" وكَانَ لأَهْلِ مَصْرَ صَنَم اِسْمَهُ الجَيْش وكَانُوا يُنْفِقُونَ
عَلِيهِ كُلَ يَومَاً مِنْ قُوتِ يَومِهم مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ ويَسْكَرَ
ويُقَدِمُونَ لَهُ بَنَاتهِم ونِسَائِهم لِكَي يُبَارِكُهنْ، فخَصُه البَاشَا بِعِبَادَتِهِ، فكَانَ
يَنْطَلِقَ كُلَ يَوْماً فَيَسْجُد لَهُ أَمَامَ شَعبِهِ، وفي يَومِ رَأَي
البَاشَا رَجُلاً غَرِيبَاً يَمُرُ مِنْ أَمَامِ الصَنمِ دُونَ أَنْ يَسْجُد، فَأَمَرَ
بالقَبْضِ عَليهِ وسَأَلهُ: " لمَاذَا لا تَسْجُد للجَيشِ مَثْلي ومِثْلَ كُلَ
شَعْبي؟" فَقَالَ الغَريِبُ: " كَيْفَ أَسْجُدُ لِصَنَم قَدْ صَنَعتَهُ
أَنْتَ بيدَيكَ؟ أأسْجُدُ لِصَنم لا حَياةَ فِيهِ؟!" فجَاَوبهُ البَاشَا: "أتَحسَبُ
أْنّ الجَيشَ لَيسَ بإلهِ حَي؟ ألاَ تَري
بِكَمْ يَأكَلُ ويَشْرَبُ ويَسْكَرُ كُلَ يَوماً؟" فَضَحِكَ الغَريِبُ مِنْ كَلَامِهِ مُتهَكِماً: " لاَ تَسْتَهبِل يَا باشَا
أَنْتَ تَعلَمُ مَنْ الذِي يَأْخُذُ الأكْلَ والشُربَ والخَمرَ؛ إِنَهمْ ضُبَاطُك وجُنُودُك الَذِينَ جِئْتَ بِهمْ مِنْ القُري والنُجُوعِ." فَاغْتَاظَ البَاشَا
وغَضِبَ ودَعَا شُيوخُه وأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْبَحُوه لأَنْهُ جَدَفَ عَلي الجَيشِ."
الإصحاح الخامس
عشر من سفر الشئون المعنوية
ما هو جوهر السُّلطة؟ لو حاولنا أن نُعري وننزع عن السُّلطة أطنان من
مساحيق التجميل والملابس المُهندمة والعطور التي تُخفي بها رائحتها والتي تُكلفها
المليارات ما الذي سنراه تحت كل هذا يا تُري؟ لو استطعنا فعل ذلك سنري "القوة
القاهرة" ولا شيء غير هذا. والتي بدونها لا يمكن أن توجد سُلطة من أي نوع، بل
لن يكون هناك معني لها أساساً. وبما أنّ هذه القوة خطرة –حتى علي من يُحركها- ومُكلفة جداً أيضاً؛ لذلك لابد ان تحميها هي نفسها
من أن تظل مكشوفة معروضة "للجماهير" الأمر الذي يُفقدها
"الهيبة" التي هي ضرورية لكيلا يُفكر أحد أصلا في أن يخرج عليها. ولو
حاولنا أن نجد مثال مُبسط شبيه لتركيب تلك السُلطة لن نجد مثال أقرب من كوكب
الأرض، فهي مثال جيد لفهم الشكل العام للسُلطة وطبقاتها المختلفة التي تُشكل
"النظام الحيوي" لها.
ففي المركز تقبع القوة
القاهرة محمية مختفية عن الأنظار لكن حين الحاجة عليها سرعان ما تنفجر
"الحمم" والنيران من فوهاتها المتعددة الموجودة على السطح هذا المركز هو
مصدر كل سُلطة وحاميها وضامنها وأي سُلطة آخري مهما عظمت أو صغرت مدينة وخاضعة
لها. ويُمثل المركز في الغالب الجيش النظامي بصواريخه وطائراته ودباباته،
أو ميليشيات وجماعات مُسلحة في بعض الأحيان. يُحيط المركز طبقة آخري أقل سخونة
لكنها أكبر حجماً ومساحة وهي تشكل الجدار الأخير قبل الوصول للمركز، وتعمل علي أن
تفرض سُلطة المركز بدون أن يحتاج هو لكي يتحرك بنفسه لأن هذا قد يُسبب "زلازل
مُدمرة" قد تتسبب في انهيار "النظام" كله، ويمثل تلك الطبقة الشُرطة
والمخابرات و"مُخبريهم" بمختلف اشكالهم. فوقها توجد طبقة من الطبقات
المهمة لأنها تُشكل قاعدة صلدة وطبقة إسمنتية سيُبني فوقها الطبقات التي تليها
وعلي الرغم من أنها أقل الطبقات سماكة إلا أنها ستحدد نوعية السُلطة التي ستنتج من
التفاعل بينها وبين المركز يمثل تلك الطبقة أصحاب المال و التُجار و رجال الأعمال
والصناعة. الطبقة التالية هي جدار منيع يصعب اختراقه لأنه الأكثر سماكة وعمقاً
يتشكل من كم هائل من المؤسسات فنجد علي سبيل المثال القضاء والإعلام و التعليم و
المؤسسات الدينية المتنوعة والمنظمات غير "الحكومية" كُلها تعمل علي أن يبقي المركز "محمياً"
بالإضافة إلي أن لها دور حيوي في "زرع" الولاء و الطاعة و الحب و
التضحية من أجل "المركز" كما أنها تشكل حائط الصد الأول الذي يُفرغ جزء
كبير من أي مُعارضة أو مقاومة مما يجعل المركز دائما في مأمن. أخيراً هناك القشرة
التي تُغلف كل هذا وتُعطي الشكل الخارجي النهائي لها وهي لها ممراتها مع كل
الطبقات الآخري؛ وهذه الطبقة ماهي إلا نتاج افرازات الطبقات التي تحتها وسيتحدد
بناء عليها شكل السطح وخصوبته فإما أن تكون حدائق غناء ومروج نتيجة لهدوء المركز
وتناغمه مع بقية القوي او صحاري وفوهات بركانية وجبال وعرة نتيجة لثوران المركز
وعدم استقراره.
السُّلطة إذا ليست شخصاً واحداً أو
حتى مجموعة من الأشخاص، بل هي مجموعة من القوي التي تتفاعل مع بعضها –سلباً او
إيجابا- لينتج في النهاية ما نراه أمامنا من "نظام"، فكل طبقة من تلك
الطبقات السابقة تتكون في الغالب من عدة قوي، فالجيش على سبيل المثال ليست قوة
واحدة مُتجانسة بل هو بالأحرى مكون من قوي "مُتوازنة"، تلك القوي وإن
كانت في بعض الأحيان تتنازع على صلاحيات أو مناطق نفوذ أو امتيازات إلا أنها في
النهاية مُتفقة جميعا على المُحافظة على السُّلطة كما هي لأنها الضمانة الحقيقة
لبقائها. وعلاقة تلك القوي ببعضها وعلاقتها بقوي آخري من "سُلطة" آخري
أقوي منها هي التي ستُحدد شكل السُّلطة –وليس الشعب- فعلاقة رأس المال مع المركز
ستحدد إذا ما كان النظام "الديمقراطي" أفيد أم الديكتاتوري، هل الاشتراكية
أم الرأسمالية هل نُخصخص أم نُؤمم وهلم جرا. لذلك محاولتك تغيير
"الأشخاص" في أي سُلطة لن يؤدي إلى أي تغيير
حقيقي في شكلها، فأي سُلطة بعد أن تستقر لا يُمكن تغيير شكلها
سواء كان شكل ديمقراطي "حُر" أو ديكتاتوري مُستبد، لأن أي تغيير في أحد
القوي سيتبعه مقاومة وشد وجذب من القوي الآخري التي تحاول أن تُعيد الأوضاع كما
كانت، فإما أن تنجح –في الغالب تستطيع النجاح- أو ينتج عن هذا الجذب والشد انهيار
كامل للسُّلطة نفسها وهو أمر نادر، وبالتالي فالحل الأمثل لتغيير أي سُلطة هو
"هدمها".
لذلك تجد دائما، أي كان البلد
أو الزمن، تُروج السُّلطة القائمة أن المشكلة –أو حتى الحل- في تغيير أو عزل أو خلع
الشخص الفلاني أو أنّ الحل هو أن يتولى أو يترأس أو يتملك أو يتسلطن أو يتوزر الشخص
العلاني، ثم بعد هذا يُفاجئ الناس أن هذا الفلاني الذي كان "السبب" في
معاناتهم حين رحيله –أي كانت الوسيلة- لم يتغير أي شيء فيرثوا له ويترحمون علي
أيامه، أو العلاني "الزعيم" الذي حل محله كان كسابقيه وأن شيء لم يتغير والأوضاع هي هي؛
وأنه خذلهم ولم يُوفي بتعهداته ويعتقدون أنهم لو أتوا بغيره –هل تتعلم القرود
الإنسانية: أبداً!- فسوف يُخرجهم مما هم فيه من بؤس وتعاسة. ولكنهم أبداً لا يفطنون
إلى الأمر الواضح الذي لا يحتاج لبيان أن هذا "الزعيم" هو مُرشح للقوي
التي تُمثل السُّلطة وليس "مُرشح" الشعب، وأنه لا يمكن أبداً–بتاتاً،
نهائياً- أن يأتي زعيم لا ترضي عنه تلك القوي حتى في أشد النُظم "ديمقراطية
وحرية"(1) حتى وإن رأينا ظاهريا أن
شخص ما أتي عكس إرادة تلك القوي. ولو افترضنا جدلاً أنه أتي هذا
"الزعيم" فلن تطول اقامته لأن السُّلطة الحقيقة لن تكون معه فسيكون مجرد
"خيال مآته" ليس إلا.
هذا "النظام
الحيوي" المُسمى السُّلطة ليس شيء جامداً بلا حياة، بل يخضع لنفس آليات الوجود
والتطور والفناء للكائنات الحية الآخري؛ فله لحظة ميلاد تتحدد بنجاح ولادة مركز
جديد يمتلك أسباب قوة وجوده؛ و لحظة آخري للوفاة بأسباب مختلفة، فبعضها يموت
بالسكتة المفاجأة نتيجة لانسداد قنوات المركز للسطح أو يتوفى نتيجة لترهل أعضائه
وشيخوخة مؤسساته أو لمواجهته لمركز أكبر واقوي؛ و له أيضا مراحل مراهقة وشباب
وفتوة كما له مراحل للشيخوخة والترهل بل ويخضع في بعض الأحيان لعمليات جراحية
تجميلية أو لعلاج تشوهات خلقية أو مرضية لإنقاذ حياته، وتخضع النظم الحيوية لنفس
قوانين الجذب والتنافر فيجتذب النظام
الحيوي الأقوى نُظم حيوية آخري أقل قوة وجاذبية فيصبح مركز هذا النظام الحيوي هو
الذي تدور حوله بقية المراكز الآخري الأمر الذي يزيد هذا النظام الحيوي مزيد من
القوة بانضمام مراكز أصغر وأضعف له، وتتنافر قوتان حيوتان لهما نفس قوي الجذب
ويتنافسان علي جذب قوي أصغر ليتغلب احداهما علي الآخر. ولذلك يصعب هزيمة المراكز
الأضعف لأنها تستمد قوتها الحقيقة من هذه "القوي العالمية" ولكي تستطيع
أن تهزم "المركز المحلي" لابد اما أن تعزله عن المركز العالمي –لكن هذا
يجب أن يتم بسرعة- لأنه إن لم يتم هذا سُرعان ما ستجد نفسك في مواجهة تلك القوي،
أو أن تعمل علي هدم القوي العالمية تلك لكن هذا سيتطلب وقت طويل- والوقت في الغالب
لن يكون في صالحك- لكنه يضمن لك في النهاية أن كل المراكز الأضعف ستكون أسهل بكثير
في هزيمتها وتفكيكها.
تخضع "النُظم
الحيوية" الناتجة عن تركيب السُّلطة لقوانين الجذب والتنافر.
هذا التصور السابق نري بعض
منه ماثلاً في الفكر الجهادي، الذي يسعي بدورة لتأسيس سُلطته بناء على ما يؤمن به،
فنري كاتب كتاب "إدارة التوحش" الذي كتبه تحت اسم مُستعار (أبو بكر ناجي) –مثلا-
يقول: «القطبان اللذان كانا يسيطران على
النظام العالمي كانا يسيطران من خلال قوة مركزيتهما، والمقصود بالقوة المركزية هنا
هي: القوة العسكرية الجبارة التي تصل من المركز للسيطرة على مساحات الأراضي التي
تخضع لكل قطب بداية من المركز وحتى أبعد طرف من تلك الأراضي، والخضوع في صورته الأولية
المبسطة هو أن تدين تلك الأراضي للمركز بالولاء والتحاكم وتُجبي إليه المصالح.» وإن كنت تختلف مع بعض ما ذهب إليه الكاتب في
كتابه إلى أنك لا تستطيع الا أن تُعجب بقدرته على النفاذ مباشرة إلى
"المركز" بعيداً عن "القشرة" والرتوش.
إن
الفائدة الوحيدة لما سُمي بـ"الربيع العربي" هو أنه كشف المركز وجعله
يخرج من مخبئه ويتولى زمام الأمور بنفسه، وعلي ذلك وكمقياس لنجاح وفشل هذا الربيع
نجد أن تونس –علي عكس ما يُقال- هي أفشل "ربيع" لأن المركز تم التعامل
معه كأنه "حامي الحمي" ورجع إلي "مخبئه" سالماً بدون أن يتعرّض
له أحد، يلي تونس في الفشل – وبنجاح محدود- مصر فقد تحرك المركز لتسلم زمام
السُّلطة، لكن "القوي الوطنية"
تعاملت معه باعتباره "حمي الثورة" لكن نتج عن تحركه ازدياد شهيته لكي
يُسيطر علي كل شيء فوقع في "شر أعماله" فهو بدل أن يرجع
"لمخبئه" كما فعل نظيره التونسي بدأ في أن يدخل في كل شيء حتي بدأ ينافس
"رجال أعماله" ومستثمريه في "لقمة عيشهم"، مما يعني أن المركز
أصبح مكشوفاً تماماً. إن ما يفعله الجيش أشبه بأمراض المناعة حيث يهاجم الجسم
خلاياه معتقداً أنها عدو خفي، فبدل من أن يحمي نفسه تجده مع الوقت قد هوي تحت وطأة
"جهازه المناعي".
ولو
رجعنا إلى جماعة الإخوان التي تدّعي أنها تحاول تأسيس "سُلطة" جديدة بناء
على ما تؤمن به، لكنها في الحقيقة لا تعلن عن ذلك أبداً، فهي بمنهجها الإصلاحي لا
تحاول أن تدخل في مصادمة مع السُّلطة القائمة بل تحاول جاهدة أن تسترضيها لترضي عنها
لتتركها "تنشر دعوتها" بين الناس، علي أمل أنه في النهاية بعد أن تُغير
الناس ويكون لها قاعدة صلبة متغلغلة في كل مفاصل السُّلطة انها "آلياً"
ستصبح هي صاحبة السلطة وتستطيع ان تغييرها بما يتماشى مع فكرها ومنهجها. ولعل أقصي
طموح الإخوان في مصر ،وشبيهاتها من الجماعات الإصلاحية الإسلامية، هو أن تصبح مثل
"النموذج التركي" –وهذا يُفسر لماذا أصبح أردوغان "معبودهم"-
لكنهم يتناسوا أنه مع أن أردوغان وحزبه ومن سبقوه ليسوا إلا "احذية"
تُنفذ ما يطلبه منها القوي العظمي إلا أن هذا لم يمنع من أن "يتمرد"
المركز –الجيش التركي- مرات ومرات بموافقة ودعم تلك القوي، ونجاح أردوغان المؤقت
في البقاء ضمن دائرة "السُّلطة" رغم محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة لا
يعني أنه سيبقي هو حزبه في المستقبل، فقط يعني أنّ الانقلاب القادم سيكون أكثر
"دموية".
وإن
كانت السُّلطة في مصر تسمح لجماعة الإخوان وافرادها في بعض الأحيان بالعمل بحرية
وتترك لهم أعمالهم ومؤسساتهم لفترة إلا أنه سرعان ما "تلتهم" تلك
السُّلطة في ساعات ما بنوه في سنوات فتستفيد من ناحية بمئات الملايين من الجنيهات
التي تُصادرها ومن ناحية آخري تُرجع الجماعة –السلمية- إلى النقطة صفر مرة آخري في
دائرة تكررت عدة مرات، ويقول أبو بكر ناجي بخصوص هذا تحديداً عن جماعة الإخوان
وشبيهاتها من الجماعات "الإسلامية": «وهؤلاء كلما تحصل لهم جزء من
المصالح المكتسبة يأتي الطاغوت بجنده كل عشرة أو خمسة عشر سنة فيحصد بدون عناء تلك
المكتسبات مُتبعاً سياسته المعروفة (سياسة خلع الأنياب) تاركاً هذه الجماعات تدور
في حلقة مفرغة سوداء مظلمة لتبدأ من أحياناً نقطة البداية من جديد أو من خلف نقطة
البداية وأحياناً لا تستطيع المعاودة ولننظر إلى تونس كمثال. والطاغوت يقوم بتلك
السياسة (سياسة خلع الأنياب) سواءً خرج عليه من يُطلق عليهم لقب المتهورين أو بدون
سبب البتة أو بافتعال سبب والأمثلة كثيرة في العديد من البلدان ومجموعات الشباب
تُساق للذبح دون حتى نكاية كبيرة في الطاغوت تجعله يفكر مرات قبل تكرار ذلك (...)
بقصد تقليم الأظافر وخلع الأنياب التي نبتت للحركة الإسلامية حتى لا تستخدمها ضده
ولما كانت الحركة خلال هذه السنوات مُستأنسة أصلاً - في أغلب فصائلها - فهي تقبل
ذلك مُستسلمة تحت شعار الابتلاء.» ولا مرة خسرت السُّلطة من أفعالها تلك بل
كانت هي الفائزة دائماً، على العكس خسرت الجماعة سنوات من "الإعداد"
والتحضير لظهور" المهدي عجل الله فرجه".
حقاً
إن التفسير الأكثر قبولاً –بعيداً عن استدعاء عتههم وغبائهم- هو أنّ الإخوان
ينتظرون المهدي لكي يملأ الدنيا عدلاً بعد أن مُلئت ظُلماً وجوراً، لذلك تجد الإخوان
ومن هم علي شاكلتهم ينظرون لأبو إسماعيل باعتباره "مهدي هذا العصر"، وأنهم
غير مأمورين باستخدام السلاح –إلا إذا وافقت القوي العظمي- في مواجهة السُّلطة حتى
يأتي المهدي فينضمون إليه "كمجاهدين رايحين علي القدس بالملايين". إنّ الإخوان
-عكس ما يُروج له- يحاولون جاهدين أن يكونوا "جُزء" من السُّلطة القائمة
لا أن يهدموها، وهذا هو الذي يُفسر بقائها كًل تلك الفترة الطويلة بدون أن تقضي
عليها السُّلطة قضاءً مُبرماً –وهي في وسعها ذلك- لأن وجودها يُشكّل مجال جيد
لاستنزاف وجذب "المهاويس" و "خلية عسل" لمَنْ يُريدون
"جهاد عصري" يُناسب "حقوق الإنسان" و "الإخوة
العالمية"، و"الرز بالمهلبية"، وفي نفس الوقت جهاد
"يحترم" السُّلطة التي من المفترض أنه يحاول هدمها، فتجد التناقض بين
"شرفاء الجيش" و "رجال زي الدهب" و"جيش أكتوبر
العظيم" وما بين "جيش خائن" و "جيش الكفته" و"جيش
كامب ديفيد" تردده نفس الجماعة معتقدة أنها جماعة "ثورية" لم يأتي
التاريخ بمثلها؛ فعلاً لم يرد في التاريخ مثلها لكن في العتاهة والعبط.
إن الإخوان
يعيشون في قلب "مدينة عبيطة" وليست فاضلة من تخيلهم وصُنعهم، يعتقدون أن
"دعوتهم" سوف تجد آذان صاغية في مقابل "دعوة" السُّلطة التي
تملك آلة إعلامية جبارة لا تستطيع بها فقط بأن تجعل الناس يُصدقون ما تقيئه يومياً
على صفحات جرائدها وشاشاتها الإعلامية بل تجعلهم مُستعدين للموت من أجلها. فيخسر
الإخوان مرتين مرة حينما تُوافق السُّلطة وتتماهي معها من أجل أن تبقي وتدعها
"تعمل" وبهذا ينصرف عن سماعها الناس ويحتقرها الجميع فهي مجرد
"حذاء" تستبدله السُلطة حينما تُريد، وتخسر مرة آخري حينما تُروج لخطاب
وشعارات هي على العكس تماماً مما تفعله فيزيد انصراف واحتقار الناس لها. الخلاصة منهج الإخوان
في تأسيس سُلطة جديدة لا يمكن أن ينجح لأنه ببساطة يتعامي عن الجوهر الحقيقي
للسُّلطة ويحاول أن "يركب" سُلطة قائمة بالفعل وهو أمر غير ممكن عملياً،
وحتى لو نجحت مؤقتاً في الوصول لمناصب عُليا داخل أي بلد تتواجد فيه أو حتى أصبحت
هي الحزب الحاكم فبدون ضمان ولاء "المركز المحلي" وارتباطاته مع
"المركز العالمي" سيظل الإخوان –دائماً- في أفضل الأحوال "جماعة
محظورة".
اخيراً
قبل أن نستكمل الرواية فلتعتبر أن هذا التصور السابق للسُلطة خاطئ وأن ما قُلته عن
جماعة الإخوان تخاريف وهرطقات، وأنهم جماعة "مُخلصة مُضحية"، مع هذا
سيظل السؤال –الواضح إجابته- عن هذه الجماعة التي لا تعرف "عدوها" فتقول
عن جنود وعساكر الجيش الذي يقتلهم "عسكري غلبان" وتقول عن الجيش الذي
يُصادر أموالهم عبر تاريخهم "إخواننا بغوا علينا" وعن النصارى الذي
يفرحون ويؤيدون ما يحدث لهم انهم "أخوة الوطن"؛ كيف لها من الممكن أن
تنتصر؟ وبفرض حتى أن حققت "انتصاراً" هل يمكن أن يكون هذا الانتصار إلا
انتصار عدوها في تحقيق أهدافه؟!!
توقفنا
المرة السابقة حينما كان يُعدد لنا المعلم (نقولا) ما واجهته الحملة و
"فتوحات" جنرالاتها، ويواصل فيخبرنا عن الجنرال (ديزيه) فبعد
هروب مراد بك جنوباً في اتجاه الصعيد وزيادة خطره بعد أن تجمع حوله المماليك
الهاربين و«الهوارة والفلاحين والعربان الى
المنية(المنيا)، وكانت مسافة ثلاثة ايام عن القاهرة. واجتمع اليه ما ينيف عن عشرين
الفا.» وقد كان (نابليون) ينتظر ليري ما الذي يُريده مراد بيك بالضبط، ونابليون
صاحب نظرة ثاقبة لا تخيب في الرجال الذين من الممكن أن "يتعاونوا" معه،
فنجده في رسالته للقنصل النمساوي بالإسكندرية (شارل روزيتي) الذي بعثه للتواصل مع
مراد بيك بعد أن بعث هذا الأخير برسول لنابليون، لكن يبدو أنه لم يقل أكثر من
"ضرورة خروج الفرنسيين من مصر" و أنه مُستعد لدفع "مشاريب
الرجالة" لكن نابليون لم يُبد اهتماماً "بدفع المشاريب" لكنه أدرك
أن مراد بيك من الممكن استمالته فيقول لـ(روزيتي) في 1 أغسطس 1798م (2) « لكني قد فهمت أن الفرصة قد تأتي حيث يكون من صالحي ان
أستخدم مراد بيك ليكون ساعدي الأيمن؛ وأنني موافق في أن يحتفظ بحكم إقليم جرجا
والتي يجب أن يسحب قواته إليها في غضون خمسة ايام ومن ناحيتي لن أدخل أي قوات
إليها. وقُل له إذا تمت تلك الترتيبات الأولية فسيكون من الممكن، بعد بمعرفته بشكل
أفضل، أن أجعله أكثر قوة ونفوذاً.» مراد بيك سيرفض هذا العرض المُغري لكنه في النهاية لن يجد أفضل منه. وفي
4 أغسطس 1798م يُخبر نابليون الجنرال
(ديزيه) أن لن يُرسل أي قوات إلى الفيوم –حيث كان مراد بك حينها- إلا بعد أن يُصبح
متيقن من نية مراد بيك الذي رفض عرضه "بألاطة" كما رأينا فيما سبق،حينها يأمر نابليون الجنرال (ديزيه) بالتوجه لمحاربته. وكان مراد
بيك –كما قُلنا- قد تجمع حوله المماليك الفارين كحسن بيك الجداوي وعثمان بيك
الأشقر ويقول (نقولا) أنه
حين تقابلوا «مع
مراد بيك تصافحوا، وأخلصوا الوداد وتركوا الاحقاد، وغفروا السيئات وصفحوا عما فات،
وقرأوا الفواتح على المغازاة في سبيل الله، وصاحو: يا غيرة الدين ونصرة المسلمين.
الله أكبر على هؤلاء الكفارين واستعدوا غاية الاستعداد لملاقاة الاعداء والاضداد.
وكانت الغُز افرس الفرسان في ركوب الخيل والحرب والطعان.» حيث ستبدأ خلال الشهور التي تأتي لعبة "القط
والفأر" بين (نابليون) وجنرالاته و(مراد بيك) هذا "المملوك" العنيد
الذي نجد في وصفه بعض مؤهلاته (3) «كان مراد
بيك متوسط الطول وبوجهه ندبة كبيرة، كان مهيب ونظراته حادة وثاقبة، مظهره ذكي
وراقي، قد حبته الطبيعة بطاقة كبيرة وقوة جسدية هائلة. كان يمتلك تلك الهيئة من
الكبرياء التي تُعطي عادة لمن يمارس سُلطة كبري، كان فخما في ملابسه، تلك الفخامة
كانت تُعادل في بعض الأحيان فخامة طُغاة آسيا القدماء.»
صورة لمراد بيك من كتاب
"وصف مصر"(4).
ويُلخص
هذه الحالة من الكر والفر خطاب (نابليون) للجنرال (مورا) في 17 يوليو 1799م «(...)
ستري في نسخة رسالة الجنرال (فريان) أنه قد أخذ بعض جِمال وإبل مراد بيك، والذي بعدما
كان متجهاً للصعيد غير وجهته بسرعة وعاد أفلاً وسار ثلاثة أيام وليالٍ ووصل أمس 11
يوليو في الساعة الرابعة مساءً لقرية دهشور بالقرب من الأهرامات، وغادرها في
الخامسة مساءً ليأخذ الطريق الصحراوي، ويُعتقد أنه سيتوجه لبحيرة النطرون. الجنرال
(يونو) متواجد عند الأهرامات، لقد بعثت برجال في كل اتجاه لكي يُعلموني عن مسير
وتحركات مراد بيك.
مع مراد بيك 200 مملوك نصفهم يركب الخيول والنصف
الأخر علي الجِمال وحالتهم سيئة، ومعهم ما بين 50 و60 من العرب، ولو أسعدنا الحظ
وكنتَ بقيتَ في بحيرة النطرون 24 ساعة آخري، لكان من المحتمل جداً أنك قد أتيتنا
برأسه. فلتواصل مسيرك حسب الأخبار التي ستصلك؛ فلتتوجه لبحيرة النطرون أو أي منطقة
آخري من اقليم البحيرة حيث تعتقد أنه من الممكن أن يؤدي إلى أن تُخلصنا من هذا
العدو القوي، لكنه اليوم في حالة سيئة جداً. الجنرال الذي سيكون سعيد الحظ بتدمير
مراد بيك سيكون هكذا قد كلل غزو مصر بالنجاح؛ وأرغب بشدة أن يخصك القدر بهذا
الشرف.» لقد أدرك نابليون أن
بقاء أي جزء من "مركز" السُلطة القديمة يُشكل خطر كبير علي نجاح حملته.
ستستمر المراسلات على
تلك الطريقة؛ مراد بيك يتنقل جيئة وذهاب، ومعركة تلو الآخري مع الجنرالات،
ونابليون "يشد في شعره" ويلعن حظه، وفي كل مرة يُمنّي نفسه أنه "احتمال"
قد قُتل في إحدى تلك "الطلعات"، لكن سُرعان ما يظهر مراد بـ" الوجه
ذو الندبة" ليُنغص عليه "عيشته". لكن لن يستطيع أي من الجنرالات أن يأتي برأس
مراد بيك وإن كان سيأخذونه كله رأساً وجسداً بعد أن تنهكه المعارك المستمرة فيقول
نابليون للجنرال (ديزيه) في 13 أغسطس 1799م «لن تنجح حملتك على الصعيد إلا بالقضاء علي مراد بيك لقد تناقصت قواته ولم
يعد معه إلا بضع مئات من الرجال يركبون الجمال يمكن لك أن تطرده للصحراء لكي تُحقق
هدفك. « وفي النهاية سيرضخ مراد بيك للأمر الواقع، ويري أن تكون أعور خيراً من
أن تكون أعمي. وفي عهد (كليبر) سيوقع على "مُعاهدة السلام" التي تضمن له
حكم جرجا تحت وصاية فرنسية، لكن (كليبر) هذا كان من أفضل الجنرالات الفرنسيين
فاستطاع السيطرة وفرض الهيمنة الفرنسية رغم أن كُل العوامل المحيطة كانت ضده،
ولولا "الأهوج، الآثم" (سليمان الحلبي) كان من الممكن ألا نري الحاج (محمد
علي) وجيشه نهائياً.
وما
بين الخبر في جريدة الشئون المعنوية "البريد المصري" في العدد 11 الذي
يقول «لقد تأكد أن قوات كتيبة الجنرال ديزيه قد هزمت المماليك الذين التحقوا
بمراد بيك: وقد قُتل ثلاثة بكوات وتم أخذ الكثير من الأمتعة منهم، وننتظر بفارغ
الصبر الأخبار الرسمية، لكن كُل شيء يُشير إلى انه قريبا سيتم تشتيت ما تبقي من
جيش مراد وابراهيم بيك تماما؛ وعندها سيتأكد عدم وقوع مصر مرة آخري تحت نير هؤلاء
الطُغاة البشعين الذين دمروا هذا البلد الجميل لفترة طويلة.» مرورا بخبر
"اتفاقية السلام" في العدد 68 «أُخطر الجيش بالأمر الصادر في 17 الجاري أن
القائد العام قد عقد سلاماً مع مراد بيك باسم الجمهورية على أن يقدم له ايرادات
اقليم جرجا.» وانتهاءً "بالتطبيع" وارسال
الرسائل المليئة "بالود والمحبة" للجنرال مينو كما يقول الخبر في العدد
76 من الجريدة (5)؛
نري مصير مُعظم "مُجاهدينا وزعمائنا وأبطالنا" المُخلصين.
يُتابع
نقولا فيخبرنا عن السيد (محمد الجيلاني)، فحين بلغ "أهالي الحجاز" دخول
الفرنسيين «ارتجت
سكان تلك الأرض وماجت، واضطربت وهاجت، فتحرك من الاشراف السيد محمد الجيلانى، وقد
جمع سبعة الاف أماجيد، وحضر بهم الى الصعيد، واجتمع اليه العربان من اهل تلك
البلدان، عشرة الاف من غير خلاف، وظهر امره واشتهر خبره.» لكن (الجبرتي) يقول لنا أن هذا (الجيلاني) «رجلاً
مغربياً يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاوراً بمكة والمدينة والطائف» وانه لما علموا بدخول الفرنسيين دعاهم للجهاد فاجتمع
حوله «نحو الستمائة من المجاهدين
وركبوا البحر الى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه.» فلما وصلوا الصعيد انضم لهم المماليك والأتراك
والمغاربة، الذين هربوا بعد دخول الفرنسيين القاهرة، وبعض من أهل الصعيد وحاربوا
الفرنسيين، لكن لم «تثبت الغُزّ كعادتهم وانهزموا وتبعهم هوارة الصعيد
والمتجمعة من القرى وثبت الحجازيون، ثم انكفوا لقلتهم وذلك بناحية جرجا وهرب الغز
والمماليك الى ناحية اسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي وعثمان بك حسن تابعه، ووقع بين
أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة بعدة مواضع وينفصل الفريقان بدون
طائل.»
ونري في المصادر الفرنسية أن هؤلاء الذين أتوا إلى الصعيد من "عرب
ينبع" قد أتوا عن طريق ميناء القُصير وانضموا للمماليك وبدأوا في تحريض
الأهالي على الجهاد حيث وصل منهم عدة آلاف، و من وصف الجنرال (دافوس) لحملة
الجنرال (ديزيه) علي الصعيد والذي كان يصحبه 1000 من الفرسان، والتي سنراها حين
استعراضنا لرواية الغزاة، أن المواجهات
بين هؤلاء العرب و الفرنسيين كانت شرسة جداً، لكن هذا الميناء (القُصير) أصبح يخضع
لسُلطة (مراد بيك) طبقاً للاتفاق الذي عقده مع (كليبر)، و في هذا يُرسل الجنرال (مينو)
في 24 سبتمبر 1800م (6)، بعد مقتل (كليبر)
وتولّيه بدلا منه قيادة الجيش، لوزير العلاقات الخارجية الفرنسية وقتها (شارل
موريس دو تاليران) نص الاتفاقية
التي تمت في عهد( كليبر) ونص آخر لاتفاقية بينه و بين مراد تخلي بموجبها مراد عن
بعض القري التي كانت تابعة له و فيها أيضا وجوب دفع جزء من الأموال التي كانت
مقررة عليه طبقاً للاتفاقية الأولي «لن أدخل هنا في مناقشة بخصوص السلام الذي
عُقد بين مراد بيك والجنرال كليبر؛ فلم أشارك فيها بأي شكل، فحين وضعتني الظروف في
قيادة الجيش وجدت هذا السلام مُنعقداً؛
ورأيت أنه من شرف الفرنسيين أن يتم تطبيق كل مواد هذا الاتفاق بحذافيرها. فعند
توقيع هذا الاتفاق، ايها المواطن الجنرال، كان مراد بيك في وضع قد يُلحق بنا
الكثير من الأضرار، ففي القاهرة كان هناك 10,000 عثمانلي تحت قيادة ناصيف باشا،
و1500 مملوك بقيادة إبراهيم بيك، ولو كان مراد بيك هو أيضاً دخل بمماليكه، فبالتقدير
الذي يحظى به بين السكان كان سيطيل حصار القاهرة لمدة طويلة جداً، وهذا كان سيعطي
الصدر الأعظم الوقت لتجميع قواته من جديد، وأن يقتحم بها ما يريد من أي منطقة بمصر
مما كان سيشكل عملية تشتيت في غاية الضرر. وقد كان من الممكن أيضاً أن ينجم عن هذا
الحصار الطويل للقاهرة تشجيع جزء كبير من سكان مصر على
الانتفاض ضدنا. هذا كله، على ما يبدو، هو الذي
دفع الجنرال كليبر لعقد اتفاق السلام مع مراد بيك.»
ويواصل (مينو) أنه
طبقاً لأحد بنود الاتفاقية فإن ميناء القُصير يقع تحت سيطرة مراد بيك «هذا
الميناء الواقع في الجانب الغربي من البحر الأحمر، وإذا كان مراد بيك نواياه سيئة،
من الممكن أن يُشكل هذا الميناء منفذ سهل لأعدائنا، فالإنجليز الذين يُبحرون في
البحر الأحمر وعرب اليمن من المحتمل أن تجتمع مصلحتهم فيقومون بعملية إنزال فيه بمساعدة
مراد بيك. لكن هذا الأمير، الذي يكره الإنجليز والأتراك، يتصرف على نحو رائع
وبكثير من حسن النوايا. لكن مع ذلك فأنا أراقبه بدقة عن طريق الجنرال الذي يحكم
أسيوط (...)» لكن (مينو) يُطمئن الوزير بأن كل شيء تحت السيطرة، فشريف مكة
وغيره من الشيوخ والأمراء فيما بين السويس والمدينة المنورة يخطبون وده ويبعثون له
بالرسائل التي تطلب "الشراكة التجارية" مع الفرنسيين من أجل استمرار
حركة التجارة، حتى أنه بعث برسائل لإمبراطور اثيوبيا ولحكام النوبة ودارفور ودنقلا
من اجل هذا الغرض ايضاً. وعن "شريف"
مكة هذا، وهو (غالب بن مساعد) الذي كان تاجراً من "العيار الثقيل"، نري
في رسالة بوسيليج لنابليون في 19 مايو 1799م يُعلمه أنه استقبل رد من هذا الشريف
علي الرسائل التي كان قد أرسلها إليه «وأن الشيخ المهدي (7) وعدني بأن يعطيها حقها من الدعاية، فستنتج
تأثير ممتاز في مصر في مواجهة المتطرفين. ولقد بعثت نسخة للجنرال ديزيه ودعوته أن
يكتب هو بنفسه للشريف.» فالجنرال (ديزيه) معروف
بانتصاراته التي حققها على "عرب اليمن" أو "عرب ينبع" أو
"المكيين" في الصعيد كما يقول بوسيليج الذي يواصل «يُقال إن شريف مكة
قد وضع في السجن الكثير من المكيين الذين بعدما جاءوا لمحاربتنا عادوا كجرحي أو
مُعاقين لبلادهم.» ثم يوضح لنابليون أن دافع شريف مكة لطلب صداقة الفرنسيين هو
"مصلحته الشخصية" فهو يُريد بيع "القهوة" التي يتاجر بها ويريد
أن يبعث الفرنسيون له بـ"الصرّة"
«ويريد خصوصاً أن نبعث إليه بالصرّة
ويبلغ مجموعها 550,000 فرنك منها 100,000 فرنك للشريف.» ثم يطلب من نابليون ضرورة توصيل هذا المبلغ الكبير للشريف، رغم خواء
الخزينة، كنوع من اظهار حسن النية وتأسيس "الثقة" بين الطرفين الأمر
الذي سيساعد على أن تستقر الأوضاع وتعود المياه لمجاريها. وكانت الدولة العثمانية
تدفع تلك "الصرّة"، والتي تعني لغة كيس المال، وهي مبالغ سنوية ترسلها
للقدس ومكة ولشيوخ القبائل في طريق الحج كنوع من المرتبات والمساعدات وشراء
الولاءات ولتهدئة الخواطر.
لكن
على هامش هذا كُله لابد لك أن تستعجب من هؤلاء "العرب" الذين عبروا
البحر وقطعوا الصحاري والوديان ليحاربوا الفرنسيين؛ ولم يتحركوا بضع خطوات
ليقاتلوا أمثال هذا الشريف، وهم كانوا في تلك الفترة النموذج المنتشر، وليومنا هذا
تجد من يُسمون "بالسعوديين" يذهبون بالآلاف لأي مكان في الأرض
"للجهاد" فنجدهم في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، لكنهم أبداً لا
يحاربون رأس "الكُفر والنفاق" في بلدهم باعتباره "حاكم مُسلم"
ويُقدسون ابن باز وابن صرمة وابن نيلة، ثم تجدهم في النهاية يتساءلون لماذا يتأخر
النصر؟ ببساطة لأنهم لا يعرفون مَنْ هو "العدو" فشابهوا الإخوان من حيث
لا يعلمون، الفارق فقط أن "المجاهدين" يحملون السلاح، والإخوان هم من
أصحاب "الرايات" و"الصدور العارية" لكن الإثنين في الحقيقة
يُحاربون "طواحين الهواء". وتجد أشباهم من المصريين الذين يرون (السيسي)
أو (محمد مرسي) حاكم مسلم واجب الطاعة، وأن (أبا اسماعيل) هو المهدي المُنتظر.
ومنهم من يري أنّ (علي جمعة) حجة الإسلام وكثير من "الراديكاليين" منهم
لا يجدون غضاضة في النيل وسب وشتم (بُرهامي)، لكن تجدهم يرفعون أكف الضراعة لكي
يشفي لهم الله (الحويني)، ولا تملك إلا أن تقول: "آه يا مُعرصين يا أولاد
البهائم". إن ما يحدث لنا ليس ابتلاء
وتمحيص بل هو عقاب إلهي.
ويقول
(نقولا) أنه لما بلغ الجنرال (ديزيه) قدوم السيد (محمد الكيلاني) و
"مجاهديه" لم يهتز «بل
انه كبس عليهم بالليل بكل قوة وشدة وحيل، فما سلم منهم غير القليل، والذي سلم تشتت
في البراري والقفار، وبليوا بالذلّ والدمار. ومات في تلك الوقعة السيد محمد الجيلاني،
اذ هو علی نفسه جانی، لأنه کان
یزعم انه یحذف الرمال والغبار في وجوه الكفار، وتعمي منهم الابصار، ويقبض عليهم
باليد، فخاب منه الكد والجد. ثم بعد مدة تجمع الذين سلموا ورجعوا يفسدون في البلاد
ويستنهضون بالعباد، فأرسل عليهم الجنرال ديزه شرذمة من العسكر، فهزموهم في البر
الأقفر. وبعد ذلك راق الصعيد من محاربين الفرنساوية، واطمأن حال الرعية. واحتوا
الجنرال ديزه محبة عظيمة، لأجل سلوكه واحكامه المستقيمة.» ثم يُعدد لنا الذين خدموا الفرنسيين، فمن الأقباط
المعلم يعقوب أو «يعقوب الصعيدي وهو رجل شديد البطش، مشهوراً بالفروسية
والهمة القوية» المعلم يعقوب تم ترشيحه للعمل
كمباشر أو "مُشرف" من قبل المعلم (جرجس الجوهري)، وهو "كبير
المباشرين"، الذي أوكل له (نابليون) بتنظيم الحسابات الخاصة بإيرادات
المداخيل في الأقاليم المصرية كما نري في رسالة نابليون للمعلم (جرجس) في 3 أغسطس
1798م، ثم لازم (يعقوب) بعد ذلك الجنرال (ديزيه) حيث سيصبح أخلص تابعيه ونري هذا
في رسالة بعثها المعلم (يعقوب) لـ (مينو) الحاكم وقتها، يرثي فيها "رفيق
الكفاح" الجنرال (ديزيه) الذي قُتل في معركة مارينجو التي انتصر فيها (نابليون)
علي الجيش النمساوي بإيطاليا في شهر يوليو 1800م حيث يقول
«في تلك اللحظات
التعيسة التي فيها كل مُحب للجمهورية يأسف لفقدان الشُجاع الفاضل (ديزيه) في سهول
مارينجو؛ لتسمح لي، أيها المواطن الجنرال،
كرفيق لأعماله في غزوه للصعيد، لأنثر أنا
أيضاً بعض الورود علي قبره. في تلك اللحظات من أعماق أحزاني أفتقد الكلمات التي
أعبر بها عن ألمي. لكن الأفعال ستعوض سكوتي. ديزيه! سنقيم لك في فرنسا نُصباً
تذكارياً، ويعقوب الذي كُنت تحبه والذي كان يُحبك كنفسه، سيدفع ثُلث ما يتكلفه هذا
النُصب أي كانت قيمة. وإذا كان هذا النُصب، كما آمل، سينقل للأجيال القادمة بصدق
المعارك الشرسة التي خُضتها أنت لغزو واخضاع الصعيد، فالأجيال القادمة ستعرف أيضاً
ان يعقوب الذي قاتل بجانبك استحق تقديرك. يال الأسي! فلفترة طويلة قد أخلص قلبه
لك.» ولا أعرف لماذا خطر في بالي حين قرأت هذا
الرثاء النكتة المعروفة عن اليهودي البخيل الذي نشر نعي ابنه في الجرنال لكن لكي
يستفيد منه قرر ان يكون هكذا: " كوهين ينعى ولده ويُصلّح ساعات".
ونجد في رسالة (بوسيليج) لنابليون بداية (يعقوب) «لقد غادر مع الجنرال ديزيه المعلم يعقوب وهو
أحد الذين رشحهم لك كبير المباشرين الذي يقول أنك لن تجد أخلص منه، وأنه يضمنه
بحياته ويطلب منك أن تقتله إذا اكتشفت من المعلم يعقوب أي خيانة. وأن المعلم يعقوب
كان كاتب سليمان بيك لكن عند يعقوب ألف سبب وسبب تجعله غير وفيّ له، وإنه وان كان
سليمان بيك غنى جداً إلا أن منزله هنا كان من بين أوائل البيوت التي تم نهبها بعد
معركتك الأخيرة.» ثم يخبره
أنّ المعلم (يعقوب) يعرف الأشخاص الذين كانوا يُديرون حسابات وأعمال أمراء
المماليك وانه مستعد ليكون "مُرشد" للفرنسيين عن بيوت وخبايا وأموال
المماليك على أن يدعمه (نابليون) في «مواجهة
الشيوخ الذين سيضعون العقبات على قدر استطاعتهم. ومن الآن سيرسل الكثير من القبط
في القري لجمع المعلومات.» ثم
بعد جمع تلك المعلومات "الاستخبارية" ومعرفة أماكن وثروات الأمراء ستبدأ
حملة "مُداهمة" مفاجأة بحيث لا تكون هناك فرصة آخري لتهريبها. ويقول (بوسيليج)
أن المعلم (جرجس) كان يود أن يمتلك الكثير من المال ليعطيه لنابليون ويقول له «خذ ها هو المال فلتدفعها لجنودك ولتنتصر على
العالم كله فأنت قائد قلباً وقالباً.» لكن الأقباط لم يكن وضعهم دائما يسير علي ما يرام،
فكما نقلنا قبل ذلك أن (نابليون) قد أوصي (كليبر) أن يمنعهم من اظهار الصلف وألا
يكونوا «مُتغطرسين
أكثر من اللازم» لأن هذا من
شأنه أن يُزيد الوضع تعقيداً، فنجد (كليبر) كجزء من اظهار الشدة ولكي يعرف كُلاً
حدوده، يأمر الجنرال (دوجا) في 4 يناير 1800م بإلقاء القبض علي كبير المباشرين المعلم (جرجس الجوهري) وقطع رأسه إن لم يدفع خلال أربعة أيام مبلغ 600,000 جنيه «وهذا الأمر واجب التنفيذ
وستكون مسئولاً في حالة عدم تنفيذه» ويطلب
منه احضار (فلتيوس) أو المعلم (يعقوب) في
حراسه إليه ليكون بجانبه واحد من هؤلاء الناس-يقصد النصارى- ليجاوبه إذا نطقوا
بحماقات علي حد تعبيره. وحينما أتي (مينو) زاد بُعداً عن النصارى واتهمهم بالخداع
والغش وبأنهم سبب كثير من المشاكل التي حدثت للفرنسيين منذ قدوهم مصر، لكن ظل
المعلم (يعقوب) مُقرباً إليه. فهو
في رسالته لـ(نابليون) الذي أصبح المستشار الأول للجمهورية، وبعد المُقدمة
التعريصية المعتادة التي يُثني فيها على انتصارات (نابليون) وعبقريته وأن التاريخ
سيكتب بحروف من ذهب هذه الأحداث، كما لن ينسي التاريخ «أيها المواطن المستشار، الحملة على مصر، تلك الفترة من الزمن التي ستحتفل
بها الأجيال القادمة، لأنها بلا شك سينتج عنها تحضّر افريقيا وآسيا. أيها المواطن
الجنرال، هذا الجيش الذي خُضت معه أولي غزواتك على إيطاليا، ومعه حملت اسم ومجد
الجمهورية الفرنسية إلى الشرق؛ هذا الجيش يستحق اهتمامك وعنايتك فقد انتصر على القوي
التي تجمعت في آسيا بقيادة الصدر الأعظم نفسه. لا شيء يُعادل حب هذا الجيش لوطنه
ولك، ولا شيء يعادل رغبته في أن يكون دائماً جدير بأن يكون ابناً للمجد.» ثم يشرح له الأوضاع فالصدر الأعظم، الطاغية
المتوحش المتعاون مع روسيا، يستجمع قواته ويتهدد وينهب قوافله العرب ويبعث له
بالرسائل يطلب منه "السلام" لكنه دائما ما يجاوبه أنه ليس له من الأمر
شيء وأنه يجب ان يُخاطب باريس في ذلك. و(حسين
باشا قبطان) أدميرال البحرية العثمانية، المؤدب المحترم المتعلم الكاره للإنجليز
وعدو الصدر الأعظم، يجوب البحر من دمياط للإسكندرية يرغب في السلام فهو يعرف أن
موقف العثمانيين سيء، فيريد أن يخرج بأي اتفاقيه تحفظ له قُربه وأهميته بجوار السُلطان ويعامل كُلاً منّا الآخر «بأدب واحترام، ونتبادل
الهدايا» ويواصل (مينو) بعد شرحه للجانب الخارجي في شرح
الأوضاع الداخلية وما فعله لكي يُحدث "نقلة اقتصادية" بمصر فهو قد أنشأ
علاقات مع كل أمراء المنطقة وبدأت تأتي قوافل التجارة من كل مكان ويعمل على أن يُصبح ميناء السويس مُلتقي التجارات. إلى أن
يقول «أتخلص شيئاً فشيئاً من الأشخاص الذين خدعونا، لكنني وجدت بينهم رجل موهوب
يُدعي المعلم يعقوب الذي شكّل لنا قوات إضافية وهي نصف اللواء 21 المكون من
المجندين من الصعيد الذي التحق به أكثر من 200 من المسلمين المصريين.»
ثم يُعدد له المصانع التي تم انشائها لصناعة البيرة والستائر والشموع والخمر وإلى
آخره من المشاريع والأعمال التي تُشير لمستقبل مُزدهر وأن بقاء الفرنسيين في مصر
أصبح "واقعاً" لا يستطيع أحد تغييره. ثم يختم «العرب من كُل اتجاه، الذين أطاردهم على ظهور
الجمال، يطلبون السلام، والشيوخ والأمراء الذين يتواجدون على مسيرة 50 يوماً من
مصر يطلبون ود وصداقة الفرنسيين. لقد سمحت لبعض الأشخاص الذين بلا فائدة
للمستعمرة، وهذا أقل ما يُقال عنهم، بالعودة لفرنسا. أما بالنسبة لي شخصياً فأنا
لستُ إلا قائداً مؤقتاً للجيش ولو بعثت بمَنْ يحل محلي، فسوف أطيعه بنفس الحماسة
والصرامة التي دائما ما كانت هي التي تُحركني لما فيه خير بلدي وصالح الجمهورية.»
أما من خدموا الفرنسيين من النصارى الأروام فيقول لنا (نقولا) هم (برطلمين)
"السافل" الذي أخبرنا عنه (الجبرتي) سابقاً، الملقب بفرط الرمان أو «المدعو
باترو، وهذا الذي كان يدعونه اهل مصر فريد الزمان، لما عنده من العلوم والفصاحة
والقوة والشجاعة. وكان يعرف في جميع اللغات، وفاق بالحسن عن حد الصفات. وكان قد
خدم عند الفرنساوية، وانقاد اليه جماعة من الغُز المماليك واحتموا به.»
وعلى ما يبدو من تقارب نطق وكتابة "فرط الرمان" و "فريد
الزمان" الذي قد يشير أنه نوع من التصحيف، لكن المعلم نقولا يُفسر لماذا سُمي
بهذا الاسم وعلى هذا فمن الممكن ان يكون (برتيلمي) هذا يوصف بالفريد وبالفرط وبالسافل
في نفس الوقت فهي صفات من الممكن أن تتواجد في نفس الشخص بدون أي مشكلة. (برتيلمي)
هذا يوناني، والتي كانت تابعة في هذا الوقت للعثمانيين، هو وغيره من
"الأروام" حين دخول الفرنسيون مصر قدموا فروض الولاء والطاعة لهم،
فمعظهم كانوا "كاتبي سر" ومطلعين على أسرار وأموال وأعمال المماليك مما
يجعل خدماتهم التي قدموها للفرنسيين "جليلة". وتم
تعيين (برطلمين) كتخدا مستحفظان، كما
رأينا، حيث أذاق المصريين كؤوس الذِلة والمهانة، وسيكون هو "رسول" (كليبر)
للتفاوض مع مراد بيك علي "الصُلح".
ثم رومي آخر خدم الفرنسيين هو (نقولا قبودان) أو
قبطان «فهذا المذكور كان خادما عند مراد بيك، ومتروسا على عدة عساكر ومراكب في بلدة
الجيزة، وكان شاباً موصوفاً بالشجاعة. وهذا المذكور كان متسلم المتاريس في عسكر
الاروام حين دخلت الفرنساوية الى بر امبابة وامتلكوا القاهرة. ولما امتلكت الافرنج
المتاريس ألقي نفسه في بحر النيل وطلع الي مصر، ثم خدم المشیخة.» أما الذين خدموا الفرنسيين من المسلمين فهم «كثيرون في العدد».
يُدخلنا نقولا بعد ذلك في
أجواء "ثورة القاهرة الأولي" فبعد انقضاء ثلاثة شهور على دخول الفرنسيين
مصر؛ كان "المصريون" ينتظرون أن يأتي "فرمان" بشرعية الوجود
الفرنسي، فكما قال لهم الفرنسيون أنهم لم
يأتوا إلا باتفاق مع إسطنبول، لكن حين تأخر الفرمان لعبت الفئران في صدور
المصريين وأدركوا أنه تم خداعهم، بالإضافة إلى المكاتيب التي وردت من (الجزار) و(إبراهيم
بيك) تحث الناس علي جهاد الكُفار، كما أن الفرنسيين كانوا «يُخرجون النساء
والبنات المسلمات مكشوفات الوجوه في الطرقات. ثم اشتهار شرب الخمر وبيعه الى
العسكر. ثم هدم جوامع ومنارات في بركة اليزبكية لأجل توسيع الطرقات لمشي
العربانات. وكان المسلمون يتنفسون الصُعداء من صميم القلوب ويستعظمون هذه الخطوب»
وقرروا أن هذا هو وقت الجهاد، لكن نابليون كان قد شعر بما في نفوس الناس، كما يقول
(نقولا) فأمر «لسایر حکام الخطوط بان کلاً منهم يأمر بخلع الابواب المركبة في
الشوارع. وفي يوم واحد خلعت تلك الابواب العظام، وبعضها أُحرقت بالنيران.» وصحب
نابليون الجنرال (كافاريلي دوفلجا) قائد سلاح المهندسين «الملقب ابو خشبة، لان كانت رجله الواحدة
مقطوعة من ساقه ومصطنع له رجل من خشب، فهذا الجنرال كان أعظم المهندسين في مملكة
الفرنساوية.» من أجل بناء عدة قلاع
لتكون حصوناً ومدافعاً في حال فكر الناس في "الثورة" «ولما رأي الاسلام هذا الاهتمام تحركت
للقيام، وبدوا ينادون متبادرين إلى الجامع الاكبر المعروف بجامع الأزهر. وهناك
عقدوا المشهورة وأبرزوا ما بالضماير المضمرة، وأرسلوا أحد الفقهاء في شوارع مصر
ينبّه المسلمين بالمبادرة إلي الجامع الازهر حيث اجتمع العسكر.» العسكر هنا هم الأتراك، والذين كانوا هم
المحرك الرئيسي وهم المتصدرون للمشهد كما سيكون الوضع في "ثورة القاهرة
الثانية" «وبدأ ذلك الشيخ
المذكور يدور وينادي بالجمهور: كل من كان موحداً يأتي لجامع الازهر، لان اليوم
المغازاة بالكفار، ونزیل عنا هذا العار، ونـأخذ منهم الثار.» فترك كل واحد "حاله ومحتاله" وتجمع
الناس، فوصلت الأخبار للجنرال دبوي حاكم القاهرة بأنه قد «قامت أهالي البلد من الشيخ إلي الولد.»
وظن (دبوي) أن الناس مُتذمرة من "الضرائب العقارية" التي فُرضت عليهم كما أخبرنا الجبرتي، فذهب إليهم في حراسه بعض عساكره ظاناً منه أنهم حين يروه سيفرون من أمامه لكنه «لم يعرف ان ليس ذلك علة المال فقط، بل هي علل كثيرة الشطط وغزيرة النمط، واحقاد كامنة في جوارح القلوب، وعداوة لا يُدركها سوى رب الغيوب. وفيما هو ساير في سوق النخاسين فبرز اليه أحد الاتراك وضربه بخشبة على خاصرته، فسقط عن ظهر جواده مغشيا، فحملوه اصحابه ورجعوا به الى جنينة الافرنج القديمة، وفى وصوله مات هناك، وشرب كاس الهلاك.» وكان هذا إيذاناً ببدء "الثورة" فنشبت مواجهات بين العسكر الفرنسي و "الجماهير" «فهجمت عليهم تلك الجماهير من كل ناحية، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في طريقهم من الافرنج الفرنساوية والملة النصرانية، من المعلمين والرعية. وكان يوماً مهولاً عظيماً وخطباً جسماً. ثم هجمات جماهير الاسلام على طور سينا فقتلوا البعض من الرجال، ونهبوا بيوت النصارى، واخذوا ما احتوا من الحاجات، وضعوا النساء والبنات، واحتموا بقوة الرجال داخل دير الطور. وكان يوماً مشهوراً، وکان اولیك الامم هايجين هيجات وحشية، فتهاربت الفرنساوية الى البركة اليزبكية.» ثم بدأوا في عمل المتاريس «فسقط خوفا عظيم على الفرنساوية وذعرهم هذا القيام، وداخلتهم الاوهام لمعرفتهم بكثرة الخلايق التى في مصر لانها كانت تجمع مليونا من الناس، ولا لکثرتهم قیاس.» فلما وصل نابليون إلى موقع الأحداث أمر علي الفور بالبدء في القصف «فتضايقت الاسلام من كثرة الكلل والقنابر والرصاص المتكاثر. واستقام الحرب ثلاثة ايام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الازهر، فهربت الاسلام بالذل والتعكيس، وامتلكوا منهم المتاریس، وابلوهم بالضرر وملکوا منهم الجامع الازهر، وسلبوا ماکان فیه من الودایع والذخایر. وابتدوا بعد ذلك يمتلكون مكاناً بعد مكان، الى ان تملكوا أكثر المدينة. واختفت الاسلام في المنازل والجدران، وألقوا سلاحهم وصاحوا الامان.»
ولما رأي هذا «علماء الإسلام» الشيوخ المُبجلون ذهبوا لنابليون «بعقل مدهوش وقلب مرعوش» واخذوا يترجونه بان يخرج جنوده من الجامع المقدس، لكن نابليون لم يلتفت لتضرعاتهم فأخذوا «يقسمون له بالله ان ليس عندهم من ذلك اثار، ولا علم ولا اخبار. بل علة الحال طلب المال، وما قام إلا اوباش الرجال. فأبى امير الجيوش تصديقهم وأنكرا تحقيقهم، ولم يسمح لهم بتخلية الجامع من العساكر واحرف وجهه عنهم وهو مُتعكر الخاطر. فانصرفوا من امامه وهم باكين وعلى احوالهم نايحين، وتأسفوا على جامع الكنانة وخراب الديانة.» لكن الله سلم وجاءوا بالشيخ (محمد الجوهري) والذي في حياته لم يقابل احداً «من الحكام، ولا يعترض الى امور العوام. وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكاً عادلاً كان ام ظالماً، والان قد اتيت متوسلاً اليك ان تأمر بإخراج العسكر من الجامع الازهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الفُجّر، واتخذ فی مدا العمر داعياً لك ناشراً فضلك. فانشرح امير الجيوش من ذلك الخطاب وانعطف وأجاب، قائلاً: إنني عفوت وصفحت عن احبابك لأجل خطابك. ثم امر امير الجيوش برفع العسكر من الجوامع، وأطلق المناداة في المدينة بالأمان.» ولا تعرف مَنْ الذي أخرج هذا الشيخ من "القمقم" الذي كان يعيش فيه، وهل يا تُري مازال يدعوا-في قبره- لنابليون بطول العمر؟ ومن الغريب العجيب أن تجد الناس تنفعل وتتشنج وتطلب "الجهاد" إذا دُنس جامع أو مسجد أو "قُدس" أو "أقصي"، لكن حين يُقتل الناس بالألوف أو المئات أو يعذبوا أو يُقهروا فلا تسمع لهم "حس" ولا صوت، فقط "يتألمون" لمناظر القتلى على الشاشات، ثم سُرعان ما يُغيرون "المحطة" فقد حان موعد مباراة الأهلي والزمالك المرتقبة، وطالما "مساجدنا وأقصانا" بخير فلا داعي للهلع أو الغضب، و"بعدين" أليس الموت نهاية كل حي؟ وماذا بأيدينا لنفعله؟! وهل كُنا سنقدم أو نأخر لو "جاهدنا"؟ هي إرادة الله فوق كل إرادة؛ هكذا هي "أعمارهم" وقد جاء أجلهم.
وظن (دبوي) أن الناس مُتذمرة من "الضرائب العقارية" التي فُرضت عليهم كما أخبرنا الجبرتي، فذهب إليهم في حراسه بعض عساكره ظاناً منه أنهم حين يروه سيفرون من أمامه لكنه «لم يعرف ان ليس ذلك علة المال فقط، بل هي علل كثيرة الشطط وغزيرة النمط، واحقاد كامنة في جوارح القلوب، وعداوة لا يُدركها سوى رب الغيوب. وفيما هو ساير في سوق النخاسين فبرز اليه أحد الاتراك وضربه بخشبة على خاصرته، فسقط عن ظهر جواده مغشيا، فحملوه اصحابه ورجعوا به الى جنينة الافرنج القديمة، وفى وصوله مات هناك، وشرب كاس الهلاك.» وكان هذا إيذاناً ببدء "الثورة" فنشبت مواجهات بين العسكر الفرنسي و "الجماهير" «فهجمت عليهم تلك الجماهير من كل ناحية، وكانوا يقتلون كل من وجدوه في طريقهم من الافرنج الفرنساوية والملة النصرانية، من المعلمين والرعية. وكان يوماً مهولاً عظيماً وخطباً جسماً. ثم هجمات جماهير الاسلام على طور سينا فقتلوا البعض من الرجال، ونهبوا بيوت النصارى، واخذوا ما احتوا من الحاجات، وضعوا النساء والبنات، واحتموا بقوة الرجال داخل دير الطور. وكان يوماً مشهوراً، وکان اولیك الامم هايجين هيجات وحشية، فتهاربت الفرنساوية الى البركة اليزبكية.» ثم بدأوا في عمل المتاريس «فسقط خوفا عظيم على الفرنساوية وذعرهم هذا القيام، وداخلتهم الاوهام لمعرفتهم بكثرة الخلايق التى في مصر لانها كانت تجمع مليونا من الناس، ولا لکثرتهم قیاس.» فلما وصل نابليون إلى موقع الأحداث أمر علي الفور بالبدء في القصف «فتضايقت الاسلام من كثرة الكلل والقنابر والرصاص المتكاثر. واستقام الحرب ثلاثة ايام، وفي اليوم الرابع كبست الفرنساوية على جامع الازهر، فهربت الاسلام بالذل والتعكيس، وامتلكوا منهم المتاریس، وابلوهم بالضرر وملکوا منهم الجامع الازهر، وسلبوا ماکان فیه من الودایع والذخایر. وابتدوا بعد ذلك يمتلكون مكاناً بعد مكان، الى ان تملكوا أكثر المدينة. واختفت الاسلام في المنازل والجدران، وألقوا سلاحهم وصاحوا الامان.»
ولما رأي هذا «علماء الإسلام» الشيوخ المُبجلون ذهبوا لنابليون «بعقل مدهوش وقلب مرعوش» واخذوا يترجونه بان يخرج جنوده من الجامع المقدس، لكن نابليون لم يلتفت لتضرعاتهم فأخذوا «يقسمون له بالله ان ليس عندهم من ذلك اثار، ولا علم ولا اخبار. بل علة الحال طلب المال، وما قام إلا اوباش الرجال. فأبى امير الجيوش تصديقهم وأنكرا تحقيقهم، ولم يسمح لهم بتخلية الجامع من العساكر واحرف وجهه عنهم وهو مُتعكر الخاطر. فانصرفوا من امامه وهم باكين وعلى احوالهم نايحين، وتأسفوا على جامع الكنانة وخراب الديانة.» لكن الله سلم وجاءوا بالشيخ (محمد الجوهري) والذي في حياته لم يقابل احداً «من الحكام، ولا يعترض الى امور العوام. وفي دخوله قال له: ما قابلت حاكاً عادلاً كان ام ظالماً، والان قد اتيت متوسلاً اليك ان تأمر بإخراج العسكر من الجامع الازهر، وتغفر ذنب هؤلاء القوم الفُجّر، واتخذ فی مدا العمر داعياً لك ناشراً فضلك. فانشرح امير الجيوش من ذلك الخطاب وانعطف وأجاب، قائلاً: إنني عفوت وصفحت عن احبابك لأجل خطابك. ثم امر امير الجيوش برفع العسكر من الجوامع، وأطلق المناداة في المدينة بالأمان.» ولا تعرف مَنْ الذي أخرج هذا الشيخ من "القمقم" الذي كان يعيش فيه، وهل يا تُري مازال يدعوا-في قبره- لنابليون بطول العمر؟ ومن الغريب العجيب أن تجد الناس تنفعل وتتشنج وتطلب "الجهاد" إذا دُنس جامع أو مسجد أو "قُدس" أو "أقصي"، لكن حين يُقتل الناس بالألوف أو المئات أو يعذبوا أو يُقهروا فلا تسمع لهم "حس" ولا صوت، فقط "يتألمون" لمناظر القتلى على الشاشات، ثم سُرعان ما يُغيرون "المحطة" فقد حان موعد مباراة الأهلي والزمالك المرتقبة، وطالما "مساجدنا وأقصانا" بخير فلا داعي للهلع أو الغضب، و"بعدين" أليس الموت نهاية كل حي؟ وماذا بأيدينا لنفعله؟! وهل كُنا سنقدم أو نأخر لو "جاهدنا"؟ هي إرادة الله فوق كل إرادة؛ هكذا هي "أعمارهم" وقد جاء أجلهم.
سيتم
القبض على المحرضين وإعدامهم، وسيبزغ نجم "برطلمين" السافل في مُطاردة
هؤلاء" الفلاتية". حيث سيحز منهم الرؤوس ويملأ بها الأكياس، ليقدمها
دليلاً على إخلاصه وصدق نواياه. وسيبدأ على الفور بناء القلاع للاستعداد لأي
" وسوسة شيطان" تدور في عقول العامة؛ وبعد ان يستقر الحال ويطمئن قلب
نابليون، ستبدأ تحضيراته لحملته على الشام التي سنراها -إن شاء الله- المرة
القادمة.
******************************************************************************************************
(1) لو كانت الانتخابات الديموقراطية من الممكن أن تؤدي لتغيير، لكُنا
رأينا الإعلام "الحُر" حول العالم يهاجمها باعتبارها أسوء "نظام"
يمكن أن يتبعه شعب لاختيار من يحكموه، وكنت قد قرأت مقالات تحت عنوان:
"الهمجية في أبشع صورها: الانتخابات وحكم الغوغاء". إن الديمقراطية التي
تم بعثها في العصر الحديث ليست هي الديمقراطية اليونانية التي اخذت منها الاسم فقط،
وما هي في الحقيقة إلا "أوليجاركية" أو "حُكم القِلة" –وليس القُلة
وإن كانت القُلة أكثر واقعية- من طبقة السياسيين الانتهازيين التي يُحركها أصحاب
رأس المال. وما الحُريات الشخصية التي تتباهي به تلك الديموقراطيات إلا ثمن بخس في
مُقابل أن ينهبك ويستعبدك أصحاب المال بطريقة أكثر "تحضراً" بدون أن
تتذمر.
(2) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon
Bonaparte, Egypte.
(3) Bonaparte En Égypte (1798-1799),Par Désiré Lacroix, 1899.
(4) قمت بتلوين الصورة جزيئاً، واخترت الألوان التي قد تكون مناسبة
لتكون أكثر واقعية.
(5) Courier De L’Égypte N°11 11 Oct 1798, N°68 17 Mai 1800,
N°76 6 Aug 1800.
(6) Correspondance Officielle De L’armée D’égypte.
(7) يبدو أن الشيخ محمد المهدي الذي نجد توقيعه علي ما يصدر من بيانات
من ديوان القاهرة كما ينقل لنا المعلم (نقولا) تحت توقيع: "الداعي لكم السيّد
محمد المهدي الحفناوي كاتم السّر و باش كاتب الديوان عفي الله عنه"، يبدو أنه
هو من كان يصيغ بأسلوبه خطابات نابليون. وكما قُلنا سابقاً أن أياً من كان يكتب
خطابات نابليون، فلابد انه من خريجي الأزهر اللعين. فنجد في رسالة نابليون مؤشر
لثقة نابليون في "صياغته" للرسائل العربية لإحداث الأثر المطلوب، فيقول
لـ(بوسيليج) في 9 يناير 1799م أثناء حملته على الشام، أن يطبع بالعربية كل ما
يكتبه (فنتور) للديوان ويُعدل فيها ما يراه الشيخ المهدي مناسباً ثم يوزعها
وينشرها بمصر، و(فنتور) هذا هو مُترجم نابليون ويُتقن العربية تماماً، فقد عمل كـ"دبلوماسي"
لفترة طويلة في إسطنبول وكمترجم في مصر وتونس والجزائر والمغرب وتجول في المنطقة
قبل مجيء الحملة الفرنسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال