنعم عليهم حضرة السر عسكر بالحیوة بعد ان تيقنوا بالهلاك. وهكذا اصحاب المروات هؤلاء أعتقهم وأطلق سبيلهم. وبعض الكشاف والمماليك الذين كانوا في القلعة، نحو ستة وثلاثين جندياً، طلبوا من حضرة السر عسكر ان ينعم عليهم برجوعهم الى مصر الى اعيالهم وبيوتهم، فأحسن إليهم وارسلهم الينا والى وكيله» ثم دعوة التجار لاستثمار هذا "الفتح" وبدء مرحلة جديدة من "الاستقرار" والأمن. ثم مسك الختام «فيا اخواننا لا تعارضوا الملك المتعال. واتركوا انفسكم من القيل والقال. واشتغلوا في اصلاح دينكم والسعي في معاش دنياكم. وارجعوا الي الله الذي خلقكم وسواكم»


بعد أن سيطر الفرنسيون على العريش، ستنسحب قوات الجزار والمماليك المتواجدين في غزة، تاركين ورائهم كل شيء إلى يافا للتحصن بها، فدخل «الجنرال كليبر الى البلد من غير قتال. وبات تلك الليلة في غزة. وفى الغد سير العساكر على مدينة يافا. وكانوا وجدوا في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير، واربعماية قنطار بارود، واثني عشر مدفعاً، وحاصلا كبيراً من الخيام، وكلل وقنابر عظام، فحازوا على الجميع.» ورغم ان الهدف المُعلن هو طرد المماليك وعساكر الجزار عن حدود مصر قد تحقق إلا أن نابليون سيستمر في الزحف نحو يافا. ففي 3 مارس 1799م كان الفرنسين امام أسوارها. وبدأ نابليون في نصب مُعسكره وأمر الجنرال (دومارتان) بتجهيز مدفعيته؛ في حين أن قوات الجنرال كليبر تؤمن المنطقة المحيطة لحماية الجيش من أن يتم محاصرته. ويصف الجنرال (برتييه) في مذكراته (5) ما لاقوه في الطريق من غزة ليافا، حيث المسافة الفاصلة بينهما رمال شاسعة صعب فيها التنقل على الخيول. حتى الجمال كانت تُلاقي صعوبة في التحرك عليها. وأنهم اضطروا لزيادة أعداد الخيول التي تجر المدافع لصعوبة الطريق. وبات الجيش ليلته في أسدود ثم منها انتقلوا إلى الرمله «والتي يسكنها أغلبية مسيحية ووجدنا بها مخازن للبقسماط لم يكن العدو أمامه الوقت لإخلائها ووجدنا بعض منها أيضا في قرية (اللد). وكان هناك مجموعات من العرب تتجول حول تلك القري لنهبها.» حيث تم تشتيت جموعهم. ثم وصلت طليعة الجيش بقيادة (كليبر) إلى يافا ولحق به البقية بعد ساعات «وحين رؤيته انسحب العدو إلي داخل المدينة» حيث تُوضع فرقة الجنرال (كليبر) بالقرب من نهر العوجة لحماية الجيش المُحاصِر ليافا وعلى بعد عدة كيلومترات من الطريق المؤدي لعكا.

الطريق إلى يافا.

 وشكلت فرقة الجنرال (بون) عملية الخداع بهجوم كاذبأما فرقة الجنرال (لانس) فشكلت قوة الهجوم الرئيسية على المدينة التي كانت محاطة تماما بسور مُركب عليه المدافع «المكان يبدو مُحصناً بشكل جيد، قررنا أن يكون الهجوم من الجانب الجنوبي للمدينة الأكثر قوة وارتفاعاً.»


ويقول (نقولا) أن الجنرال (برتييه) قد بعث برسالة للمحاصرين داخل المدينة يدعوهم أن «يُسلموا البلد لسلامة أنفسهم فلم يرضوا بالتسليم، بل قبضوا على الرسول فتركوه مقتول. فبلغ امير الجيوش ذلك فاغتاظ غيظاً شديداً، وأمر بضرب المدافع والقنابر على المدينة.« وبعد القصف المدفعي علي اسوار المدينة واشتباكات مختلفة بين عسكر الجزار والفرنسيين يستطيع الفرنسيون إحداث فتحة في سور المدينة وتقتحم القوات الفرنسية لتبدا حرب "شوارع" . ويسيطر الفرنسيون عليها ويتم "إعمال السيف في الرقاب" حيث يقتل الفرنسيين –طبقاً لما ورد في أحد رسائل نابليون- 4000 في رسالته للقاهرة للجنرال دوجا يعلمه بانتصاره «هيئة الأركان ستعلمك بتفاصيل السيطرة على يافا الحامية المكونة من 4000 رجل كلهم هلكوا إما أثناء الهجوم أو بإعمال السيف فيهم. لم يبقي لدينا إلا عكا، وقبل شهر يونيو لن يكون هناك أي شيء نخشاه من جانب الإنجليز.» لكن نابليون كان مخطأً لأنه في شهر يونيو سيكون في طريقه لمصر خائباً منكسراً، لكن هذا ما سنراه –إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) "لهيب الصحراء وجليد الوادي" هنـــــــــــــا
(2) Journal D'un Officier De L'armée d'Égypte, Le Capitaine Vertray, Par H. Galli, 1883.
(3Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon .Bonaparte, Egypte
(4Officier Royaliste au Service De La République, Alfred De Besancenet, 1876.
(5) Mémoires du maréchal Berthier, prince de Neuchâtel et de Wagram, major-général des armées françaises 1827.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال