هذه هي ترجمة الجزء الثاني من الدراسة التي نشرتها مجلة دار الإسلام تحت عنوان "هجمات علي منهاج النُبوّة" صدر هذا الجزء في العدد الأخير للمجلة العدد 10 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
كما وعدناكم، ها نحن نعود لنُتابع استعراضنا لجواز ومشروعية هجمات باريس في 13 نوفمبر و (سانت-دينيس) أو هجوم بروكسل في 22 مارس 2016. لكن قبل أن نُتابع من حيث انتهينا، لنرى أولاً ردود الأفعال على الجزء الأول لدراستنا.
فمن جانب مُمثلي الإسلام في فرنسا لا يوجد أي شيء إنه العدم، الفراغ التام. ولا واحد استطاع أن يُقدم خطاب ديني مُضاد يستحق أن يُذكر. البعض يُرجع ذلك تحت ذريعة أن هذا حتى لا تكون هناك دعاية للدولة الإسلامية. لنكن صُرحاء مَنْ يعتقد أن الدولة الإسلامية تحتاج لمثل هؤلاء النكرات لتكون تحت دائرة الضوء؟، إنه لا يمر يوم بدون أن يكون جنود الخلافة حول العالم موضوع لعناوين الصُحف. فليجدوا شيء أكثر تصديقا من تلك الحجة الواهية.
قلة نادرة خوفاً من إزعاج ومضايقة عبيديهم المُطعين لم ترد ذكر غياب رد من أئمة فرنسا. و لكن رغم ذلك و على موقع صحيفة "ميدي-ليبر" ظهر مقال: "في مواجهة جماعة الدولة الإسلامية ضرورة وجود رد ديني مدروس". الصحيفة اليومية لاحظت أنه " في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والتي عددت الكثير من المراجع والاستشهادات من القُرآن والأحاديث النبوية والفقه الإسلامي لتُشرع جهادها الدموي. الخُبراء يُصرون على ضرورة ومحدودية وجود خطاب ديني مُضاد ". ثم تنقل الصحيفة عن باحث إسلامي والذي بقراءته لمجلة دار الإسلام يقول: " نأخذ الانطباع أننا أمام أيدلوجية مُشكّلة بشكل جيد، على الأرجح في الجامعات السعودية. تلك الأيديولوجية تعرف المراجع الرئيسية للمذاهب المُختلفة حتى لو عبرت عن تفضيلها للمذهب الوهابي الخاص لابن عبد الوهاب وسابقيه ابن تيمية وابن قيم الجوزية"(1) ... في الجامعات السعودية؟ فعلا؟ هذا تابع آخر لهُراء البحث الجهادي الذي يرى أن الحكومة السعودية المُرتدة من الممكن أن تدعم الدولة الإسلامية، إنه بالكاد يُذكر فقه الجهاد في جامعاتهم.... ثم يُشير في النهاية –بحق – إلى أن: "رد الهيئات الدينية الرسمية فقير تماماً".
الحقيقة أن من يُطلق عليهم الهيئات الرسمية الإسلامية قد فرّت من المواجهة وأن الدولة الإسلامية هي الأقرب والأكثر موافقة للنصوص الدينية منهم، وهذا هو ما دعي الداعية المغربي المُرتد "عبد الوهاب رفيقي (أبو حفص المغربي) -الذي تحول إلى مُكافحة التطرف- لأن يُعلن " أن ما من شيء تفعله داعش إلا وله تأصيل في الفقه الإسلامي، هذه النتيجة لم آخذها من الإعلام أو من أعداء الإسلام، هذا وقفت عليه شخصيا. إن كُل منظومة داعش موجودة في الفقه الإسلامي وفي كتب الدعوة النجدية، ولذلك يجب أن نكون متيقنين أننا إذا أردنا مناظرة أي داعشي وجعلنا كتب الفقه حكما بيننا فإنه بالتأكيد سوف يهزمنا، لذلك يجب انتقاد المنظومة الفقهية التي تعتمدها داعش، بدل الاكتفاء باستنكار ما تفعله داعش"(2). هذه قولة حق! إذا أراد حقاً من نصّبوا أنفسهم مُمثلين للإسلام في فرنسا مُحاربة أيدلوجية الدولة الإسلامية فعليهم مُهاجمة القرآن والسُنّة النبوية ومهاجمة كُتب الفقه الإسلامي. أما مَنْ يستمرون في الزعم –بدون تقديم أي دليل- أن الدولة الإسلامية تُحرّف معني النصوص فيُتابع "عبد الوهاب رفيقي" قوله: " داعش لا تكذب على الفقهاء، ما تعتمد عليه داعش موجود في كُتب الفُقهاء وأديباتهم، لذلك لا بد من انتقاد هذه الأدبيات."(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) htp://www.midilibre.fr/2016/02/11/face-au-groupe-ei-uneriposte-theologique-necessaire-mais-delicate,1285119.php
(2) htp://www.alyaoum24.com/473489.html
(3) المصدر السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2)
أما من جانب الحكومة والساسة الفرنسيين فهم دائماُ أذكى من خَدمهم في الهيئات التي يُقال عنها إسلامية. فهم لم يتوقفوا عن الترويج والدعاية لـ" الإسلام الفرنسي" مُستندة على مراجعها الخاصة من أجل أن تتحرر من قيود المنظومة الفقهية التقليدية. ونورد على سبيل المثال ما صرح به "آلان جوبيه" " إذا اعتبرنا أن الإسلام غير متوافق مع الجمهورية فهذا يعني الحرب الأهلية […] يجب أن تكون هناك قراءة للقُرآن وممارسة للدين الإسلامي متوافقة مع قوانين الجمهورية ومع كُل قيمنا بما فيها المساواة بين الرجل والمرأة."، المسألة إذاً هي: تفكيك الإسلام داخل الجمهورية وتفسير القُرآن ليس طبقاً لفهم الرسول ﷺ وفهم صحابته ولكن فهم يوافق قوانين الجمهورية الفرنسية.
.هؤلاء هم مُروجي الإسلام في فرنسا (علي اليمين عٌمدة المسجد الكبير بباريس دليل بو بكر بجوار مانويل فالس وزير الداخلية السابق و رئيس الوزراء الفرنسي الحالي)
في مواجهة هذا فأي مُسلم في قلبه ذرة من إيمان لا يملك إلا أن ينتفض ويثور. لكن ما هو موقف غالبية مُسلمي فرنسا ونحن نتكلم بالتأكيد عن المُسلمين وليس عن المُرتدين الديمقراطيين والعلمانيين والذين ينتسبون للإسلام؟ -ببساطة إنهم يرفضون هذا التصور لإسلام فرنسا ويزعمون أنهم يريدون اتباع الإسلام الصحيح كما أُنزل على النبي ﷺ ولكن حين مواجهتهم بفهم الرسول ﷺ وأصحابه وفهم المذاهب الفقهية الأربعة، كما في هذا الدراسة، يُدركون أن هذا غير متوافق تماماً مع طبيعة ونمط معيشتهم ومع رفاهيتهم الشخصية. فماذا يفعلون إذا؟ -الأمر بسيط ايضاً، يقومون باتهام مجاني للدولة الإسلامية بأنها تُفسّر النصوص بشكل خاطئ بدون أن يُقدموا لنا التفسير الصحيح. ينتج عن هذا "إسلام شخصي" كُلاً يُفسره ليُناسب مصالحه وطموحاته وأحلامه الشخصية. بعبارة أخرى، إنهم لا يفعلون شيء، فهم لا يهتمون أن يعرفوا إذا ما كانت الدولة الإسلامية على منهاج النُبوّة أم لا بأكثر من اهتمامهم بمعرفة إذا كان هذا سيضر دعتهم وراحتهم الشخصية. لذلك لا نُصدق حينما نسمع أن أفعال الدولة الإسلامية تُلحق الضرر وتشوه صورة مُسلمي فرنسا.
قبل أن ندخل في صُلب موضوعنا نُذكر ببعض التعريفات التي ذُكرت سابقاً والتي ستقيدنا خلال عرضنا.
-الكافر: هذا الصنف مُقسم لأصناف فرعية:
1.المُعاهد: هو الكافر الذي يتمتع بعهد مع المُسلمين وهذا الصنف مُقسم بدورة لثلاثة أنواع:
أ. الذمّيّ: هو الكافر الذي يعيش في دار الإسلام ويلتزم بدفع الجزية ويخضع لشريعة الله. فهو يتمتع بحماية دمه وماله طالما لم يرتكب عمل ينقض هذا العهد.
ب. المُهادن: هو الكافر الذي يعيش في دار الكُفر لكنه يتمتع باتفاق على وقف الأعمال العدائية بينه وبين المُسلمين. فعلى عكس الذمّيّ فهو لا يخضع لأحكام الإسلام لكنه يلتزم بالامتناع عن إيذاء المُسلمين. فهذا يُعتبر نوع من الهُدنة.
ج. المُستأمن: هو الكافر الذي يتم منحه عقد أمان إما بناءً على طلبه أو بمبادأة من المُسلمين فيستطيع الدخول لدار الإسلام مؤقتاً ويأمن على نفسه خلال تلك الفترة.
2. الحربي: هو الكافر الذي لا يدخل تحت أي من الأصناف والأقسام السابق ذكرها. وكقاعدة لا عصمة لدمه ولا ماله إلا لأولئك الذين أشار إليهم وخصصهم الرسول ﷺ كالنساء والأطفال شريطة توافر شروط مُعينة والتى سنشرحها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3)
وهكذا فمن الطبيعي أن تُطرح مسألة ما هو وضع الكافر في فرنسا؟ بعد ما أثبتناه في الجزء الأول من دراستنا أن: " لا حُرمة للدم إلا للمُسلم أو الكافر المُعَاهد الذي يتمتع بعهد مع المُسلمين (سواء كان عهد ذمة، أو هُدنة أو أن يكون مُستأمن)، أما الكافر الحربي فدمه هدر كما نطق بذلك إجماع عُلماء الإسلام."(1)
قبل الإجابة عن هذا السؤال نذكر قصة مليئة بالعبر والدروس والتي تؤكد أن فهم الدولة الإسلامية موافق تماماً لفهم صحابة رسول الله ﷺ. فبينما كان الرسول ﷺ وصحابته في طريقهم لفتح مكة. جاء العباس بن عبد المُطلب(عم الرسول) –رضي الله عنه- للرسول ﷺ مع أبو سُفيان , الذي كان مازال مُشركاً حتى هذه اللحظة و هي المُناسبة التي فيها أعلن إسلامه, وهذا ما يرويه المؤرخ ابن هشام(توفي-213ه) علي لسان الصحابي العباس –رضي الله عنه : " فلما نزل رسول الله ﷺ مرّ الظّهران، قال العباس بن عبد المطلب: فقُلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، فخرجت عليها. قال: حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله ﷺ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فو الله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله ﷺ وأنا عليها، قالوا عم رسول الله ﷺ على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: من هذا؟ ,وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ﷺ، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء. قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله ﷺ ، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه، قال: قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله ﷺ : اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، قال: فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله ﷺ، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق، فأسلم، قال العباس: قلياي رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"(2)
(4)
من الممكن استخلاص العديد من الدروس من تلك القصة التي بعضها مُتصل بدراستنا الحالية. أولاً، نُشير بأي طريقة فهم العباس بن أبي طالب –رضي الله عنه- أن الطريق الوحيد لإنقاذ قُريش هو أن يوافق الرسول ﷺ على أن يكون هناك عهد أمان بينه وبين المُشركين والذي بدونه: "إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.". أين إذاً حُرمة الدم الإنساني المزعومة دون تمييز والتي يُدافع الدجالون عنها؟
بعد هذا نؤكد على أن فهم العباس هو نفسه فهم عُمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الذي صاح قائلاً حين رؤيته لأبي سُفيان: " الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد"، فهو يُبرر شرعية سفك دماء أبي سفيان بعدم وجود عهد بينه وبين المُسلمين، بالرغم من أنّ أبي سُفيان لم يأتي وهو يحمل السلاح ولكن عُمر لم يذكر غير هذا السبب الذي يمنع قتله.
ثم لنُلاحظ ردة فعل الرسول ﷺ على الطلب المُتكرر لعُمر -رضي الله عنه- لقتل أبي سُفيان. فلو كان فهم عُمر خاطئ لكان الرسول ﷺ قطعاً صحح له فهمه لكنه لم يفعل شيء وبالمثل حينما قال العباس -رضي الله عنه- لأبي سُفيان: " ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك." ففي غياب عهد فقط اعتناق الإسلام هو الذي يعصم دم أبي سُفيان و لم يُصحح الرسول ﷺ للعباس أيضاً ما قاله.
فائدة إضافية: نرى أيضاً خلال هذه الرواية الطلب المُتكرر لعُمر -رضي الله عنه- بقطع رأس أبي سُفيان، بأن قتل الأعداء بقطع رؤوسهم كان شيئاُ عادياً زمن النبي ﷺ، وحينما نتحدث اليوم عن قطع رأس العدو الكافر، يستاء المسلمون ويزعمون أن هذا مُنافي للإسلام، ونرى هنا أن الأمر ليس كذلك.
بعد تلك المُقدمة القصيرة نعود لخرافنا أو بالأحرى خنازيرنا، لأن السؤال عن الخنازير: فما هو وضع كُفار فرنسا؟، بعبارة أخرى هل الكافر الفرنسي ذميّ أو مُهَادن أو مُستَأمن أو حربي؟
نؤكد على التالي : كُفار فرنسا لا يتمتعون بأي عهد مع المُسلمين في الدولة الإسلامية و هم , واقعاً ,كُفار حربيين و الذين ينطبق عليهم كُل القواعد التي نقلناها في الجزء الأول من دراستنا. ونقدم الآن الأدلة التي تُثبت هذا التأكيد.
هل الكافر الفرنسي ذميّ؟
للإجابة عن هذا السؤال سنعود إلى تعريف الذميّ عند فقهاء المُسلمين. فنحن قد ذكرنا أن الذميّ هو: " هو الكافر الذي يعيش في دار الإسلام ويلتزم بدفع الجزية ويخضع لشريعة الله. فهو يتمتع بحماية دمه وماله طالما لم يرتكب عمل ينقض هذا العهد.". فيقول ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ): " ولكن صار - في اصطلاح كثير من الفقهاء - " أهل الذمة " عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله"(1).
من الواضح إذاً أن الكافر الفرنسي ليس ذميّاً. فهو لا يؤدي الجزيّة عند يد وهو صاغر ولا يخضع لشريعة الإسلام. ونحن لا نعرف أي أحد جرؤ على أن قول العكس. إن صفة الذميّ قد تُناسب أكثر مُسلمي فرنسا الذين يعيشون في ذلة ومهانة ويدفعون الضرائب ويخضعون لقوانين الجُمهورية.
هل الكافر الفرنسي مُهَادن؟
وبنفس الطريقة، لنرجع إلى تعريف المُهَادن , فقد بيّنّا في الجزء الأول من عرضنا أن المُهَادن هو : " هو الكافر الذي يعيش في دار الكُفر لكنه يتمتع باتفاق علي وقف الأعمال العدائية بينه و بين المُسلمين. فعلي عكس الذمّيّ فهو لا يخضع لأحكام الإسلام لكنه يلتزم بالامتناع عن إيذاء المُسلمين. فهذا يُعتبر نوع من الهُدنة." . و يقول بن قيم الجوزية(توفي-751هـ) : " بخلاف أهل الهُدنة، فإنهم صالحوا المُسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصُلح على مال، أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمّة، لكن عليهم الكف عن محُاربة المُسلمين."(2).
في ضوء هذا التعريف نستطيع أن نُلاحظ الآتي: أن مبدأ وجود هُدنة يتضمن وجود طرفين في حالة حرب مفتوحة واللذان يرغبان في وقف الأعمال العدائية مؤقتاً، وبما أن فرنسا لا تدّعي بأنها في حالة حرب مع المُسلمين فكيف إذاً يمكن أن توقع عقد هُدنة معهم؟، حتى لو أرادت فمع مَنْ يمكنها توقيع هذه الهُدنة بما أنه ولا دولة ممن تدّعي الإسلام تعتبر نفسها في حرب مع فرنسا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قيم الجوزية أحكام أهل الذمّة ج2 صفحة874.
(2) المصدر السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5)
الشُبهة الأولى:
بعض الدجالين يزعمون أن بين فرنسا والمُسلمين هُدنة لأن الدول المُسلمة وقعت على مُعاهدات سلام الأمم المتحدة وغيرها من الكيانات الكُفرية، وبالتالي فيجب اعتبار كُل مواطن فرنسي كمُهَادن.
دحض هذه الشُبهة:
بُطلان تلك الحٌجة يظهر من عدة زوايا:
الهُدّنة: هي عقد، وكما كُل العقود فإن له شُروط التي إن لم يتم احترامها تؤدي لإلغاء وإبطال العقد. هذه الشروط تم ذكرها في شرح مُختصر خليل –أحد مراجع المذهب المالكي- بتلك الألفاظ: " الحاصل أن المهادنة لا تجوز إلا بشروط أربعة: الأول أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه. الثاني أن يكون لمصلحة. الثالث أن يخلو عقدها عن شرط فاسد. الرابع أن تكون مدتها معينة يعينها الإمام باجتهاده وندب ألا تزيد على أربعة أشهر"(1)، هذه الشروط –كما سنرى- هي نفسها عند مُعظم عُلماء مذاهب الفقه الأربعة. لندرس لذلك هذه الشروط لنرى إذا تم احترام تلك الشروط أم لا بين الدول التي تُطلق على نفسها مُسلمة وبين الدول الكافرة.
الشرط الأول:
مَنْ يعقد هذه الهُدنة هو الإمام أو من ينوب عنه. هذا الشرط من الشروط اللازمة عند مُعظم فقهاء المُسلمين من المذاهب الفقهية المالكية (والتي نقلناها) والشافعية والحنبلية. فيقول في شرح مُختصر خليل: " الحاصل أن المهادنة لا تجوز إلا بشروط أربعة: الأول أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه."(2).
وقال أبو اسحاق الشيرازي (شافعي توفي-476هـ): "لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام لأنه لو جُعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يُهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم فيعظُم الضرر"(3).
والإمام ابن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ) يقول: "ولا يجوز عقدها إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين، فلم يجز لغيرهما، كعقد الذمة."(4)
فقط المذهب الحنفي لا يشترط لعقد الهُدنة إذن الإمام، فيقول علاء الدين الكاساني (حنفي توفي-587هـ): "ولا يشترط إذن الإمام بالموادعة، حتى لو وادعهم الإمام، أو فريق من المُسلمين من غير إذن الإمام جازت موادعتهم؛ لأن المُعَوّل عليه كون عقد الموادعة مصلحة للمُسلمين"(5).
مع ذلك هذا الرأي هو رأي الأقلية وقد بيّن آخرون من الحنفية الحالة التي لا يؤثر فيها هذا الشرط على صحة العقد فبشكل عام عندما لا يكون لدي المُسلمين الوقت للعودة للإمام أو في حالة عدم رغبتهم في أن يفقدوا الفرصة للحصول على مصلحة مُهمة. فيقول أبو بكر الجصاص (حنفي توفي-370هـ): "إذا قدر بعض أهل الثُغور على قتال العدو ومُقاومتهم لم تجز لهم مُسالمتهم ولا يجوز لهم إقرارهم على الكُفر إلا بالجزية وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم متسالمتهم"(6).، وهكذا فتبعا للحنفية من المُمكن لمجموعة من الجنود (أهل الثغور) في مكان مُحدد أن تعقد هُدنة بدون الرجوع للإمام في حالة عدم قدرتهم على قتال أعدائهم.
الآن. هل تم استيفاء هذا الشرط بين الدول التي تُطلق على نفسها مُسلمة وبين الدول الكافرة؟
الإجابة بالتأكيد: لا، طبعاً كل قادة تلك الدول المُسماة مُسلمة هم حُكام ولكن ليس لديهم أي سُلطان علي المُسلمين لأنهم مُرتدون. وبما أنه من المعروف أنه لا ولاية لكافر على مُسلم فلا داعي للاستطراد على كُفر الحُكام الذين لا يُطبقون الشريعة لأن هذه المسالة مُسلّمة من مُسلّمات الإسلام، يكفي فقط أن نذكر أنهم طواغيت وضعوا أنفسهم في مساواة الله وأعطوا لأنفسهم الحق لتشريع قوانين تُخالف الشريعة الإسلامية، ولذلك فكُفرهم ليس موضع نقاش.
سنكتفي إذاً بتقديم الأدلة على بُطلان ولاية الكافر على المُسلم من أجل إظهار أن حُكام الدول التي يقال عنها مُسلمة لا يُعتبرون كأئمة شرعيين وبالتالي فليس لديهم أي حق في عقد هُدنة مع الكُفار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد الدسوقي حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير ج2 صفحة206.
(2) المصدر السابق.
(3) أبو اسحاق الشيرازي المُهذب في فقه الإمام الشافعي ج3 صفحة322.
(4) ابن قُدامة المقدسي الكافي في فقه الإمام أحمد ج4 صفحة166.
(5) علاء الدين الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج7 صفحة109.
(6) أبو بكر الجصاص أحكام القرآن ج4 صفحة255.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6)
الأدلة من القُرآن:
قال الله سُبحانه وتعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء:59)، هذه الآية تُثبت أن أُولي الأمر الواجب على المًسلمين طاعتهم يجب ان يكونوا مُسلمين لأن الله قال: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وبما أن الكافر ليس جُزءً من المُسلمين فهم بالتالي لا يجب عليهم طاعته.
قال الله سُبحانه و تعالي : ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾(النساء:141) , يقول علاء الدين الكاساني(حنفي توفي-587هـ) بخصوص هذه الآية : " ولأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم لأن الشرع قطع ولاية الكافر على المسلمين قال الله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾(النساء:141) وقال - صلى الله عليه وسلم - :"الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة الكافر وهذا لا يجوز"(1).
وقال الله سُبحانه وتعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عُمران:118)، ويقول القُرطبي (مالكي توفي-671ه) في تفسيره هذه الآية: "وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذمياً فكتب إليه عمر يُعنفه وتلا عليه هذه الآية. وقدم أبو موسى الأشعري على عمر -رضي الله عنهما- بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد. فقال لم! أجنب هو؟ قال: إنه نصراني، فانتهره وقال: لا تُدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تُكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خوّنهم الله. وعن عمر -رضي الله عنه- قال: لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى. وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين. فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم. قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء."(2). فإن كان لا يجوز أخذ الكُفار ككتبة وأُمناء فكيف يمكن جعلهم حُكاماً وأئمة للمُسلمين؟
ب.الأدلة من السُنّة:
يروي الإمام الدارقطني(توفي-385هـ) عن عائذ بن عمرو أن الرسول ﷺ قال: " الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه"(3)، ويعلق الإمام بن مُفلح علي هذا الحديث بقوله: " وقال: " الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه" وقد مُنعوا من تعلية بنائهم على المُسلمين فكيف إذا كانوا ولاة على المسلمين فيما يُقبض منهم ويُصرف إليهم وفيما يؤمرون به من الأمور المالية ويُقبل خبرهم في ذلك فيكونون هم الآمرين الشاهدين عليهم؟ هذا من أعظم ما يكون من مُخالفة أمر الله ورسوله."(4).
ويروي الإمام مُسلم عن عُبادة بن الصامت: " دعانا رسول الله ﷺ، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، " أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا، وأثرة علينا، وألا نُنازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان "(5).
وقال القاضي عياض (مالكي توفي-544هـ) عن هذا الحديث: " فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حُكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المُبتدع"(6)
ج. الأدلة من اجماع العُلماء:
بالإضافة إلى الآيات والأحاديث فقد نقل العُلماء عن الإجماع في أنه لا يمكن أن يكون الكافر إماماً للمُسلمين، فالقاضي عياض (مالكي توفي544هـ) قال: " أجمع العُلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكُفر انعزل"(7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علاء الدين الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج2 صفحة239.
(2) أبو عبد الله القُرطبي الجامع لأحكام القرآن ج4 صفحة179.
(3) أبو الحسن الدارقطني سُنن أبي داود حديث رقم3620.
(4) مُحمد بن مُفلح الآداب الشرعية والمنح المرعية ج2 صفحة477.
(5) مُسلم بن الحجاج صحيح مُسلم حديث رقم3433.
(6) أبو زكريا النووي شرح النووي على صحيح مُسلم ج12 صفحة229.
(7) المصدر السابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7)
-الإمام ابن المُنذر(توفي-318هـ) قال: " أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مُسلم بحال"(1).
-يروي ابن حزم الظاهري (ظاهري توفي-456هـ): " واتفقوا أن الامامة لا تجوز لامرأة ولا لكافر ولا لصبي لم يبلغ وأنه لا يجوز ان يُعقد لمجنون."(2)
-قال ابن حجر العسقلاني (شافعي توفي-852هــ): " أنه ينعزل (الإمام) بالكفر إجماعاً فيجب على كل مًسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب ومن داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض"(3).
هكذا فيظهر واضحاً جلياً أن الحاكم الكافر لا يُعتبر إماماً شرعياً في الإسلام، وكل عقد أو مُعاهدة يوقعها ليس لها أي قيمة بالنسبة للمُسلمين. وفي حالتنا فكون حُكام الدول التي تُسمي نفسها مُسلمة كُفار فهم بالتالي ليسوا أئمة شرعيين للمُسلمين فيكون هكذا الشرط الأول لصحة عقد الهُدنة لم يتم استيفاؤه، فليس على المُسلمين إذاً أن يحترموا تلك المُعاهدات واتفاقيات السلام التي وقعوها مع الدول الكافرة.
الشرط الثاني:
أن تكون هناك مصلحة وفائدة تعود على المسلمين في توقيع تلك الهُدنة أو اتفاقية السلام. وهذا الشرط لا خلاف فيه بين كُل فقهاء المذاهب الإسلامية من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة.
فيقول عبد الله الموصلي (حنفي توفي-683هـ): " والمعتبر في ذلك (الهُدنة) مصلحة الإسلام والمسلمين، فيجوز عند وجود المصلحة دون عدمها "(4).، وهذا يؤكد ما نقلناه عن علاء الدين الكاساني (حنفي توفي-587هـ) سابقا الذي قال عن موضوع الهُدنة: " لأن المعول عليه كون عقد الموادعة مصلحة"(5).
وفي شرح مُختصر خليل – أحد مراجع المالكية- نقرأ أنه من ضمن شُروط الهُدنة: "(الشرط) الثاني أن يكون لمصلحة"(6).، قال أبو إسحاق الشيرازي (شافعي توفي-476هـ): " فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ﴾ (محمد: 35)"(7). ,فضلاً عن هذا فالإمام الشافعي(توفي-204ه) قال: " لم يجز أن يُهادن إلا على النظر للمُسلمين "(8).
الخليفة الشرعي أبو بكر البغدادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قيم الجوزية أحكام أهل الذمّة ج2 صفحة787.
(2) ابن حزم الظاهري مراتب الإجماع صفحة126.
(3) ابن حجر العسقلاني فتح الباري في شرح صحيح البُخاري ج13 صفحة123.
(4) عبد الله الموصلي الاختيار لتعليل المُختار ج4 صفحة121.
(5) علاء الدين الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج7 صفحة109.
(6) محمد الدسوقي حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير ج2 صفحة206.
(7) أبو اسحاق الشيرازي المُهذب في فقه الإمام الشافعي ج3 صفحة322.
(8) مُحمد الشافعي الأُم ج4 صفحة200.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8)
وابن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ) قال: "باب الهدنة ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين، وتحصيل المصلحة لهم، لقول الله تعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ (محمد: 35)؛ ولأن هُدنتهم من غير حاجة، ترك للجهاد الواجب لغير فائدة"(1).
هل تم استيفاء هذا الشرط في مُعاهدات السلام بين الدول التي تُطلق على نفسها مُسلمة وبين الدول الكافرة؟
الإجابة –مرة أخرى- بالتأكيد لا، فحينما نتأمل في أقوال عُلماء المُسلمين نرى أنه من الواضح أن المصلحة الأولي لعقد هُدنة مع الكُفار هو حفظ دماء المُسلمين الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. لكن من الصعب رؤية مصلحة للمُسلمين حينما نشُاهد المذابح التي ترتكبها الدول الغربية في حق المُسلمين. فكُل تلك المُعاهدات ليس لها إلا هدف واحد هو قتل المُسلمين ونهب والاستيلاء على ثرواتهم بدون أن يكون لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم. ألم تلاحظوا أنه كُلما قامت مجموعة من المُسلمين بعملية جهادية على أراضي الكفار يُسارع الأئمة المنافقون في ذكر واجب احترام اتفاقيات ومُعاهدات السلام، بينما حينما تقوم تلك الدول الكافر بقصف ونهب أراضي المُسلمين لا يتكلمون أبداً عن تلك الاتفاقيات كما لو أن تلك الاتفاقيات لا تعني إلا ما قُلناه وهذا هو الواقع فعلاً.
بالإضافة لذلك ومن خلال دراسة أقوال العُلماء يتبيّن أن المصلحة الأولي التي تُبتغي من الهُدنة وهو إعطاء الوقت للمسلمين للاستعداد وتعزيز قوتهم للقتال عندما يكونون في حالة ضعف. فيقول علاء الدين الكاساني (حنفي توفي-587هـ) عن الهُدنة: " فلا تجوز عند عدم الضرورة؛ لأن الموادعة ترك القتال المفروض، فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال؛ لأنها حينئذ تكون قتالاً معنى قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ (محمد: 35)."(2).
فتلك المٌعاهدات الموقعة بين الدول التي تزعم الإسلام وبين الدول الكافرة لا تسمح للمسلمين إمكانية زيادة قُدراتهم العسكرية. فالمُسلمين ليس لهم الحق لتطوير الأسلحة وإذا صنعوها فستهاجمهم الدول الكافرة تحت دعوى امتلاك أسلحة دمار شامل. فكُل شيء تصنعه القوى الغربية لكي تبقى الدول المُسلمة في حالة ضعف. إن الأسلحة التي تمتلكها الدول التي تدعي الإسلام إما أسلحة عفي عليها الزمن أو هي في أيدي مُرتزقة لتلك القوى الغربية. إضافة إلى أن الكُفار لا يخافون من أن تُهاجمهم تلك الدول لأنهم يعرفون أن حُكامها لا يستخدمون هذه الاسلحة إلا في مواجهة شعوبهم. ونضيف لذلك أن مُعاهداتهم غير محدودة المدة وموقعة تحت اسم علاقات الود والصداقة بعيداً تماماً عن مفهوم الجهاد والبراءة من الكُفار. إن ضعف المُسلمين ليس ناشئ عن قلة عددهم أو عُدتهم ولكنه ناشئ عن جهلهم بدينهم وعقيدتهم وإهمال تطبيقه. الرسول ﷺ قال: " يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت"(3). ورُوي أيضاً عنه أنه قال: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(4). لقد أثبتت الدولة الإسلامية هذا بإنجازها في سنتين ما عجز عن انجازه أي حكام مُرتد في عشرات السنوات من الهُدنة المزعومة. فقد أعادت الخلافة، و دربت آلاف المُسلمين على المعارك، و اعادت الأمة المُسلمة إلى الجهاد، وهدمت الحدود المُصطنعة التي صنعها المُحتلين. واجهت وتواجه أكبر تحالف كُفري عرفه التاريخ.
على أية حال، فالمصلحة الأولي التي تُبتغي من الهُدنة هو تجميع القوي للعودة للجهاد لا يُمكن بأي حال الوصول لها بمُعاهداتهم بل والأسوأ تلك المُعاهدات تؤدي لإلغاء الجهاد بالكلية وتُبقي المُسلمين في وضعهم المُذل المُخزي. فيقول الكمال بن الهُمام (حنفي توفي-861هـ): " إذا لم تكن الموادعة أو المدة المسماة خيراً للمسلمين فإنه لا يجوز، لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى وما أُبيح إلا باعتبار أنه جهاد، وذلك إنما يتحقق إذا كان خيرا للمُسلمين"(5). هذا مُغاير تماماً لفقه الجُبناء لمُمثلي الإسلام في فرنسا وغيرهم الذين يسقونه للمُسلمين ليل نهار. فدافع للهُدنة ليس هو نوع من الأخوة أو الرغبة في التقارب بين الشعوب. وليست هي مظهر من مظاهر السلام العالمي التي يتوق لها الإسلام. كلا! هي فقط تسمح للمُسلمين بأن يلتقطوا أنفاسهم ليهاجموا الكُفار بعد ذلك بشكل أفضل. لكن هذا لا يُعجب الدجالين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قُدامة المقدسي الكافي في فقه الإمام أحمد ج4 صفحة166.
(2) علاء الدين الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج7 صفحة108.
(3) أبو داود السجستاني سُنن أبي داود حديث رقم4297.
(4) المصدر السابق حديث رقم3462.
(5) الكامل بن الهُمام فتح القدير ج5 صفحة456.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9)
ولهذا قال أبو بكر السرخسي (حنفي توفي-490هـ): " وإن لم يكن بالمسلمين قوة عليهم فلا بأس بالموادعة. لأن الموادعة خير للمسلمين في هذه الحالة، وقد قال عز وجل: ﴿َإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (الأنفال: 61) ولأن هذا من تدبير القتال، فإن على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولا"(1). وقال ابن المُنذر النيسابوري(توفي-318هـ): " فللإمام أن يصالح أهل الشرك على جهة النظر لأهل الإسلام كما صالح النبي ﷺ قريشاً وذلك إذا كثر العدو، واشتدت شوكتهم لكثرة عددهم، وقلة من ناوأهم من المًسلمين إلى مدة معلومة. ولا يجوز أن يصالحهم إلى غير مدة، لأن في ذلك ترك قتال المشركين، وذلك غير جائز"(2).، فحينما نرى أن التحالف الدولي بشق الأنفس يستطيع الوصول لهدفه في مُقابل مجموعة صغيرة من المُسلمين تحت حُكم الخلافة يُصبح واضحاً أن المُشكلة ليست لا في قوة الكُفار ولا في كثرة عددهم بل المُشكلة هي في جُبن هؤلاء الذين يُدّعون بالمسلمين مع تركهم للجهاد.
ويقول ابن قُدامة لمقدسي (حنبلي توفي-620هـ): "ولأنه قد يكون بالمُسلمين ضعف، فيُهادنهم حتى يقوى المسلمون. ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمُسلمين؛ إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح. إذا ثبت هذا، فإنه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية."(3). فمن المنافع التي تُبتغي في الهًدنة هو الطمع وتوقع أن في مُهادنة الكُفار قد يدفعهم لاعتناق الإسلام أو دفع الجزية. فلتسألوا قادة الدول الكافرة هل فكروا في ذلك ولو للحظة، سيضحكون ويهزؤون منكم. ومن ثم فالمعاهدات التي وقعتها الدول المُرتدة مع الدول الكافرة لا تحمل أي مصلحة وفائدة للمُسلمين بل على العكس فهي مصدر للكثير من المصائب كإلغاء الجهاد وبقاء المُسلمين في عبودية تامة للكُفار. وهكذا لم يتم استيفاء واحترام الشرط الثاني.
الشرط الثالث:
ألا يحتوي عقد الهُدنة على أي شرط فاسد. فلا يوجد أي خلاف بين العُلماء لبطلان الشرط الفاسد ولكنهم اختلفوا في بُطلان العقد ككُل في حال وجوده. وتعتبر جمهرة العُلماء أن هذا يُلغي العقد ويُبطله. فنقرأ في شرح مُختصر خليل: "(الشرط) الثالث أن يخلو عقدها (الهُدنة) عن شرط فاسد وإلا لم يجز كشرط بقاء مسلم أسيرا بأيديهم"(4). والإمام النووي (شافعي توفي-676هـ) قال بخصوص شروط الهُدنة: " (الشرط) الثالث: أن يخلو عن الشروط الفاسدة، فإن عقدها على ألا ينتزع أسرى المسلمين منهم […] وإذا جرى في المهادنة شرط فاسد، فسد به العقد على الصحيح"(5).
وقال الإمام ابن قُدامة (حنبلي توفي-620هـ): " الثاني، شرط فاسد، مثل أن يشترط رد النساء […] فهذه كلها شروط فاسدة، لا يجوز الوفاء بها. وهل يفسد العقد بها على وجهين."(6).
هل تم استيفاء واحترام هذا الشرط في مُعاهدات السلام بين الدول التي تُطلق على نفسها مُسلمة وبين الدول الكافرة؟
الإجابة هي: كلا لم يتم احترامه. ويطلق العُلماء "شرط فاسد " على كُل شرط قد يتعارض مع قاعدة من قواعد الإسلام كترك واجب ديني أو ارتكاب مُحرّم، ويضرب عُلماء الدين الكثير من الأمثلة عن الشروط الفاسدة كما سنرى.
فيقول أحمد الدردير (مالكي توفي-1201هـ) في شرحه مُختصر خليل: " إن خلت بالتأنيث عن شرط فاسد فإن لم تخل عنه لم تجز كشرط بقاء مسلم أسر تحت أيديهم أو قرية لنا خالية لهم أو شرط حكم بين مسلم وكافر بحكمهم."(7). وقال الإمام النووي (شافعي توفي-676هـ): " الثالث: أن يخلو عن الشروط الفاسدة، فإن عقدها على ألا ينتزع أسرى المسلمين منهم، أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه، وأفلت منهم، أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم، فهذه شروط فاسدة، وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل من دينار، أو على أن يقيموا بالحجاز، أو يدخلوا الحرم، أو يظهروا الخمور في دارنا، أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات."(8). فحينما نعلم أن تلك الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول تخضع لميثاق الأمم المتحدة نُدرك على الفور أنها لا يمكن أن تحتوي إلا شروط فاسدة والتي تُعارض الشريعة الإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو بكر السرخسي شرح السّير الكبير صفحة1689.
(2) ابن المُنذر النيسابوري الإقناع ج2 صفحة498.
(3) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة297.
(4) مُحمد الخراشي شرح مُختصر خليل للخراشي ج3 صفحة150.
(5) أبو زكريا النووي روضّة الطالبين و عُمدة المُفتين ج10 صفحة334-335.
(6) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة302.
(7) محمد الدسوقي حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير ج2 صفحة206.
(8) ابو زكريا النووي روضّة الطالبين وعُمدة المُفتين ج10 صفحة334-335..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10)
فتلك الاتفاقيات تنص على أن الدول الموقعة عليها تحترم سيادة كل دولة وبالتالي فلا تدخل أي دول في الشئون الداخلية للدول الأخرى وهذا يعني أن الدول التي تُسمي مُسلمة تتعهد وتلتزم بعدم تحرير أسراها عند الدول الكافرة. وهكذا وكما يقول العُلماء من المذاهب الفقهية المُختلفة أن التعهد بعدم تحرير أسري المُسلمين من أيديهم هو شرط فاسد. وايضاً تنص تلك الاتفاقيات على أنه في حالة وجود نزاع بين دولتين عضوين فيجب أن يتم الرجوع للأمم المتحدة للفصل بينهما. وهذا يعني أنه إذا تنازعت دولة يُقال عنها مُسلمة ودولة كافرة فسيتم التحاكم إلى قوانين الكُفار وهذا يُمثل شرط آخر فاسد كما قال أحمد الدردير: " أو شرط حكم بين مسلم وكافر بحكمهم"(1).
من جهة أخرى، تلتزم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بعدم تقديم المُساعد للدول التي تفرض عليها عقوبات. وهذا نُص عليه في ميثاقها: " يُقدّم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون إلى "الأمم المتحدة" في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملاً من أعمال المنع أو القمع."(2)، وهكذا فلو فرضت الأمم المتحدة عقوبات على إحدى الدول التي تُسمي مُسلمة فعلي كُل الدول آخري التي تُسمي مُسلمة الالتزام بعدم تقديم أي مُساعدة وهذا يُعد شرط فاسد لأن هذا بخلاف أمر رسول الله ﷺ: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما"(3). وعلى ذلك فلم يتم احترام واستيفاء الشرط الثالث من شروط الهُدنة.
الشرط الرابع:
أن تكون مُدة الهُدنة مُحددة، ولنا نذكره هنا بتفصيل لأنه موضع خلاف بين فقهاء المُسلمين. ومع ذلك فجمهرة عُلماء المالكية والأحناف والحنابلة ترى أنه إن لم تكن الهُدنة مُحددة فلا تكون صحيحة وهذا –مرة آخري- بسبب أن هذا من شأنه أبطال الجهاد بالكُلّية.
فيقول العلامة مُحمد الشوكاني(توفي-1250هـ): " وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقا أو مربدا لكان ذلك مبطلا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح."(4)، وقال شمس الدين الشربيني (شافعي توفي977هـ): " وإطلاق العهد عن ذكر المدة فيه يُفسده أي عقد الهُدنة لاقتضائه التأبيد وهو مُمتنع لمُنافاة مقصوده المصلحة."(5). وقال منصور البهوتي (حنبلي توفي-1051هـ): " وإن أُطلقت الهُدنة أو المدة لم تصح لأنه يُفضي إلى تعطيل الجهاد بالكُلّية"(6). وكما نعرف فكُل اتفاقات السلام الخاضعة للأمم المتحدة ليست محدودة بمدة فيكون الشرط الرابع لم يتم احترامه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد الدسوقي حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير ج2 صفحة206.
(2) htp://www.un.org/fr/sectons/un-charter/chapter-i/index.html
(3) مٌحمد البُخاري صحيح البُخاري حديث رقم2443.
(4) مُحمد الشوكاني السيل الجرار المُتدفق على حدائق الأزهار ج1 صفحة970.
(5) شمس الدين الشربيني مُغني المُحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ج6 صفحة88.
(6) منصور البهوتي شرح مُنتهي الإرادات ج1 صفحة656.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11)
وباختصار لنُنهي هذه النقطة، يواصل مٌمثلي الإسلام المأجورين في فرنسا كذبهم على المُسلمين بجعلهم يعتقدون أنهم يجب أن يحترموا تعاقدات ومعاهدات ليس لها أي قيمة في الشريعة الإسلامية، فاتفاقات السلام تلك لا تستوفي وتحترم الشروط الواجبة للهُدنة وبالتالي فهي باطلة.
2. حتى لو تخيلنا أن هذه الدول هي دول إسلامية و حكامها مُسلمين و أن تلك الاتفاقيات و المُعاهدات استوفت كل شروط صحتها، مَنْ قال أن هُدنتهم تلك تشمل مُسلمي الدولة الإسلامية ؟, واحد من الروايات التي يذكرها عُلماء المُسلمين لإثبات شرعية و جواز الهُدنة مع الكُفار هي ما تخص صُلح الحُديبية والذي نستطيع أن نستخلص منها معلومة مهمة لدحض هذه الشُبهة عن عقد الهُدنة.
فيروي لنا الإمام البُخاري(توفي-256هـ) هذه الواقعة كالتالي : " فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي ﷺ الكاتب فقال النبي ﷺ بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي ﷺ اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي ﷺ والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله -قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المًسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي ﷺ إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبداً قال النبي ﷺ فأجزه لي قال ما أنا بمجيزه لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بل قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذابا شديدا في الله [...] ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مُسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله ﷺ حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى ﷺ قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12)
فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم قال النبي ﷺ ويل أمه مُسعّر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ تُناشدُه بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي ﷺ إليهم"(1).
فائدة إضافية:
في هذه الرواية نُلاحظ أن جماعة أبا بصير هاجمت قوافل قُريش. " فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم". من المهم أن نُشير أن هؤلاء الفرسان هاجموا تلك القوافل المُسافرة لسوريا التي كانت قوافل تُجارية ولم تكن قوافل عسكرية مُحاربة التي قد يَصفوها اليوم بأنهم "مدنيين أبرياء", ومع ذلك فجماعة أبو بصير قتلت كُل الرجال الذين وجدتهم فيها واخذت بضاعتها وأموالها .... لماذا؟، بكُل بساطة لأنهم لم يكن بينهم وبين قُريش أي عهد فدمائهم وأموالهم كانت مُباحة لهم.
فائدة إضافية:
في خلال كُل تلك الفترة التي كان يُهاجم فيها أبو يصير وجماعته قوافل قريش ليقتل رجالها ويغنم أموالها، كان بعض المُسلمين الذين لم يستطيعوا الهجرة إلى المدينة يعيشون بمكة وسط المُشركين والبعض الآخر الذي حاول الهجرة وجدوا أنفسهم قد تم ردهم للمُشركين بناء على طلب ذويهم طبقا لشروط صُلح الحُديبية. وكذلك فالرسول ﷺ لم يبعث أحد ليطلب من أبي بصير وجماعته التوقف عن تلك الأعمال تحت حُجة أن هذا قد يؤذي أو يُعرض المُسلمين الذين يعيشون بين مُشركي مكة للخطر. بل على العكس فقد سُرّ الرسول ﷺ بتلك الهجمات و اثني عليها وحرض علي ان يفعلوا مثل أبا بصير بقوله : " ويل أُمِّه مُسعّر حرب لو كان له أحد" , ويشرح ابن حجر العسقلاني(شافعي توفي-852هـ) هذا التعبير فيقول : " قوله ويلُ أُمِّه بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم لأن الويل الهلاك [...] قوله مِسعَر حرب بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة وبالنصب على التمييز وأصله من مسعر حرب أي يسعرها قال الخطابي كأنه يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها ووقع في رواية بن إسحاق محش بحاء مهملة وشين معجمة وهو بمعنى مسعر وهو العود الذي يحرك به النار. قوله لو كان له أحد أي ينصره ويعاضده ويناصره وفي رواية الأوزاعي لو كان له رجال فلقنها أبو بصير فانطلق وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين ورمز إلى من بلغه ذلك من المُسلمين أن يلحقوا به "(2). ومن المعروف في ذلك الزمن أن المُشركين لم يكن ليتورعوا عن تعذيب المُسلمين ولكن رغم هذا فقد حرض الرسول ﷺ أبا بصير في مواصلة هذا الطريق وافهم المُسلمين المضطهدين في مكة أنه من الصواب والحكمة الإنضمام لأبي بصير في هجماته. وبما أن قُدوتنا هو الرسول ﷺ لذلك نقول للمُسلمين المضطهدين في فرنسا وبلجيكا والولايات المُتحدة أنه من الصواب ولحكمة أن تفعلوا مثلما فعل أميدي كوليبالي، وأبالا لاروسي، والأخوين البكراوي. وسيد فاروق وعمر متين. لماذا اذاً لا يتوقف أئمة فرنسا المتذمرين عن لوم وانتقاد الدولة الإسلامية بأن عملياتها تضر بالمسلمين في فرنسا؟، لأنهم على عكس الرسول ﷺ جُبناء لا يُفكرون إلا في مصالحهم الشخصية وليس لديهم ما يقدموه ويفعلوه لوضع الإسلام والمسلمين في دار الإسلام. ولتروا الفرق بين المنهجين! تخيلوا أن أبا بصير وجماعته الذين لم يتوقفوا عن قتل رجال قُريش وغنم أموالهم فيقول لهم الرسول ﷺ: " ما تفعلونه يضر بصورة الإسلام. أنتم تشوهون سُمعة ديننا دين السلام". هؤلاء لن يخرجوا على أن يكونوا أحد أمرين: إما هم أكثر حرصاً وخوفا على الإسلام من الرسول ﷺ نفسه، أو أن يكون فهمهم ليس هو فهمه للدين. وحاشا لله أن يكون الأمر الأول!
هكذا يتضح أن جماعة أبا بصير و أبا جندل كان لهم الحق في مُهاجمة قوافل المُشركين مع أنهم قد عقدوا هُدنة مع الرسول ﷺ و يُبيّن ابن حجر العسقلاني(شافعي توفي-852هـ) السبب في ذلك فيقول : " وفي قصة أبي بصير من الفوائد جواز قتل المُشرك المُعتدي غِيلة ولا يُعد ما وقع من أبي بصير غدراً لأنه لم يكن في جًملة من دخل في المًعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قًريش لأنه إذ ذاك كان محبوساً بمكة لكنه لما خشي أن المُشرك يُعيده إلى المُشركين درأ عن نفسه بقتله ودافع عن دينه بذلك ولم يُنكر النبي قوله ذلك وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية [...] ولا يتناول من لم يكن تحت يد الإمام ولا مُتحيزا إليه واستنبط منه بعض المتأخرين أن بعض ملوك المُسلمين مثلا لو هادن بعض مُلوك الشرك فغزاهم ملك آخر من المسلمين فقتلهم وغنم أموالهم جاز له ذلك لأن عهد الذي هادنهم لم يتناول من لم يُهادنهم "(3).
فلو أُعتبر حُكام الدول المُرتدة مُسلمين وأن هُدنتهم التي وقعوها مع الدول الكافرة صحيحة شرعا فهذا لا يشمل بتاتاُ الدولة الإسلامية والتي هي مُستقلة عن تلك الدول المُسماة مُسلمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مٌحمد البُخاري صحيح البُخاري حديث رقم2731.
(2) ابن حجر العسقلاني فتح الباري في شرح صحيح البُخاري ج5 صفحة350.
(3) المصدر السابق ج5 صفحة351.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13)
فكيف بوضعنا الحالي الذي ليس فقط لو لم تكن تلك الدول مُرتدة بل مُسلمة فسيكون ليس أمامها أي خيار آخر غير الدخول في طاعة أولي أمر الخلافة لأن الرسول ﷺ قال : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما."(1) , ويُعلّق أبو بكر النووي(شافعي توفي-686هـ) علي هذا الحديث قائلاً : " واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أم لا."(2)، و بما أن أمير المؤمنين أبو بكر البغدادي هو أول خليفة شرعي منذ مُدة طويلة فيكون على الدول المُسلمة –إذا كانت حقاً مُسلمة- أن تُبايعه و تتبع سياسته فيما يتعلق بالعلاقات الدولية.
ويعلق أيضا ابن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ) على قصة أبا بصير قائلاً: " إنّما أمّناهم ممن هو في دار الإسلام، الذين هم في قبضة الإمام، فأما من هو في دارهم، ومن ليس في قبضته، فلا يُمنع منه، بدليل ما لو خرج العبد قبل إسلامه، ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده، لم يُنكره النبي ﷺ ولم يضمنه، ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي ﷺ في صلح الحديبية، فقطعوا الطريق عليهم، وقتلوا من قتلوا منهم، وأخذوا المال، لم ينكر ذلك النبي ﷺ ولم يأمرهم برد ما أخذوه، ولا غرامة ما أتلفوه. وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم، وقهرهم على نفسه، فصار حرا، كما لو أسلم بعد خروجه. "(3). ابن قُدامة هُنا يؤكد على أن الهُدنة مع المُشركين مقصورة فقط على المُسلمين تحت ولاية الإمام أما الآخرين فليس عليهم احترامها وبالتالي فالمسلمين الذين يعيشون اليوم في دار الإسلام، في أرض الخلافة أو الذين بايعوا الخليفة أبو بكر البغدادي عليهم فقط احترام الهُدنة التي يعقدها الخليفة وليس تلك التي عقدها أي حاكم مُسلم آخر إذا كان هذا مُسلماً فعلاً.
فائدة إضافية:
الإمام ابن قُدامة ذكر في نهاية الاقتباس الذي نقلنا في الأعلى حالة العبد الذي قد يُسلم في دار الكُفر ثم يرجع إلى دار الإسلام فيوضّح أن هذا العبد يُصبح حراً في الدخول لدار الإسلام ولا يجب رده إلى دار الكُفر لأنه في وقت إتمام عقد الهُدنة لم يكن تحت ولاية المُسلمين. من الممكن أن نستنتج من ذلك أنه لو عقدت دولة مُسلمة هُدنة مع دولة كافرة وأن أحدهم في تلك الدولة الكافر اعتنق الإسلام فليس عليه احترام هذه الهُدنة ويُمكنه مُهاجمة الكُفار في دولته وغنم أموالهم وأطفالهم. فلتتأملوا جيد في هذه النُقطة والتي سنذكرها أيضاً حينما نتناول مسالة عهد الأمان، ثم فكروا بعد ذلك في كُل هؤلاء الشباب الذي يعتنق الإسلام في فرنسا وبلجيكا وأمريكا. فحتي لو كان هناك هُدنة صحيحة بين هذه البلاد وبين أي دولة مُسلمة فلا يكون عليهم احترامها ويستطيعون لذلك قتل كُفار بلادهم كما يروق لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مُسلم بن الحجاج صحيح مُسلم حديث رقم1853.
(2) ابو زكريا النووي المنهاج شرح صحيح مُسلم بن الحجاج ج12 صفحة232.
(3) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة300.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14)
واخيراً قال ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ) في ذكر الفوائد المُستخلصة من قصة صُلح الحُديبية: " والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهدا بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم، مستدلا بقصة أبي بصير مع المشركين."(1).
3. إذا أردنا أن نذهب إلى أبعد الحدود في تلك التخيلات وافترضنا أن مُسلمي الدولة الإسلامية وغيرهم احترموا هُدنة صحيحة شرعاً مَنْ قال إن تلك الهُدنة لا يمكن نقضها تحت أي ظرف؟
ذكر العُلماء ثلاث طُرق والتي تؤدي لإنهاء الهُدنة وهي: انتهاء مُدتها، ان يخرق الكٌفار الهُدنة، أو الخوف من خيانة الكُفار الذي يستتبع أن يقوم إمام المُسلمين بإنهاء الهُدنة.
-يقول الله سُبحانه تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:4)
قال علاء الدين الكاساني (حنفي توفي-587هـ): " وإن كان موقتا بوقت معلوم، ينتهي العهد بانتهاء الوقت من غير الحاجة إلى النبذ، حتى كان للمسلمين أن يغزوا عليهم؛ لأن العقد المؤقت إلى غاية ينتهي بانتهاء الغاية من غير الحاجة إلى الناقض"(2). ويقول ابن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ): " ولأن الهدنة عهد مؤقت، ينتهي بانقضاء مدته، فيزول بنقضه وفسخه، كعقد الإجارة."(3)
-أما إذا نقض الكُفار عهدهم , فالله سٌبحانه و تعالي قال : ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾(التوبة:12)، ويقول ابن جرير الطبري(توفي-310هـ) عن هذه الآية : " فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش عهودهم من بعد ما عاقدوكم، أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم ﴿ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ﴾(التوبة: 12) يقول: وقدحوا في دينكم الإسلام ، فثلموه و عابوه . ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ (التوبة: 12) يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله."(4)، ويضيف الإمام بن كثير (شافعي توفي-774هـ): " والصحيح أن الآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم."(5).
أما القُرطبي (مالكي توفي-671ه) فيشرح هذه الآية هكذا: " إن عملوا بما يخالف العهد انتقض عهدهم، وذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا. وتقدير الآية عندنا: فإن نكثوا عهدهم حل قتالهم، وإن لم ينكثوا بل طعنوا في الدين مع الوفاء بالعهد حل قتالهم."(6)
وقال بن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ): " فأما أهل الهدنة إذا نقضوا العهد، حلت دماؤهم وأموالهم، وسبي ذراريهم؛ «لأن النبي ﷺ قتل رجال بني قريظة، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، حين نقضوا عهده. ولما هادن قريشا فنقضت عهده، حل له منهم ما كان حرم عليه منهم."(7)
ويقول ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ): " أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك، ولم يبق بينهم وبينه عهد، فله أن يبيتهم في ديارهم، ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء، وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده."(8)
يبقى معرفة ما الذي يُشكل خرقاً أو نقضاً لعقد الهُدنة بفرض وجودها لنعرف إذا كانت هذه الهُدنة بين المُسلمين والدول الكافرة هل مازالت سارية المفعول أم لا.
قال أبو بكر الجصاص (حنفي توفي-370هـ): " فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد [...] "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 صفحة274-275.
(2) علاء الدين الكاساني بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج7 صفحة110.
(3) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة296.
(4) ابن جرير الطبري جامع البيان في تأويل آيا القُرآن ج11 صفحة362-363.
(5) إسماعيل بن كثير تفسير القرآن العظيم ج4 صفحة117.
(6) أبو عبد الله القرطبي الجامع لأحكام القرآن ج8 صفحة83.
(7) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة296.
(8) ابن قيم الجوزية زاد المعاد في هداية خير العباد ج3 صفحة370.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15)
" ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا [...] وقال الشافعي ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه."(1)
وقد ذكر ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ) رأي المذهب المالكي فيما يُنقض العهد بقوله: " وأما مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى فقالوا: ينتقض العهد بالقتال، أو منع الجزية، أو التمرد على الأحكام، أو إكراه المسلمة على الزنى، أو التطلع على عورات المسلمين. قالوا: ومن نقض عهده وجب قتله ولم يسقط بإسلامه."(2). يتكلم الإمام بن القيم هُنا عما ينقض عهد الذمّة لكن مع ذلك فيظل مُفيداً لحالتنا لأنه كما قال الإمام الشافعي(توفي-204هـ): " والمضرات التي اُختلف في انتقاض عقد الذمة بها تنقض الهُدنة بلا خلاف، لأن الهُدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزيّة، وإذا انتقض عهدهم، جاز قصد بلدهم وتبييتهم والإغارة عليهم إن علموا أن ما فعلوه ناقض، وكذا إن لم يعلموا على الأصح."(3)
وقال أبو زكريا النووي (شافعي توفي-676هـ): " ومتى صرحوا بنقض العقد، أو قاتلوا المسلمين، أو آووا عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب، أو قتلوا مسلما، أو أخذوا مالا، أو سبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتقض عهدهم."(4)، ويقول ابن قيم الجوزية بسرده لآراء المذهب الحنبلي عما ينقض العهد: " أن أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) سئل عن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقتل؛ قد نقض العهد. والإعانة على قتال المُسلمين، وقتل المُسلم والمُسلمة، وقطع الطريق عليهم، وأن يؤوي على المُسلمين جاسوسا، وأن يُعين عليهم بدلالة، مثل أن يُكاتب المشركين بأخبار المسلمين، وأن يزني بمُسلمة أو يصيبها باسم نكاح، وأن يفتن مُسلما عن دينه."(5)
وقال بن قُدامة المقدسي(حنبلي توفي-620هـ) : " و إن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مُظاهرة عدو، أو قتل مُسلم، أو أخذ مال، انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ (التوبة: 12) ... الآية، والتي بعدها، وقَوْله تَعَالَى: ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾(التوبة: 4) ، وقوله سُبحانه: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(التوبة: 7) ؛ ولأن الهُدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه، ولا يحتاج في نقضها إلى حُكم الإمام؛ لأنه إنما يحتاج إلى حُكمه في أمر مُحتمل، وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد."(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو بكر الجصاص أحكام القرآن ج4 صفحة270.
(2) ابن قيم الجوزية أحكام أهل الذمّة ج3 صفحة1374.
(3) أبو زكريا النووي روضّة الطالبين وعُمدة المُفتين ج10 صفحة337.
(4) المصدر السابق.
(5) ابن قيم الجوزية أحكام أهل الذمّة ج3 صفحة1358-1360.
(6) ابن قُدامة المقدسي الكافي في فقه الإمام أحمد ج4 صفحة169.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16)
يظهر الآن أن الكُفار قد ارتكبوا الكثير من الأعمال والتي تُمثل خرقاً ونقضاً للهُدنة:
قتال المُسلمين:
لا وجود لأية شك في أنّ الدول الكافرة تُحارب المُسلمين في كُل مكان حول العالم فعلى سبيل المثال حروبهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين والقائمة تطول. والمثال الأخير هو التدخل الفرنسي ضد الخلافة بقصفها للعراق منذ سبتمبر 2014 أي قبل أكثر من عام على أولي هجمات الدولة الإسلامية على الأراضي الفرنسية. فكتبت صحيفة " لوموند": "استهدفت الجمعة 19 سبتمبر طائرتان مُقاتلتان فرنسيتان مواقع لجهادي الدولة الإسلامية شمالي العراق". أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في بيان أن:" هذا الصباح الساعة 9:40 قامت طائراتنا الرافال بضرباتها الأولى لمستودع للإمدادات لإرهابي الدولة الإسلامية " وقال إن الهدف قد تم "تدميره بالكامل" وستتلوها عمليات أخرى في الأيام القادمة."(1)
مُظاهرة عدو على المُسلمين:
هذا أيضا قامت به الدول الكافرة كفرنسا والولايات المُتحدة ويظهر بوضوح في دعمهم لإسرائيل التي تستغل وتقتل مُسلمي فلسطين. ومؤخراً نذكر دعمهم المالي والعسكري لصحوات الردة والجيش العراقي والبككه والبشمرجة ضد الدولة الإسلامية.
قتل المُسلم والمُسلمة:
لم نعد نحصي أعداد القتلى المُسلمين الذين يقتلهم التحالف الصليبي في قصفهم كل يوم في العراق والشام ومالي وأفغانستان.
سرقة مال المُسلمين:
هذا أصبح مألوفاً منذ حملات الاحتلال حتى يومنا هذا تتشارك الدول الكافرة لنهب الثروات الطبيعية للبلاد المُسلمة في أفريقيا وآسيا وفي كل أنحاء العالم.
التجسس على المُسلمين:
فالدول الكافرة تتجسس حتى على حُلفائها من الحكومات المُرتدة فكيف بالمُجاهدين. ومؤخراُ قُتل ثلاثة عملاء تابعين للمُخابرات الفرنسية في تحطم لمروحيتهم في ليبيا كانوا قد أتوا للتجسس على مُسلمي الخلافة.
فتنة المُسلم عن دينه:
هذا ما تفعله الحكومة الفرنسية تماماً بمنعها للمرأة المُسلمة من ارتداء النقاب في الأماكن العامة ومنعها الحجاب في المدارس.
انتقاص وإهانة الله ورسوله وكتابه ودينه:
لم تتوقف فرنسا والدول الكافرة الأخرى اهانة والسُخرية من النبي مُحمد ﷺ عبر الرسوم الكاريكاتورية ومهاجمة الإسلام في أفلام بغيضة مُختلفة. كل هذا بالتأكيد تحت حماية حكوماتهم نحت مُسمي "حُرية التعبير".
خُلاصة القول: الدول الكافرة قد ارتكبت تقريبا كُل الأعمال التي تؤدي إلى نقض الهُدنة، وإذا كان ثمة وجود لتلك الهُدنة أصلاً فإنها كانت ستكون قد نُسفت مُنذ زمن.
الشُبهة الثانية:
يظهر جلياً أنه إذا كان هناك هُدنة فالدول الكافرة قد خرقتها مرات ومرات عبر جرائمها التي ارتكبتها في حق المُسلمين حول العالم. لكن المُنافقين لا يتركون فرصة للدفاع عن إخوانهم الكُفار فيقولون: " طبعا عقود الهُدنة قد خرقتها الدول الكافرة لكن من خرقها هي الحُكومات فقط وليس المواطنين الذين ليس لهم علاقة بما تفعله حكوماتهم لذلك فمن المحرم استهدافهم والإضرار بهم لأن هذا سيكون ظُلم" كما سنري انه أي شخص قد قرأ سيرة النبي ﷺ يستطيع أن يرد على هذا الهراء الذي يقولونه.
دحض هذه الشُبهة:
قال الشيخ زاده (حنفي توفي-1078هـ): " "ومن بدأ منهم بخيانة قوتل فقط، وإن" كان "باتفاقهم، أو بإذن ملكهم قوتل الجميع بلا نبذ"؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) http://www.lemonde.fr/proche-orient/article/2014/09/19/premieres-frappes-francaises-contre-l-ei-en-irak_4490645_3218.html
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17)
" بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم حيث لا يكون هذا نقضا للعهد، ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا للعهد في حقهم دون غيرهم؛ لأنه بغير إذن ملكهم ففعلهم لا يلزم غيرهم حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد؛ لأنه باتفاقهم معنى"(1)
هذا هو التفسير الصحيح الذي لن تسمعه بالتأكيد أبداً من أفواه من نصّبوها أنفسهم مُمثلين للإسلام في فرنسا: فإذا جاء القرار من حاكم الدولة فهو يشمل جميع مواطنيها. من جانب آخر فالعُلماء عادة ما تجادلوا في هذه النقطة بقولهم إن مَنْ عقد الهُدنة هو حاكم الدولة وليس مواطنيها. ومع ذلك فالهُدنة تشمل المواطنين وحكوماتهم لأن الحاكم له الولاية على شعبه. لذا فمن الطبيعي أنه في حالة أن نقضها حاكم الدولة فهذا ينسحب أيضا على شعبه. ويقول ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ): " انتقاض عهد جميعهم بذلك، ردئهم ومباشريهم، إذا رضوا بذلك، وأقروا عليه ولم يُنكروه فإن الذين أعانوا بني بكر من قريش بعضهم، لم يُقاتلوا كلهم معهم، ومع هذا فغزاهم رسول الله ﷺ كُلهم، وهذا كما أنهم دخلوا في عقد الصلح تبعاً، ولم ينفرد كل واحد منهم بصلح، إذ قد رضوا به وأقروا عليه، فكذلك حكم نقضهم للعهد، هذا هدي رسول الله ﷺ الذي لا شك فيه كما ترى."(2)
وقال بن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ): " وإن نقض بعضهم، وسكت سائرهم، انتقضت الهُدنة في الجميع؛ لأن ناقة صالح عقرها واحد، فلم يُنكر عليه قومه، فعذبهم الله سبحانه جميعاً. ولما هادن النبي ﷺ قريشا، دخلت خُزاعة مع النبي ﷺ وبنو بكر مع قُريش، فعَدت بنو بكر على خُزاعة، وأعانهم نفر من قُريش، وأمسك سائر قُريش، فكان ذلك نقض عهدهم، فسار إليهم رسول الله ﷺ حتى فتح مكة. فإن أنكر المُمسك على الناقض، أو اعتزلهم، أو راسل الإمام به، لم ينتقض عهده؛ لأنه لم ينقض، ولا رضي بالنقض. ويؤمر بتسليم الناقض، أو التميز عنه. فإن لم يفعل مع القُدرة عليه، انتقضت هُدنته أيضاً؛ لأنه صار مُظاهرا للناقض."(3)
ابن قُدامة يذكر هُنا حالة أن مجموعة هي التي خرقت عقد الهُدنة ويُبين بالدليل أنّ مجرد سكوت الآخرين عما فعلوه فعقد الهُدنة يُنقض لجميعهم. ومتى يكون عقد الهُدنة سارياً للذين امتنعوا عن نقضه؟، إذا أنكروا على من نقضوها واعتزلوهم، أو كتبوا إلى إمام المُسلمين لتحذيره مما يعدونه ضده. وهل تعتقد أنه حتى بفعلهم هذا ينجوا؟ لا، فيُطلب منهم تسليم من نقضوها أو يُميزوا أنفسهم عنهم حتى لا يتم الخلط بينهم وبين الناقضين وإذا لم يفعلوا هذا -إذا كان في مقدروهم- فتُنقض الهُدنة ايضاً معهم ويصبحون كُفار حربيين دمائهم وأموالهم مُباحة.
ويؤكد أبو إسحاق الشيرازي (شافعي توفي-476هـ) هذا بقول: " وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم يُنكروا ما فعل الناقض انتقضت الهُدنة في حق الجميع والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به فقال الله عز وجل: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ (الشمس: 14)"(4)
وقال أبو زكريا النووي (شافعي توفي-676هـ): " وإذا انتقض عهدهم، جاز قصد بلدهم وتبييتهم والإغارة عليهم إن علموا أن ما فعلوه ناقض، وكذا إن لم يعلموا على الأصح [...] هذا إذا نقض جميعهم العهد، فإن نقضه بعضهم، نظر إن لم ينكر الآخرون على الناقضين بقول ولا فعل، بل ساكنوهم وسكتوا، انتقض عهدهم أيضا."(5)
لاحظوا كيف أن مُجرد العيش بين من نقضوا العهد والسكوت عما فعلوه يُمثّل ايضاً نقضاً للعهد. ولنأخذ مثال الرسوم المُسيئة للرسول ﷺ لصحيفة "شارلي إبدو" ولنطبق عليها كُل تلك القواعد السابقة. فقد قامت مجموعة صغيرة من الصحفيين ورسامي الكاريكاتير التابعين لصحيفة "شارلي إبدوا" بالإساءة لرسول الله ﷺ، ومن البديهي أن كُل من شارك في هذا من قريب أو بعيد في إعداد وتوزيع الصحيفة قد نقض الهُدنة بافتراض وجودها ثم -كما بيّن الشيخ زاده- المسألة الآن تتوقف على معرفة إذا كان هذا تم بموافقة الحكومة الفرنسية أم لا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ زاده مجمع الأنهر في شرح مُلتقي الأبحر ج1 صفحة638.
(2) ابن قيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 صفحة370.
(3) ابن قُدامة المقدسي الكافي في فقه الإمام أحمد ج4 صفحة169.
(4) أبو اسحاق الشيرازي المُهذب في فقه الإمام الشافعي ج3 صفحة328.
(5) ابو زكريا النووي روضّة الطالبين وعُمدة المُفتين ج10 صفحة337.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18)
فنري "مانويل فالس"-وزير الداخلية حينها- : " أكّد وزير الداخلية "مانويل فالس" في لقائه مع مُمثلي الديانة الإسلامية أن حُرية التعبير و التي منها الرسوم الكاريكاتورية هو "حق أساسي" يكفُله القانون ودعي الجميع "لإظهار تحملهم للمسئولية" .ورفض الوزير كُل نقاش حول " حق التعبير والحصول على المعلومات و إبداء الرأي و الرسوم الكاريكاتورية والتي يضمنها القانون"(1) كان هذا في غاية الوضوح , أما بالنسبة ل"فرانسوا هولاند" فهذا رد فعله بعد قتل كلاب "شارلي إبدو" : " أضاف رئيس الجمهورية الذي كان يحضر افتتاح فيلهارموني باريس بعد أسبوع من الهجوم القاتل على الصحيفة الأسبوعية الساخرة : "لقد هدد نقص عدد القُراء لشارلي إبدو لفترة طويلة و لكنها الآن تحيا من جديد". وأشار الرئيس أنه: " من الممكن قتل الرجال والنساء لكن على العكس لا يمكن أبداً قتل الأفكار.""(2)
يكفي ما سبق لكي تُنقض الهُدنة مع مجموع الفرنسيين لأن نقض العهد جاء بموافقة رئيس الدولة. ولكن بافتراض أن رئيس الدولة لا يوافق على هذا السلوك. فيجب علينا الآن أن ننظر لردة فعل المواطنين الفرنسيين الكُفار على هذا. هل هم أنكروا ولاموا شارلي إبدوا فعلاً وقولاً؟ هل تظاهروا ضد تلك الرسوم؟ لا لم يفعلوا! هل سكتوا وفرحوا بالبقاء بينهم بدون أن يقولوا شيء؟ نعم! هذا كافي لنقض العهد معهم أيضاً.
لكن بافتراض أن البعض منهم أنكر وأدان تلك الرسوم ومن قام بها. فهل ميزوا أنفسهم عنهم وانفصلوا عنهم بحيث حين يرغب المُسلمين بالهجوم على من قاموا بتلك الرسوم وعمن سكت عنهم يستطيعون تمييزهم وعدم استهدافهم؟ لا! وهذا كاف لنقض عهدهم ايضاً. فيقول الإمام الشافعي(توفي-204هـ): " وهكذا «فعل رسول الله ﷺ ببني قُريظة عقد عليهم صاحبهم الصُلح بالمُهادنة فنقض، ولم يُفارقوه فسار إليهم رسول الله ﷺ في عُقر دارهم وهي معه بطرف المدينة فقتل مُقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم وليس كلهم اشترك في المعونة على النبي ﷺ وأصحابه ولكن كلهم لزم حصنه فلم يُفارق الغادرين منهم إلا نفر فحقن ذلك دماءهم وأحرز عليهم."(3)
فائدة إضافية:
هكذا فعل الرسول ﷺ وأصحابه في وقت كانت الشعوب ليست لها سُلطة في تقرير سياسة دولهم. فلم يكن هناك انتخابات وكان الملوك يتحكمون في كُل شيء. وكان هذا هو الوضع في عصور كُل العُلماء الذين نقلنا عنهم آرائهم. ورغم ذلك فمجرد سُكوت الشُعوب عما يفعله حُكامهم كان كافياً لوضعهم في نفس الجانب كحُكامهم. فكيف بعصرنا حيث تنتخب الشعوب حُكامها بشكل مباشر ويشاركون بفاعلية في تشكيل قوانين وسياسة بلدانهم باختيارهم لنواب يصوتون على قوانينها وسياستها. إنه من الواضح أن هذا يجعل ذنبهم أكبر ومسؤوليتهم أعظم من شعوب الأمم السابقة. ولا يردون علينا بأنه ليس كُل الفرنسيين قد صوتوا لفرانسوا هولاند فالحرب ضد البلاد الإسلامية لم تبدأ مع فرانسوا هولاند وكذلك الإساءة إلي النبي ﷺ. فلو افترضنا أن نصف الشعب قد صوت لليمين والنصف الآخر قد صوت لليسار فكلا من اليمين واليسار قد سمحوا بالرسوم المُسيئة باسم حُرية التعبير وقاموا بالحرب في أفغانستان ومالي وفي غيرها. وهكذا فكُل المواطنين قد صوتوا لهؤلاء المجرمين الذين يستخدمونهم كرؤساء. لا يُمكن ان يقال عن هؤلاء بصوت عالي أنهم مساكين أبرياء إلا في عالم على هذا القدر من الانحطاط.
الشُبهة الثالثة:
تتبقي شُبهة أخيرة يطرحها أكثر الدجالين انحرافاً فيقولون: " على افتراض أن حُكام الدول التي تُسمي إسلامية هم مرتدون وعهودهم ليست صالحة فيتبقى على الأقل أنه لا يجوز قتل الكُفار الذين عقدوا معهم تلك العهود لأن هؤلاء الكُفار يعتقدون أن عقودهم صحيحة. فابن تيمية يقول: " ولهذا جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان كان أمانا لئلا يكون مخدوعاً"(4)"
دحض هذه الشُبهة:
هذا المفهوم معروف ويُسمي شُبهة أمان وينتج عن أن الكُفار ينظرون إلى بادرة أو كلمة من مُسلمين على أن لها قيمة العهد. وفي حالتنا التي نُناقشها من السهل إظهار أن هذا المفهوم لا تنطبق عليها.
1. اسألوا أي كافر على وجه الأرض إذا ما كان بينه وبين الدولة الإسلامية هُدنة تضعه في مأمن من هجمات جنود الخلافة. بلا أدني شك لن تجد ولا كافر واحد يعتبر نفسه في مأمن منها وبالتالي فلا يستطيع أحد أن يذكر مثل عهد الأمان هذا لكي يُنقذ نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) htp://www.lemonde.fr/societe/artcle/2012/09/19/caricatures-de-mahomet-appels-au-calme-et-desapprobaton-dominent-en-france_1762209_3224.
html
(2) htp://www.bfmtv.com/societe/l-etat-islamique-juge-extremement-stupide-les-nouvelles-caricatures-de-mahomet-857307.html
(3) مُحمد الشافعي الأُم ج4 صفحة200.
(4) أحمد بن تيمية الفتاوي الكُبري ج6 صفحة21.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19)
بجانب هذا أعلنت الدولة الإسلامية أكثر من مرة على لسان مُتحدثها الإعلامي أبو محمد العدناني الحرب على الدول الكافرة وشعوبها بشكل لا لبس فيه. وهذا بمثابة ابلاغهم بانتهاء العهد -إذا كان له وجود- ومن ثم يُصبح جائزاً مُهاجمتهم لأنهم لا يستطيعون بعد هذا الزعم بأنهم يعتقدون بأن لهم عهد. فالله سُبحانه وتعالي قال: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال:58). وقال ابن قُدامة المقدسي (حنبلي توفي-620هـ): " وإن خاف نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ (الأنفال:58). يعني أعلمهم بنقض عهدهم، حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع ذلك في قبوله، حتى يكون عن أمارة تدل على ما خافه. ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل إعلامهم بنقض العهد."(1)، لقد قامت الدولة الإسلامية مرات عديدة بتحذير وإعلام الكُفار بأنهم أهداف لها فلا يُمكنهم بعد ذلك الزعم بأنهم يعتقدون بأنه في منأى عن هجمات جنود الخلافة.
2. في حالتنا هذه فالدول الكافرة هي التي نقضت الهُدنة -إذا كان لها وجود- بوضوح فليس من الضروري إعلامهم بانتهائها ويجوز مُهاجمتهم مُباشرة. فيقول ابن قيم الجوزية(توفي-751هـ): " أن أهل العهد إذا حاربوا من هم في ذمة الإمام وجواره وعهده صاروا حربا له بذلك، ولم يبق بينهم وبينه عهد، فله أن يبيتهم في ديارهم، ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء، وإنما يكون الإعلام إذا خاف منهم الخيانة، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده."(2)
3. الدول الكافرة كفرنسا هي من نقضت الهُدنة –إذا كان لها وجود- باستهزائهم بالرسول ﷺ الأمر الذي أثار لعدد من المُظاهرات كرد فعل حول العالم، وأحدث ضجة إعلامية لفترة طويلة بشكل ليس هناك أي فرنسي لم يعلم بالأمر. وكما بيّن لنا شيخ الإسلام بن تيمية(توفي-728هـ) فوجود مثل هذا الفعل من جانب الكُفار يُصبح كل ادعاء عن عهد أمان أو شبيهها من العهود مرفوض. هذا لن الكُفار لا يجهلون أننا لا يُمكن أن نوافق على عهد يسمح لهم بالإساءة إلى نبيّنا ﷺ، وهذا ما قاله ابن تيمية: " ولا يقال فيهم: "فهم يحسبون أنهم مُعاهدون فتصير لهم شُبهة أمان وشُبهة الأمان كحقيقة فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أماناً كان في حقه أماناً وإن لم يقصده المسلم." لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنّا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون أنا لا نُعاهد ذمياً على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنّا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يُلتفت إليها."(3)، يتكلم ابن تيمية هُنا عن الذميّ الذي عهد الذمّة خاصته آكد وأقوى فكيف بمن عهده هو عهد الهًدنة الذي هو ليس حتى ثابت؟
قد أجبنا هكذا عن كُل الشُبهات التي تتعلق بالهُدنة وبيّنّا –بفضل الله- أن كُفار فرنسا ليس بينهم وبين مُسلمي الدولة الإسلامية بأي حال هدنة. وفي الجزء القادم لن يتبقى إلا إثبات أن الكافر الفرنسي ليس له عهد أمان مع مُسلمي الخلافة، فيستتبع هذا أنّ كُفار فرنسا حربيون والذي ينطبق عليهم كُل القواعد التي نقلناها في الجزء الأول من دراستنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن قُدامة المقدسي المُغني ج9 صفحة299.
(2) ابن قيم الجوزية زاد المعاد في هداية خير العباد ج3 صفحة370.
(3) احمد بن تيمية الصارم المسلول على شاتم الرسول صفحة12.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال