الجيش المصري و شعبه 27

-البداية-

(24)

"طُوبَى للضُباطِ وَالقَتَلَةِ الّذِينَ يُنَفِذُونَ أَوَامِري. طُوبَى للقُضُاةِ وَالمُرْتَشِينَ الّذِينَ يَحْكُمُونَ بَِمشُورَتِي. طُوبَى للعُلَمَاءِ وَالشْيُوخِ الّذِينَ يُبشّرُونَ مَنْ نَهَبْتُ أَمْوَالَهُمْ بِالجَنَةِ إِذَا تَبَرَعُوا لحِسَابيّ البَنْكِيّ. طُوبَى للأْسَاقِفَةِ وَالقَسَاوِسَةِ الّذِينَ يَعِدُونَ بالحَرمِ وَالشْلْحِ مَنْ لَاَ يَقُولُ نَعَمْ لبَقَائِي. طُوبَى للمُغَفْلِينَ وَاﻷَغْبِياءِ الّذِينَ عَلىَ ظُهُورهمِ أَتَنَعْمُ أَنَا وَجَْيشِي. طُوبَى للسُّذْجِ وَاﻷَعْبَاطِ الّذِينَ بِدُونِهمْ لَا مَعْنىَ وَلَا غَايَةَ لِوجُودِي. طُوبَى للمُنَافِقِينَ واﻷْفّاكِينَ الّذِينَ بِتَعْرِيصْهِمْ يَعْلُو وَيُخلّدْ اِسْمِي. طُوبَى للْجَهَلَةِ وَالْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُتَاجِرُ بِهِمْ وَأُقَاتُلُ عَلَيْهِمْ وَفِيِهمْ أَحْتَمِي؛ فَهُمْ بِضَاعَتِي اَلّتِي لَا تَبورْ وَسَيفِي الّذي لَاَ يُثْلمْ وَضَمَانَة وجُودِي ودِرْعِي الّذي لَاَ يَقْدْرُ أَحَدٌ أَنْ يَكْسِرَه. طُوبَى لَكُمْ جميعاً إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَسبّوكم وَقَالُوا عَلَيْكُمْ -صَادِقِينَ-كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، ارْقُصُوا وَرَنِمُوا، اشْرَبُوا واسْكَرُوا؛ لأَنَّ لاَ أَجْرَ لَكُمْ فِي السَّمَاءِ فَانْتَظِرُوهُ عَلَي اﻷَرْضِ مِني.”

الإصحاح السابع والعشرون من سفر الشئون المعنوية

“مصر أُمّ الدُّنيا” عبارة يتناقلها المصريون جيل بعد جيل، ورغم تكرارها حد السخافة والابتذال ومع ما تحويه من ركاكة وبلاهة، إلا أنك مع هذا لا تزال تلحظ في عيون ونبرة صوت قائليها الفخر والمُباهاة؛ فخر طفل ساذج أخبروه بأن أُمَّه قد ضاجعها رجال الحي كله، ومباهاته بين أقرانه حين اكتشف أنّ أباه هو مَنْ كان يقف علي باب غرفة نومها ليُنظم دخول الرجال. ولو حاولت أن توضح لهم أنّ الدُّنيا تتغير "أُمّها" -على حد تعبيرهم- بتغيّر الزمن فلكل زمن "أُمّه" وأنه وإن كانت مصر في فترة تاريخية تلك "اﻷُمّ" إلا أنها اﻵن صارت مومياء لعجوز عقيم ليس لها من نفع أو فائدة إلا أن توضع في "فاترينه" كي يلتقط صورها السائحون؛ فلن تجد منهم إلا نظرات الاستهجان مع سيل من السّب واللّعن لهذا الّذي قد يتجرأ علي أن يجعل للدُّنيا أُمّاً غير "مِصْرَهم" ووصلة من العبارات والجمل المحفوظة التي لا تقل ركاكة وبلاهة عن العبارة اﻷولي في أنّ مصر ذكرتها "اﻵلهة" في كُتب الهندوس والمجوس واليهود والنصارى والمسلمين. مصر التي وطئ "ترابها المقدس" إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون ووالدة "اﻹله يسوع" وثُلّة من السلف الصالح وصحابة الرسول. مصر التي لا يُنكر أسبقيتها الحضارية وخدماتها للإنسانية وريادتها في كثير من فروع العلم والمعرفة إلا جاهل يهودي أو حاقد ماسوني. مصر التي حسدها الغُزاة الطامعين فتتابعوا عليها الواحد بعد اﻵخر فانتصرت عليهم جميعاً بعد أن فقدوا -من طول إقامتهم بها- شجاعتهم ورجولتهم فخصتهم وحولّتهم لـ"مصريين مُسالمين". مصر التي تحوي ثُلث آثار العالم -وهذا من ضمن تآليف المصريين- وثلاثة أرباع قبور وأضرحة ومقامات الأولياء والقديسين – وهم أربابهم الُمفضّلين- وأربعة أخماس الطيبة والبساطة -وهما في الحقيقة عته وغباء كما نري- وستة أسباع الصبر وطول البال فيصل بهما المصري لدرجة البلادة وانعدام اﻹحساس، وثمانية أتساع الشجاعة واﻹقدام والتي فسّرهما المصري بعبقريته بأن تكون دائما جباناً عبداً للمأمور أياً كان، وتسعة أعشار خفة الدم والفُكاهة -وهما مترادفان للسخافة والابتذال- وكل ما في الدُنيا من "فهلوة واستعباط واستنطاع”. هل بعد هذا كله يمكن أن يكون للدُّنيا أُمّاً غير مِصْرَ؟!

حين تسمع هذا ستُدرك -مُتأخراً- أنّ حالة هؤلاء ميؤوس منها ولا فائدة من محاولاتك ﻷن يُدركوا غبائهم و"حُموريّتهم" ، وما عليك كي لا يتأزم الوضع ويبدءون في الهياج والنهيق والركل والترفيس إلا أن تؤكد ما يقولونه؛ ولكن ليصدقوك هذه المرة -بعدما سمعوك تُجدّف في حق مصر- فلتبالغ قدر ما تستطيع؛ فإِنْ قالوا مصر "أُمّ الدُّنيا" فقُل بل هي "أصل الكون". وإِنْ أكدّوا أنها مسري اﻷنبياءِ والمُرسلين فزِد على ذلك بأنها مهبط اﻵلهة والفضائيين. وإِذا افتخروا بذكر اسمها في التّوراة واﻹنجيل والقرآن، فافتخر أنت بوجود اسمها محفوراً على جبال المريخ وأقمار المُشتري وجليد نبتون. ولو تباهوا أمامك بأبي الهول وتوت عنخ آمون والإهرامات فأخبرهم عن ضآلة وحقارة تلك اﻵثار بجانب خلق مصر للكواكب والنجوم والمجرات. وأخيراً إن لجأوا لعبقريتهم المشهورة في اﻹستعباط واﻹستهبال وقالوا أنّ في مصر "خير الجنود"؛ فاستحمر أنت واستنطع وقُل لا! بل المصريين هم جنود الله علي اﻷرض أحياء وفي السماء أرواح مُجنحين، فقد نزلت فيهم «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا» لذلك لم يُهزموا في أية معركة دخلوها منذ فجر التاريخ إلي يومنا هذا مصداقاً لقوله تعالي «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ»؛ وليس ببعيد بعد أن يسمعوا ما قُلته أنت عن مصر أنْ يلعنوا من مدحوها من قبلك ﻷنهم أخفوا عنهم قدرها الحقيقي، وسيدركون حينها – فعلاً وحقاً- كم كانوا حميراً مُغفّلين في أنهم صدّقوا من حاول أن يُشوّه مصر بقوله أنها “أُمّ الدُّنيا” فقط.

لكن كيف حوّل هؤلاء المسوخ أمثال تلك العبارات التي قيلت في "فضائل مصر" إلي الركن اﻷول من أركان اﻹيمان الّذي إن لم تؤمن به وتُعيده وتُردده فلا إيمان لك؟ -قُلنا فيما سبق(1) أن العقل المصري يُعاني من حالة هوس بالماضي نتيجة لمحاولاته ﻹخفاء بؤس وتخلّف الواقع الّذي يعيشه؛ مُعتقداً أنه باستدعائه الماضي وبطولاته قد يتغيّر الواقع وبؤسه وتخلّفه، ورغم أنه يري أن لا شئ يتغير من حوله -إلا للأسوأ- مع ذلك يظل مؤمناً بأنه علي الطريق الصحيح، وأنّ كل الخلل هو أنه لم يكتب ويُردّد ويُكرّر ويلوك ويجتر ويقيئ اسم مصر وفضائلها بالقدر الكافي. هذا العقل مُستعد لتصديق أي أسطورة وخُرافة موجودة في مزابل ومراحيض كُتب التاريخ أو أي مدح وتمجيد -حتي ولو بالكذب- ذكره فُلان العالم المعروف أو عِلّان الفيلسوف المشهور طالما أنه يُغذي هذا الهوس بما يلزمه ليجد تعزيته في أمجاده الغابرة؛ وبالتالي يُصبح هذا العقل فريسة سهلة للسحرة والمشعوذين الّذين يضحكون عليه وينهبون أمواله ويُطالبونه بأن يتحمّل ويصبر ويسمع ويطيع، ليس علي أمل أن يحيا هو وأولاده حياة كريمة -لا قدر الله- بل من أجل "رفعة وتقدم" مصر!!! فيقضي كل حياته في التحمل والصبر والسمع والطاعة بل وفي ”اللحس والتعريص” فلا مصر تتقدم ولا هو ولا أولاده ولا أحفاد أحفاد أحفاده عاشوا بكرامة.

لقد استخدم السَّحرة والمشعوذون من حُكام وكهنة وشيوخ ومُعرِّصي الوطن العبارات التي قيلت في "فضائل مصر" ككتاب مُقدّس تُتلي فقراته ليل نهار علي أسماع "المؤمنين" من الجهلة والمغفلين والبُله والمعاتيه حتي باتت هي ركن اﻹيمان اﻷول بعد الشهادتين وقبل اﻹيمان بأن يسوع قد صُلب لخلاص العالم، وأصبح مجرد التشكيك فيها من أكبر الكبائر التي لا تُغتفر ولو قضيت كل حياتك تُصلي وتصوم وتحج وتستغفر وتعترف وتتناول "جسد الرب" وبُرازه، وقد يتعدى هذا الجُرم "الخطيئة اﻷصلية" بمراحل، اﻷمر الّذي من الممكن أن يتطلب من يسوع أن يولد مرة آخري من عذراء، والتي يجب أن تكون مصرية هذه المرة، ليُصفع ويُصلب كي يغفر هذا التجديف علي مصر أُمّ كل البهائم والبشر. هذه الفضائل التي ذُكرت في مصر سواء قيلت مدحاً بحق أو علي سبيل المُبالغة أو كانت مجرد اختراعات وخُزعبلات وأكاذيب صريحة تُناقض المنطق والعقل ووقائع التاريخ؛ هل يمكن أن تُغيّر أي شئ في واقع تلك المسوخ صدّقوا وآمنوا بها أو كذّبوا وكفّروا مَنْ يُنكرها وينفيها؟! -اﻹجابة -قطعاً- لا! ﻷنّ كُل ما يفعلونه هو مجرد تغني -بلا أي طائل- بأمجاد الماضي؛ والهَوّة بين حاضرهم من جهة وماضيهم ومستقبلهم من جهة أخرى هُوّة شاسعة فبدل أن يحاولوا ردم الهُوّة بين حاضرهم ومستقبلهم، تجد كل محاولاتهم -العبثية- هي في ردم الهُوّة بينه وبين الماضي!!!

هل يمكن أن يوجد لأي أُمّة مُستقبل وهي تُسمّم عقول أطفالها بحليب مخلوط بالتعريص؟!!!

إن لم تستطع رؤية هبل وعبط مُرددي فضائل مصر من طول سماعك إيّاها حتى أصبحت جزء من المُسلّمات التي لا تقبل مُناقشتها؛ فلتسمع نفس الكلام لكن في دولة مجاورة لا تقل عن مصر في قدم حضارتها وهي العراق، والتي أصبحت اليوم في ثقافة المسوخ علماً علي المصير اﻷسود الّذي ينتظر مِصْرَهم لو لم تبقي "الخلفيات العسكرية" تحكمها، فلو سمعت عراقياً يقول "مُتفشخراً" بأنّ بغداد -اليوم- هي «أُمّ الدُنيا وسيدةُ البلاد»،كما نقل لنا (ياقوت الحموي)(2)، يا تُري ماذا ستكون ردّة فعلك اﻵن؟ -إن لم تُصيبك نوبة من الضحك الهستيري حين سماعك إيّاه واستطعت أن تتحكم في تلك الرغبة القاهرة التي تولدت داخلك في صفعه علي قفاه، ففي الغالب ستنظر إمّا بعين الاحتقار والازدراء لهذا "العرص" الّذي يستدعي الماضي كي يُلهي الناس عما يعيشونه من تخلف وذِلة بأن يخبرهم -بشكل غير مباشر- أنهم لا يحتاجون اليوم أن يخرجوا مما هم فيه، فيكفيهم فخراً -أبد الدّهر- أنْ مَلكَ اﻷجداد العالم وأناروا الدُّنيا؛ أو ستنظر إليه بعين الرّحمة والشّفقة بعد أنْ تبيّن لك أنَّ المُتحدّث أحد ساكني المصحّات العقلية الدائمين الّذي مازال يعتقد أنه يعيش في عصر هارون أو المأمون أو المُعتصم أو المُستعين، وعميت عيناه عن الحالة التي وصلت لها «أُمّ الدُّنيا» مُنذُ قرون بعيدة حتي صارت مضرب المثل في صروف وتقلّبات الزّمن في أنْ ينتهي المطاف بـ«جنّة الأرض» و «حاضرة الدُّنيا» و «قُبّة الإسلام» التي خضع لها العالم؛ أنْ تقف علي أرصفة اﻷمم تُتاجر بثدييها كي يتركوها تعيش في "أمن وسلام”. إِنْ كانت تلك اﻷوصاف التي نقلها (ياقوت الحموي) في فضائل بغداد من الممكن أن تكون صادقة في فترة زمنية معينة إلا أنها ليست فضائل أبدية؛ فالجنة يمكن أن تتحول لأرض قاحلة إن لم تجد مَنْ يعتني بها ويسقيها، والحاضرة قد تُصبح أطلال وآثار لا نفع ولا فائدة منها إلا التصوير بجوارها، والقُبّة -مع الزمن- ستُهدم علي رؤوس المُصلّين إن لم يكن هناك ما يحميها من العواصف واﻷنواء. وقد تبقى أسماء المُدن والبلاد التي كانت يوماً شموساً برّاقة وتغرب صفاتها وفضائلها، فأين اليوم شمس آثينا واﻹسكندرية وروما، وأين شمس دمشق وقُرطبة واستانبول؟ -لم تبقي منهم إلا اﻷسماء؛ بل وقد تندثر اﻷسماء وصفاتها ولا نعلم أنّه كان هناك من اﻷصل مدينة تُسمي "بغداد".

إن قُدرة الحُكام العرب علي استحمار شعوبها لهو الفخر الحقيقي لكل عربياً صدامياً مُباركياً سيسياً قذافياً

حفترياً علياً سِبْسَياً سعودياً سَلْمَانياً زايداً نَهْيانياً حَسَنياً بوتفليقياً قَايداً صالحاً عَرصاً حُماراً.

إذا كان بالتكرار المُستمر يُستطاع تحويل الخُزعبلات والخُرافات إلي حقائق ومُسلمات، فإن ربطهما بالدين يُعطيهما القداسة اللازمة كي يتم حمايتهما من أي نقد أو استهزاء قد يطرأ علي عقول المؤمنين؛ وهكذا اكتسبت الفضائل التي قيلت في مصر -وفي غيرها- القداسة بربطها به فأصبحت بالتبعية جزء من اﻹيمان، حتي لو كانت في معظمها ترتكز على تفسيرات غريبة مُلتوية لنصوص واضحة، كمثال ما ينقله (ياقوت الحموي) حين بدأ الكلام عن مصر «(...) ولم يذكر ‏عزّ وجلّ، في كتابه مدينة بعينها بمدح غير مكة ومِصْرَ فإنه قال: أليس لي مُلْكُ مصر؛ وهذا تعظيم ومدح، وقال : اهبطوا مصراً؛ فمن لم يصرف فهو علمٌ لهذا الموضع(3). وقوله تعالى: فإن لكم ما سألتم؛ تعظيمٌ لها فإن موضعاً يوجد فيه ما يسألون لا يكون إلا عظيماً.» فإنْ تجاوزنا فكرة أن مجرد ذكر اسم مِصْرَ هو نوع من "المدح" حتي لو كان من شرّفها بالذّكرِ هم "بني إسرائيل الملاعين" الّذين لولاهم لما ذُكرت مِصْرَ أصلاً لا في توراة ولا في إنجيل ولا في قُرآن مثل أننا لا نجد ذكر فيهم للصين أو اليابان. فكل موضع ذُكر أو أشير فيه لمِصْرَ مُرتبط بهم؛ ويكون من اﻷولي أن ينسبوا التشريف ﻷهله الحقيقين الّذين قدّسوا كل أرض وطأت أقدامهم عليها!!! وإن تجاوزنا أيضاً أنّ قول فرعون لشعبه «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ» هو مجرد تقرير واقع فهو (الحاكم-اﻹله) المُكرّم المُنعّم الّذي تجري من تحته اﻹنهار في مقابل موسي الفقير الذليل شعبه الّذي يدعوه؛ وكأنه يسألهم أي اﻹلهين حق فرعونكم المبُجل المُعظّم، أمْ إله هذا العييّ المدعو موسى وأخيه هارون؟!؛ وأُعتبر هذا من قبيل المدح والتعظيم لمصر ومُلْكَهَا. أو أنّ تسمية المُتصرّف في شئون مصر في القرآن بـ"العزيز" هو تكريم وتشريف له ولمِصْرَ وليس -كما سبق- مجرد تقرير واقع؛ فالعزيز -وهو وصف وليس منصب- تُطلق علي المؤمن والكافر كان نبياً أو من عبدة فرعون، كما يمكننا اليوم أن نُطلق علي (السيسي) أنّه "عزيز مِصْرَ" لأنّ قومه يبجلونه ويُطيعونه، لكننا لا نستخدم هذا الوصف -بالتأكيد- مادحين أو مُعظّمين له ﻷنّه "وليّ من أولياء الله الصالحين" أو أنّ مِصْرَ هي "أُمّ اﻷولين واﻵخرين" بل ساخرين ومُستهزئين به وبمِصْرَه وبقومه؛ فـ"التشريف" جاء من الناس -إذا اعتبرنا العبيد ناس- بطاعتهم وعبادتهم له. وهذا الوصف "العزيز" تحديداً أُستخدم أيضاً في القرآن بهذا المعني للسخرية والتأنيب والتوبيخ ألن يُقال للكافر حين يُقذف في الجحيم «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»، أم يا تُري هذا أيضاً وصف تشريف لمن يدخلون النار؟!! فإن تجاوزنا هذا كُله، فلا يمكن أن نتجاوز هذا القدر الهائل من الضّلال والعمي في أن يُقال أنّ « اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ» هو تعظيم ومدح لها؟!!! رغم أنّ قبلها تماماً ومُباشرة استنكار وتقريع «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ » وبعدها بدون أي فاصلة أو فاصل عقاب شديد قاسي نتيجة لكُفرهم بأنعم وآيات الله «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» فكيف يُمدح إذاً المكان الّذي "هبطوا" إليه بحجة أن فيه ما سألوا؟!! كأنك لو ذهبت ﻷحد اﻷماكن التي لا يدخلها إلا أصحاب المليارات والذي فيه اشهي وأطيب المؤكلات "اﻷورجانيك" الخالية تماماً من الهرمونات والمضادات الحيوية واﻷلوان الصناعية والمبيدات المُسرطنة الّذي فيه تستطيع أن تأكل ما تشاء حتي تنفجر أمعائك بدون أن تدفع جنيهاً واحداً؛ لكنك رغم هذا طلبتَ من المسئول أنْ يُحضر لك فول مسوّس بـ"زيت العربيات" و طعمية تحتوي علي "بقايا مخلّفات بشرية" وبصل تم ريّه بمياه الصرف الصحي؛ فنظر لك المسئول -شزراً- وقال لك بنبرة تحوي مزيجاً مُتساوياً من الاحتقار والاستهزاء والسُّخرية: “نحن هنا لا نقدم إلا المؤكلات الصحيّة الخالية من المُبيدات والُمخلّفات البشرية فإن أردت أن تستمتع بمخلّفات البشر فعليك بمطعم "ابن مصر البار" فستجد فيه كُل ما ذكرت"؛ ففسرّتَ ما ذكره المسئول باعتباره مدحاً وتعظيماً لهذا المطعم وذهبت لصاحبه وأخبرته بما قيل، فطار فرحاً وقرّر أن يكتب عبارة المسئول علي "يافطة" باللون البُني الِمحمِر خُطّ عليها: ” نُقدم أشهي وألذّ المأكولات مدحوها فقالوا : "إن أردت أن تستمتع بمخلّفات البشر فعليك بمطعم (ابن مصر البار)"، ونتيجة لتلك "العبارة المُقدّسة" أصبح هذا المطعم حديث الناس وأتي إليه الزبائن من الشرق والغرب ليتذوقوا مُخلّفاته. أفلا يحق لنا إذاً السؤال من أي فتحة تسمع أنت وصاحب المطعم؟! وبأي عضو من أعضاء الجسم تفهم أنت وهو ما سمعتاه؟! وكيف يحكم زبون هذا المطعم علي لذّة الطعام دون أن يشتمّه بأنفه ويتذوّقه بلسانه؟! ومما صُنع القلم الذي كُتبت به هذه اليافطة العجيبة المُعجزة ؟! -لابد أنّ الفتحة التي تسمع بها أنت وصاحب المطعم هي فتحة الشرج، وبسبب هذا انتقل عندكما محل التفكير والفهم واﻹدراك والشم والسمع والبصر من المخ ليُصبح محلهم المؤخرة، والزبون كان عليه أنْ يستخدم عضوه التناسلي ليشعر بلذّة الطعام وحلاوته بديلاً عن أنفه ولسانه، ولابد أن قلم الخطّاط صُنع من كُتلة سميكة من الخراء الطري مغموسة ببول مُدمّم -كي تُعطي اللون البُني الِمحمِر- ليكون للكلمات المكتوبة نفس الملمس والرائحة لأكلات المطعم الموصوفة بالشهيّة. وإذا كان هذا هو الحال فهل يُمكن أن يلومنا إنسان ذو عقل سليم إن اعتبرنا فهمك أنت وصاحب المطعم فهماً مريضاً مُختلاً، وأنكما -باﻹضافة لزبائن هذا المطعم وكاتب اليافطة- لستم إلا مجموعة قذرة مُقرفة من البُله والمجانين؟!

ما هو المشترك بين "ادخلوا مصر" و"اهبطوا مصراً"؟-العامل المُشترك اﻷكبر،

غير أنّ المُخَاطَبين في الحالتين هم بني إسرائيل، أنّ "المؤخرات"-من أمثال صاحب المطعم السابق وزبائنه-فسرّوها علي أنها مدحاً لمِصْرَ وأهلها.

أو كانت تلك الفضائل مجرد مجموعة من اﻷحاديث الموضوعة الكاذبة التي ظهرت كأحد نتائج الصراع السياسي والعسكري علي السُّلطة في دولة مترامية اﻷطراف، سواء اتخذ هذا الصراع شكل قبلي (بني هاشم في مُواجهة بني أمية) أو طائفي (شيعة أهل البيت في صراع مع شيّعة الصحابة) أو كان عرقياً (العرب في مُقابل اﻷعاجم) فظهرت اﻷحاديث التي تمدح -أو تذم تبعاً لهذا الصراع- أهل ومدن العراق والشام ومصر وفارس وغيرها، وقد كفانا (بن زولاق المصري (306 هـ -387 هـ))(4) مؤونة البحث ومشقة التنقيب عن تلك اﻷحاديث الخاصة بمصر، فضمها كتاباً سماه "فضائل مصر وأخبارها وخواصها"، والّذي أصبح مرجعاً من بعده لمَنْ أراد أن يكتب عن فضائلها، جمع فيه كُل ما وقعت عليه عينه وطرق طبلة أُذُنه من أحاديث -مكذوبة- تذكر مصر بـ"الخير" علي شاكلة حديث "العسكري الغلبان": «إذا فَتح اللّه عزّ وجلّ عليكم مِصْرَ فاتخذوا بها جُندًا كثيفاً، فذلك الجُند خير أجناد الأرض»، أو حديث "العدد في الليمون": «قُسّمت البركة عشرة أجزاء فجُعلت تسعة في مِصْرَ وجُزء بالأمصار» أو "شر البليّة ما يُضحك": «ما كَادهم أحد إلا كَفاهم الله مَئونَته»، أو "قُطّهُم جَمَل وبَراغيتهُم رِجّالة": «مِصْرَ أطيب الأرضين تُراباً وعجمها أكرم العجم أنساباً»، أو "عِشّة من غير باب وبيقولوا يا الله اكفينا شرّ الحُسّاد": «مِصْرَ خزائن الله فى الأرض والجيزة غيضة من غياض الجنة» وغيرها من مُبالغات وأكاذيب مُخترعة لم ينقصها إلا أن يُخبرونا أنه كان أحب عند رسول الله أن يكون "مصرياً" من أنْ يهبط عليه وحي أو تأتيه رسالة. ولم يكتفي (بن زولاق) بكل اﻵيات واﻷحاديث التي أوردها في شأن مصر، والتي تُعطيك انطباع أنّ الله خلق مصر أولاً ثم "لمّا رأي ما فعله حسناً" -بتعبير توراتي- أنشئ بقية الكون، فذكر أيضا أقوال مُتفرقة عن "حلاوة" و "طعامة" مصر ومَنْ دعا لها من اﻷنبياء والصالحين، ونسب كل أساطين العلم والفلسفة اليونان إليها فهُم إمّا مصريون أو تتلمذوا عليهم!!! ويخلُص لنتيجة تُذكرك بمجموعة الُمختلين والمُفكرين المُراهقين الوطنيين الذين يتغزلون في مِصْرَهم علي طريقة "يقدر طبق طبقكم يطبق في طبق طبقنا" والّذين تسمع هرتلاتهم المُتناقضة علي الشاشات وتقرأ عتاهاتهم المُضحكة في مئات الكتب التي سودوا بها صفحاتها الناصعة البياض؛ فيقول في تعريض -وتعريص- واضح لمَنْ يُفكّر أن هناك حكمة أو علم أو بشر أو حمير أو بغال تُشابه ما يخرج من أرض مصر «فهؤلاء حكماء الأرض وعلماؤهم الّذين ورثوا الحكمة، من مصر خرجوا، وبها ولدوا ؛ وفى الأرض نشروا علومهم، لا ببغداد ؛ ولا بالكوفة ولا بالبصرة.»

أو اكتسبت تلك الفضائل سحرها من أساطير يهودية مُتناقضة تسربت في متون الأحاديث والتفاسير والشروحات حتى أصبحت تلك اﻷساطير "حقائق مُقدّسة". أول ما يُقابلك حين تنظر في هذا اﻷمر-فيما يخص مصر- هو وجه (كعب اﻷحبار) الّذي كان "مُسلماً يهودياً" دخل اﻹسلام ولم يترك اليهودية وراءه، لديه لكل سؤال إجابة من "الكُتب المُقدسة" التي لم يطّلع عليها أحد إلا هو، وفي رؤيته لمصر يحمل بداخله تراث قوماً خرجوا منها يُطاردهم فرعون وجيشه، حيث يُمثّل هذا الحدث -الخروج- حجر الزاوية في دين اليهود كله. وإن كانت مصر بالنسبة لهم هي "أرض عبودية" إلا أنها كانت أيضاً "فردوساً مفقوداً" بالمقارنة بالصحراء القاحلة التي كانوا عليهم أن يجتازوها ، ونري هذا واضحاً في كلمات (كعب) -أو ما نُسب إليه- فيقول أنّ من يُريد أن يري "شبه" الجنة فلينظر لمصر حين تزدهر مزروعاتها، وهذا (معاوية بن أبي سفيان) يسأله عن "نهر النيل" -ولا نعرف ما هي المناسبة- وهل له ذِكر في "كتاب الله" فيجاوب (كعب) بثقة تجعل مَنْ يسمعه يُصدّقه «والّذي فلق البحر لموسى إني لأجد في كتاب الله عز وجل أن الله يوحى إليه في كل عام مرتين : عند جريه يقول: إن الله يأمرك أن تجرى فيجرى ما كتبه له، ثم يوحى له بعد ذلك فيقول : يا نيل، إن الله يقول لك عُدْ حميدًا.» فنهر النيل هو في الحقيقة من "أنهار الجنة" كما يُخبرنا «أربعة أنهار من الجنة وضعها الله تعالى في الدُّنيا : فالنيل هو العسل في الجنة، والفرات هو الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء فى الجنة ؛ وجيحان نهر اللبن في الجنة.» ليس هذا وحسب بل إنّه يري حتي جبال مصر مُقدسة فجبل المُقطم هو أحدهم الّذي يضعه ضمن وادي "طوي" المذكور في القرآن، والّذي يبدو أن تُربته أطهر من تربة عرفة وكربلاء وأورشليم المُقدسة حتي أنه سأل أحد المسافرين لمصر أن يُحضر له شئ من تُرابه الشريف «فأتاه منه بجراب، فلما حضرت كعباً الوفاة أمر به ففرش في لحده تحت جنبه وفعل مثل ذلك عمر بن عبد العزيز.» ولولا تعلق قلب كعب بـ"بيت المقدس"، لم يكن ليسكن إلا مصر؛ ويُعلّل ذلك بأنها «مُعافاة من الفتن، ومَنْ أرادها بسوء كبه الله على وجهه ؛ وهو بلد مبارك لأهله فيه.» ولكي نفهم المُراد من الكلام اﻷخير لـ(كعب) يجب ألا نتسرّع فنفسره كما فسّر البُله والمجانين "اهبطوا مصر" ولنري أولاً الرأي السائد وقتها عن شعبها؛ وهو رأي ليس بالضرورة دقيق أو صحيح، فيُنسب لـ(معاوية) قوله : «وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف فثُلث ناس، وثُلث يشبه الناس، وثُلث لا ناس. فأما الثُلث الّذي هم الناس فالعرب. والثُلث الّذين يشبهون الناس فالموالي، والثُلث الّذين لا ناس المسالمة، يعنى القبط.» وسأل (عمر بن الخطاب) كعباً عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها فقال « إن الله تعالى لما خلق الأشياء جعل كل شئ لشئ . فقال العقل : أنا لاحق بالشام، فقالت الفتنة : وأنا معك! وقال الخصب : أنا لاحق بمصر، فقال الذُل : وأنا معك! وقال الشقاء : أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة : وأنا معك!» وأهل مصر «عبيد لمَنْ غلب، أكيس الناس صغاراً وأجهلهم كباراً.» لا تُعرف فيهم الشجاعة، وفى أهلها رياء ومكر (الفلاحين) وخُبث ودهاء (المغفلين واﻷعباط)، وشرّ نساء اﻷرض -يقول كعب- هن نساء أهل مصر.(5) إذاً لدينا رؤيتين لـ"أُمّ الدُّنيا" واحدة ﻷرضها التي تراها "جنة" فيها "خزائن اﻷرض" وهذه الرؤية تعتبرها كـ"مزرعة" قطوفها دانية سهلة لمن يحكم، و"كنز" بلا مالك أو صاحب، و"بقرة" لا تجف ضروعها أبداً ولو جاعت وصَامتْ؛ والرؤية الثانية تنظر لشعب مصر كجزء لا ينفصل عن الحيوانات والجمادات الموجودة علي أرضها، ومَنْ استطاع تمييزهم عنهم لم يري فيهم إلا عبيد جُبناء أذلاء مُسالمين ، بمعرفتنا هذا يمكن فهم قول كعب أن مصر «مُعافاة من الفتّن» أي أن شعبها ذليل جبان لا يُحركه شئ فلا تحدث به الفتّن، وهل هناك "فتّنة" أكبر -من وجهة نظر الحاكم ومُعرِصينُه- من أن يُقاوم شعب مَنْ ينهبوه ويسرقوه؟! وقوله «ومَنْ أرادها بسوء كبه الله على وجهه»، وهذا بالمناسبة "البروتوتايب" لمقولتي "مصر الكنانة" و "مصر المحروسة"، فيمكننا اعتبار كلام (كعب) مجرد "تخريف"، بما أننا لا نجد في التاريخ هذا "الكب" أو أنه أراد به أنه لم يُكَبْ حاكماً لمصر أراد السوء بها إلا وجئ بأسوأ منه أو بمثله، فحينها يستقيم المعنى ليوافق وقائع التاريخ. وأخيراً قوله «وهو بلد مُبارك لأهله فيه» لا يجب أن يُفهم أنّ "أهله" هنا تعني الشعب الذليل الجبان "اللا ناس" بل يعني مُبارك لحُكّامه فيه فهُم أهل وأصحاب هذا البلد الفعليين.

لكن اﻷعجب من كل ما سبق أنه لكي يجعلوا مصر "أُمّاً للدُّنيا" -باعتبار أن هكذا تكون أُمّاً "للفضائل كلها"- فسّروها بالقول أنّ النبي(إبراهيم) تزوج -هكذا- من (هاجر) المصرية وأنجب منها (إسماعيل) الّذي يُعتبر "أبو العرب" فأصبحت مصر بذلك "أُمّ الدُّنيا" !!! -بعيداً عن هذا القفز البهلواني من (هاجر) أُمّ "أبو العرب" إلي مصر "أُمّ الدُّنيا" دونما علاقة أو صلة بين النقطة التي قفزوا منها وتلك التي هبطوا إليها، غير أنّ هاجر "أُنثي مصرية” ومِصْرَ مؤنثة، اﻷمر الّذي يُشير لطبيعة "اﻷمخاخ" التي تأتي بمثل تلك العتاهات؛ فإنّ هذا التفسير يستند علي خُرافات قديمة في تقسيم البشر طبقاً للجينولوجيا اليهودية فيُقال هؤلاء القوم "ساميون" نسبة لشخص يُدعى (سام بن نوح)، وهؤلاء من نسل (حام) أخيه، و"الروم" هم من سُلّالة (يافث)، واﻵراميون من نسل (آرام بن سام) والعرب جاؤوا من (إسماعيل بن إبراهيم)، واﻷدوميّون من نسل عيسو الملقب بأدوم-أي اﻷحمر- أمّا "اليهود الخُلّص" فمن نسل (يعقوب) الضاحك علي (إسحاق) أبيه -المفارقة أنّ إسحاق يعني "الضاحك"- والسارق بكورية عيسو أخيه. إلا أن يعتبروا أنّ (إبراهيم) هو "أبو الدُّنيا" -وهذه خُرافة آخري- فماذا ستكون "زوجته" إذاً؟ ألن تكون "أُمّاً للدُّنيا"؟! وبفرض أنها كذلك كيف لـلمدعوة "مِصْرَ" أن تأخذ منها هذا اللقب الشريف؟! والمُفترض طبقاً للمصريين أصحاب عقيدة “مصر هي أمي" أن تُلّقب مِصْرَ بأُمّ “أُمّ الدُّنيا”! فما هو اﻷشرف واﻷعظم- أن تكون مِصْرَ جَدّةً للدُّنيا أم مُجرد أُمّها؟! … لكن انتظر لحظة! لماذا علينا -أصلاً- أن نُناقش تلك البلاهات التي بلا معنى؟! وﻷي شئ نُجهد خلايانا العصبية في بيان تهافت أساطير وخُرافات لا يُصدّقها إلا فاقدي اﻷهلية؟ فـ(هاجر) -من اﻷساس- لم تتزوج (إبراهيم) كما يكذبون كي تكون جَدّةً أو أُمّاً أو حتي خالة للدُّنيا بل لم تكن إلا أَمَةً له؛ كما أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يتزوج (مارية) كما يُدّلسون لبيان "فضائل مصر" بل كانت هي الأخري أَمَة، وهي لذلك لم تكن من "أُمّهات المؤمنين"، حتي بعد أن أنجبت للرسول ابنه (إبراهيم) أصبحت "أُمُّ ولد" لكنها لم تكن زوجة أبداً. فلماذا يلجأ المصريون لهذا الكذب المفضوح والتدليس اﻷبله؟ -ﻷنّهم في الحقيقة يخجلون من القول أنّ (هاجر) و(مارية) كانتا أَمَتين باعتبار أن هذا يُشين أن تكون مصرية "عبده"، رغم أنّ وضعهم هم أنفسهم اليوم لا تستطيع تمييزه عن وضع العبيد، فحولوا بكذبهم ما كان من المفترض أن يكون "فضيلة" لمصر والمصريين ليصبح هو نفسه إدانة وتحقير. وإذا وصل اﻷمر بعبيد اليوم أن يفتخروا بعبيد اﻷمس البعيد؛ فلا نستبعد -أو نستغرب- في أن يأتي اليوم الّذي يفتخر فيه المصريون بأن من مصر سيخرج الدّجال كما يُخبرنا (كعب) -ومَنْ غيره- الّذي يقول أنّ «الدّجال تلده أمه بقوص في أرض مصر» وأنهم مستعدون للإيمان بـ"ابن بلدهم" والوقوف بجانبه حتي يدخلون “جنته” وينجون من “ناره”. وقد تري فيما أقول مُبالغة أو مُجرّد نُكتة سخيفة، لكن فلتنظر وتتأمل في عدد الدجاجلة الّذين ظهروا -وما زالوا- في هذا البلد وأقنعوا الناس بأنهم سيحولون مصر لـ"جنّة" وأنّ مَنْ سيرفض تلك الجنّة فعليه أن يواجه "ناراً" من الرُصاص والقنابل، أليسوا أكثر من أن يُعدّوا ويُحصوا؟ مع أنه كان واضحاً لكل ذي عقل وبصيرة أنّ هؤلاء "الدجاجلة الهواة" يخدعونهم ويستهزئون بهم، وأن الجنّة التي يعدونهم بها ليست إلا عيش الفقر والذِلة، والنار التي يُخوفهم منها ما هي إلا الطريق والثمن الذي يجب أن يُدفع كي يحصلوا علي العدالة والحرّية؛ ورغم ذلك آمن الناس بهم وصدقوهم وعبدوهم؛ فهل تعتقد أنهم سيدركون أن "الدّجال الُمحترف" يعدهم ويُمنّيهم اﻷكاذيب واﻷوهام؟!! -بالطبع لا!

هذا المُختل المعتوه اﻷفّاك "يعبده" الكثير من المصريين رغم أنه يجلدهم ليل نهار

ويسرق قوتهم وقوت عيالهم. فما بالك لو كان يمتلك بعضاً من العقل والرحمة ماذا كانوا سيفعلون؟!!

بعد أن استعرضنا بعضاً من "فضائل ومثالب" مصر والمصريين والتي يعود الفضل للكثير منها لـ(كعب) الّذي تأخّر إسلامه حتي خلافة (عمر بن الخطاب) وحين سئُل عن سبب ذلك قال أن أباه لم يُطلعه علي كل كتب اليهود بل كتب له كتاباً من التوراة وقال له «اعمل بهذا وختم على سائر كُتبه وأخذ علىّ بحق الوالد على الولد ألا افُض الختم عنها فلما رأيت ظهور الإسلام قلتُ لعلّ أبي غيّب عنى علماً ففتحتها فإذا صفة مُحمد وأُمّته فجئت الآن مُسلماً.» وإن صحّت هذا "القصة" فيبدو من الغريب العجيب أن يُطلق عليه "كعب اﻷحبار" وهو حتى وقت متأخر لم يكن يعلم ما في التوراة إلا الكتاب الّذي كتبه له أبوه!!! لكنّك قد تزداد عجباً واستغراباً حين تعلم أنّه قد أخبر أمير المؤمنين (عمر) بموعد اغتياله قبلها بثلاثة أيام طبقاً لما قرأه «في كتاب الله عز وجل التوراة»، وحين تعجّب (عمر) من معرفته بذلك وكيف لاسمه أن يرد في "كتاب الله" أخبره بأنه لا يجد اسمه «ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك». هذه التوراة التي لدي (كعب) يبدو أنّ عدد صفحاتها أكبر بكثير من عدد الصفحات التي يمكن أن تبلغها موسوعة الويكيبديا -بكل اللغات- حتى نهاية العالم ليكون من المعقول أنّ فيها خبر -وليس تفصيل- كُل شئ، لكن حينها سيكون من غير المعقول أنّه استطاع أن يقرأها ويقف علي كُل خبر فيها في غضون سنوات معدودات بعد أن قرّر أن لا ينظر لـ"حق الوالد علي الولد" ويفض الختم وينفض عن صفحات التوراة المُغيّبة الغُبار؛ إلا أنّه -إحساناً للظن- من الممكن أن (كعباً) كان يمتلك "موهبة النبوّة"، وتواضعاً منه نسب أقواله وتنبؤاته إلي التوراة لا إلى "عِلمه اللدُنّي".

(كعب اﻷحبار) هو (أبو إسـحاق كعب بن ماتع الـحِمْيَري) أصله من يهود اليمن، وهذا واضح في نسبته لمنطقة "حِمْيَر" بالجنوب الغربي لليمن، وقد كانت تقوم هناك مملكة تُسمي بالمملكة الحميرية وقد بلغ من انتشار اليهود العرب فيها أن اعتنق آخر ملوكها (يوسف ذو نواس) اليهودية، وقام بحملة اضطهاد واسعة ضد النصارى العرب، فما كان من الإمبراطور البيزنطي (جستنيانوس (حكم من 518 م-527م)) أن طلب من نصارى الحبشة (أثيوبيا) غزو اليمن في إطار الحرب بين الفرس والروم حيث كانت تلك المملكة اليهودية موالية للفرس. واستطاع اﻷحباش القضاء عليها وسقطت في أيديهم عام 525م وفُرض علي اليهود المسيحية؛ واستمرت اليمن تحت سيطرتهم لمدة خمسين عاماً حدث خلالها محاولاتهم التقدم نحو الشمال لإخضاع بقية القبائل اليهودية والمُشركة، كمحاولة أبرهة الحبشي غزو مكة وهدم الكعبة فيما عُرف بـ"عام الفيل". إلي أن يظهر (سيف ذي يزن) -وهو من سُلالة (ذي نواس)- الذي يقود ثورة ضد الوجود الحبشي واضطهاده لليهود ويطلب مُساعدة ملك فارس حينها (خسرو (كسري) أنوشروان (531م-579م)) فيُرسل له جيشاً يهزم به اﻷحباش ويُصبح (ذي يزن) حاكماً إلي حين، حيث يغزو اﻷحباش اليمن مرة آخري، فتبعث فارس بحملة جديدة لمواجهة هذا التعدي علي "مصالحها" عام 595م تحت حكم الملك (خسرو فيروز(برويز) (589م-628م)) وتُصبح اليمن ولاية فارسية يتناوب عليها قادة من الفرس (مرزبان) كان آخرهم (بادان (باذان))(6). … لكن قبل أن يصل (كعب) "حبر اليهود" لتلك الدرجة من "العِلم والكشف" وقبل أن يدخل (بادان) الفارسي هذا في الإسلام، كانت اليهودية قد مرّت بمُخاض طويل انتصرت في نهايته فرقة اﻷحبار-الفرِّيسيّون- علي بقية الفرق "المُهرطِقة”.

(#)(I)

توقفنا المرة السابقة عند نهاية حُكم (يوحنّان هيركانوس اﻷول) والذي أخبرنا (يوسف بن متتياهو) أنه استطاع أن يبسط سيطرته وسُلطانه ويوسّع حدود مملكته مُستغلاً الصراعات والحروب اﻹقليمية التي كانت تجري من حوله(7)، فأخضع أدوم وأجبر سُكانها علي اعتناق اليهودية كما اجتاح ابناه (أريستوبولس اﻷول) و (أنتيجونُس اﻷول) السامرة وهدموا معبد السامريين القائم على جبل جرزيم -بالقرب من نابلس- والذي كان يُنافس معبد أورشليم؛ وكان السامريون يهوداً لكن لم يعترفوا إلا بأسفار موسى الخمسة ورأوا غيرهم من اليهود فرق ضالة، ولم يروا قُدسية معبد أورشليم بل قالوا أن معبد جرزيم هو وحده المُقدّس، في حين أخرج "اليهود الخُلّص" السامريين من اليهودية بُرمّتها ووضعوهم مع اﻷُمَـمِيين وعبدة اﻷوثان. وقد بلغ البُغض والعداء بين الطرفين أنْ كان السامريون يُعاونون أعداء اليهود عليهم، ومن ناحيتهم حرّم اليهود أي تعامل معهم ورأوا في نساء السامريين ألدّ أعدائهم واعتبروهُنّ "غير طاهرات-أنجاس" كيلا يكون لليهودي أي تزاوج أو اتصال معهن(8). كما أخبرنا (يوسف) بوجود ثلاث فرق رئيسية من اليهود وهم الصدوقيون والفرِّيسيّون واﻵسينيّون، بدأت هذه الفرق الثلاث في التّشكُّل خلال القرن الثالث قبل الميلاد وتبلورت خلال حروب اﻷسرة الحشمونية. يُمثّل الصدوقيون الأرستقراطية الحاكمة وطبقة الكهنوت و"النُخبة المُثقفة والتنويرين" والمتأغريقين من اليهود وأشياعهم الذين تأثروا بالثقافة والفلسفة اليونانية، فكانت نظرتهم للدين نظرة براجماتيه ترى فيه أداة من أدوات الحُكم التي لا غني عنها، ومطيّة ذَلول للدولة ومَنْ يحكمها، وتقليد يحفظ هوّية توارثوها عن اﻵباء؛ وإن كان مُعظمهم يُمارس طُقوسه وشعائره بإخلاص وتفان إلا أنّهما علي نفس الدرجة التي يمكن أن نراها في مَنْ يؤدون رقصات فلكورية يتناقل تعلّم وحفظ حركاتها اﻷحفاد عن اﻷجداد. ولذلك لم يجدوا مُشكلة في أن ينكروا شطر الشريعة الشفاهي بالقول "حسبنا كتاب التوراة"، ولم يتحرجوا في أن يسخروا مِمَنْ يقول بالبعث والجزاء الأُخروي، ولم يروا تناقضاً في أنّه لكي يكون اﻹنسان حُرّاً في أفعاله فلابد أن يُكـبّلوا حُرّية اﻹله.

حدث خلال بداية الثورة المكابية أن انضم لـ(متتيا) وأبنائه طائفة من اليهود يُسمّون بـ"الحسيديين" -اﻷتقياء أو الورعون- بعد المذبحة التي ارتكبتها القوات اليونانية حين جاؤوا "للمتمردين" يوم سبت لعلمهم بحرمة هذا اليوم عندهم(9)، ويصف سفر المكابيين هؤلاء الحسيديون بأنهم «ذوي البأس في إسرائيل»(1مك 42:2) و «المقدّمون في بني إسرائيل»(1مك 13:7) وكان معروف عنهم تمسكهم الشديد بإيمانهم وحفاظهم علي حُرمة السبت حتي أنهم تعرضوا للتعذيب والقتل خلال محاولة (أنتيوخوس الرابع-إبيفانيس (حكم من 175 ق.م-164 ق.م)) فرض الثقافة والدين اليوناني علي اليهود وقد عملوا على الدعوة ودراسة الشريعة وإحياء التمسك بتعاليمها والقضاء على مظاهر الوثنية التي انتشرت بين اليهود. وحين استعاد (ديمتريوس اﻷول (حكم من 162 ق.م-150 ق.م)) المُلقب بـ"سوتير" -أي المُنقذ أو المخلّص- عرش أبيه الذي اغتصبه عمه (أنتيوخوس الرابع) ذهب إليه جماعة من اليهود المتأغريقين وعلى رأسهم شخص يُدعي ( ألكيموس (ياكيم)) -من نسل هارون- أو حسب وصف سفر المكابيين أنّه قد ذهب إليه «جَميع رجال النفاق والكُفر من إسرائيل و في مُقدمتهم ألكيمس وهو يطمع أنْ يصير كاهناً اعظم» (1مك7: 5) وأخبروه عن كيف يعيث (يهوذا المكابي) وجماعته فساداً في منطقة اليهودية ويُطاردهم ويضطهدهم دون ذنب إلا أنهم أصدقاء الملك اﻷوفياء؛ فما كان من (ديمتريوس) إلا أن نصّبَ (ألكيموس) كاهناً أكبر وأرسل معه جيشاً كي يُرافقه ﻷورشليم ليتسلّم مهام منصبه بقيادة (بكيديس) صديق الملك المُقرّب وحاكم أراضي المملكة السلوقية غرب الفُرات وفوّضه بأن يستخدم القوّة إذا وجد أي مُعارضة. وحين مجيء (ألكيموس) قُدّمت "مُبادرة سلام" لـ(يهوذا المكابي) ﻹنهاء النزاع القائم شُدّد فيها علي أن "الحُريات الدينية" مصونة وأنه لن يُفرض عليهم ما يرفضونه، لكن (يهوذا) لم يُخدع بتلك المبادرة ولم يثق في (ألكيموس) الذي جِيئ به علي ظهور خيول أعدائهم؛ في حين رأى فيها الحسيديون فرصة ﻹنهاء حالة الحرب طالما أنه لن تُمس شعائرهم وسيتفرغون للدعوة والعبادة، ولم يستطيعوا تصديق أنّه من المُمكن أن يكذب عليهم أو يخدعهم الكاهن اﻷكبر سليل (هارون بن عمرام(عمران)) إلا أن (ألكيموس) بعد أن حصل علي اعترافهم ودعمهم له ككاهن أكبر ارتكب مذبحة بحقهم وأمر بقتل ستين منهم(10). من هؤلاء الحسيديين ستخرج فرقتان: اﻷولي ستكوّن "البيروشيم" أو الفرِّيسيّون الذين سيصبحون القوام الرئيسي والكتلة الصلبة لليهود والذين خرج منهم المُعلّمين والمُفسرين والفُقهاء والمُدافعين عن الشريعة. وقد نظر الفرِّيسيّون للدين باعتباره عهد بينهم وبين اﻹله إن حافظوا عليه والتزموا ببنوده وشروطه (أوامره ونواهيه) فسيصيرون شعباً مُختاراً وأُمّة مُقدّسة وكهنة يُبشرون ويدعون اﻷُمم لطريق الخلاص كما جاء في سفر الخروج «فَالآنَ إِنْ سَمعتُم لِصوتِي، وَحَفِظتُم عَهدِي تَكونونَ لِي خاصَّةً مِنْ بينِ جَميعِ الشُّعوبِ. فَإنَّ لِي كُلَّ الأَرضِ. وَأنتُم تَكونونَ لِي مَملَكةَ كَهَنةٍ وأُمّةً مُقدّسةً.»(خر 19: 5-6) و بما أنّ هذا العهد يشمل جميع اليهود فلا تكون دراسة وتفسير التوراة حِكراً علي طبقة الكهنة بل هي واجب وحق لكُل يهودي؛ ولذلك عكفوا علي دراستها وتفسيرها واستخراج الوصايا واﻷحكام التي طبّقوها على أدق تفاصيل الحياة اليومية؛ ومن خلال تلك الدراسة أثبتوا ما نفاه الصدوقيون بخصوص البعث والجزاء الأخروي والقدر؛ كما رأوا في فَهْمِ "السّلفِ" وتفسيره للشريعة وطريقة معيشته النموذج اﻷمثل والطريق المستقيم الذي على كل مؤمن أن يحتذيه ويُقلده ويقتفي أثره ومنهجه، فحرصوا علي نقل وجمع ودراسة أقوالهم وآثارهم فيما سيُعرف لاحقاً بـ"التوارة الشفاهية" المُكمّلة لـ "التوراة المكتوبة".

الفرقة الثانية التي خرجت من الحسيديين هم اﻵسينيون ويمثلون النُسّاك و المتنبئين ومعالجي الأمراض جسدية كانت أم روحية، والمبشرين بـ "الخلاص" وقرب إقامة "الملكوت"، لكن علي عكس الصدوقيين والفرّيسيين اللذان كانا لكل منهما "رؤية سياسية" فيما يتعلق بالدين؛ فاﻷولي تراه -كما قُلنا- مطيّة ذلول وأداة طيعة يمكن تشكيله وتعديله وإعادة فهمه وتفسيره ليُناسب "مصلحة الدولة" ومَنْ يحكمها، والثانية رأت بأن "الدولة" هي ما يجب أن تكون مطية الدين الذلول وأداته التي به يتم تغيير الواقع وتشكيله؛ لم يُشارك اﻵسينيون في "الحياة السياسية" ولم يعنيهم مَنْ يحكم وقد رأوا الفساد قد ضرب أطنابه والشريعة لم تعد إلا شعارات تُرفع بلا أثر في الواقع؛ ففضلوا الانسحاب والهروب من الصراعات السياسية والحروب والتفرغ للعبادة والتأمل حتي يأتي "المُخلِّص"؛ فابتدعوا نوعاً من الرهبنة التي تتطلب أن يترك الواحد مُتع الحياة وملاذها وأن تُصبح العبادة وطقوسها هي شغله الشاغل؛ ومن أجل ذلك كان عليهم أن يبتعدوا عن أماكن المُغريات والنجاسات كي يستطيعوا أن يحافظوا علي حالة "القداسة والطهارة" التي وصلوا إليها، فأقاموا "كوميونات" كانت في الغالب تقع علي أطراف المُدن والقري يعيش فيه اﻵسيني حياة بتولية مُتقشفة زاهدة ويُشارك فيها بكل ما يملكه فلا وجود للملكية الخاصة بينهم فكل ما يملكونه هو مشاع للجميع، وكان علي كل "عضو" جديد يرغب في نذر نفسه للعبادة والانضمام للكوميون أن يُقسم أولاً أيماناً مُغلّظة بأنّه سوف يتبع شريعة موسي ووصاياه بكل قلبه وروحه وأن يُحب كل مَنْ هو علي "الطريق المُستقيم" وأن يلعن أولئك الذين ضلّوا وأضلّوا الناس(11)، حتي يصير في النهاية ابناً من "أبناء النور" الذين سيواجهون قريباً في حرب ضروس "أبناء الظُلمة" وينتصرون عليهم. وإن كان "أبناء النور" هؤلاء قد اختاروا أن يعيشوا في عُزلة بعيداً عن صخب الحياة فهذا لا يعني أنّهم كانوا بلا تأثير، بل نظر إليهم "عوام اليهود" كـ"قديسين وأولياء"؛ ولجئوا إليهم لمعرفتهم بـ"تعبير الرؤى والأحلام" وطرد "اﻷرواح الشريرة" وعِلْمهُم باستخدامات اﻷعشاب لمعالجة الأمراض؛ وكانوا يُمثلون "النذير" الذي يدق ناقوس الخطر من خلال قدرتهم علي اﻹخبار بالغيب والتي أخبرنا عنها (يوسف بن متتياهو) في قوله بأنهم كانوا يمتلكون "موهبّة النبوّة" التي نادراً ما كانت تُخطئ. كما أتاحت لهم تلك الُعزلة الوقت للتفكّر والتأمّل في نصوص التوراة فخرجوا منها بتفسيرات باطنية بعيدة عن ظواهر تلك النصوص، وسيكون لفكرهم هذا وتأملاتهم تلك تأثير كبير فيما بعد حين يظهر يسوع الناصري علي مسرح اﻷحداث.

طبقاً لـ(يوسف بن متتياهو) فإن بداية الانشقاق والعداوة بين الصدوقيين والفرّيسيين حدثت في نهاية حُكم (هيركانوس اﻷول) الذي كان حريصاً علي ألا يُكدّر صفو العلاقة بينهما؛ فالفرقة اﻷولي تُشكل قادته العسكريين ودبلوماسييه ومسئوليه والثانية تُشكل المُشرّعة والقضاة والفقهاء والموظفين؛ وهو يُمثّل للصدوقيين الكاهن اﻷعظم والقائد العسكري ورجل الدولة المُحنّك، ويحب فيه الفرِّيسيّون التقي الورع الذي يُحافظ علي الشريعة ويتقيد بأدق تفاصيل طقوسها وشعائرها. إلا أنّه في نهاية حكمه استشعر خطر تزايد نفوذ الفرّيسيين الذين أصبح لهم التأثير اﻷكبر علي عوام اليهود وما يقولونه في حق "الملك" يُصدّقه العوام مُباشرة. فبعد انتشار الأقاويل بأنّه ليس أهلاً لكي يكون الكاهن اﻷعظم والتي كانوا هم مصدرها؛ قرّر عند عودته من إحدى حملاته العسكرية مُنتصراً أن يعقد مأدبة يدعو فيها رؤوس القوم من الفرقتين لكي يقف علي ما تخفيه صدور الفرّيسيين اتجاهه(12) خلال تلك المأدبة أخبرهم بأنه قد تتلمذ علي أيديهم ويعرفون عنه أنه يبذل ما وسعه كي يكون رجلا صالحاً ويجتهد في عمل ما يُرضي الرب عنه؛ وطلب منهم إنْ رأوا عليه ما يُشين أو ما يبعده عن الطريق المُستقيم أن يُرشدوه ويُقوّموه. كان الرد المتوقع -والذي أثلج صدره- بأنهم لم يروا منه إلا كُل خير وأنّ سيرته هي مثال الورع والتقوي؛ إلا أن واحداً منهم يُسمي (إلعازر بن بوئيرا(بوعيرا))،والذي يصفه (يوسف) بأنه شخص حاد عصبي يُحب إثارة العصيان والفتّن، جاوبه بجرأة غريبة نادراً ما تكون من الصفات التي يتحلى بها "رجال الدين" الذين يرون الجنّة تحت أقدام الحُكّام، ولا تتوافر عادة في مَنْ يحضرون مجالس السُّلطان «بما أنك ترغب في معرفة الحق، إن كُنت تريد صِدقاً أنْ تكون رجلاً تقياً صالحاً، فلتتخلي عن كونك الكاهن الأعظم و اقنع فقط بُحكم الناس»(13) فلما سأله (هيركانوس) عن السبب في ذلك رد عليه (إلعازر)«لقد سمعنا من العجائز أنّ أُمك قد أُسرِتْ في حُكم أنتيوخوس إبيفانيس.» هذه "اﻹشاعة المُغرضة" لم تكن صحيحة كما يقول (يوسف) الذي أخبرنا بنفسه -المرة السابقة- في كتابه "حرب اليهود" عن تفاصيل عملية اﻷسر تلك حين قال أن (بطليموس)حاكم (أنتيوخوس) على جريكو (أريحا) قتل حماه (سمعان هاتاسي) وأسر أخوي (هيركانوس) وأُمه وقام بتعذيبهم أمام ناظريه على أسوار القلعة التي تحصّن بها بعد فشل "انقلابه" ليُجبر (هيركانوس) على رفع الحصار عنه. لكن لو صحّت تلك "اﻹشاعة" فلماذا كان علي (هيركانوس) أن يتخلى عن منصب الكاهن اﻷعظم؟ -من ضمن موانع تولي منصب الـ"الكاهن" (بالعبرية كوهن- כהן) والتي تنطبق أيضا علي منصب الكاهن اﻷعظم أو اﻷكبر (بالعبرية هاكوهن هاجادول - הכהן הגדול) كما جاء في سفر اللاويين أن يخلو من العاهات البدنية «وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «قُلْ لِهَرُونَ: لاَ يُقَرِّبْ رَجُلٌ مِنْ نَسْلِكَ فِيهِ عَاهَةٌ ذَبَائِحَ لإِلَهِهِ عَلَى مَدَى أَجْيَالِهِمْ، فَكُلُّ رَجُلٍ مُصَابٍ بِعَاهَةٍ لاَ يَتَقَدَّمْ سَوَاءٌ أَكَانَ أَعْمَى أَمْ أَعْرَجَ أَمْ مُشَوَّهَ الْوَجْهِ أَمْ فِيهِ عُضْوٌ زَائِدٌ، وَلاَ مَكْسُورَ الْيَدِ أَوِ الرِّجْلِ، وَلاَ أَحْدَبَ وَلاَ قَزْمَ، أَوْ مَنْ فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ، وَلاَ الأَجْرَبَ وَلاَ الأَكْلَفَ وَلاَ مَرْضُوضَ الْخُصْيَةِ.» (لا 21: 16-20) كما يجب ألا يكون هناك ما يقدح في سُمعة الكاهن وقداسته لذلك وجب عليه الزواج من عذراء وحُرّم عليه الزواج من أرملة أو مُطلقة أو عاهرة أو زَانية؛ وإن زَنَتْ ابنته وجب حرقها ﻷنها دنّست قداسة أبيها. تلك الشروط والموانع ليس فيها أي ذكر لحالة "أُم الكاهن" وهل يقدح في رسامته أن تكون أُمه عاهرة أو زانية أو أسيرة؛ فيكون إذاً هذا المانع الجديد استُنبط من الموانع المنصوص عليها، فإنْ كانت حالة وسلوك زوجة الكاهن بهذه اﻷهمية التي تُقرر أهليته للمنصب، فبالقياس يكون لحالة وسلوك أُمه -من باب أولي- نفس الأهمية. وبما أنّ أُم (هيركانوس) قد تعرضت للأسر مع ما يتضمنه هذا من تعرضها لانتهاك جسدي قد يصل للاغتصاب الّذي كان ولا يزال من الممارسات الشائعة للتنكيل بالأسيرات بل وباﻷسرى الذكور أيضاً، فهذا يقدح في تولّيه منصب الكاهن اﻷعظم. قد يكون هذا هو "التأصيل الفقهي" للفرّيسيين والّذي كان يرفضه بطبيعة الحال الصدوقيون. بعد تلك الواقعة سيبدأ (هيركانوس) حملة لسحق الفرّيسيين خصوصاً بعد أن أوغر الصدوقيون صدره اتجاههم بالقول أنّه لم يكن ليصدر من (إلعازر) هذا الكلام إلا لو كانت تلك هي قناعات الفرّيسيين كلهم، فيُصدر أمراً بإلغاء كل اﻷوامر والقرارات والتشريعات التي كانوا أصدروها -بموافقته طبعاً- والتي تُنظم حياة الناس طبقاً لفقه وتفسيرات فقهائهم وشيوخهم للشريعة، كما أمر بمعاقبة كل مَنْ يستمر في اتباعها والتقيد بها.

هناك رواية آخري تقص علينا نقطة البداية للعداوة الصريحة بين الجانبيين تقول أنها حدثت في عهد (ألكسندر ياناي(جانيوس) بن هيركانوس اﻷول ) والذي وصل اضطهاده للفرّيسيين أنْ إرتكب مذبحة بحق شيوخهم وفقهائهم حتى كادت (التوراة الشفاهية) أن تختفي لولا أن ظهر فرّيسي يُسمي (سمعان بن شيتاه) والذي نجى من تلك المذبحة لكونه أخو(سالومي) زوجة ( ألكسندر) ... لكن لابد لنا اﻵن أن نستأذن من (سالومي) و(بن شيتاه) ونتركه في هدوء يُعيد جمع وترتيب التوراة كما كانت في صورتها اﻷولي؛ وحتى يتم ذلك فلنرجع على مهل للوراء، فلم يعد هناك ما نفعله لـ"أجدادنا" لنُنقذهم من بين براثن الغُزاة فقد ملّ "الحُكّام اﻷجانب" من طول الانتظار وبدأت خيولهم وعجلاتهم الحربية في التحرك نحو الوادي.

قُلنا المرة السابقة أنه قد حدث في مصر صراع علي العرش خلال (اﻷسرة 13) وتوالي الجلوس عليه "فراعنة" من كل شكل ولون وطبقة مما أدي مع الوقت إلي تدهور اﻷوضاع الداخلية وضعفت قبضة السُّلطة المُمسكة بحكم البلاد، وتجلّي هذا الضعف والتدهور في أن ظهرت حركة انفصالية (اﻷسرة 14) استقلت بالدلتا واتخذت خيوس (سخا) عاصمة لها، وأصبح هناك أسرتان تحكمان واحدة في الشمال واﻷخري في الجنوب. مع هذا الضعف والتدهور أُهملت التحصينات والجُدُر وهُجرت الثّكنات الحدودية في الشرق والجنوب والتي عمل على إنشائها والعناية بها ملوك (اﻷسرة 12) صانعو نهضة ومجد الدولة الوسطى؛ وكانت النتيجة الطبيعية لهذا أن أصبحت البلاد فريسة سهلة للغُزاة الجُدد؛ فيقول (هنري بريستيد) بعد أن يسرد سوء اﻷحوال خلال (اﻷسرة 13) «ولما تضعضعت القوّة الحاكمة أخذت تتضاءل تدريجياً وصار القطر في حال فظيعة من اليأس والضعف سهّل علي الأجنبي الاستيلاء عليه واغتصابه. وقد حصل هذا فعلاً عام 1675 قبل الميلاد في أواخر أيام الأسرة الثالثة عشرة، فقد غزا مصر قوم ساميون من آسيا دخلوا الوجه البحري واستوطنوه ووطدوا فيه نفوذهم(14)» إذا كان هؤلاء القوم "الساميون" قد أتوا من آسيا، فإلي أي فرع "سامي" ينتمون، هل إلي العرب أم اﻵراميين أم الفينيقيين؟ -أولاً: مُصطلح "ساميّون" و "حاميّون" و "آراميّون" -كما قُلنا- مأخوذ عن الجينولوجيا اليهودية لتقسيم البشر، وإذا كُنّا مُضطرين لاستخدام أمثال تلك المُصطلحات لذيوع استخدامها، فيُقصد بها فقط اﻷقوام الذين كان لهم لُغة وثقافة وصفات جسمية مُتقاربة وكانوا يشغلون المنطقة من العراق إلي فلسطين ومن شمال سوريا إلي جنوب الجزيرة العربية ولا علاقة لها البتة بـ(نوح) أو (إبراهيم) وأبنائهم وأحفادهم. ثانياً: الكتابات التي تتعلق بفترات الاضمحلال خصوصاً ومنها فترة حكم الهكسوس، بها الكثير من التكهنات نتيجة لقلة اﻷخبار واﻵثار المتبقية منها، وأُستُغل هذا اﻷمر قبل وبعد الأبحاث والكشوف الأثرية وفك طلاسم اللغة المصرية القديمة في "حشر" وقائع وأحداث وشخصيات لمجرد وجود مُشابهات بينها وبين ما وصلنا عن تلك الفترة، فكما رأينا من قبل أنّ (يوسف بن متتياهو) مُنذ ما يُقارب 2000 عام في محاولته لإثبات عراقة أُمته اليهود ضد مَنْ يحتقرونهم ويُشهّرون ويفترون الكذب عليهم نقل لنا كلاماً يقول أنّه لـ(مانيتون(~300 ق.م))(15) يتحدث فيه عن الهكسوس بعد أكثر من 1300 عام علي رحيلهم: مَنْ هُمْ ومن أين جاؤوا وماذا فعلوا بمصر وأهلها وكيف تم إجلائهم وطردهم؛ ويستهلّ ( يوسف) كلامه فيقول «لقد كان المصريون هم من بدأوا افتراء الكذب علينا (نحن اليهود)، وقام البعض ممن يريدون إرضائهم بتحريف الحقيقة، فلا هم اعترفوا بأن أجدادنا قد دخلوا مصر كما قد حصل بالفعل، ولا هم يروون بصدق خروجهم منها(16)» ثم يبدأ في سرد كلام (مانيتون) والذي فيه لم يحدد لنا بشكل قاطع أصل هؤلاء الهكسوس؛ ففي البداية يقول أنّ هؤلاء "الملوك الرعاة" لا أصل معروف لهم ثم بعدها يقول أنّ البعض يقول أنهم من العرب، وكما رأينا من قبل (يوسف) لم يُعجبه لا هذا ولا ذاك ورأي في كلمة الهكسوس الدليل القاطع علي أنهم اليهود أجداده وفسرها علي أنها تعني "اﻵسري الرعاة". لكن كلمة هكسوس لا تعني لا "الملوك الرعاة" ولا "الأسرى الرعاة" بل هي نُطق يوناني مُحرّف لكلمة (هِك- أو حِق-خسويت) والتي تعني "حُكام الأراضي المرتفعة" أو "حُكام الأراضي اﻷجنبية" أو قد تعني "حُكام المناطق الصحراوية" وهو لقب أطلقه المصريون علي شيوخ القبائل المتواجدين في المنطقة الحدودية في شمال شبه الجزيرة العربية، والتي سيطلق عليها الرومان فيما بعد اسم "العربية البترائية" (Arabia Petraea)؛ (17) ونجد علي جدار لمقبرة المدعو (غنوم-حُتب الثاني-(اﻹله غنوم راضياً))(18) حاكم إقليم الوعل، وهو اﻹقليم 16 من أقاليم الوجه القبلي(19)، والمُشرف المسئول عن الصحراء الشرقية في عهد (سنوسرت الثاني خع-خبر-رع (تجلّي اﻹله رع)-(حكم ~1897-1878 ق.م)) نري تصوير ﻷحد هؤلاء الشيوخ يُسمي (أبشا) مع موكب من "العامو"، والعامو هو اللقب الذي أطلقه المصريون علي القادمين من الشرق (اﻷسيويين)، يترأس هذا الموكب الكاتب الملكي (نِفر-حُتب) والذي يحمل بردية كُتب عليها «في العام السادس من حُكم جلالة حورس، مُرشد الأرضين وملك مصر العليا والسفلي (سنوسرت الثاني) أتي ابن أمير الإقليم (غنوم حُتب) بـ37 من العامو (الأسيويين) من أجل إحضار الكُحل.»(20)

صورة منقوله عن جدار مقبرة (غنوم حتب) بـبني حسن بمحافظة إلمنيا، يُصوّر فيها أحد "اﻷسيويين"

ونجد مكتوب في اﻷعلي- المربع اﻷصفر- وصفه بأنه "حاكم الصحراء" و في اﻷسفل -المستطيل اﻷحمر- مكتوب اسمه "إبشا". (II)

(III)

نري في الصوتين (II) و (III) الشيخ (أبشا) يحمل لقب "هِك أو حِق-سيتو"، والتي تعني حاكم الصحراء أو أمير المرتفعات، والتي ستُحرّف إلي هكسوس، يُقدم بين يديه هدية من الوعول المروضة المشهور بها اﻹقليم وخلفه -فيما يبدو- ابنه اﻷكبر يليهما مجموعة تحمل الرماح والأقواس أشبه بـ"الحراس الشخصين" للشيخ وابنه ثم في اﻷسفل من اليمين نرى حماراً عليه طفلين صغيرين ورائهما أربع من النسوة -محتمل زوجات الشيخ- وخلفهم شخص آخر يحمل آلة موسيقية يعزف عليها وعلى ظهرة قربة ماء وفي نهاية الموكب شخص يحمل قوس وبلطة، هذا الوفد اﻵسيوي إمّا أنه كان في "زيارة رسمية" لحاكم اﻹقليم للتبادل التجاري أو أتوا بهم مُجبرين لتقديم فروض الولاء والطاعة في صورة "هدايا" للحاكم، كما يُفهم من الكلام الذي ذُكر علي بردية الكاتب الملكي، وخصوصاً أننا نرى في أعلي شمال الصورة –المستطيل باﻷحمر- مكتوب بالهيروغليفية الرقم 37 وبجانبه شخص يجلس مكتوف اﻷيدي هذا الرمز كان يعني إمّا "أسير" أو "أجنبي" باعتبار أن المصريين هم فقط "اﻷحرار"؛ لكن علي أي اﻷحوال فإن تلك الصورة التي حفظتها اﻷحجار من عهد الدولة الوسطي تدل على "عمق العلاقات التاريخية" بين الجانبين وأنّ دخول هؤلاء اﻷسيويين للوادي كان شيئاً مُعتاداً وأنّهم كانوا على معرفة واطلاع تام بأحوال وعادات ودين المصريين وملوكهم، وأنّ هؤلاء "الهكسوس" لم يكونوا قوماً رعاة مُتخلفين "لا يُعرف لهم أصل" بل تُظهر الصورة -كما يقول (فلندرز بتري)- عكس ذلك، فملابسهم مماثلة لما كان يرتديه المصريون وإن كانت أكثر زخرفة، والأسلحة التي يحملونها لم تكن تختلف عما بأيدي المصريين وإن كان القوس والرمح لم يكون شائعا بها في تلك الفترة، ونعالهم لا تختلف عن نعال المصريين؛ بل وحتي نسائهم بملابسهم الزاهية يرتدون الجوارب؛ هذا كله مؤشر علي أن هؤلاء لم يكونوا بدواً رُحلاً بل كانوا ينتمون لحضار آخري وإن كانت مُختلفة عن حضارة المصريين إلا أنها ليست أقل منها فيما يتعلق بفنون وبطريقة المعيشة، ولهذا فيمكن الاستنتاج أنهم ينتمون لمنطقة أقل جدباً من الصحراء القاحلة للبحر الأحمر، واﻷرجح أن موطنهم اﻷصلي هو منطقة شمال الجزيرة العربية، فوجه الشيخ (أبشا) يظهر بشكل واضح أنّه «سامي ومقارب لوجه البدوي في الوقت الحاضر، فخط اللحية الضيق الذي ينزل من أعلي الفك ليتسع عند جانب الفم ثم يعود يضيق وصولا للذقن، والأنف الطويل المعقوف، وتعابير الملامح العامة كلها صفات مألوفة في الوجه العربي. كما أنّ هذا الأصل السامي يظهر في اسم (أبشا) الذي يوازي اسم (أبيشاي) في العبرية والذي يعني "أبو الهدايا"، ومن المُحتمل أن هذا لم يكن اسم (أبشا) الحقيقي بل وصف أطلقه عليه قومه كنتيجة لمجيئه لمصر وهو يحمل الهدايا أو الخِرَاج للمصريين.»(21) هناك فترة زمنية لا تقل عن 800 عام ما بين زيارة الشيخ (أبشا) لمصر وما بين ظهور (أبيشاي- אבישׁי) اليهودي هذا، وهو ابن أخت (دَاودْ- דוד) النبي وأحد قادته المُخلصين أثناء صراعه مع (شاول־ שׁאול) أول ملوك بني إسرائيل؛ فزيارة (أبشا) للوادي تمت تقريباً في بدايات القرن 19 قبل ميلاد، في حين أنّ (داود) خال (أبيشاي) يُؤرَّخ لوجوده في حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ولذا يجب ألا ينصرف الذهن إلي الربط بين الإثنين واعتبار أن (أبشا) هو اﻵخر يهودي ففي القرن 19 قبل الميلاد لم تكن اليهودية قد نشأت بعد؛ فبالكاد حوالي تلك الفترة كان قد تحرك لتوّه (أبْرَامْ- אברם) الجد اﻷكبر لـ(داود) من أور في العراق لحاران في تركيا بصحبة زوجته (سَارَاي- שׂרי)و أبيه (تارَح (ترَحْ- תרח)) وابن أخيه (لوطْ - לוט) كما يقص علينا سفر التكوين. وفي حاران يموت (تارح)، وبعدها يأمر (يهوه- יהוה) رب (أبرام) بالذهاب ﻷرض "كنعان" بفلسطين فيصدع للأمر ويشد الرحال إليها رغم كبر سنه فقد بلغ حينها الخامسة والسبعين وزوجته كانت قد تخطت الستين بخمس سنين؛ وهناك في كنعان يأتيه وعد (يهوه) بانّه سيورّث نسله اﻷرض الممتدة من موطئ قدميه بكنعان إلي مسقط رأسه بالعراق «سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ.» (تك 15: 18) لكن كيف كان من الممكن أن يتحقق هذا الوعد و (أبرام) شيخاً هرماً بلا ذرية و (ساراي) عجوز عقيم؟! فكّرت (ساراي) في اﻷمر واﻷمل يراودها خصوصاً أن زوجها لم يكن قد تجاوز بعد الـ85 ربيعاً ورأت أن تدفع له بعبدتها المصرية التي تُسمي (هَاجَرْ-הגר) ليدخل بها لعل وعسى تحمل بولد يرثه من بعده؛ ولم يَخيبْ رجائها وسرعان ما حملت (هاجر) بـ(إسماعيل- (يشْمَعَالْ–ישׁמעאל))(22) لكنّها بعد أنْ حملت بـ"وليّ العهد" تغيرت مُعاملتها لسيدتها وتاج رأسها، فغضبت (ساراي) واشتكت لـ (أبرام) من تلك العبدة الناكرة للجميل فما كان مِنهُ إلا أن قال لها ««هَا هِيَ جَارِيَتُكِ تَحْتَ تَصَرُّفِكِ، فَافْعَلِي بِهَا مَا يَحْلُو لَكِ». فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهَا.» (تك 16: 6) سترجع (هاجر) مرة ثانية لـ(ساراي) بعد أن يظهر لها ملاك (يهوه) ويأمرها بالعودة لمولاتها والخضوع ﻷوامرها؛ غضب (ساراي) اتجاه هاجر وابنها لم يرق لـ(أبرام) فـ(إسماعيل) هو وليده الوحيد لكنّه لم يكن ليستطع أن يرفض طلباً أو أمراً لزوجته التي -يبدو- أنها كانت تعلم أنه بعد 15 عام من ولادة (إسماعيل)-وحينها ستكون بنت التسعين- سينبض في أحشائها أولي نبضات قلب (إسحاق-(يصْحَقْ(يتْسَحَاقْ) יצחק بمعني "هو يضحك" أو "الضاحك") وسيعقد (يهوه) عهداً بينه وبين (إبرام) هذا العهد الذي سيأخذ شكل عملي وهو الختان، وسيُبدّل اسم كُلاً من الزوجين تعبيراً عن بدأ مرحلة جديدة، فاسم (أبرام) والذي قد يعني "أب جليل" سيصبح (إبراهيم-(أبْرَاهَامْ-אברהם)) بمعني "أب لكثيرين"، وإذا كان المُترجم من المولعين بالمبالغة والتضخيم سيترجمها إلي " أب اﻷمم"، أمّا لو كان المترجم مصرياً عبيطاً فالترجمة غالباً ستكون "أبو الدُّنيا". أمّا(ساراي)(23) فسيتبدّل اسمها إلي (سارة – שׂרה) بمعني "أميرة" فبعد أن كانت أميرة قومها فقط أصبحت الآن أميرة الدُنيا كلها؛ وكان لـ(سارة) اسم آخر تُعرف به هو (يسكة أو إسكه -(سَكَه-שׂכה)) وهو لفظ آرامي يعني الذي ينظر ويراقب أو الرائية أو العرّافة وهذا الاسم -أو اللقب- أخذته من قدرتها علي التنبؤ ورؤية "المستخبي والمستور"، ويُقال أيضاً أنّه قد أُطلق عليها بسبب أنّ كل مَنْ يراها كان لا يستطيع رفع عينيه عنها لجمالها الساحر الأخَّاذ حتي بدت كُل النساء أمام جمالها كالقردة (24) والخنازير.

(IV)

عند مجئ البشارة بقدوم "الوريث" سيضحك (إبراهيم) و(سارة) من كيف لإمرأة بلغت التسعين تحمل من رجل علي وشك أن يكسر حاجز المائة من السنين، وحين تتحقق المعجزة يخرج (إسحاق) من رحم أمه ضاحكاً هو اﻵخر لكن هذه المرة يضحك من أنّ بنت التسعين قد أنجبته وابن المائة هو أبوه ووالده. ويبدأ بعدها ما يكون عادة بين "الضراير" فلم تغفر (سارة) لـ(هاجر) أنها تناست كونها جاريتها واعتقدت حين أنجبت (إسماعيل) أنها أصبحت رأساً برأس سيدتها، فتجد الفرصة يوماً حين تري "إسماعيل بن الجارية" يسخر من ابنها، فتثور ثائرتها وتقول لـ(إبراهيم) بنبرة آمرة صارمة «اطْرُدْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، فَإِنَّ ابْنَ الْجَارِيَةِ لَنْ يَرِثَ مَعَ ابْنِي إِسْحقَ»(تك 21: 1) وإن كان إبراهيم لم يتقبل فكرة طرد ابنه وجاريته إلا أنه لم يُبد اعتراضاً وامتثل لكلامها خصوصاً بعد أن جاءه اﻷمر بأن يسمع لكل ما تقوله (سارة) فـ(إسحاق) هو فقط "الوريث الشرعي" أما الجارية وابنها فليطمئن فسوف يُخرِج (يهوه) «مِنِ ابْنِ الْجَارِيَةِ أُمَّةً أَيْضاً لأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ»(تك 21: 13)

لعل المعجزة الحقيقة في قصة (إبراهيم) و(سارة) -تبعاً للرواية التوراتية- ليس في أن تُنجب وهي بنت التسعين بل أن تظل مُحتفظة بجمالها حتي يُفتتن بها الرجال و يضطر (إبراهيم) إلي القول عنها أنها أخته كيلا يقتلوه طمعاً في الحصول عليها ورغبة منه في أن يأتي من وراء جمالها منفعة حين يعرف الطامعون أنها "مُتاحة". ففي زيارة (إبراهيم) المُفترضة لمصر بصحبة عائلته والتي هبطوا إليها بعد أن حدثت مجاعة بأرض كنعان، طلب (إبراهيم) من (سارة) أن تقول أنها أخته، كانت (سارة) في هذا الوقت تبلغ من العمر 65 عاماً -علي أقل تقدير- ورغم هذا مازالت تحتفظ بجمالها الذي استرعى انتباه المصريين، وحين رآها "رؤساء فرعون" انبهروا بجمالها وأخبروه عنها فقرر ضمها لـ"حريم القصر" فأُخذت إليه وفي المقابل أغدق علي (إبراهيم) بالعطايا «مِنَ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْحَمِيرِ وَالْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ وَالأُتُنِ وَالْجِمَالِ»(تك 12: 16) هذا "الفرعون"، الذي لا نعرف لا اسمه ولا مقر حُكمه وفي الغالب لم يكن فرعوناً كما يُصّور وليس إلا حاكماً لمدينة صغيرة أو قرية ، رغم أنّه لم يفعل أي شئ مُشين إلا أنه أُبتلي هو وأهل بيته بالمصائب والبلايا بسبب أنه أخذ أخت (إبراهيم) كما قدمت نفسها، ولمّا علم بحقيقة اﻷمر لم يقتل إبراهيم كما كان يعتقد أن المصريين سيفعلون إن علموا بأنها زوجته؛ بل لامه علي كذبته تلك وأمر حاشيته بأن يُحسنوا معاملته وعاد مُحملاً بالهدايا والعطايا ﻷرض كنعان. فالمعجزة الحقيقة هي أن امرأة تبلغ من العمر 65 عاماً -أو يزيد- مُهاجرة من أقاصي اﻷرض تعيش حياة رعوية ليس فيها أمن ولا استقرار وتلفحها الشمس الحارقة نهاراً ويقرصها البرد والصقيع ليلاً، خارجة من أرض بها مجاعة شديدة ومع هذا كله لم ينشب الزمن مخالبه في قسمات وجهها، ولا أثّر السفر والترحال علي نقاء بشرتها، وما جرؤت أشعة الشمس الحارقة أنْ تُسوّد بياض سحنتها، وبدل أنْ يُطفئ قَرْصُ البرد والصقيع بهاء ولمعان عينيها زادهما سحر وفتّنة، واستحت المجاعة أن تُظهر عظام هيكلها أو أن تزيل بعضاً من استدارات جسمها اﻷنثوية. هذه هي المعجزة فعلاً!

يمكننا أن نأخذ من قدوم "العائلة المُقدسة" -إبراهيم وعائلته- بسبب المجاعة، ومن الزيارة الرسمية لوفد الشيخ (أبشا) تحت مُسمي التجارة مؤشر على أنه كانت هناك حركة تدفق بشري دخولاً وخروجاً من مصر، ولم يكن اﻷمر -قبل 4000 عام- كما قد يتخيل البعض عن ممالك هذا العصر أنها كانت جُزر معزولة لا يكاد يربطها رابط إلا خيط واهن من التبادل التجاري الهامشي المحدود؛ فالوضع قديماً كان لا يختلف كثيراً عما نُعاصره اليوم إذا استثنيا السرعة الكبيرة في وقتنا الحاضر التي تتحرك وتنتقل بها اﻷفكار واﻷخبار واﻷشخاص والبضائع والتي بلا شك أوجدت تعقيدات ومُتغيرات جديدة لم تكن موجودة بالماضي. حركة التدفق البشري هذه كان ورائها نفس اﻷسباب التي نُعايشها؛ فهي إمّا كانت نتاج أسباب متعلقة بالتغيرات المناخية والبيئية والتي تؤدي للقحط والمجاعات واﻷوبئة التي تدفع بساكني تلك المناطق المنكوبة للتحرك نحو مناطق أكثر خصباً وأقل خطراً، أو نتيجة للصراعات السياسية والحروب فنُشاهد موجات من الهجرة الخارجة من مناطق الحرب والصراع نحو مناطق مجاورة أكثر استقراراً وأمناً، أو كانت تحدث بحثاً عن فرصة أفضل للمعيشة وحياة أكثر رغداً سواء كان الباحثون هؤلاء أفراد أو جماعات، أو هي ناتجة عن صعود قوة عسكرية مُنظمة في مقابل انحلال وتفكك قوة آخري والتي تدفع القوة اﻷولي، والتي قد تؤمن بأفكار جديدة مُختلفة ترغب في نشرها أو تسعي لتعظيم قوتها العسكرية، فتتحرك لامتلاك مصادر وثروات وأراضي القوة الثانية. علي أنّ هذا التدفق البشري لم يكن "سداح مداح" بلا حاكم أو سيطرة بل كانت هناك وسائل لكبحه ومنعه أو ضبطه وتنظيمه؛ ومن أقدم الوسائل الفعّالة لهذا الغرض كان إنشاء اﻷسوار والجُدُر والقلاع حول المُدن وفي المناطق الحدودية وأقاصي مناطق النفوذ التي تُمثل خط الدفاع اﻷول ونقاط التفتيش والمراقبة واﻹنذار ضد كل ما قد يُمثل خطراً علي الحاكم ومملكته. ولا تزال تلك الوسائل القديمة فعّالة فأمريكا "القوة العظمى" تستخدمها للتحكم وضبط طوفان المهاجرين من الجنوب اللاتيني الفقير إلي الشمال اﻷمريكي الغني ببنائها "سور ترامب العظيم". ولم يكن هذا التدفق البشري كله "شر" بل في أوقات الاستقرار كانوا يشكلون ميزة وقوة اقتصادية؛ فالفرعون يحتاج لجنود مُرتزقة يُثبّت بقوتهم حُكمه ويفرض بطاعتهم سُلطانه، ويحتاج لعبيد وعمال لتنفيذ بناء معابده ومشروعاته القومية التي ستُخلّد ذكره، ويحتاج لمُترجمين وفنيين وموظفين يستطيع أن يتواصل عن طريقهم مع الدول المجاورة لتعميق أواصر التجارة البينية ... إلى آخره.

بدأ (أمنمحات الأول (حكم تقريباً من 1938 ق.م-1908 ق.م)) وأولاده من بعده في وقت الدولة الوسطي بالاهتمام بتحصين مصر من الطوفان البشري الذي تدفق عليها خلال فترة العصر الوسيط اﻷول رغماً عن الحاجز الصحراوي الشاسع الذي يُعتبر كـ "سور" طبيعي لحماية الوادي من الغزوات، وكان من ضمن أهم إنجازات (أمنمحات) كما جاء في تنبؤات (نيفرتي) -المُفَبْركة- أنه أنشئ جُدُر وقلاع مُحصّنة أشهرها سُميت بـ"جُدُر الحاكم" أو "جُدُر اﻷمير" علي حدود الدلتا لحماية مصر من "اﻵسيويين" حيث يقول (نيفرتي) «شخص واحد سوف يبني جُدُر الحاكم كي تمنع الأسيويين من دخول مصر والذين سيتضرعون كمتسولين من أجل الحصول علي الماء لماشيتهم؛ وحينها سيعود النظام لمُستقره بينما ستُطرد الفوضي بعيداً.»(25)

(V)

فوجهت اﻷسرة 12 اهتمامها للعناية بتلك الثكنات والقلاع الحدودية سواء في الشرق في اتجاه سيناء أو كانت تلك الثكنات في الجنوب اتجاه السودان لكن بعدما حدث أزمة التوريث بداية من (اﻷسرة 13) وما أعقبها من الصراع الداخلي علي عرش البلاد أُهملت وهُجرت تلك الجُدُر والتحصينات، ترادف هذا مع موجة كبيرة من الهجرة من الشرق إلي الغرب نحو مصر إثر التقلبات والصراعات في العراق وسوريا وتركيا بدء من حوالي بدايات القرن 20 ق.م ومع الوقت خرجت موجات الهجرة تلك عن السيطرة وأصبح لهؤلاء المُهاجرين وجود قوي على حدود الدلتا وتغلغل وجودهم ببطء إلي داخلها ... لكن قبل أن يختلط المهاجرين بالمصريين ويصعب علينا التمييز بين أبناء البلد "اﻷصليين" والغُزاة "المُحتلين" فلنتوقف عند هذا الحد حتى يأخذ كُلا منهما الفرصة للتعرّف علي اﻵخر ونُكمل -إن شاء الله- المرة القادمة.

*****************************************************************************

(1) الجيش المصري وشعبه (24).

(2) ياقوت الحموي الرومي البغدادي: جغرافي ومؤرخ وأديب من مواليد القرن السادس الهجري من مؤلّفه معجم البلدان ج1.

(3) في قراءة القرآن المُعتمدة في المشرق العربي، وهي قراءة حفص عن عاصم، ترد كلمة "مصر" مُنونة في آية « اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ»(البقرة:61) مما يعني أنها ليست مِصْرَ "أُم الدُّنيا " المقصودة لأن مِصْرَ من الأسماء الممنوعة من الصرف، ويصبح معني مصر في اﻵية هو بلد من البلدان، ويكون "الهبوط" هنا علي سبيل تقديم البديل إن أرادوا أن يجدوا ما يطلبونه أن يدخلوا بلد من البلدان التي يُقابلوها؛ أمّا لو اعتبرنا أن مِصْرَ "أُم الدُّنيا" هي المقصودة في اﻵية وأنها اسم جائز التصريف فلا يكون هذا علي سبيل تقديم البديل ﻷن المُفترض أن موسي وقومه كانوا في "التيه" هرباً من فرعون وجيشه فكيف يكون البديل المُقدّم هو أن يرجعوا إلي مِصْرَ المُطاردين منها؟! بل يكون ذكر الرجوع لمصر كنوع من التوبيخ والتأنيب ومقارنة وتذكير لحالتين؛ حالتهم في مِصْرَ عبودية وذِلة وذبح ﻷبنائهم واسترقاق لنسائهم، وحالتهم بعد أن أنجاهم الله وحرّرهم من كل هذا وأهلك فرعون وجيشه وأنزل عليهم المنّ والسلوي؛ وبدل أن يحمدوه ويشكروه علي ذلك، تجدهم يتذمرون لموسي من "جودة الطعام". ويكون استبدال الّذي هو أدني بالذي هو خير في اﻵية ليس فقط بخصوص الطعام بل أنهم يستبدلون أيضاً الحُرّية والكرامة بالعبودية والذِلة.

(4) هو أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن سليمان زولاق الفقيه الليثي المصري .وقد جاء في كتاب "لسان الميزان" لـ(ابن حجر العسقلاني) أنّ (بن زولاق) «صنّف عدة تواريخ لمصر وفضائلها وقضاتها وأمرائها. وأخذ عن الكندي وتفقه على ابن الحداد وسمع من جمع كثير يُعرف ذلك من تصانيفه وولّي المظالم في أيام الفاطمية ورماه ابن عين الغزال بالكذب، وابن عين الغزال لا أعرفه. وابن زولاق صدوق لا شك فيه لكنه كان يظهر التشيّع للفاطميين، ولا يبعد أنه كان حقيقة فإن ذلك يظهر من تصانيفه التي صنفها قديماً(...) قال ياقوت في معجم الأدباء: كان من علماء مصر ووجوهها(...).»

(5) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، ج1.

(6) .The Jews Of Yemen: Studies In Their History And Culture, Yosef Tobi

(7) .The Jewish War, Flavius Josephus, Translated by Geoffrey Arthur Williamson

(8) نري في الحوار الذي دار بين يسوع الناصري وهو من "اليهود الخُلّص" والمرأة السامرية تلخيص للوضع بين الطرفين فحين يسألها أن تُعطيه شربة ماء تجاوبه مُستغربة: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ»(يو 9:4) وفي موضع آخر تسأله: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!  آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ.»(يو 19:4-20) ويجيبها يسوع بأنّه قد أتي اليوم -بقدومه- الذي لا في معبد جرزيم ولا بمعبد أورشليم يكون السجود الحق للإله«أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ.»(يو 22:4)

(9) الجيش المصري وشعبه (25).

(10) .The History of the Jewish People in the Age of Jesus Christ, Vol.1, Emil Schürer

(11) .Vines Intertwined: A History of Jews and Christians, Leo Duprée Sandgren

(12) .Histoire Des Juifs, Heinrich Grätz, Traduite De L'allemand Par M. Wogue, Tome 2, 1884

(13) .Antiquities of the Jews, Flavius Josephus, Translated By William Whiston

(14) تاريخ مصر من أقدم العصور الى العصر الفارسي، جيمس هنري بريستيد، ترجمة د.حسن كمال.

(15) الجيش المصري وشعبه (23).

(16) Against Apion, Josephus Flavius, Translated By John M. G. Barclay

(17) كانت شبه الجزيرة العربية تُقسّم لثلاث مناطق تبعاً لتضاريسها فالجزء الشمالي كان يُسمي بمنطقة "العربية البترائية(Arabia Petraea)" ومن اسمها "بتراء" الذي يدل على ارتفاع وعورة تضاريسها وكانت هذه المنطقة تشمل اﻷردن وشبه جزيرة سيناء ما عدا الشريط الساحلي، الجنوب من تلك المنطقة كان يُسمي بـمنطقة "العربية المهجورة(الصحراوية)-Arabia Deserta" وهي في غالبها صحراء قاحلة فيما عدا الجزء الجنوبي الخصب الذي سُمي بمنطقة "العربية السعيدة-Arabia Felix".

(18) (غنوم) هو أحد آلهة المصريين القديمة الذي يعني إسمه "المُشكّل" أو "المُصوّر" وكان يُمثّل برأس كبش وجسم رجل، وكانت مركز عبادته في جزيرة إلفانتين بالصعيد وعُرف عنه أنه "الإله-الخالق" فكان يُرسم وهو يجلس أمام عجلة الفخار لكي يُشكل خلقه الجديد من صلصال، هذا الخلق الجديد قد يكون إلهاً أو بشراً أو حيواناً أو نباتاً، و(غنوم) كان مسئولاً أيضاً عن فيضان النيل ولذلك كان يُطلب رضائه ويجري استعطافه في أوقات الجفاف ووصلت أهميته حتي أصبح يُطلق عليه "روح رع".(*)

(*) .The Routledge Dictionary of Egyptian Gods and Goddesses, George Hart

(19)كانت مصر القديمة مُقسمة إدارياً ﻷقاليم أو مُقاطعات أو مُحافظات يختلف عددها من عصر لعصر لكن عموماً التقسيم المعروف هو أنه كان هناك 20 إقليم في الوجه البحري و22 في الوجه القبلي، كل إقليم كان يتخذ راية أو شعاراً لنفسه غالباً يكون مأخوذ من إله أو حيوان يشتهر به اﻹقليم.

(20) .Archaeological Survey Of Egypt, Beni Hasan, Part I., Percy E. Newberry, 1893

(21) . A History of Egypt, Volume I, W. M. Flinders Petrie, 1894

(22) والذي قد يُترجم -بتصرف- لـ"يهوه سميع" فالاسم يتكون من مقطعين "يشمع-ישׁמע" بمعني يسمع و "إل-אל" التي تعني إله بشكل عام وتستخدم للإشارة لـ(يهوه)، ولكن (إل) في اﻷساس هو كبير آلهة الكنعانيين الذين عاش بينهم (أبرام)، ونجده في الكثير من اﻷسماء "السامية" فعلى سبيل المثال نجده في إسم (إلعازر-אלעזר) والتي تعني "قد أعان إل" و (إليشوع-אלי̇שוע) أو (إليشع-אלי̇שע) والذي يعني "إل هو المُخلّص" و (إلنتن-אלנתן) والتي تترجم إلي "قد أعطي إل"(**) وعطية (إل) هذا مختلفة عن (نتنياهو-נתניהו) الذي هو عطية خاصة من (يهوه) للحُاكم العرب المُعاصرين.

(**).A Hebrew And English Lexicon Of The Old Testament, Wilhelm Gesenius

(23) (ساراي) هو إسم ذو أصول أكادية حيث كانت عبادة القمر منتشرة بين بابليون وأور مسقط رأس (أبرام)، فكانت زوجه إله القمر الذي يُسمي (سِنْ-Sin) تُعرف تحت إسم (شارّاتو-Sharratu) والذي يعني "الملكة"، حتي أخت (ساراي) أو (سارّاتو) التي تُسمي (مِلْكَة-מלכה) والذي يعني في العبرية "ملكة"، مأخوذ عن (مالكاتو- Malkatu) بمعنى "أميرة" وهو من ألقاب (عشتار) ابنة إله القمر.(***)

(***) .The Cambridge Ancient History, Vol.1, Egypt and Babylonia to 1500 B.C

(24) .Encyclopaedia Judaica, Volume 8, 2007

(25) .Ancient Egyptian Literature,Volume I ,Miriam Lichtheim

(#) الخرائط وصورتي مقبرة (نفر-حتب) مأخوذة من الكتب التالية:

(I) .أطلس القرآن، د.شوقي أبو خليل

(II) Archaeological Survey Of Egypt, Beni Hasan, Part.I., Percy E. Newberry.

(III) Atlas of Egyptian Art, Prisse d'Avennes.

(IV) Bible Atlas, Zaine Raidling.

(V) The Penguin Historical Atlas of Ancient Egypt, Bill Manley.