الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

الجيش المصري و شعبه 24


-البداية
(21)
"وَلَمْ يَكُنْ خُبْزَاً فِي كُلِ الأَرْضِ، ِلذَلِكَ كَانَ الجُوعُ شَدِيدَاً جِدْاً. فخَوَرَ ِرِجَالُ ِمصْرَ كُلِهَا. حِيْنَها جَمَعَ الحَاكِمُ الأْعْلَى كُلَ الَذهَبِ وَالفِضَةِ بِهَا، فَأْتي ِإليهِ جَميعَ المِصْريين قَائِلينْ: «أْعْطِنَا خُبْزَاً، كَي لَا نَمُوتُ قُدْامَكَ؛ لأْنّ لَيسَ لنَا ذَهَبَاً وَلَا فِضَةً بَعدُ.» وَجَاؤوا ِإليهِ ِببَهائِمَهُمْ فَأْعْطَاهُمْ خُبْزاً مُقَابِل بِغَالِهمْ وَأْغْنَاِمهمْ وَأْبْقَارِهمْ وَحَمِيرهِمْ. فَأْكَلُوا الخُبْزَ طِوَالَ السّنَةِ وَشَكَرُوا لَهُ صَنِيعَهُ. وَلمَا ِانْتَهتْ تِلكَ السّنَةَ أَتْوا ِإليهِ في السّنَةِ التَاليةِ وَقَالُوا لَهُ: «لَا يَخْفَي عَلي سَيِدّنَا أنهُ لَمْ يَعُدْ َلدَينا لا ِفضَة وَلَا بَهائِمَ لِنَبيعَهَا وَلَمْ يَتَبقى ِإلَا أَنْ نَبيعَ أَجْسَادُنَا وَأَرْضُنَا لِكَي نَأْكُلَ؛ فِاشْتَرِنَا نَحنُ وَأْرضنَا وَنَكُونَ َلكَ عَبِيدَاً مُخْلِصينَ، فَأْعْطِنَا خُبْزاً وَبِذُورَاً ِلكي لَا نَموتُ وَلَا تَصِيرُ أَرْضُنَا خَرَاباً مُقْفِرَةً». فَأْعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوه، فَبَاعَ المَصْريونْ كُلُ وَاحِدْ أْرضِهِ؛ فَصَارَ كُلُ شَئ مِلكٌ للحَاكِم الأَعَلى. ِإلاّ الكَهَنةَ وَالقَسَاوسَةَ وَالشْيوخَ فَهَؤلاءِ كَانَ لهُمْ نَصِيباً مَعْلوماً يَأْخُذُونَهُ مِنهُ فَلَمْ يَبيعُوا أْرضَهُمْ. بَعدَ ذَلكَ خَاطَبَ الحَاكُم الشَعبَ قَائلاً: «ِإني قَدْ اشْتَريتكُمْ أْنْتُمْ وَأبْنَائَكُمْ، وَأْرَضَكُمْ أْصْبَحتْ مِلكٌ لِي، فَمنَ الآنَ وَصَاعِدَاً فَليعْمَلَ كُلُ وَاحِداً بِلقُمَةِ عَيشهِ، وَلَا تَشْغِلُوا أْنْفُسَكُمْ بالقِيلِ وَالقَالْ وَالسُؤالِ عَنْ مَنْ يَمْلُكُ المَالِ وَلَا تَنْظُروا َإلاّ تَحتَ أْقْدَامِكُمْ وَلَا تُفَكِرُوا ِإلاّ فِيما أقُولُهُ لَكُمْ، وَلَا تَعْمَلُوا ِإلاّ مَا يُرضِيني؛ لأْنّهُ ِإنْ غَضِبتُ مِنْكُمْ فَلنْ تَجِدُوا مَنْ يَحْنُو عَليكُمْ.» فجَاوبَهُ الِمصْريونَ: «لَا نَعْرِفُ كَيفَ نُوفِيكَ حَقْكَ، فَلقدْ أَنْقَذتَنَا نحَنُ وَأْبنَائِنا مِنْ مَوتِ مُحَقَق. ليتنَا نَسْتَحقَ أنْ نَكُونَ عَبيدُكَ أْو حَتي عَبِيداً لبِغَالِكَ وَحَميركَ. رِقَابُنَا مَلكٌ لِسيفِكَ وكَرَامَتُنَا لَا وجُودَ لهَا أْمَامَ شِسْعُ نَعْليكَ. أمّا نِسَائُنَا وَبَنَاتُنَا فِحِلٌ لَكَ وَلِجِنُودِ جَيْشُكَ.»
الإصحاح الرابع والعشرون من سفر الشئون المعنوية



مَنْ هم أعرق وأقدم شعوب الأرض؟ -قبل أن يُخبرنا صديق المصريين المعلم (هيرودوت) بإجابة هذا السؤال، وقبل أن يحاول عقلك "الاستسهال" ويلقي- أو بمعني أدق يقيئ- في وجوهنا الإجابة النموذجية له: "وهل تحتاج إجابة هذا السؤال إلى تفكير إنهم المصريون بلا شك!!” أشير إلى أنه من الملاحظ هوس العقل المصري بأسئلة غالباً ما تكون إجاباتها في الماضي البعيد؛ وبالتالي تصبح تلك الإجابات -إن وجدت- بلا أي فائدة في حاضرهم أو مستقبلهم. هذا العقل مُستعد لتصديق أي أكذوبة أو خرافة طالما أنها تُغذي هذا الهوس المرضي بأمجاد غابرة. فينشغل ويُجهد خلاياه العصبية بالبحث في حُطام التاريخ عن عبقرية وبطولات وأمجاد "أجداده" ليس لكي يتعلم منها شيء - لا سمح الله- بل فقط للهروب لغياهب الماضي التليد من واقع بائس مُنحط. وكما نعيش اليوم في خرافة -من ضمن تلال من الخرافات- أن الجنود المصريين هم "خير أجناد الأرض"، والتي يتم ترديدها كأحد الحقائق "الفوق-كونية"، فمن الممكن أن تُشكك بكروية الأرض أو تُنكر أنها مجرد ذرة تراب في كون فسيح، لكن لا يمكن أبداً أن يخطر علي قلب بشر، لا أن يُشكك حاشا وكلا، بل أن يُناقش إن كان المصريون خير أجنادها أم لا. فقد عاش المصريون لفترات طويلة في أحد خرافتهم في أنهم "أقدم شعوب الأرض"، والتي بغض النظر عن صحتها أو خطئها، لن تُقدم ولن تؤخر في تغيير حاضرهم المُتخلف أو في أن يكون هناك أمل في مُستقبلهم التعيس. فكما يروي لنا (هيرودوت) أن المصريين حتى عهد (بسماتيك الأول (تقريباً من 663 ق.م-609 ق.م)) كانوا يعتبرون أنفسهم «أعرق أقوام الأرض» (1)


قبل أن يظهر (بسماتيك الأول) للوجود كانت مصر خاضعة لحكم الكوشيين (النوبة-السودان) حيث استطاع (بيعنخي (تقريبا من 741 ق.م-715 ق.م)) بالسيطرة على صعيد مصر ومنها انطلق للسيطرة على شمالها فسيطر علي(ممفيس-منف) ثم هزم أمير سايس (تفنخت)، ثم عاد (بيعنخي) أفلاً إلى عاصمة مملكته (نباتا-نباته) مُنتصراً. (تفنخت) أمير سايس هو أمير ليبي ومؤسس الأسرة 24 ، وكان" جيش مصر" -كما يخبرنا د. سليم حسن- منذ الأسرة العشرين مكوّن من مُرتزقة قوامه من الليبيين أو اللوبيين و الذين أصبحوا يتولون رئاسة المدن والإقطاعيات كنوع من "شراء الولاءات" حتي أصبحوا هم الحاكم الفعلي و استطاعوا تنصيب أحد قادتهم ووزير دفاع "جيش مصر" فرعوناً وهو (سيشنق الأول (حكم تقريبا من 945 ق.م حتي وفاته في 924 ق.م)) مؤسس الأسرة 22. وقد بلغ الضعف والانحلال بمصر في تلك الفترة مبلغه حتى كانت «الفوضى تسري في جسم البلاد وتثبت فيها أقدامها. والواقع أن البلاد المصرية كانت تنوء بعبء الانقسام وقتئذ، فمنذ بداية القرن الحادي عشر قبل الميلاد كانت تحكم أرض الكنانة أسرتان، إحداهما في الوجه القبلي والأخرى في الدلتا. وحوالي عام 750 ق.م شاهدنا «مصر الوسطى» و «مصر السفلى» مقسمتين بين ثلاث أو أربع أسرات، في حين أن الوجه القبلي كان تحث حكم الكوشيين (…)» (2)


في هذا الوقت جاءت آشور لـ"تُخلص المصريين" من حكم الكوشيين "المُرعب"، فجاء ملكها (إسرحدون) في عام673 ق.م لغزو مصر، وكانت مملكة آشور تواجه هي الأخرى اضطرابات شديدة لكن استطاع (إسرحدون) أن يبسط سيطرته بل وأن يوسع حدود مملكته حتي وصلت لمصر فهزم الفرعون الكوشي( تهرقا) وأسر ابنه ونصّب مكانه حاكماً أمير سايس وقتها نيكاو أو( نيخاو الأول) - وهو أيضاً من أصل ليبي ووالد (بسماتيك الأول)- الذي سارع حين دخول الأشوريين بالاعتراف بسلطتهم دون أي مقاومة من جانبه وزيادة في التملق للحاكم الجديد «أسبغ اسماً آشورياً علي عاصمة مُلكه كما سمي ابنه بسمتيك اسماً آشورياً أيضاً.» (3) لكن بعدة عودة (إسرحدون) إلي مملكته سُرعان ما عاد (تهرقا) بجيشه وأخذ ما سيطر عليه الأشوريين فعاجل( إسرحدون) بالقدوم مرة آخري لمصر لكنه يموت في الطريق إليها، ليكمل ابنه (آشوربنيبال) مسيرته بغزو مصر فيتقابل الجيشان حيث يُهزم (تهرقا) للمرة الثانية ويسيطر الأشوريين مرة آخري علي الدلتا ويزحفون جنوباً وصولاً لطيبة (الأقصر)،لكن يبدو أن (نيخاو) -كعادة المصريين- كان "يلعب علي جميع الأحبال" ففي حين كان يُظهر الولاء للأشوريين كان يراسل أيضاً( تهرقا) ويحثه علي تخليص المصريين من حُكم الأشوريين "المُرعب"!! وحين يكتشف (آشور بنيبال) خيانة (نيخاو) يتم اقتياده مُقيداً بالأغلال هو وابنه (بسماتيك) إلى سهول نينوي وهناك يعفو عنهم (آشور) ويُعيده محملاً بالهدايا مرة آخري لمصر. وبعد شد وجذب بين هاتين القوتين يُجيش الكوشيين تحت حكم(تانوتامون) جيشاً آخر لطرد الأشوريين ويتجهون شمالاً حتى منف وتدور معارك يُقتل فيها (نيخاو الأول) ثم تدور الدائرة فينهزم الكوشيين ويرتدون راجعين لطيبة لكي يصبح الطريق ممهداً لظهور نجم (بسماتيك الأول).


حين صعد (بسماتيك الأول) على "العرش" بعد مقتل أبيه، كانت مصر مُقسمه إلى "إمارات" كل إمارة يحكمها حاكم أو ملك أو فرعون أو أياً كان الوصف الذي يصبغه الأمير علي نفسه. وكل تلك الإمارات تخضع للقوة "العظمي" التي تحكم بقوة سيفها سواء كانت كوش أو آشور، ولم يكن (بسماتيك) -كبقية الأمراء- يقنع بحدود إمارته بل كان طموحه أكبر من هذا. وحين تغلب الأشوريون علي كوش ولم يعد هناك إلا السيد الأشوري حاكماً مُطلقاً، نظر (بسماتيك) إلي ما وراء البحر إلي مملكة ليديا (غرب تركيا) فتحالف مع ملكها (جيجز) وكوّن جيشاً من "خير أجناد الأرض" (4) وقتها، ليس المصريين بالتأكيد، بل اليونانيين -قوة جديدة صاعدة- والليديين ليستعين بهم ليزيد من رقعة "مملكته" وفي نفس الوقت بشكل لا يُثير حفيظة (آشوربنيبال) بل أظهر له فروض الولاء والطاعة إلي حين. وقد تعلم (بسماتيك)، كما يقول الباحث في المصريات الإنجليزي (توبي ويلكينسون)، خلال فترة "اعتقاله" بآشور فن الدبلوماسية ورأي مثالا للطموح الذي لا يقف عند حدود في شخصية (آشوربنيبال) « قد علّمت التجربة المريرة (بسماتيك) -وقد كان إعدام أبيه أشدها مرارة- أنّ الحل السياسي يكون بلا قيمة بدون تفوق عسكري؛ وحيث كان (بسماتيك) نظريا تابعاً للأشوريين لذلك لم يكن تكوين جيش بمصر بمرأي ومسمع من اﻷشوريين باﻷمر الممكن، كما أنّ هزائم المصريين القريبة أظهرت كم هم متأخرون فيما يخص التسليح والتكتيكات العسكرية، وهو يحتاج إلي أفضل الجنود ويعرف أين سيجدهم. فباستخدام علاقاته بمحيطه الواسع بالبحر المتوسط جنّد مرتزقة بجيشه من اﻷيونيين والكاريين الموجودين في تجمعات على الساحل اﻹيجي بآسيا الصغرى ووضعهم على رأس حاميات في مناطق استراتيجية علي طول حدود الدلتا. وقد تمكن (بسماتيك) بالتحالف مع ملك ليديا وحاكم جزيرة ساموس اليونانية من أن يُعزز قوة وحجم البحرية المصرية. وإن كان وضع اليونانيين في أعلي سُلم الرُتب العسكرية للجيش لم يرق جيداً لطبقة المحاربين المصريين التقليديين (من أصل ليبي) لكن في هذا الوقت لم يكن هناك شيء يستطيعوا فعله لمنع ذلك.» (5) وفي غضون سنوات يستطيع أمير سايس أن "يوحد" مصر مرة ثانية تحت حكم "فرعون" وحيد ويكافئ جنوده المرتزقة بأن يعطيهم مدينة كاملة لتصبح أول مدينة يونانية خالصة في قلب الدلتا وهي مدينة (ناوكراتيس). ليبدأ "عصر النهضة" -كما أسموه- ولكنها " نهضة مؤقته" لأنه مع نهاية تلك الأسرة سينقضّ الفُرس"المُرعبين" على مصر لكي "تنام" من جديد في سُبات عميق مازلنا نري آثاره إلي اليوم في وجوه المصريين.
 
مدينة "سايس" وبجوارها مدينة "ناوكراتيس" التي ستصبح معقل اليونانيين في مصر.

في تلك الظروف كان المصريون يبحثون في ماضيهم عما يُعزيهم فيما وصلوا إليه من انحطاط فيروي لنا هيرودوت – وهذه هي إجابة السؤال – أن (بسماتيك) قام بتجربة ليري من هم أقدم وأعرق شعوب الأرض ولما كان من الصعوبة إثبات ذلك فقد واتته فكرة لكي يحسم هذا الأمر وهي أن يأتي بطفلين ويعزلهما عن العالم ويري ما هي أول كلمة سينطقاها وبمعرفة أي لغة تنتمي إليها تلك الكلمة سيكون أصحاب تلك اللغة هم أقدم شعوب الأرض. ولكنه وجد - يالخيبة المصريين- أن أول كلمة نطقاها هي "بيكوس" فأمر بالبحث عن أي اللغات تنتمي إليها تلك الكلمة «وبعد بحث واستقصاء عرف أن الكلمة تعني الخُبز بلغة الفريجيين (6)، وبناء على هذه الواقعة تنازل المصريون عن دعواهم وسلموا بقدم الفريجيين.» واكتفي المصريون بـ"المركز الثاني" في القدم. ويرفض (هيرودوت) رواية لليونانيين بأن (بسماتيك) قد قطع ألسنة مُربيات الطفلين، كي لا ينطقا أية كلمة أمام الطفلين فتفشل التجربة، ويراها مُستبعدة "منطقيا" ويري أن الكهنة الذين أخبروه بتلك القصة "مش ممكن يكذبوا". ولكن ماذا نتوقع من الغِر الساذج (هيرودوت)، وهو من أتباع منهج "قالولي" الشهير في التأريخ (7)، والذي كان يُردد كل "الأكاذيب" التي كان يلقيها له الكهنة المصريين كما "تتهمه" رواية الغزاة (8) التي بدأنا في استعراض محتويات الجزء الأول المرة السابقة وقلنا أننا سنبدأ مع باني مصر "الموحدة" التي كان وضعها قبل "توحيدها" يُشابه وضعها قبل (بسماتيك) فيقول (هنري بريستيد) أن مصر كانت في مبدأ مدنيتها مُقسمة إلي «إمارات صغيرة مستقلة أخذت تلتئم تدريجياً حتي تكون منها مملكتان عظيمتان إحداهما في الوجه القبلي واﻷخري بالوجه البحري وامتازت المملكة اﻷخيرة منهما بسرعة تقدمها في الحضارة. ومن ذلك الوقت لقبت مصر "بأرض القطرين" نسبة إلى جزأيها البحري والقبلي.» (9)

لقد وصل الإنحطاط والتخلف بمصر والمصريين أن أصبحت "أم سحلول" رأساً برأس "أبي الهول".


ثم جاء (مينا) -أو أياً كان هذا "الموحد"- فأخضع هاتين المملكتين لسُلطانه وبدأ عهد أولي أسرات "الفراعين" الذين اتخذوا مدينة ثينيس أو ثيني أو طيني عاصمة لهم، ولذلك يُسمي هذا العصر بالعصر أو العهد "الطيني" وهي تسمية تناسب عصرنا الحالي أكثر من أي عصر آخر. لكن ظل التمييز بين الوجهين -حتي بعد الوحدة- موجوداّ فيقول (د. سليم حسن) أن مصر الموحدة ظلت تحافظ « في كل عهودها منذ حكم (مينا) علي ذكري انقسامها إلي مملكتين، ولم يكن في وسع إحداهما أن تهضم اﻷخرى، بل بقيتا علي قدم المساواة، ولذلك نجد أن ملك مصر المتحدة لا يحمل لقب مصر بل ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري، وكذلك كان يحمل لقب رب اﻷرضين (…) » (10) ووضعت رواية الغزاة وصول (مينا) للعرش وبدء العهد الطيني هذا سنة 2765 ق.م حيث بدأ حكم الأسرتين الطينتين الأولي والثانية، وهو رقم تقريبي (11) حاول الكتاب أن يضع رقم "مناسب" بعيد عن مُبالغات المؤرخين القدامى والذين نسبوا لـ (مينا) كثير من الأعمال والإنجازات والتي لا يمكن أن تكون أقيمت إلا في وقت لاحق.
موقع مدينة "طيني" التي طواها النسيان.


امتد حُكم هاتان الأسرتان ما يُقارب 560 عاماً اتسعت فيها حدود مصر خارج الوادي الضيق وأصبحت مدينة طيبة ومن بعدها منف المركزين الرئيسيين مما أدي في النهاية أن يواري التراب العاصمة القديمة إلى الأبد. وقد بلغ عدد ملوك الأسرة الأولي 7 ملوك بعد مينا متوسط حكم كل ملك 28 سنة تقريبا؛ أمّا الأسرة الثانية فتتكون من 9 ملوك متوسط حكم كل ملك 33 سنة حيث انتقل مركز الحكم في نهاية تلك الأسرة لمنف، وبدأت -أو ظهرت- عبادة "العجل" أبيس. مع بداية الأسرة الثالثة سيبدأ عصور الأسر المنفية -نسبة لمنف مقر حكمها- كما ستظهر أولي "أعراض النيكروفيليا" (12) عند الفراعنة حيث سيبدؤون في تجاربهم لإنشاء "أكبر قبر هرمي الشكل" وسيبدأ الملك (زوسر) بهرمه المدرج الشهير. متوسط حكم ملوك هذه الأسرة الثالثة هو 24 سنة. يليها الأسرة الرابعة وفيه ستنتج "العبقرية المصرية" اسمي آياتها وانجازاتها المعمارية "المقابر" المعروفة بالأهرامات. متوسط حكم فراعين تلك الأسرة هو 36 سنة.


مع توحد مصر واتساعها بدأت حضارة عظيمة في الظهور، والتي يقول لنا (هيرودوت) -كما أخبره الكهنة- أنّها أول من عرف السنّة الشمسية وقسموها لأثني عشر شهراً كما أن المصريين هم «أكثر شعوب العالم إسهاماً في تشخيص اﻷمراض. ومن شأنهم أنهم كلما لاحت لهم ظاهرة شرعوا في ملاحظتها ومتابعة نتائجها وتدوينها، فإذا تكررت الظاهرة أدركوا ما ستكون عليه عاقبتها.» وأنهم "متدينون" إلى حد الإفراط وهم أول من سمي "الآلهة" الاثني عشر بأسمائهم والتي أخذها عنهم اليونانيين. وهم أول من أقام المعابد والهياكل لعبادة الآلهة. وأول من حفر الصور على الأحجار، وأول من ابتدع الاحتفالات والطقوس وتقديم القرابين والابتهالات للآلهة «وقد أثبتوا لي مُعظم هذه الروايات.» لكن لا شيء يدوم فكما عاش المصريون في "رغد من العيش" إلي حين لكن أخبر الكهنة هيرودوت أنه مع مجيء (خوفو) باني الهرم الأكبر، وهو من الأسرة الرابعة ويضعه (هيرودوت) بعد (رمسيس الثاني) وهو من الأسرة التاسعة عشر!!، قد حوّل حياة المصريين إلي جحيم فقد « ظلت مصر تنعم بالحكم الرشيد ورخاء العيش طوال عهد رعمسيس؛ ثم ترددت اﻷحوال في عهد خلفه خوفو، وروايتي هنا نقل عن مُحدثي الكهنة، وحلت بهم المصائب والنكبات من كل نوع وشكل فكان من أعماله أنه أغلق المعابد وحظر رعاياه ممارسة عباداتهم، ثم فرض عليهم أعمال السُخرة، كالعبيد اﻷرقاء، فيما يُفيده شخصياً. فأكره البعض على العمل في جر الحجارة الضخمة من المقالع في جبال العرب إلي النيل ليقوم بنقلها عمال آخرون إلي التل الليبي. وكان هذا العمل بجري في نوبات ينهض بها مئة ألف رجل يبدلون كل ثلاثة أشهر. وقد استمرت أعمال العبودية والعسف هذه عشرة أعوام (...)» بل وبلغ بهذا الفرعون الانحطاط -كما يقول- انّه “سرّح" ابنته في "شارع الهرم" -أو ما يوازيه وقتها- للعمل كعاهرة كي يحصل علي المال لكي يتم بناء الهرم؛ وأنها -أي ابنته- هي الأخرى استغلت الظروف وابتنت لنفسها هرما من "أحجار شُغلها" فقد كانت تطلب من زبائنها -لا نعلم إن كانوا سُكاري أم لا- أحجاراً كهدايا (13).


مع بداية الأسرة الخامسة (14) ستنتشر عبادة "إله" جديد وهو رع إله الشمس، عدد ملوك تلك الأسرة 9، ومتوسط حكم كل ملك حوالي 30 سنة، انتقلت فيها عاصمة الحكم إلي مدينة "إلفانتين"(مجاورة لأسوان). في نهاية تلك الأسرة سيضرب الضعف والانحلال كل شبر من أرض مصر، وسيأتي السقوط في نهاية الأسرة السادسة، والتي عدد ملوكها 4 فقطـ، متوسط حكم كل ملك 50 سنة، حيث حكم (بيبي الثاني) -آخر ملوكها- لمدة 100 عام ، وقد جلس على العرش وعمره  6 سنوات. في نهاية تلك الأسرة لم يعد هناك أي وجود لـ"مصر الموحدة" «واختفت فجأة عن اﻷعين وصارت في ظُلمة كأن مصيبة عظمي نزلت بها.» (15) وكما تقول رواية الغُزاة أصبحت مصر مُقسمة لأربع ممالك كبيرة التي بدورها مُقسمة لمقاطعات مُتناحرة مُتقاتلة؛ ولم يكن هذا التناحر والصراع سياسياً فقط بل كان دينيا أيضاً ووصل التشرذم «لحد بعيد حتى سيصبح وادي النيل ليس إلا قطع صغيرة كل قطعة حكومتها بلا قوة ولا وحدة. هذه الانشقاقات لم تكن فقط سياسية بل كانت في بعض اﻷحيان تصطبغ بالصبغة الدينية مع كل ما تحمله من الكراهية المذهبية.» في تلك الأجواء سيأتي "الغُزاة" لمصر، وكما هو متوقع لن يجدوا صعوبة في أن يُصبحوا هم "الفراعين الجُدد". لكن قبل أن يحدث هذا فلنعطي بعض الوقت "لأجدادنا" لعلهم يُدركون الخطر القادم قبل فوات اﻵوان؛ ولنتوقف عند هذا الحد ونُكمل- إن شاء الله- المرة القادمة.

******************************************************************************************************
(1) تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح.
(2) موسوعة مصر القديمة، د. سليم حسن، الجزء 12.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) لكل زمن "خير أجناده" وهؤلاء ليس لهم لا ملة ولا جنسية مُحددة، بل ينطبق هذا الوصف علي أي جنود مُستعدين للتضحية وبذل النفس حتي لو كان من أجل المال وليس فقط لقيمة أو هدف سامي.
(5) .Rise and Fall of Ancient Egypt , Toby Wilkinson, 2010
(6) الفريجيون هم قوم استوطنوا وسط تركيا وأنشؤوا مملكة هناك بلغت أوج قوتها في القرن الثامن قبل الميلاد ويذكرها اليونانيون في أساطيرهم فالملك الشهير "ميداس" هو ملك فيريجي الذي -كما تقول الأسطورة- كان يُحيل كل ما يلمسه ذهباً.
(7) مذهب "قالولي" مذهب شهير في كتابة التاريخ، ويحتج به كاتب التاريخ علي كل مَنْ يُمكن أن يُعارضه فطالما أنهم "قالوله" فقوله حُجة ولا يحتاج إلي مناقشة أو تفنيد.
(8) Histoire Scientifique et Militaire de l'Expédition Française en Egypte, Louis Reybaud et al., 1830-1836.
(9) تاريخ مصر من أقدم العصور الى العصر الفارسي، جيمس هنري بريستيد، ترجمة د.حسن كمال.
(10) موسوعة مصر القديمة، د. سليم حسن، الجزء 1.
(11) وضع هنري برستيد بداية حكم (مينا) في عام 3400 ق.م،أما د.سليم حسن فيقول أن الرقم الأنسب هو 3200 ق.م ما بين مَنْ يقولون أن بداية حُكمه كان في 5000 ق.م وبين مَنْ يقولون أنه في 2700 ق.م.
(12) النيكروفيليا هي أحد الانحرافات الجنسية التي يُصبح فيها جثث الموتي مصدر للإشباع الجنسي. ويحكي لنا (هيرودوت)، في خلال حديثه عن التحنيط عند المصريين وكيفيته، أن نساء الطبقة العليا والنساء صاحبات الجمال حين موتهن لا يُذهب ِبهن مباشر للتحنيط؛ بل يتركوهن لمدة ثلاثة أو أربعة أيام حتى لا يجول في خاطر المُحِنط أن يُدنس-يُجامع جثتهن حيث تكون قد بدأت في التحلل. والكلمة تعني "حب الموتى" ولا أستخدمها بهذا المعني، فهذا الانحراف موجود في كل اﻷمم والحضارات والثقافات ولكن أعني بها نوع من تقديس وعبادة "الموت" فمصر تحوي أكبر "شاهد" لقبر عبر التاريخ كما أنها "مقبرة للغزاة" عبر تاريخها كما يُخبرنا نُخبتها، إن الموت وليست "الحياة الآخرة" كان هو المُحرك "لإبداعات" المصريين، وهو الذي يُطل بوجه الكئيب عبر تاريخها، لذلك كان من الطبيعي أن تتواري الحياة من وجوه ساكنيها.
(13) هذه القصة المتهافتة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن هذا الفرعون قد سام المصريين سوء العذاب فعلاً، حتى أنه بعد أكثر من 2000 سنة من موته ومجيء هيرودوت مازالت تلك الكراهية موجودة و التي تدفع المصريين لتأليف "القصص" ضد حُكامهم بل وترديدها كأنها حقائق لا شك فيها، لكنها أبداً لا تدفعهم لمقاومتهم واسقاطهم. ونري اليوم -كمثال- بعض المعاتيه مازال يُردد أن السيسي "أمه" يهودية على أساس أن لا أحد يفعل ما فعله ويفعله إلا لو كان "يهودياً". هؤلاء المعاتيه هم أحفاد أولئك المعاتيه القدامى تغيرت اﻷزمان و "العته" واحد.
(14) من ملوك تلك الأسرة الملك (إسيسي) الذي من ألقابه" ابن الشمس" وليس كقرينة الحالي "ابن الحمار".

(15) موسوعة مصر القديمة، د. سليم حسن، الجزء 1.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال