الأحد، 26 مارس 2017

الجيش المصري و شعبه 14

الجيش المصري و شعبه 14
-البداية
(11)

 " الغَباءُ يُنادي في الخَارِجِ. في الشَوارعِ يَعلُو صَوته، يَدْعو في وسَطِ الأسْواقِ وفي الأزْقَةِ والحَاراتِ، يُبشّرُ عَلى الشَاشَاتِ ويُغرد ويُمأْمِأْ: " إلى مَتي تَسْخَرونَ مِني ومِن أَتْباعِي؟ تَنْتَقِدونني وتُسَرّونَ بِانتِقَادكُم. أتَفْتَخِرونَ بِمَعْرِفَتُكمْ وتَحتَقِرونَ جَهلي؟ ارجَعوا عِندَ تَوبٍيخٍي، فَها أْنا أْفِيضُ رَوحِي أُعَلْمُكُم كَلِماتي. لأْني دَعَوتُكم فَأْبَيتُم ومَدَدتُ يَدي إليكُم فَرفَضْتُم، ولَمْ تَرضُوا باتباعِ طَرِيقْي. وكَما تَضْحَكُون من غَبَائي وغَباءِ أَتْبَاعِي، فَأنا أَيضاً أَضْحكُ عِنْدَ بَليتكُم وأَشْمتُ بِكُم حِينَ تُصِيبُكًم المَصَائِبَ. وإِذا جَاءتْ عَليكُم شِدة وضِيق حِينئذ تَدْعُونني فَلا أسْتَجِيبُ، تُبكّرونَ إلىّ فلا تَجدُونني تُحَاولونَ الإسْتِغْبَاءَ فَلا تَقْدِرونَ، تَسْتَحِمِرُونَ فَتَضْحكُ مِنكُم الحَمِير لأَنْكُم لَمْ تَخْتاروا مَخَافَتي ولَمْ تَرْضُوا بِمَشُورَتي ورَذْلتُم تَوبيخِي فكَانَ عِقَابكُم أَنْ تَعِيشُوا في جَحيمِ مَعِرِفَتِكُم بَدَلَ أَنْ تَنْعَمُوا بِجَنَةِ جَهْلِي.""
الإصحاح الرابع عشر من سفر الشئون المعنوية

«أيها البؤساء، أيتها الشعوب المعتوهة، أيتها الأمم المعاندة لتري بؤسها والعمياء عن سعادتها. تتركونهم يسرقون أمام أعينكم أفضل ما تملكون، تتركونهم ينهبون حقولكم ويدمرون بيوتكم ويسرقون ما فيه من أثاث آبائكم. أنت تعيشون كما لو أنه ليس شيئا ملككم؛ ويبدو أنّ أقصي سعادتكم هي أن يتركوا لكم نصف أموالكم وعائلاتكم وحياتكم. كل هذا الدمار والبؤس والمصائب لا تأتي على أيدي أعداء كثيرين، بل علي يد عدو واحد أنتم الذين صنعتموه، والذي من أجله تذهبون بشجاعة للحرب حيث يتفاخر أفرادكم بأنه لا يهابون الموت من أجله. هذا السيّد الذي تخدمونه مع ذلك لا يتميز بأي شيء عن أدني فرد من سكان مُدنكم التي بلا عدد، فهو ليس لديه إلا جسم واحد وعينين ويدين؛ وما يزيد به عنكم إلا ما أعطيتموه أنتم بأنفسكم لكي يُدمركم به. فمن أين يأتي بهذا العدد اللامحدود من العيون التي يتجسس بهم عليكم إلا من بينكم؟ وكيف لديه كُل تلك الأذرع التي يضربكم بها إلا أنه أخذها منكم؟ والأقدام التي يطأ بها مُدنكم أليست هي أقدامكم أنتم؟  وكيف كان قد يجرؤ على مهاجمتكم إن لم يكن هناك اتفاق ضمني معكم؟ ما الذي من الممكن أن يُنزله بكم إن لم تكونوا أنتم من يُروّج المسروقات التي سرقها منكم. إن لم تكونوا شركاء للقاتل الذي يقتلكم، إن لم تخونوا أنتم أنفسكم؟ تزرعون حقولكم ليدمرها وتأثثون بيوتكم لكي ينهبها، تُربون بناتكم لكي يُشبع فيهن شهواته. وتعتنون بأولادكم لكي يجعل منهم، في أفضل الأحوال، جنوده من أجل أن يقودهم للحرب وللذبح ويجعل منهم خدماً لشهواته وفسوقه ومنفذين لأوامره وانتقامه. تُنِهكونَ أنفسكم من أجل أن يتنعم هو في ملذاته وينغمس في مُتعه الدنسة. تُضِعفونَ أنفسكم من أجل أن يزداد هو قوة وقسوة في أن يُحِكم قيوده التي يتحكم بها بكم. وأن يُذيقكم أنواع الذِلة والمهانة، التي حتى الحيوانات نفسها لا تستطيع تحملها لو تعرضت لها. تستطيعون أن تُخلّصوا أنفسكم من كُل هذا، فقط بأن يكون لديكم الرغبة في تخليص أنفسكم، حتى دون أن تحاولوا. فلتعقدوا العزم على ألا تكونوا عبيداً بعد الآن وستكونون أحراراً. لا أطالبكم بأن تدفعوا سيدكم أو تُقاوموه لكن فقط لا تدعموه، وسترونه مثل تمثال ضخم حين تحطم قاعدته ينهار تحت وزنه ويتهاوى. ينصح الأطباء بألا نحاول علاج الجروح المستعصية. وعلى هذا فقد أكون مُخطئاً بأن أُحرض شعب يبدو أنه منذ فترة طويلة قد فَقدَ كُل إدراك بمدي تعاستهِ. مما يُظهر أن مرضهم مُميت وغير قابل للعلاج.» (1)  

تلك الكلمات قد كُتبت مُنذ ما يُقارب الخمسة قرون، ورغم ذلك مازال صداها يتردد بيننا، ففي مقالته عن "العبودية الطوعية" يتعجب (إتيان دو لا بواسيه) (2) من كيف لملايين البشر أن تخضع لشخص واحد فتطيعه وتخدمه رغم أنهم لا يلاقوا في مُقابل هذا إلا العسف والمهانة والذِلة. ويتساءل لماذا يختار الناس أن يكونوا عبيداً على أن يكونوا أحراراً؟ فحتي الحيوانات تُقاوم وتُدافع عن نفسها حتى بعد أن تُقهر على خدمة الإنسان من أجل حُريتها. فما الذي شوه طبيعة الإنسان –وهو أولي بأن يكون حُراً- بأن يُصبح على هذا القدر ليس فقط من العبودية لغيره بل وأن يستمرئ ويُدافع في أن يكون "عبداً".

ويري (دو لا بواسيه) أنّ العادة هي التي تُطفئ تلك الشعلة المُتقدة في صدر الإنسان، المعلنة عن حريته، ليُظلم صدره فيري العبودية هي من "طبائع الأشياء". وأنّ الذين يرزحون تحت نير العبودية لا يشعرون بأنهم عبيد لأنهم لم يعرفوا معني الحُرية يوماً. رغم هذا تبقى قلة تظل –في تلك الظُلمة- تحلم وتدافع وتطلب الحُرية وتتحين الفرص من أجل الوصول إليها. ولا يري (دو لا بواسيه) فرقاً يُذكر بين أنواع الطُغاة الثلاثة: الطاغية المُنتخب من الشعب أو الذي يحكم بقوة السيف أو الذي "ملك" الشعب بالوراثة. فالأول حينما يرتفع على الأعناق سُرعان ما ينتابه الغرور ولا يُريد أن يغادر "كُرسي الحكم" بل ويريد توريثه لأبنائه وأحفاده. أما الثاني فيتعامل مع الشعب كـ"غنيمة" ملكها بسيفه و حق طبيعي لا يُنازعه فيه آخر إلا أنْ يمتلك هذا الآخر سيفاً في مُقابِله. أما الطاغية الثالث فيتعامل مع شعبه كقطيع من العبيد وإرث منقول يتصرف فيه كيفما شاء. ولكي يبقي الطاغية فلابد من أن يسحق أتباعه ويُلهيهم بعيد عن المُطالبة بحقوقهم وحريتهم فينسج الطاغية حول نفسه القصص والأساطير التي ترفعه لمصاف الآلهة، والتي يتلقفها شعبه ويُصدقونها –بغبائهم المعتاد- ويعتبرونها حقائق لا تقبل أي شك بل ويؤلف هذا الشعب  نفسه الأكاذيب التي تُمجد طاغيته ويُرددها ويُصدقها.

ماذا لو كان (دو لا بواسيه) مصرياً أو عاش في مصر لفترة، يا تُري ماذا كان سيقول أكثر من هذا؟ إن الشعب المصري من الشعوب "الأصيلة" في تأسيس الطُغاة والمُستبدين. يمكن أن نقول –ولن نكون مُبالغين- أن مصر هي "أم الطغاة" وأول استبداد عرفته الإنسانية، وأقدم "مزرعة" لرعاية "الحيوانات الإنسانية". وأكبر معبد لعبادة الحاكم. يقول د. جمال حمدان (3) «لقد جاء الطغيان الفرعوني نتيجة حتمية للدولة المركزية، وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية، وكما كان لهذه المعادلة أو المسلسلة الايكولوجية مزاياها الواضحة، فلقد كان لها عيوبها الأوضح، نعم، بها كانت مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة في التاريخ، لكنها أيضا صارت بها على الارجح أول طغيان في الأرض، وأقدم وأعرق حكومة مركزية في العالم، ولكن أقدم وأعرض استبداد أيضاً (...)» ويُقدم د. جمال حمدان كتابه بدرجة عالية من الصراحة والموضوعية ليضع يديه علي "الجُرح الذي لا علاج له"  «(...) نحن كشعب ـ لابد لنا بصراحة ان نعترف -- لا نحب فقط ان نمجد و نُطري انفسنا بحق و بغير حق ، ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يُرضينا ويعجبنا أو يرضى اعجابنا بذاتنا الوطنية وبشخصيتنا القومية . بل اننا لنكره أشد الكُره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض بإباء ان نواجهها أو نواجه بها ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الارض الا وننسبها الى أنفسنا ونُلصقها بها، وايما رذيلة أو عيب فينا ـ ان هي وجدت على الاطلاق! - فلا محل لها لدينا من الاعراب أو الاعتراف، وان اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا العذر الجاهز والمبرر والحجة المُقنعة أو المُقنّعة (...) فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلي محاسن، بل اسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها؛ ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض (الشخصية الفهلوية). ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها. بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا كلما زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا، كلما زدنا هزيمة وانكسارا كلما زدنا افتخارا بأننا شعب محارب، وكلما زدنا استسلاما وتسليما كلما زدنا تباهيا بأننا شعب سلام مُتحضر.»

 لكن (د. جمال) يُعاني من نفس التناقض الذي يبدو أنه سمة أساسية في بنية "الشخصية المصرية" ففي تنقله من الوصف الجغرافي إلى التحليل السياسي سُرعان ما ينحدر من مقام العالم الأريب إلى مستنقع "التعريص" العبيط، فنجده يكرر بعض الأساطير "الوطنية" عن عبقرية هذا "الوطن" في أنه «أكبر مقبرة للغزاة» (4) وتَغلُبُه عليهم ليس عن طريق هزيمتهم في ميدان الحرب بل في ميدان "امتصاص" الغزاة؛ فقدرة المصريين على "مص" الغزاة جعلت العالم بأسره متحير مشدوه من تلك القدرة الخرافية الباقية الخالدة عبر الأجيال على المص (5).  وكمثال بسيط من مُحيط من التُرّهات نجده في تفنيده للاتهامات التي توجّه للمصريين بأنهم شعب غير مُحارب جبان؛ يقول أن البعض وبخاصة «الاستعمار الحديث» هو من يقول بتلك المقالة وأن إسرائيل والدعاية الصهيونية -يا عيني-  تلقفتها كجزء من حربها النفسية «ليلقى ظلالا باهتة على الشخصية المصرية كجزء من حربه النفسية الضارية على مصر» وأنّ نابليون كان يري في "المصري" خامة مثالية لجيشه و إنه لو "ربنا رزقه" بحفنة من هؤلاء المصريين الشجعان لكان فتح العالم بهم، ويبدأ (د. جمال) يبحث في كتب المتقدمين عن أي عبارة فيها "مصريين" ملاصقة لكلمة جُند أو عسكر أو عساكر ، وأي "اتنين تلاتة" مصريين حملوا السلاح عبر التاريخ ليثبت للعالم الحاقد علينا أننا شعب مُحارب. ثم أخيراً ودلالة قاطعة، حاسمة، دامغة على أنّ المصريين شعب مُحارب "بالفطرة" و"ولاد" محاربين أب عن جد يقول «وللنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد هذا كلمة بالغة الدلالة والحسم هنا، اذ اوصى العرب ان اتيح لهم فتح مصر ان يتخذوا فيها جنداً كثيفاً لأنهم خير جند الارض» وعلل ذلك بأنهم «في رباط الى يوم القيامة»» ويا أطفال العالم "توتة توته فرغت الحدوتة" خلاص الشعب المحارب نائم إلى أن يأتي "غازي" جديد لكي "يمصُه" لا ليُحاربه ويُفنيه. لكن الغريب هو أن يلجأ (د. جمال) لكليشيه "خير أجناد الأرض" مع علمه أنّ "العرب" لم يتخذوا من المصريين جنداً لا كثيفاً ولا "خفيفاً" فلماذا يا تُري؟ لعله يُجيبنا –من قبره- أنه بعد "حرب أكتوبر المجيدة" أدرك العرب خطئهم!!

وفي حين يقول في مُقدمته «حين نرجع مثلا فيما نكتب عن أنفسنا الى كتابات الرحالة والمؤرخين العرب في العصور الوسطى أو الكتاب الاجانب المعاصرين، تنتخب منها فقط تلك الاشارات الطيبة والمرضية ونحشدها حشدا (كفضائل مصر)، مهملين ببساطة شديدة كل الاشارات العكسية أو المعاكسة التي أوردها الكتاب نفسه والتي قد تكون أضعاف الاولي كماً وكيفاً!»  نراه يفعل عين ما ينتقده في تناقض صارخ لا تجد له تفسيراً إلا أن تلتمس له العُذر فهو "مصري" في النهاية فتجده يقول «كذلك نحن نعلم من المقريزي ان سكان المدن وقتئذ كانوا يصنعون أنواع السلاح جميعاً ويحملونها فی الطرق ويتبارون بها و يتدربون عليها في الميادين العامة ثم يشتركون فعلا في المعارك الحربية الكبرى خارج الحدود وداخلها، كما في منطقة دمياط ضد الحملات الصليبية الثلاث، وعلى ايام ابن بطوطه كان أهل الإسكندرية يملكون مستودعات سلاح ضخمة، بل ويرفضون مراراً أن يقوم السلطان بالدفاع عن المدينة من دونهم، وفيما بعد في مواجهة الحملة الفرنسية لم يكن ثمة سوى المصريين يتصدون لها ويجلونها في النهاية. ونحن نعلم من الجبرتي كيف كان القاهريون يصنعون السلاح وكيف كان بعضهم من الفقراء يبيع أمتعته او «ملبوسه» ليشتري السلاح لحرب «الفرنساوية»» فقد نقل "أتفه" الإشارات التي من الممكن أن تُشير ولو من بعيد أننا شعب "مُجاهد" لا يقبل الذلة والمهانة مستعد للتضحية حينما تكون هناك فرصة و"تعامي" عن عشرات المواضع الآخري التي تُثبت عكس ما يقول، حتي المقريزي الذي يستشهد به، يذكر "جُبن المصريين" و "دناءتهم" قبل "الاستعمار الحديث" بقرون طويلة وقبل أن يُدرك "حرب أكتوبر المجيدة"، و هو لا يتهمهم بل يصفهم، وإن كُنا لن نختلف في أن ما ذهب اليه المقريزي كثير منه يندرج الآن تحت بند "الخرافات" ليس إلا «وأما أخلاط المصريين فبعضها شبيه ببعض، لأن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة، والتنقل من شيء إلى شيء، والدعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر، والرغبة في العلم، وسرعة الخوف، والحسد والنميمة والكذب والسعي إلى السلطان وذم الناس. وبالجملة فيغلب عليهم الشرور الدنية التي تكون من دناءة الأنفس، وليست هذه الشرور عامة فيهم، ولكنها موجودة في أكثرهم، ومنهم من خصه الله بالفضل وحسن الخلق، وبراه من الشرور. ومن أجل توليد أرض مصر الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الاسد، وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل، وكلابها أقل جراءة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره فى البلدان الأخر، ما خلا ما كان منها في طبعه ملايمة لهذه الحال كالحمار والأرنب.» أما قوله أنّ المصريين هم الذين "أجلوا" الفرنسيين؛ فالحقيقة –مع الأسف- هكذا نكون قد انتقلنا من التناقض الصارخ المُميِز للشخصية المصرية إلى "العتاهة" الصريحة التي هي القاعدة التي ترتكز عليها.

ولعل أبرز تجليات تلك الشخصية هم "الإخوان المسلمين"، فأول انطباع تأخذه من قراءتك لأدبياتهم أو مشاهدتك وسماعك ومتابعتك لحوارات مُرشديهم وقادتهم وقواعدهم هي السذاجة المفرطة -ولا أريد أن أبدو مُتحاملا فأقول "العته"- ولا نُناقش، ولا يعنينا أصلاً هُنا، إخلاصهم وتضحياتهم فقد أشرنا لذلك سابقا في خدعة "التضحية والإخلاص". ولكن ما يعنينا هو كيف لتلك الجماعة، التي يُناهز عمرها على التسعين عاماً، لا تستفيد من خبرتها الطويلة تلك وتكرر نفس الأخطاء مرة بعد آخري، بل وتكررها بنفس الترتيب.  جماعة الإخوان هي جماعة إصلاحية بالإساس تعتمد مبدأ "خطوة خطوة" للوصول لهدفها. لكن كُل تاريخ الإخوان هو خطوة للإمام وخطوة أو خطوتين للخلف فتُراوح مكانها في أحسن الأحوال إن لم تتراجع مع الوقت خطوات لتحاول بعدها الوصول مرة آخري لنقطة البداية، ويبدو أن الإخوان قد "عجبهم" هذا السير في المكان، فخورين بأنهم رغم "المحن" مازالوا في نفس "البُقعة". يقول (الإمام  حسن البنا) (6) في 1948م (7) «لقد سمع الرأي العام المصري والعربي والإسلامي قضية الإخوان المسلمين من جانب واحد، هو جانب الحكومة التي اعتدت على هذه الهيئة بإصدار أمر عسكري بحلّها وهو الجانب الذي يملك كل وسائل الدعاية من الصحف الخاضعة للرقابة كل الخضوع، ومن الإذاعة التي تديرها وتهيمن عليها الحكومة ومن الخطباء في المساجد الذين هم موظفون حكوميون، ولكن هذا الراي العام لم يسمع من الطرف الآخر. لم يسمع من الإخوان المسلمين الذين حُرموا كل وسائل الدفاع عن أنفسهم وشرح قضيتهم للناس، فصودرت صحفهم وعُطلت أقلامهم وكممت أفواههم واعتقل كل خطيب لهم واعتبر كل اجتماع خمسة منهم في أي مكان جريمة أقل عقوبتها السجن ستة أشهر. وإنا لنرجو بعد هذا أن يُناصرنا الرأي العام على من اعتدوا علينا وأن يُطالب بكل شدة برفع هذا الظلم الصارخ عنا وإطلاق حرية الدعوة الصالحة النافعة: دعوة المبادئ السامية والأخلاق الفاضلة لتقوم بنصيبها في خدمة المجتمع الإنساني المتعطش لهذا الغذاء من الروحانية وسمو الأخلاق.» ولتغض الطرف عما يحتويه الكلام السابق من "سذاجة وعته" لكن هل اختلف وضعهم عما كانوا عليه مُنذ أكثر من ستين عاماً؟!

ومن المُلاحظ أن طريقة الإخوان في تربية "قواعده" تنقل تلك السذاجة والعته لتعبر الحدود فنجد "نُسخ" طبق الأصل من نفس العقليات العقيمة العاجزة عن التفكير خارج "الإطار الفاشل" الذي صنعوه. فتجد صعوبة في معرفة إذا ما كان اخوان سوريا أو المغرب أو الأردن أو أي داهية آخري، يحملون جينات "مصرية" أم أن هذا "العته" انتقل لهم عبر "العادة والتربية" على طريقة "إخوان مصر"؟ ويبدو ان (دو لا بواسيه) كان مُحقاً –على الرغم مما تحمله رؤيته من مثالية مُفرطة- في أن العادة هي "أم العبودية" لكن مع الإخوان أصبحت "أم العته". وغالبا ما ينقل "الإخواني" تلك السذاجة والعته معه حتى حينما يرفض منهج الإخوان كُلياً ويتجه إلى جماعة أو فصيل أكثر راديكالية و "تطرف". فتجده "مُصيبة" متحركة لأي جماعة ينتمي إليها أو حتى يُناصرها. بل وحتى تجدها فيمن له "هوي" إخواني أو تأثر بفكرهم من بعيد فتري مدي الانحطاط العقلي الذي يُعانون منه نتيجة تعرضه لأفكارهم وأطروحاتهم. لكن (........) لنواصل الآن رؤيتنا لرواية (نقولا)، وسنستكمل-إن شاء الله- المرة القادمة مع جماعة الإخوان، وهي إحدى القوي التي ذكرناها سابقاً، لنري هل يمكن أن تنجح في هدم السلطة القائمة بمنهجها هذا؟

تركنا الشيخ "المجاهد" (حسن طوبار) بعد أن وصلته مكاتيب من الجزار وإبراهيم بك لحثه علي جهاد الفرنسيين فيُشمر الشيخ حسن عن ساعد الجد ويُظهر «خبث النية ضد الفرنساوية» ويبدأ بوضع خطته لمفاجأة الفرنسيين فيتم الاتفاق بين "أهالي" القري المحيطة على أن «يجتمعوا في قرية الشعرا، بالقرب من دمياط، يكبسوا الفرنساوية ليلا. واوصلوا العلم مع أهالي دمياط، واتفقوا جميعاً على ذلك الرباط. وفي شهر ربيع الثاني كبست الرجال البلد ليلاً، وقد كان مسكن الفرنساوية في الوکایل التي علي البحر وهجموا بضجيج عظيم وعجيج جسيم، وهم ينادون: اليوم يوم المغازاة (الجهاد) من هؤلاء الكفار ومن يتبعهم من النصارى. اليوم ننصر الدين ونقتل هؤلاء الملاعين.»  عند هذا ينتبه الفرنسيين من أصواتهم وكأنهم يُعلموهم "بمفاجأتهم" ويتلاقى الفريقان، فيصطف الفرنسيون «صفوف وضربوهم بالرصاص والسيوف، ومنعوهم عن الدخول. وكانت ليلة مرعبة ونار ملهبة. فلله درهم من الرجال، ما اشدهم بالحرب والقتال. لأن كانت تلك الامم قدرهم اضعاف، فكسروهم خلاف وأوردوهم موارد التلاف. وقبل ان يطلع النهار اخرجوهم من البلد قوة واقتدارا الى البر والقفار.» ليرجع المهاجمين من حيث أتوا، لكن بما أننا لا نعترف بالهزيمة أبداً، ودائماً ما يكفينا التمثيل المُشرف، فتسري الشائعات بين أهالي إحدى القُري المحيطة تُسمي "العزبة" «ان المسلمين كبست دمياط وقتلوا اولیك الكفار، ولم يبقوا منهم اثار. وقتلوا جميع نصارى البلد ولم يبقوا منهم أحد.» فهاجموا خمسة من «الإفرنج» كانوا بها وقتلوهم وقتلوا جميع من بها من النصارى وهجموا على قلعة بالقرية كان متحصن بها عشرين من الفرنسيين لكنهم لم يستطيعوا الوصول لهم فقد أطلقوا عليهم الرصاص ومنعوهم من اقتحام القلعة، وعند هذا علم "الأهالي" أنّ الشائعات كاذبة وأن من هاجموا الفرنسيين بالليل هربوا من وجههم وأنهم مازالوا "مُسيطرين" على الوضع "فندموا" على ما فعلوه «وخافوا على الحريم والعيال»، وفي لمح البصر كانت القرية خاوية من أهلها وأخذ كل واحد منهم ماله وعياله وحريمه وهرب. فلما وصل خبر ما فعلوه للفرنسيين، ذهب الجنرال (فيال) هو وجنوده لتلك القرية «فنهبوا ما وجدوه واحرقوها بالنار.»

وحين علم الجنرال (فيال) بأن الأهالي مازالوا مجتمعين بقرية الشعراء قرر أن يذهب إليهم بنفسه لكن نصارى دمياط اجتمعوا وذهبوا إليه «وقالوا له: ما يحل لك أيها الجنرال ان تذهب وتٌلقينا بأيدي هؤلاء الاشرار، لانتا قد سمعنا منهم مرارا قايلين: اقتلوا النصارى قبل الفرنساوية لأنهم متحدين معهم سوية.» فحنّ ورق لهم قلبه وقرر ألا يذهب قبل أن يطلب المدد لكي يكون هناك جنود كافية لحماية المدينة أثناء ذهابه "لتأديب المتمردين" فبعث لحاكم المنصورة الجنرال دوجا فأرسل إليه «ماية وخمسين صلدات.» حينها اطمئن فيال وأحبابه النصارى فتوجه إلى قرية الشعراء بقلب سليم «وحين وصل الى الشعرا انهزمت منه تلك الجموع، فاحرق البلد، وقتل من وجد بها ورجع الى دمياط بقوة ونشاط. وصنع شنلك (احتفال) عظيم، ونشر البيارق (الرايات) علامة الانتصار، ونكس البیراق العثماني الذي كان ناشره سابقا.»
خريطة (8) توضع موقع قرية الشعراء.

ثم بعد أن وأد (فيال) "الفتنة" أتي إليه الجنرال دوجا من المنصورة فيقرروا "اجتياح" المنزلة والسيطرة عليها فيذهب (دوجا) «قاصداً اقليم المنزلة، فخرجت له عربان ذلك البر في محلة يقال لها الجملة. والتقى في جماعة وفيّه وفرسان قوية، فصادمهم هذا الشجاع والقرم (العظيم) المنّاع، وشتت عسكرهم وأفنى اكثرهم، واحرق تلك البلدة، ثم سار إلى المنزلة. فحين بلغ الشيخ حسن طوبال قدوم ذلك الاسد المغوار، فارتج رجة عظيمة وطلب الهزيمة، وفر من ساعته الى الاقطار الشامية. وعندما وصل الجنرال دوكا الى بلدة المنزلة، التقته اهلها وقدموا له الطاعة، وأخبروه بانهزام الشيخ حسن طوبال، فأعطاهم الأمان واحضر اخا الشيخ حسن طوبال واقامه شيخاً على تلك الديار(...)» واخذ القوارب التي كان أعدها (حسن طوبار) لكي ينقل فيها جُند الجزار إلي دمياط حين وصولهم وكان هذا آخر عهد الشيخ حسن "بالجهاد والمجاهدين".

ونجد في رسالة للجنرال (فيال) لـ(نابليون) بعد أحداث المنصورة بيوم تقريباً في 13 أغسطس 1798م (9) يُخبره عن الوضع وانه كان سيكتب له قبل ذلك ليعلمه عن "تمرد" بعض القري على النيل، ولكنه فضل الانتظار حتى يعود «120 رجلاً كانوا بالمنصورة لجمع الخيول» لكي يكون على بينة مما حدث. وقد استقبل رسالة من ديوان المنصورة يُعلموه فيه أنّ عدة آلاف من "العرب" «دخلوا المنصورة وهاجموا رجالنا فقتلوا بعض منهم وهاجموا سكان المدينة فقتلوا منهم 118؛ وأن القوات الفرنسية انسحبت إلى طريق القاهرة والعرب في إثرهم يُطاردونهم.» لكن الجنرال (فيال) لم يُصدق صحة تلك "الأخبار" لأن شخصين ممن أرسلهم بشكل "سري" أعلموه أنه «ما بين 60 و 70 من العرب يمتطون الخيول توجهوا للمنصورة وأن نساء المدينة قد خرجوا إلي شُرفات البيوت وأخذوا يُطلقون صيحات مُرعبة (10) وسرعان ما انضم للعرب جزء من السكان، و مجتمعين هاجموا الفرنسيين وحاصروهم في أحد المنازل حيث كانوا يتحصنون به، وقد قُتل بالفعل بعض منهم، وحين تمكنهم من قتل 100 ممن يُحاصرونهم، خرجوا شاهرين خناجر بنادقهم وركبوا أحد المراكب التي جرفها التيار علي شاطئ النيل واتجهوا في طريقهم إلي القاهرة.» ويُكمل فيال أنه كان من الممكن ان يتحرك لنجدة القوات الفرنسية بالمنصورة لكن كان فات أكثر من 36 ساعة على الأحداث حين وصلته رسالة الديوان لتخبره بما حدث، فرأي أن لا فائدة من تحركه خصوصاً في هذا الوضع غير المطمئن، ويتساءل ما الذي جعل القوات تنسحب في اتجاه القاهرة، وهم قد يأخذوا عدة أيام للوصول إليها، مع انهم لو انسحبوا في اتجاه دمياط حيث قواته ستكون أقرب وآمن.  ويخبر نابليون أنه لم يُظهر للديوان تشككه في "الأخبار" التي أرسلوها له، وبما أن "الروايتين" رواية الديوان والرواية الآخري تُشير إلى أن القوات قد انسحبت في اتجاه القاهرة فقد بعث للديوان برسالة لتسليمها لقائد القوات المنسحبة بأي طريقة ممكنه حيث يكون. ثم يطلب من (نابليون) الدعم فهو ليس لديه إلا 404 ضباطا وجنوداً ويختم فيقول «كل تلك النواحي قد أجرمت بحقنا بقدر ما تعاملنا معها برفق ولين، فلم نطلب منهم إلى الآن إلا احتياجاتنا اليومية والخيول والتي لم يقدموا منها حتى ولا واحد.»
                            
ويبدو أنه كان هناك "قناة اتصال" بين الشيخ (حسن طوبار) والجنرال (فيال) فرأينا المرة السابقة أنه يُخبر نابليون عنه باعتباره "مفتاح" رئيسي في استقرار تلك المنطقة، لكن في حين نري أن (طوبار) أجاب دعوة (دوجا) "السلمية للتعاون" قائلاً «لا أريد رؤية الفرنسين من قريب ولا من بعيد، وإذا أعطوني الضمان بأن يتركوني وشأني هنا، في برج المنزلة، فسوف أدفع لهم الجزية التي كُنت أدفعها للمماليك، لكن لا أريد أن يكون لي أي اتصال مع هؤلاء الكفرة.» (11) ولكننا نجد في رسالة (فيال) لنابليون مؤرخة أيضاً بـ13 أغسطس «زعيم العرب حسن طوبار قد أعلمني أنك فعلا قد أبعدت إبراهيم بك حتي حدود سوريا.» ثم يسأله عنما إذا كان يفتح ممر النيل لحركة التجارة أم لا؟ فالتجار يصرخون طلباً لذلك.

كانت سلطة الشيخ (حسن طوبار )ممتدة على طول بحيرة المنزلة وما جاورها من الفرما شرقاً إلى دمياط غرباً ونتيجة للطبيعة الجغرافية لتلك لمنطقة فهي عبارة عن جزر صغيرة معزولة، يعيش سكانها بشكل رئيسي علي الصيد. استطاعت عائلة طوبار أن تكدس ثروة كبيرة مكنتها من أن تكون لها الكلمة المسموعة وأن يُصبح الشيخ حسن فيما بعد "الزعيم" في تلك المنطقة وتحظي بشبه حكم ذاتي نتيجة لوضعها وطبيعتها الجغرافية. وكما ذكر (فيال) سابقا أنه حتى مراد بك كان يهاب ويخاف الشيخ حسن لأنه باستطاعته أن يجمع حول جيش من العرب ليدافع به عن نفسه. لذلك كان (فيال) يُريد "صداقته" لأنه كما قال لو أصبح في جانبهم لأمنوا من "غارات" العرب ومضايقاتهم.
 خريطة لبحيرة المنزلة.

على أيه حال بعد رفض (طوبار) للتعاون السلمي ووصول "معلومات" عن وجود مراسلات بينه وبين (إبراهيم بك)؛ و"أعمال العنف" التي حدثت في المنصورة ودمياط قرر (نابليون) استخدام القوة فيبعث برسالة غاضبة للجنرال (دوجا) في 24 سبتمير 1798م يخبره أنه غير راض عن أن الجنرال (داماس) لم يتحرك إلي الأن للسيطرة علي المنزلة ولعدم إدراكه لأهمية ذلك، وانه لو كان فعل لما حدث ما حدث بدمياط و يأمره بأن يُسير لبحيرة المنزلة «أربع أو خمسة مراكب شراعية مجهزة بالمدافع التي لديك بدمياط، وإذا كُنت تستطيع فلتجهز أيضاً زورق بمدفع، وأخيراً لتكون مسيطراً تماماً علي البحيرة فلتعمل علي أن يقع حسن طوبار بين أيدينا. ولأجل هذا فلتستعمل الخديعة والحيلة إذا استلزم الأمر. فلترسل على الفور رتل عسكري إلي المنزلة ورتل آخر ليُصاحب الجنرال أندريوسي وسيطر على جميع جُزر البحيرة.» ثم يخبره بأنه يجب أن يجعل من القري التي تمردت "مثالاً" لا يُحتذي، وأن سر نجاح مهمته في اخضاعهم مع قلة العدد هو في ثلاثة أشياء: نزع السلاح، قطع الرؤوس، أخذ الرهائن.

وينجح كلا من الجنرال (أندريوسي) بحراً والجنرال (داماس) براً في تفريق "المقاومة الشعبية" وتأمين بحيرة المنزلة من أي تهديد لتكون مصدر مهم لخط امدادات جديد للفرنسيين ولتأمين الطريق الرئيسي إلي الشام المار من الصالحية، قطية، العريش جنوب شرق تلك البحيرة.

 
  خريطة توضح الطريق الرئيسي بين القاهرة والعريش الذي يمر عبر بلبيس، الصالحية، وقطية.

يهرب الشيخ (حسن) إلي الشام لكن في حملة (نابليون) عليها "يُقبض" عليه حيث يتم ارجاعه للقاهرة فيطلب من نابليون أن يعود إلى "دياره" فيُلبي له طلبه على أن يترك ابنه "رهينة"، فيبعث (نابليون) إلى (كليبر) في 23 يونيو 1799م –أي قبل مغادرة نابليون مصر بشهر واحد- يُخبره بأن الشيخ حسن في طريقه إلى دمياط وأنه يعتقد أنه سيكون مفيد جداً له «لتنظيم بحيرة المنزلة وولاية دمياط ولحركة الاتصالات مع العريش وجاسوسك في سوريا.» ومع تولي (كليبر) "الرئاسة" سيثبت الشيخ (حسن) "ولائه"، ورغم أن (كليبر) لم يكن يثق به ثقة "عمياء" وكان يقول أنه يجب دائما مراقبته "لكن من بعيد لبعيد" بدون أن يشعر بشئ، وأنه كان يعلم ببعض "تجاوزاته" لكنها تجاوزات مقبولة يمكن التغاضي عنها في مُقابل الخدمات "الجليلة" التي يُقدمها لهم.  وهي تجاوزات في معظمها "مالية" فالشيخ (حسن) كان "تاجر شاطر" يحاول أن يستغفل "الفرنسيين" لكي تستمر حركة تجارته مع سوريا بدون أن "يدفع" لهم شيئاً، فعلي سبيل المثال يقول (كليبر) للجنرال (فيردييه) (12) أنّ الشيخ (حسن) يحاول خدعانا بخرق باليه «ويطلب في المقابل التصريح له بتصدير الأنسجة إلى سوريا مع أني متأكد تماماً أن معظم القوافل التجارية التي تذهب لسوريا تعمل لحسابه لكن يجب ألا نتعجل ونستفيد منه لعدم وجود خيار أفضل. لذلك لا تُظهر أنك تعلم شيئاً. القوات التي أرسلتها للشرقية أخذت من هؤلاء المُهربين العرب 300 من الجمال والتي ستساعد قليلاً في حركة المواصلات». ويقول لـ(فردييه) في رسالة آخري «أرجو أن تقول لحسن طوبار أنني غير راض عن العدد القليل من الجمال التي قدمها لتوصيل المؤن والدعم إلى العريش، وقل له إن كان يُريد أن يحتفظ بصداقتي، يجب عليه أن يُوفر 150 من تلك الجمال تعمل باستمرار على هذا الطريق.» وهكذا شهد "عهد كليبر" القصير تألق الشيخ (حسن) فنجد في خطاب لـ(كليبر) آخر لـ(فردييه) "يُعاتبه" فيه عن بعض قرارته وتصرفاته ثم يقول « في رسائلك السابقة قد قُلت لي أنك ألقيت القبض علي اثنين من دمياط يُدعيان موسي يوسف و الكابتن لأنك اشتبهت بهما، لكن بما أنني لا أعلم ما هي الأسباب التي دعتك لذلك فلم أستطع أن أبت في أمرهما, إذا كانا مذنبين أو كان لديك من الأسباب القوية التي تعتقد أنهما كذلك فلترسلهما إلي لأبت أمري فيهما، أما بخصوص الرجل الذي قبض عليه حسن طوبار وكان يحمل رسائل من طرف أعدائنا فلتعدمه بالرصاص علي الفور.»  وفي رسالة كليبر للأب (باسيل) رأس الكنيسة اليونانية بدمياط «(...) فلتدعو حسن طوبار بأن يخدم بحماسة الفرنسيين الذين عاملوه بكل سماحة وشهامة؛ ولتدعوه بأن يُرسل بشكل متكرر رُسل إلى العدو من أجل أن يكون لدينا أخبار ومعلومات باستمرار. وإذا أراد أن يأتي لمقابلتي، فليطمئن أنني سأعامله بكل الاحترام وسأكون سعيد أن تسمح لك أعمالك بأن تُصاحبه (...)» فهؤلاء "الرسل" التابعين للشيخ والذين كانوا في الحقيقة "جامعي معلومات" حتي أن (كليبر) يؤكد في خطابه للجنرال (رامون) علي أن المعلومات والآراء التي تصله من سوريا  بشكل مباشر تتطابق مع ما يقوله له (حسن طوبار) الذي كان "يتجسس" علي تحركات ووضع جيش الصدر الأعظم (يوسف باشا) وفي المقابل يطلب من (رامون) «قُل لحسن طوبار أنه نظراً لحسن سلوكه معنا فانا سأجعله يحتفظ بعوائد الأراضي التي يملكها في مصر كلها، وأنه الوحيد الذي تم اعفاءه من ذلك. أعتقد أنّ هذا التمييز سيجعله يتصرف دائما بصورة أفضل.»

اننا في كتاباتنا عن "مصر" -كما أشار د. جمال حمدان- و "مُجاهديها" و "زعمائها" نختار فقط "النقاط البيضاء" القليلة و نتعامي عن "البقع المدلهمة السواد" التي لا تخلوا منها صفحة من تاريخهم ففي سيرة "الشيخ المجاهد حسن طوبار" علي الويكيبيديا (13) نري أنه تم  ذكر فقط "الشهر" الذي جاهد فيه (طوبار) و تم حذف والتعامي بل وانكار الشهور التي خدم فيها الفرنسيين "بإخلاص" –قبل أن يخطفه الموت لإكمال رحلته "المُشرفة" مع الفرنسيين- حتي وصل العمي والإستهبال حد أن يُذكر أنه احتفت بوفاته "صُحف" فرنسية فيقول المقال « واحتفت بوفاته صحف فرنسا لتنشر جريدة "كورييه دليجبت" الجريدة شبه الرسمية للحملة الفرنسية نبأ وفاته في العدد 75 الصادر بتاريخ 28 يوليو سنة 1800، وكتبت عنه ما خلاصته:« في 299 يونيه مات فجأة حسن طوبار كبير مشايخ إقليم المنزلة مصاباً بالسكتة القلبية، وكان هذا الرجل عظيم المكانة لأصله العريق وغناه الواسع، وقد هاجر من بلاده في الأشهر الأولى من الحملة وعاد إليها بعد الزحف على سوريا، وأذن له الجنرال بونابرت في الرجوع إلى مصر، فأذعن من يومئذ وأخلد للسكون، وقد خلفه في شياخة إقليم المنزلة أخوه شلبي طوبار.» وإذا تغاضينا عن المبالغة في قوله "صحف"، ورجعنا لجريدة "البريد المصري" (14) التي كانت تُصدرها "الشئون المعنوية" للحملة الفرنسية والتي رأيناها فيما سبق حين كنا نتكلم عن الجزار فوصفته بـ"المغتصب للحكم" وبالوحشية وبالخيانة، لم تكن تنعي طوبار لأنه "مجاهد" أو " بطل قومي" مصري بل كانت تنعيه لأنه «أحسن التصرف» و «أظهر ارتباط كبير بالفرنسيين» ولكن تم ترجمتها في المقالة "فأذعن من يومئذ وأخلد للسكون." ولو كان كما يقولون لكنا رأينا في "النعي" -وهو لوحده مؤشر على ارتباطه الوثيق بالفرنسيين- كُتب على الأقل مثلاً "توفي رأس الفتنة"، أو "ذهب للجحيم خارجي من كلاب النار" أو أخذ تذكرة بلا عودة عميل للعثمانيين" أو "غار في داهية مروج مخدرات عتيد"، أو شيء من هذا القبيل، أما صيغة النعي فتُشير لصديق تم فقده وليس لعدو قد أزاحه الموت عن الطريق. باختصار شديد ولكي نكمل الرواية، كان الشيخ (حسن طوبار) "جاسوس" برتبة "مجاهد سابق".

ويستمر المعلم (نقولا) في سرد ما واجهه الفرنسيون في الشهور الأولي للحملة، فيذكر ما حدث في القليوبية حيث الجنرال (مورا) «وكان هذا الجنرال ذا شجاعة في القتال قوى البطش في الحرب والجدال. وحين سار في العساكر القوية الى اقليم القليوبية، وكان هذا الإقليم أصعب الاقاليم، لكثرة عربانه العتاة وقومه العصاة، وبراريه الواسعة ووديانه الشاسعة. فهذا البطل الشجاع أطاعته كل تلك البقاع والاصقاع، من بعد ما اذاقهم حروب شديدة واحرق بلدان واهلك عربان. وبحروب كثيرة أفنى قبایل غزيرة. وكان شيخ هذا الاقليم يُدعي الشيخ الشواربي، وكان يجمع خلقاً وافراً وبلده كان بعيد يوماً عن القاهرة. وكان من القوم الجبا برة وعربان اقليمه فاجرة. فالتزم ان ينكس هاما ويطيع قهرا وارغاما.» الشيخ (سليمان الشواربي) –علي عكس الشيخ حسن طوبار- لا تكاد تجد له ذكر في المراسلات بين (نابليون) وقادته، اللهم إلا خبر القبض عليه، ويذكر لنا (الجبرتي) هذا الخبر بعد "الفتنة" المعروفة بـ"ثورة القاهرة الأولي" «وفي يوم الخميس (13 ديسمبر 1798م) حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها، فلما حضر حبسوه بالقلعة قيل أنهم عثروا له على مكتوب أرسله وقت الفتنة السابقة الى سرياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس.» ونجد رسالة بنفس هذا التاريخ من نابليون للجنرال (لوكلير) يُعلمه بأنه ألقي القبض على (الشواربي) لخيانته بعد تعهداته بالولاء والإخلاص له فقد راسل المماليك وحرض سكان القري المجاورة للقاهرة على الإنضمام "لثوار" القاهرة في ثورتهم؛ ويطلب منه إذا كان مازال في بلدة ناي –من بلدات القليوبية- بأن يذهب ويُصادر جميع مُمتلكات (الشواربي) وأن يُخبر ديوان المحافظة وشيوخ العرب بهذا الأمر «فهم على وجه خاص يجب أن يشعروا بعدالة القبض على الشواربي فقد كانوا شهوداً على جرائمه رغم أنني قد أغدقت عليه بكرمي.» ثم في نفس اليوم رسالة آخري من نابليون لحاكم القاهرة، كان الحاكم هو الجنرال (ديستان) بعد مقتل (دبوي) في ثورة القاهرة الأولي، يُعلمه أنه سيرسل إليه الشيخ الشواربي ويطلب منه «فلتضعه في سجن القلعة بشكل سري حتى لا يتمكن من الاتصال بأي كان. ولتأخذ كافة الإجراءات الضرورية لكيلا يستطيع الهرب.» لكن سُرعان ما تخلص منه (نابليون) –ويبدو أنه ليس من نوعية طوبار "المجاهد"- ففي 7 يناير 1799م يقول لنا (الجبرتي) «وفي ذلك اليوم قتلوا شيخ العرب سليمان الشواربي شيخ قليوب ومعه أيضاً ثلاثة رجال يقال لهم عرب الشرقية فأنزلوهم من القلعة الى الرميلة على يد الآغا وقطعوا رؤوسهم وحملوا جثة الشواربي مع رأسه في تابوت وأخذه أتباعه في بلده قليوب ليدفن هناك عند أسلافه.»

أما في المنوفية فكان الأمر هين سهل فكان «ألين الأقاليم وأهونها، وأجملها وأحسنها.» ولم يحتاج الجنرال (لانوس) «الا لحرب قليل. لان كان اغلب أهالي الارض المصرية هابت شجاعة الفرنساوية، ورجفت قلوبهم من شدة حروبهم.»  ويعلل (نقولا) هذا بأن الفرنسيين بعد قطع خط امداداتهم «مع ما شاهدوه من الكره من أهالي البلاد، وما لهم في قلوبهم من البغض والاحقاد. فكانوا يتنفسون الصعداء من صميم الفؤاد، ويهجمون ولا يهابون كثرة العدد، ويحاربون بأمور حكمية وفنون علمية وقلوبه صخرية، غیر هایبین الموت ولا خاشیين الفوت.»

سنتوقف عند هذا الحد ونُكمل –إن شاء الله- المرة القادمة، لكن تعقيب أخير، يحاول دائماً الكتاب الوطنيين حشد تلك النماذج السابقة" المجاهدة والمقاومة" في وحدة متصلة وعزلها عنما كان قبلها وما حدث بعدها للدلالة على "مقاومة" المصريين ولدحض أي "مُغرض" يقول بعكس ذلك. وهذا الأسلوب ناجح جداً في خداع كثير من الناس؛ لأنه يُبسط الأمور بشكل كبير، فيجعله أقرب لفهم "المواطن العادي" فيعزل تلك الأحداث عن وضعها الطبيعي ضمن سلسلة آخري من الأحداث الكثيرة جداً والأكثر تعقيداً التي غالباً ما تُشير إلى العكس. وكمثال لو افترضنا –مع تسليمي بخطأ المقارنة لكن للتوضيح ليس إلا- أنك دخلت مزرعة للحمير وبدأت في تسجيل يومي لحالة كل حمار وحماره وراقبت عن كثب الحمير الأكثر شراسة والتي ترفض الترويض و"ترفس" كل من يحاول الاقتراب منها أو وضع "بردعة" على ظهرها، ولنقل أنّ في تلك المزرعة 1000 حمار، فمن المتوقع أنك ستجد – مثلا- 10 حمير من تلك النوعية "الحرونة" التي لا تصلح "كركوبة" أو حتى كحمار لجر العربات والأحمال وغالبا ما يذبحه صاحب المزرعة ليبيع لحمه لحديقة الحيوان كطعام للأسود وخلافه. أو حتى ذبحه وبيعه في المجازر العادية فلن يلاحظ أحد أي فرق. وقد امتدت يومياتك تلك عن الحمير لمدة 10 سنوات. ثم جاء أحد "مُحبي الحمير" ورأي ما كتبته فبدأ يجمع تلك الحالات التي كتبت أنت عنها وكيف أنها كانت تتمرد على "السُخرة" وترفض أن "يركبها" أحد وتحاول جاهدة أن تخرج خارج المزرعة لتذهب للبراري الواسعة حيث تعيش بحرية وأنها كانت تُفضل "الذبح" على أن تظل في الأسر......إلى آخره. وبعد أن جمع تلك النماذج نشرها في كتاب وسماه "الشخصية الحصاوي: دراسة في عبقرية الحمار" بالتأكيد القارئ للكتاب ستصل له فكرة أن "كُل" الحمير هكذا وسيطلق حكم عام على أن الحمير هي "بالطبيعة" حيوانات "حُرة". لكن الخطأ الذي وقع فيه الكاتب والقارئ معاً –غير أن هناك 990 حمار لم يُبد أي مقاومة أو رغبة في "الحُرية"- هو تعاميهما أو عدم رؤيتهما أن "كُل" الحمير كانوا ومازالوا في نفس "المزرعة" وأنهم لم يتغير وضعهم طوال تلك السنوات ولا خطوة واحدة.

وإذا أخذنا مثال أكثر قُربا وواقعية، فلو جمعنا كل شكل من أشكال "المقاومة" ضد السُلطة في مصر ابتداءً من 25 يناير 2011 وما بعدها، بغض النظر عن مَنْ قاموا بها أو الأسباب أو الوسيلة أو شكل تلك المقاومة، واعتبرناها هي الدليل علي أن "الشعب المصري" شعب مقاوم وليس خانع أو جبان هل سيقنعك هذا؟ فلتفكر في الإجابة وتذكّر المثال السابق فهو سوف يساعدك في ألا تقع أبداً في "حُب الحمير".
******************************************************************************************************
(1) Discours De La Servitude Volontaire, Par Étienne de La Boétie,1549.
(2) إتيان دو لا بواسيه (1530م-1563م) كاتب وشاعر فرنسي.
(3) "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، د. جمال حمدان، 1967م.
(4) لا تعرف سر افتنان المصريين بالموت ومُلحقاته، حتى أنّ "أعظم" مفاخرهم تُصبح أنهم أكبر "مقبرة" في التاريخ.
(5) أخيراً قد عرفنا أصل كلمة مصر—والتي احتار المؤرخون في أصلها- فهي مكونة من (مص-رع) أي من الفعل "مصّ" مضافاً إليها "رع" إله الشمس عند القدماء المصريين الذي كانوا "يمصون أشعته" ليكونوا "شعب محارب"، لكن تم حذف العين تخفيفاً في عصور لاحقة. ومن المُمكن أنه بعد أن توقف المصريون عن مص رع قد أصبحوا "شعب غير مُحارب".
(6) نستخدم الوصف الذي يُطلقه عليه أتباعه، وعلى كُلاً فهو إمام من حيث أنهم يقتدون به ويُقلدونه.
(7) "قضيتنا"، حسن البنا، 1948م.
(8)  كُل الخرائط المنقولة هنا مأخوذة من كتاب "وصف مصر" أحد "منتجات" الحملة الفرنسية.
(9) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte.
(10) قد تكون تلك "الصيحات" إما "صوات" -كما في "الخناقات" و"المياتم"-  خوفا مما يحدث أو "زغاريد" فرحا به، الأمر يتوقف علي إذا ما كان الناس وقتها "يُقاومون" أو "يُقوّمون".
(11) Histoire De L'expédition D'Égypte Et De Syrie, Par M.Ader.  1826
(12) Kléber Et Menou En Égypte Depuis Le Départ De Bonaparte,Documents, Par M. F. Rousseau, 1900..
(13) انظر هنـــــــا.
(14) Courier De L’Égypte N°75 28 Jul 1800.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال