الخميس، 22 فبراير 2018

الجيش المصري وشعبه 25

-البداية
(22)
“أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ، لاَ نِفاقاً ورياءً كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ عَنْ طِيبِ خَاطِر. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنهم سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ طَاعَتِكمُ ْتِلكَ. ووَاظِبُوا عَلَى الصَّلاَةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِالشُّكْرِ لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَهم، دَاعِينَ لهَمْ بِطُولَ العُمرِ وَأَنْ يهَلكَ كُلُ خاَرِجْياً عَفِنْ. وَلَا يَكُونْ كُلَ هَمِكُمْ أَنْ تَمْلؤوا بِطُونَكُمْ بِخْيراتِهِمْ، فَلَيسَ بِالخُبزِ وَحَدَهُ تَحْيونَ؛ بَلْ بِالتَسْبِيحِ وَالتْهليلِ والتَعْرِيصِ للّذِينَ أْفْنُوا حَياتهِمْ أْسْياداً لَكُمْ. وَلتَعْلَمُوا أنّْه لنْ يَعِيشَ أْحْدَ فِي أمنِ وَسَلامِ إِلَا الّذينَ خوفاً مِنَ المْوتِ قَضُوا كُلَ حَياتِهمْ عَبيداً وَخَدَمْ."
الإصحاح الخامس والعشرون من سفر الشئون المعنوية

هل الله عادل؟ -تتوقف إجابة السؤال بالتأكيد على إذا ما كنت مؤمن بالله أم لا، فإن كنت من المؤمنين فإجابتك ستكون بالإيجاب أمّا إذا كنت مُلحداً كافراً؛ فالإجابة لن تكون بالنفي لأنك لا تري لهذا الإله وجود ابتداءً، فكيف تحكم عليه بالعدل أو الظُلم إن السؤال سيكون بلا أي معني. لكن بعض الملاحدة -من مُحبي الجدل العقيم- سيجبونك بالنفي ويبدئون في سرد "الأدلة" والأمثلة التي تُثبت ذلك. من ضمن أحد الأمثلة التي تُضرب في هذا الشأن هي المعايير التي عليها مَنْ سيدخل الجنة أو مَنْ سيُقذف في النار، ويمكن صياغة هذا المثال علي النحو التالي:

كيف يمكن أن يدخل فلان الجنة فقط لمجرد أنه آمن بهذا الإله وأدي شعائر التي في غالبها لا تُفيد أحد كالصلاة أو الصوم أو الحج؟! في المُقابل فإن علان الكافر بهذا الإله سوف يدخل النار لمجرد كُفره مع إن خدماته للبشرية عموما تجل عن الوصف وأعماله الخيرية التي يُساعد بها الفقراء والمعوّزين قد جابت الآفاق. ولو أضفنا لذلك أن كثير من المؤمنين لا تختلف أفعالهم وسلوكياتهم في كثير شيء عن غيرهم من الملاحدة الكُفار؛ فنجد هؤلاء المؤمنين يزنون وينافقون ويُعرّصون مع أن هذا مُخالف لما يأمرهم به دينهم؛ أمّا الكُفار فإن كانوا يفعلون ما يفعله المؤمنين إلا أنهم أكثر اتساقا مع ما يؤمنون به، فليس عندهم نص يُحرم الزنا بل لا يوجد لتلك الكلمة عندهم معني أصلاً فالعلاقة الجنسية بين أي اثنين -من أي نوع- هي علاقة "مشروعة" طالما قامت علي الرضي، ولا توجد في أدبياتهم أن النفاق هو خطيئة تُدخل صاحبها الدرك الأسفل من النار، ولا يرون التعريص رذيلة يُحتقر صاحبها بل هي آلية من آليات تكيف الإنسان مع مُحيطه لكي يستطيع أن يحصل علي ما يُريد في مُجتمعات لا ينجح فيها إلا المُعرّصين. ويتخذ المُلحد من هذا المثال، الذي كما رأينا يُبين أن معايير دخول الجنة أو النار هي معايير ظالمة وبالتالي يُصبح الإله ظالماً وليس عادلاً، قاعدة لينطلق منها في أن هذا يتناقض مع كونه إلهاً لأن الظُلم نقص والإله كما يُفترض هو الكمال المُطلق.

يعتمد المثال السابق علي ما يُطلق عليه "الحُسن والقُبح" العقليين في تُحديد معايير العدل والظُلم، ومعرفة الخير والشر، ما هو حسن فعله أو قبيح تصوره؛ فالعقل هو المرجع الأساس الذي من خلاله يُقاس به كُل شيء حتي الله نفسه لابد أن يحظى بموافقته علي وجوده وإلا فهو غير موجود بل ولا يُمكن أن يوجد في تصور هذا العقل الذي سُرعان ما يُصطدم بأن إزاحة الله عن الوجود ووضع العقل بدلاً منه لم تحل أي مُشكلة، وأن أحكام هذا العقل وشرائعه ليست ثابتة كاملة بل هي عُرضة للتغيير والتبديل وأنّ ما كان يعتقده بوجود "مُثل عليا" ومبادئ أخلاقية ثابتة يستطيع أن يحتكم إليها أي عقل هو محض خُرافة. إن الإعلان عن "موت الإله" -بتعبير فردريك نيتشه- كان إعلاناً عن انهيار كُل مبدأ وقيمة عرفها الإنسان واعتقد أنها تستطيع أن تصمد بدونه. وبعيداً عن فلسفات مُتهافتة وأكروبات كلامية فارغة، لا يستطيع هذا العقل أن يُخبرنا لماذا هذا الفعل "حسن" أو ذلك التصرف "قبيح". وتلك "الجريمة البشعة" لماذا يراها جريمة -بالمعني الأخلاقي للكلمة وليس القانوني- بالأساس؟! إن غياب الله عن المشهد الإنساني يجعل كل شيء مساوي لكل شيء آخر، وما نراه فضائل سيتساوى مع أحقر رذيلة، وما نعتقده مُثل عليا وقيم أخلاقية سيكون لها نفس القيمة كأدني وأقذر فعل إنساني. كيف لهذا العقل أن يحكم بـ"العدل" أو "الظلم" على أي شيء إذا؟! فهذان المُصطلحان -طبقا لرؤيته- متساويان فالعدل له نفس قيمة الظُلم، فلماذا يمدح العدل ويعتبر الظُلم "نقص"؟! -لو احتج هذا العقل بأن العدل هو ما "ينفع" جماعة ما والظُلم هو ما "يضرها"، فهذا مجرد هروب للأمام لأنه أبدل العدل بالنفع والظُلم بالضرر، وظل السؤال هائماً يبحث عمن يجيب لماذا النفع يُمدح والضرر يُذم؟!


 ولنتخيل "أبشع" جريمة ممكن أن يُقدم عليها إنسان، رغم أن أي بشاعة تتصاغر أمام هول ما نري حولنا، لكي نحاول أن نفهم كيف يستطيع هذا العقل أن يحل تناقضاته. فنشاهد أمامنا رجل تخطي الستين من عمره اختطف رضيعه من أمها وأخذها في مكان مهجور حيث قام باغتصابها هناك دون أن يؤثر فيه بكاء الرضيعة وصُراخها؛ ثم بعد أن انتهي لم يكتفي بهذا بل قام بقطع يديها ورجليها وبدأ في أكلها بشهية ونهم. ولما انهي "وجبته" أخذ جسد الرضيعة المقطوعة الأطراف وألقاها من فوق تلة عالية ثم ليتأكد أنها فارقت الحياة ألقي بصخرة هائلة فوق جسدها الذي تحول إلي قطع صغيرة مُتناثرة.

الآن … -ماهي البشاعة في سلسلة الأفعال التي قام بها هذا الشخص؟ ولماذا قد نُطلق عليها جريمة؟ هل تري أن من قام بها شخص مُختل يُعاني مرضاً عقلياً؟ بأي معيار حكمت علي اختلاله ومرضه العقلي؟ - بمعيار أن "الأكثرية" لا تفعل ما فعله وبالتالي تُصبح تلك الأفعال "غير طبيعية" ولكن ما تفعله الغالبية يكون هو "الطبيعي" وما يجب على كل شخص أن يُقلدها ويحاكيها؟! هل لمجرد أنك تري أمر ما بشع متوحش هذا يعني أن علينا أن نوافقك على رؤيتك تلك؟ وماذا لو استطعت إقناع الغالبية بأن تلك الأفعال هي "حسنة ومحمودة" هل ستزول بشاعتها وقُبحها؟! -إننا بتلك الطريقة سنخرج من مُشكلة لندخل في مأزق وهو ما يمكن تسميته بـ"المأزق العددي" -وله تنويعات كثيرة (1) - والتي تفترض أنّ الطبيعي هو ما يفعله -أو يؤمن به- غالبية الناس، وأنك لكي تجعل أي فعل -أو اعتقاد- مهما بلغت بشاعته لك، مقبول وطبيعي هو أن تُقنع أكبر عدد منهم بالقيام به!!! (2)

ولو أعدنا هذا المشهد المُتخيل السابق من البداية لكن تلك المرة سندع شخص آخر يتدخل ليُنقذ تلك الرضيعة، وفي آخر لحظة قبل أن تُغتصب سيأتي هذا "المُنقذ" مصحوبا بكلاب متوحشة وفي يديه منشار كهربائي يفصل به رأس هذا "الوحش الإنساني" عن جسده ولا يكتفي بهذا بل يبدأ في شق جذعه إلى نصفين ويترك كلابه تنهش هذا اللحم الطازج، ويعيد الطفلة إلى أمها سالمة لم يمسسها أي ضرر.

بعد أن أنهينا المشهد نهاية "سعيدة" لم يتغير أي شيء – للأسف- فما زالت نفس الأسئلة تُطاردنا... لماذا ما قام به هذا الشخص “المُنقذ" عمل بطولي يستحق الإشادة والثناء؟ رغم أنه ارتكب هو الآخر سلسلة من "البشاعات" لكن يعتبرها كثير من الناس "عقاب مُستحق"؛ وفاعلها يستوجب الثناء والشُكر لأنه أنقذ روح "بريئة" من هذا الذي انعدمت في داخله أي "إنسانية" أو "ضمير". بل لماذا تلك الرضيعة بريئة أصلاً؟ ومن أين اكتسبت تلك "البراءة"؟ وحتى لو سلمنا ببرائتها -والتي بلا أي معني- لماذا "التعدي" على تلك البراءة فعل قبيح؟ وما هو الفرق بين تلك الرضيعة وغيرها من الحيوانات العجماء التي يتناولها الإنسان بشكل يومي دون أن نجد اعتراض، إلا من مجموعات صغيرة من "مُحبي الحيوانات"؟!! هل يعني أنك تتألم وتفرح فهذا يجعل وجودك أكثر أهمية من جمادات صماء لا تشعر؟! وهل لمجرد أن هناك مُسميات و "فوائد" و "مضار" لأشياء أو لأفعال أو لممارسات أنها اكتسبت هكذا أي معني؟ وماذا لو اندثرت الأرض كلها بما عليها هل في ذلك "ظُلم"؟ هل سيشعر بنا أي "كائن" أخر قد يوجد في هذا الكون؟ وإذا شعر بفقداننا ما الذي قد يُغيره هذا؟ بل وما أهمية هذا الكائن هو الآخر شعر أو لم يشعر بنا؟ أليست الإنسانية -بل والكون كُله- يُساوي وجوده وجود "العدم"؟!!

إنّ تلك الأسئلة السابقة تسير جنباً لجنب مع أسئلة: هل للكون إله؟ ومَنْ هو؟ وأين هو؟ هل يهتم بمخلوقاته؟ وماذا يُريد منها؟ وهل هو عادل؟ وهي كُلها أسئلة مشروعة وإجاباتها ستُحدد أي طريق ستسلك، وأي منطق ستستخدم. وعلى ذلك فإذا كان من "الطبيعي" أن يستخدم بعض المُلحدين المنطق السابق؛ إلا أنك -وللعجب- تري أيضاً بعض المُنتسبين للإسلام يستخدمونه تحت حُجة "التنوير" و "الإصلاح الديني" ومواجهة "التطرف والغلو"، فيُدخلون "كُفار وكافرات" الجنة بغير حساب فقط لأنهم رأوا أنه من "الظُلم" أن يُدخلهم الله النار بـ"جناية" أنهم كفروا به، لكنهم مع ذلك من "أهل الخير وفاعليه"، فإما أن يُدخلهم الله الجنة وإلا فهو ظالم وليس بعادل. وليس هذا فحسب بل يؤكدون أن مَنْ يقول بعكس ما يقولون هو من سيدخل النار، ويبدو أنه ليري هؤلاء الله عادلاً يجب عليه أن يُدخل كل شيطان رجيم الجنة؛ بل وعليه أيضاً أن يُصفّد كُل الملائكة في قاع الجحيم!!! إن محنة الإسلام المعاصر ليس سببها الرئيس تكالب الأعداء عليه بقدر ما هي في غباء وعبط كثير من "مُسلميه" الذين أوجه التشابه بينهم وبين وضع اليهود مُنذ ما يُقارب من ألفي عام لا تُخطئه عين. لكن قبل أن نري أوجه التشابه لابد أن نذكر بضع سطور ضرورية لفهم أفضل لما وصل إليه وضع اليهود في العام 70 ميلادية.

لقد كان "الآراميون" -والذين منهم اليهود- بدو رُحل يجوبون المنطقة من الفرات إلي مصر، إلي أن استقرت تلك القبائل في سوريا بعد سقوط مملكة الحثيين وبدأ ظهور ذكرهم في كتابات الأشوريين بدءًا من 1200 ق.م حتي إخضاعهم تماماً بواسطة الأشوريين في حوالي 730 ق.م. واستطاعوا إنشاء عدة ممالك صغيرة في تلك البقعة والتي كانت في بعض الأحيان تُمثل للقوي العظمي المحيطة بها مصدر قلاقل واضطرابات؛ فينقل (د. سليم حسن) عن التوراة "قصة"  عن الفرعون المصري- الليبي الأصل- (سيشنق الأول)(3)، والذي مرّ ذكر اسمه المرة السابقة، عن حملته علي فلسطين، فيقول في مُقدمة الجزء التاسع من موسوعته عن مصر القديمة «وفى نهاية عهد« سليمان» عليه السلام كان «سيشنق» فرعون مصر قد انتهز ما كان في بلاد اليهود من خلاف وتدابر وأغار على فلسطين حوالى عام 930 ق .م . وانتصر عل العبرانيين انتصارا عظيماً. (...) ولا نزاع في أن حملة «سيشنق» هذه كانت لها نتائج عظيمة إذ قد انتشر بعدها النفوذ المصري ثانية في هذه الأصقاع الآسيوية، كما أنها عادت على خزانة مصر بالثراء العظيم ‏ فإن «داود» و «سليمان» قد جمعا أموالاً طائلة في بلادهما واستولى عليها «سيشنق» ولابد أن «أورشليم» بوجه خاص كانت من أوفر بلاد الشرق غنى وثروة. وذكرت لنا التوراة أن «سيشنق» قد استولى على كل كنوزها واستغلها في بلاده. وهذا نفس ما تثبته ظواهر الأحوال في مصر في تلك الفترة.» ويبالغ د. سليم في القول بأن مصر استمرت في إنفاق تلك الغنائم لمدة قرنين من الزمان ويستدل بذلك بالعمائر التي أنشئت في تلك الفترة وكيف لـ"مصر الفقيرة" الممزقة من الحروب الداخلية في أواخر الأسرة العشرين أن تستطيع أن تقوم بذلك إن لم تكن قد حصلت على "كنوز سُليمان". ولكن ليس من الضروري أن يكون الأمر كذلك، فكما نري حولنا اليوم الفقر والتخلف الذي يعيشه المصريين، لا يمنع أبداً من حلبهم يوميا لإنشاء "مشاريع قومية" تكلفتها من أقوات الفقراء المُعدمين، ولا يستفيد منها أي أحد إلا من يقومون بإنشائها بالضبط كـ"عمائر الفراعنة" ومعابدهم.

ففي مُنتصف القرن التاسع قبل الميلاد «وجدت مملكتي يهوذا وإسرائيل في الاراضي التي تُعرف الآن بـ"الأراضي المُقدسة"، أو إسرائيل، أو فلسطين، وكانتا من ضمن الممالك الصغيرة التي خضعت تحت سيطرة إمبراطورية أشور والتي كان مركز الحكم فيها على ضفتي نهر الفرات. وبنهاية القرن الثامن قبل الميلاد دمرت أشور مملكة إسرائيل، وبعد أكثر من قرن عانت مملكة يهوذا من نفس مصير إسرائيل علي يد البابليين، وإن كان لاحقاً ستستعيد مملكة يهوذا هويتها.» (4) وقد كانت المنطقة الممتدة من بلاد إيران الحالية شرقاً إلى مصر غرباً ومن جبال الأناضول في تركيا شمالاً إلى شمال الجزيرة العربية جنوباً مسرحاً لصراعاً مُستمراً بين عدة قوي تتصارع سواء بشكل مُتعاقب أو متزامن على السيطرة والنفوذ. فمصر وأشور وبابل والحثيين ثم بعد ذلك فارس واليونان والرومان يخوضون الحروب كل واحد ضد اﻵخر. وقد كان مسرح هذا الصراع -ومازال- هو ما يُعرف ببلاد الشام؛ لذلك لم تنشأ قوة موحدة في تلك البقاع بل كانت عبارة عن ممالك صغيرة تنضم لهذا الطرف أو ذاك لكي تُحافظ على وجودها وقد تثور من آن ﻵخر لكنها سرعان ما تسحقها القوة التي ثارت ضدها وتستعبد شعبها.
(I) الإمبراطورية الحيثية واحدة من إمبراطوريات العالم القديم. (5)


وفي الأسرة السادسة والعشرين، والتي رأينا مؤسسها المرة السابقة وهو بسماتيك الأول (تقريباً من 663 ق.م-609 ق.م) وهو من أصل ليبي أيضاً، حين تولي (نخاو الثاني) سُدة الحكم خلفاً لأبيه "المؤسس" يخرج بحملة علي فلسطين لمساعدة أشور في حربها ضد مملكة بابل، فيجد نخاو في مواجهته جيش ملك يهوذا -أو يهودا وسنسميها أيضاً بمنطقة اليهودية- يوشيا والذي أخذ صف البابليين في حربها ضد أشور، فيهزم نخاو يوشيا ويقتله في معركة مجدو وبعد أن يتولى (يهوأحاز) بن يوشيا ملك اليهودية يأسره نخاو ويعين بدلاً منه أخيه (يهوياقيم بن يوشيا) ويفرض جزية علي منطقة اليهودية (6).

 وقد كانت مملكة بابل في ذلك الوقت خاضعة لأشور وكان الملك (نابوبلاسر) مجرد حاكم معين من قبل (آشوربنيبال) والذي استطاع أبوه (إسرحدون) أن يسيطر على الاضطرابات والثورات الداخلية التي كانت تضرب مملكته حتى امتد نفوذه لمصر وطرد منها الكوشيين. لكن حين موت(آشوربنيبال)، انتهز (نابوبلاسر) الفرصة وهاجم مملكة أشور تحت حكم (آشور إتل إيلاني) فيقتله لكن لن تُهزم أشور وتسقط وتندثر إلي الأبد إلا حين يستعين (نبوخذنصر الثاني) بن نابوبلاسر بالميديين (7) وملكها (سياكسريس(625 ق.م-585 ق.م))، حيث يدخل نينوي في حوالي 610 ق.م. وعند اندحار أشور أصبحت مصر وجهاً لوجه مع مملكة بابل الجديدة وخلال السنوات التالية سيهزم البابليون المصريين في معركة قراقميش في عام 605 ق.م، وينسحب المصريون من الشام وفلسطين وسيحاول (نبوخذنصر) غزو مصر لكن (نخاو) سيتصدى له تاركاً له الشام غنيمة سهلة. فيُحاصر (نبوخذ) أورشليم بعد تمرد اليهود ورفضهم دفع الجزية للقوة الجديدة، ويدخل المدينة دون مشقة بعد أن يستسلم ملكها يهوياكين -أو يهوياشين- بن يهوياقيم، ويبدأ ما يُعرف بـ"السبي البابلي" وفيه يتم "ترحيل" يهوياكين وحاشيته وجنوده عن منطقة اليهودية (8) لكي يضمن (نبوخذ) خضوع تلك النواحي وألا يُفكروا مرة آخري في التمرد والتعاون مع أعدائه ويُعين علي منطقة اليهودية عم يهوياشين (ماتنياهو) -أو متنيا- الذي سُمي بـ"صدقيا" ، ولكن (صدقيا) كان كسابقيه "فاعل للشرور" (9) فتمرد وثار في عام 582 ق.م وتحالف مع مصر وفينيقيا ضد بابل، فسُلِّط عليه (نبوخذنصر) فما كان منه إلا أن حاصر أورشليم مرة آخري لكن هذه المرة طال الحصار لمدة عامين واستطاع في النهاية أن يدخل المدينة ويجعل عاليها سافلها؛ فقام بهدم معبد اليهود المُسمى بـ"هيكل سليمان" وقتل أبناء (صدقيا) أمام عيني أبيهم انتقاما لخيانته، والذي سيموت كمداً وحسرة في سجون "طاغية" بابل ليكون آخر ملوك يهوذا، ويبدأ "سبياً" جديداً لليهود.
(II)مسار حملة نبوخذنصر على منطقة اليهودية.

 ويستمر هذا الشتات حتى يأتي "قورش الكبير" الفارسي ويواري مملكة بابل خلف حُجب النسيان ويُصدر "وعداً قورشياً" برجوع اليهود لـ"أرض الميعاد" وبناء معبدهم من جديد في حوالي العام 536 ق. م والذي سيكتمل بناءه في عهد (داريوس الأول) الذي تولي عرش فارس عام 522 ق.م. هذه الفترة التي تُسمي فترة" الهيكل الثاني" والتي تمتد من حوالي 516 ق.م إلى 70 ميلادي حيث في نهايتها سيتم تدمير الهيكل بشكل نهائي. كانت منطقة اليهودية خلال تلك الفترة تنتفض من آن لآخر ضد القوتين العظميين اللتين سيتتابعين السيطرة على المنطقة وهما اليونان ومن بعدهم الرومان. فبعد تقريبا قرنين حين مجيء (الإسكندر الكبير (تقريباً من 356 ق.م -323 ق.م)) وجيشه وهزيمته لمملكة فارس تحت حُكم (داريوس الثالث) (تقريباً من 380 ق.م -330 ق.م)) وحين موت الإسكندر تم الاتفاق بين "جنرالاته" على تقسيم الإمبراطورية فيما بينهم. فتكونت عدة ممالك كُلاً يحاول السيطرة على ممتلكات الآخر. وانتهي الأمر بتكوّن المملكة السلوقية، مؤسسها القائد المقدوني (سلوقس الأول أنتيوخوس (358 ق.م- 281 ق.م)) أو أنتيوكوس المُلقب بـ" نيكاتور" أي المُنتصر، الذي استطاع أن يوسع حدود مملكته من شمال الهند إلى أواسط تركيا مرورا بفارس والعراق وسوريا. وعاصمتها أنتيوك (أنطاكية) نسبة لأسم أبو-أو ابن- المؤسس. والمملكة البطلمية، ومؤسسها القائد المقدوني (بطليموس الأول) المُلقب بـ"سوتير" أي المُنقذ (367 ق.م- 285 ق.م) الذي أخذ مصر وفلسطين واستطاع أن يضم لها إقليم برقة الليبي، وعاصمتها الإسكندرية نسبة للإسكندر الكبير الذي وضع "حجر الأساس" لها. وبدأ الصراع بين المملكتين والذي كان مسرحه -كالمعتاد- الشام.
(III)وضع المملكتين السلوقية والبطلمية في أقصي امتداد لهما.


لقد وقع اليهود مرة آخري بين المِطرقة والسندان وتنتظرهم أيام سوداء على أيدي "أسياد" المنطقة الجُدد، وخلال القرون التالية سيبدأ تشكّل جالية يهودية كبيرة في مصر قادمين من منطقة اليهودية كأسري وعبيد أو كجنود و"موظفين" أو هرباً من الاضطهاد والتنكيل. ويُخبرنا المؤرخ الروماني (كورنيليوس تاسيتوس (حوالي 55 ق.م-117 ق.م)) أنه حين توليّ حُكم المملكة السلوقية (أنتيوخوس الرابع (حوالي 215 ق.م-163 ق.م)) المُلقّب بـ"إبيفانيس" أي تجلي الإله، بذل جهوده في "أغرقة" منطقة اليهودية «بينما كان الأشوريين والميديين والفرس يُسيطرون على الشرق، كان اليهود يٌعتبرون الأحقر من كل الذين تم استعبادهم. وبعد أن سيطر المقدونيين (اليونانيين) بذل الملك أنتيوخوس جهوداً لكي يمحو معتقدات اليهود الخرافية وإحلال بدلاً منها العادات والمعتقدات اليونانية.» (10) لكن جهوده تلك سرعان ما جابهتها المصاعب، فإن كان كثير من اليهود تركوا عقيدتهم وعبدوا الأصنام الجديدة (11 إلا أن هناك منهم من قاوموا تلك المحاولات التي كانت تُريد نزع "هويتهم" وبعد أن تجرأ (أنتيوخوس) ودنّس معبدهم وانتهك "قُدس أقداسه" ونهب ذخائره وسبي نسائهم وأمر بمنع شعائرهم، اندلعت "الثورة المسلحة"، والتي تُعرف بـ"ثورة المكابيين" نسبة لقائدها يهوذا بن متتيا الحشموني المُلقب بـ "المكابي" أي المِطرقة (12). هذا كما أن فارس -التي بُعثت من جديد - بدأت في تهديد المملكة السلوقية حتي أنها في النهاية ستبتلعها ابتلاعاً، ومازال السلوقيون في صراع مع مصر علي الهيمنة؛ مع أنه كانت هناك علاقات نسب بين العائلتين الحاكمتين ففي ذلك الوقت كانت (كليوباترا الأولي) أخت( أنتيوخوس الرابع) متزوجة من ملك مصر (بطليموس الخامس (205 ق.م-180 ق.م))، المُلقب هو أيضاً بـ"إبيفانيس" والذي جلس علي العرش وعمره لا يتجاوز 6 سنوات بعد وفاة أبيه، كجزء من "اتفاقية السلام" بين المملكتين حيث اتفق أن يكون "بائنتها" هو خراج أو الضرائب التي تُفرض علي الشام تُدفع لبطليموس علي أن يكون الحكم والإدارة لأبيها. مُضافاً لهذا كُله دخول قوة جديدة تتحاكم لها المملكتين ولكنها تطمع في أن ترثهما فتُحرك الواحدة ضد الأخرى، تلك القوة هي روما. لعل تلك العوامل مجتمعة جعلت الفرصة مواتية لنجاح "المكابيين" في ثورتهم ضد قوة أكبر وأكثر تنظيماً وقُدرة.

 في صراع أنتيوخوس الرابع مع ابن أخته بطليموس السادس (180 ق.م-145 ق.م)، المُلقب بـ"فيلومتر" أي المُحب لأمه، على السيطرة والهيمنة غزا مصر وأسر بطليموس السادس لكنه اضطر أن يغادر مصر حين وصله الأمر من روما بأن ينسحب منها ويتركها وشأنها. في تلك الأثناء كانت منطقة اليهودية على شفا الحرب الأهلية فكان يدور صراع داخلي على السُلطة الدينية أو منصب "رئيس الكهنة" أو "الحبر الأعظم" -وهو منصب وراثي بالأساس (13) - والذي وصل الأمر إلي دفع الأموال من أجل شراء المنصب وحين لا ينفع المال تُستخدم القوة المُسلحة. ويُخبرنا (يوسف بن متتياهو) - أو يوسفوس فلافيوس- المؤرخ اليهودي، والذي نقلنا عنه من قبل الأقوال المنسوبة لـ (مانيتون) الكاهن والمؤرخ المصري (14)، أنه قد حدث خلاف بعد موت رئيس الكهنة (سمعان الثاني)، وصل للتقاتل بين أخويه (يسوع) -ليس يسوع الناصري- و أخيه (أونياس الثالث)، حتي أنّ (يسوع) وشيعته سيذهبون لـ(أنتيوخوس) يُخبروه بأنهم «يرغبون بترك دين وشريعة اليهود وطريقتهم في الحياة وأن يتبعوا قوانين الملك وطريقة اليونان في تسيير حياتهم ويطلبون منه أن يأذن لهم بافتتاح مدرسة في أورشليم لتدريس علوم اليونان»(15) ويقول يوسف أنهم "تأغرقوا" تماما وانسلخوا عن عقيدتهم وأصبحوا يونانيين ديناً وسلوكاً. وسيستغل (أنتيوخوس) تلك الفرصة لنهب "ذخائر" أورشليم وفرض الثقافة اليونانية فرضاً وتحريم أي مظهر من مظاهر اليهودية وشعائرها وبني قلعة مُحصنة تُشرف على المعبد ووضع فيها حامية لكي تكون كـ"قاعدة عسكرية" تتدخل في حال فكّر اليهود في التمرد ورفضوا الانصياع لأوامره.

في تلك الأوضاع في العام 167 ق.م، ظهر (متتيا) وأبنائه الخمسة بعد أن رفض أوامر الملك وقتل مُمثله وجنوده وهدم الأصنام التي أقيمت بالمعبد وبدأ يُحرض الناس على "الجهاد" لحماية الشريعة التي اُنتهكت ولم يتحرك من أجلها كثير من اليهود مع ما رأوه من كُفر وتعدي وتركوا دين آبائهم سواء كان هذا بإرادتهم أو خوفاً من العقاب أو فقط من أجل "لقمة العيش". ودعا (متتيا) كل غيور على دينه بأن يتبعه، فخرج هو وأتباعه إلى الصحراء؛ فتتبعتهم حملة عسكرية وقتلوا منها جمعاً بعد أتوا إليهم يوم سبت، فلم يتحرك اليهود لقتالهم عملاً بوصايا الشريعة. بعد تلك المذبحة علّم (متتيا) أتباعه بأنه لابد أن يُقاتلوا أعدائهم حتى يوم السبت وأن الغلو في تطبيق الشريعة سيؤدي بهم أن يتغلب عليهم أعدائهم ويُبيدوهم عن آخرهم «وهذه القاعدة استمرت حتى يومنا هذا. إنه عند الضرورة قد نُقاتل يوم السبت. وهكذا جمع (متتيا) حوله جيش كبير؛ فهدم مذابح أصنامهم وذبح من يخرق الشريعة لأي يهودي قد يقع تحت سُلطته والذين تفرقوا في الأمم خوفا منه، وأمر بأن يُختتن الأولاد الذين لم يُختتنوا بعد وطرد أولئك الذي كان عينهم الملك لمنع الختان.»
(متتيا) يُحطّم الأصنام ويُعاقب المرتدين.

ثم على سرير الموت جمع (متتيا) بنيه حوله وأوصاهم على الحفاظ على الشريعة فهذا هو الطريق الوحيد الذي به سينتصرون على أعدائهم ولا يلتفتوا للوم اللائمين، وعيّن عليهم (يهوذا المكابي) أخوهم الذي أثبت جدارته في قيادة الجيش الوليد ويستطيع أن ينتصر في عدة معارك رغم نقص الخبرة وقلة العدد. فيقول (يوسفوس) أنه حين حشد (سارون) -أحد قادة أنتيوخوس- جيشاً كبيراً للقضاء على "المتمردين"، رأي (يهوذا) جنوده قد أرهبهم كثرة عدد أعدائهم وهم قلة "مُستضعفة" فخطب فيهم بقوله أنّ «الانتصار على الأعداء لا يأتي من كثرة العدد لكن بتقوى الرب، ولهم في أسلافهم قدوة، الذين بصلاحهم وتقواهم قد قدموا أنفسهم وأبنائهم في سبيل الشريعة؛ فاستطاعوا أن يقهروا عشرات الآلاف. إن البراءة من الخطايا هي أقوي الجيوش.» (16) وتنتصر القلة على الكثرة ويستطيع (يهوذا) أن ينتصر في المعركة تلو الأخرى حتى يوجه أنظاره إلى الدخول إلى أورشليم لكي يُطهرها مما لحق بها من دنس فيدخلها في عام 164 ق.م؛ لكنها لن تدخل في سيطرة المكابيين إلا فيما بعد مقتله في العام 160 ق.م وتولي أخوه (يوناتان) أو جوناثان القيادة، وهو المؤسس الفعلي للأسرة الحشمونية التي جمعت بين منصبي رئيس الكهنة والمُلك وسيطرت على منطقة اليهودية حتى تقريباً 67 ق.م حين نشب النزاع بين الأخوين (أريستوبولس الثاني) وأخوه (هركانوس الثاني) على الحكم. هذا النزاع الذي سينتهي بدخول (بومبي الكبير (106 ق.م-47 ق.م)) -القائد العسكري والسياسي الروماني- إلى أورشليم وأفول الأسرة الحشمونية (17) وبداية أسرة جديدة هي أسرة (هيرود الكبير) الذي كان أبوه (أنتيباتر الأدومي) صديق لروما ولـ (يوليوس قيصر (100ق.م- 44ق.م)) وساعده في حربه ضد مصر البطلمية وأصبح "والياً" على منطقة اليهودية.

في فترة حُكم أسرة (هيرود الكبير) ولد المؤرخ اليهودي (يوسف بن متتياهو(37م- 100م)) والذي عاصر حرب اليهود الأخيرة والتي هُدم فيها معبدهم بشكل نهائي علي يد الرومان؛ وقد ألّف يوسف عدة كُتب يُدافع فيها عن اليهود وديانتهم ويُثبت للعالم "المُعادي للسامية" وقتها أنهم أمة قديمة عريقة؛ فألّف كتابه "ضد أبيون" والذي يرد فيه المطاعن و"الشُبهات" و المثالب التي كان يُتهمون بها -خصوصاً من المصريين- كما طعن فيه في صدق وصحة ما يكتبه اليونانيين -ومنهم (هيرودوت) صديق المصريين- بخصوص التاريخ فيقول «(...) فالدليل على صحة التاريخ هو أن يقول ويكتب الجميع نفس الشيء عن نفس الأحداث؛ أمّا هم (اليونانيون) علي جانب آخر فيعتقدون أنهم سيبدون أكثر صدقاً من الجميع إذا وصفوا نفس الأحداث بشكل مُختلف. هذا وإن كان علينا أن نُعطي الكُتّاب اليونانيين المقام الرفيع في فصاحة ومهارة كتاباتهم لكنهم لن يحظوا بالتأكيد بهذا المقام فيما يتعلق بصحة التاريخ الذي يروونه عن الأزمنة القديمة وخصوصا فيما يتصل بجماعات آخري غير يونانية.» (18) وكان حجر الزاوية في إثبات قدم اليهود وتقدمهم الحضاري في هذا الكتاب؛ هو أنّ الهكسوس هم "أجداده" اليهود ولم يُقدم لنا دليلاً علي ذلك سوي إعادة تفسير كلمة "هكسوس" (19)، كما ألّف يوسف كتاباً يسرد لنا "روايته" عن "انتفاضة اليهودية" ضد الرومان سماه "حرب اليهود" أو "حرب اليهودية"، والتي كان "بطل" من أبطالها (.........) ولكن فلنؤجل الدخول في أجواء وأسباب تلك الحرب ونراها -إن شاء الله- هي و المُشابهات بين وضع اليهود في تلك الفترة وبين مُسلمي اليوم للمرة القادمة، لكي نستكمل استعراضنا للجزء الأول من كتاب رواية الغزاة. (20)

كُنا قد أعطينا المرة السابقة الفُرصة لـ"أجدادنا" كي يروا الخطر القادم؛ لكن يبدو أنّه لا فائدة من انتظار أن يفيقوا من غفّوتهم الأبدية؛ فقد توقفنا عند نهاية الأسرة السادسة تحت حكم الملك (بيبي الثاني- حوالي 2246 ق.م- 2156 ق.م) حيث لم يعد هناك وجود لمصر الموحدة ودخلت في فوضي عارمة حتي أنّ الشعب -كما يقول (د. سليم حسن)- «انتهز هذه الفرصة وقام بثورة اجتماعية طاحنة امتد أمدها أكثر من قرنين من الزمان كانت البلاد ترزح خلالها تحت عبئ ثقيل من الفوضى والخراب»(21) وقد كان نتيجة لتلك "الثورة" انهيار الدولة القديمة بالكُلّية ودخول مصر "عصرها الوسيط الأول"؛ حيث يُقسم التاريخ المصري القديم إلي ثلاث ممالك أو دول رئيسية وهي: المملكة أو الدولة القديمة (~ 2575 ق.م- 2150 ق.م)، الدولة المتوسطة أو الوسطي (~ 1938 ق.م- 1640 ق.م)، والدولة الجديدة (~ 1539 ق.م- 1075 ق.م)، ويضاف لهذا العصر المتأخر الذي بدأ من 1075 ق.م حتى دخول الفرس مصر في عام 525 ق.م وبه تُطوي صفحة التاريخ المصري القديم ولا يبقي منه إلا “قصص وأساطير”. بين سقوط ونشأة كل دولة وآخري هناك فترة من الانحلال والفوضى التي تترادف مع الغزو الأجنبي، تُسمي بعصر انتقالي أو وسيط فنجد بين الدولة القديمة والوسطي هذا العصر امتد من (~ 2125 ق.م- 1975 ق.م) وبين الوسطي والجديدة من (~ 1630 ق.م- 1520 ق.م).

واستغلالاً لتلك الفوضى التي أعقبت انهيار الدولة القديمة اجتاحت الغزوات الأجنبية مصر حتى رجعت لسابق عهدها قبل الوحدة، فالأسيويون سيطروا على الدلتا، أما في الوسط فكانت من نصيب الليبيين الذين أنشأوا لهم عاصمة في مدينة هيراكوبوليس (اهناسيا-بني سويف) أما الجنوب فكان من نصيب حكام نوبيين. ونري وصف ما جري في هذا العصر الوسيط الأول في بردية سُميت بـ"تحذيرات إيبور" جاء فيها على لسان هذا الأيبور أن البلاد قد دخلت في نفق مُظلم وقد حاقت بالبلاد مُصيبة سوداء وثار الناس على الحكام «كل مدينة تقول: "هيا نطرد حُكّامنا."» وانعدم "الأمن" وانتشر اللصوص وقُطّاع الطُرق، وأقفرت الأرض وأجدبت وتحوّل النهر لدماء «يال العجب! لقد تحول النهر لدم، وحين يشرب الواحد منه ينعزل عن الناس ولا يرتوي. انظر! الأبواب والأعمدة والخزائن تحترق بينما قاعة القصر تقف ثابتة. المدن نُهبت. صعيد مصر تحول لخراب.» وكره الناس عيشهم وحياتهم «انظر! الكبير والصغير يقول: "أتمنى أني لم أولد"، والأطفال يقولون: "ما كان علي أبي أن يأتي بي للحياة.”» وترك الناس "دين آبائهم" وكفروا وألحدوا وأصبح يقول الواحد منهم «إذا عرفت أين يوجد الإله قدمت له قرباناً»، وبدأ السلب والنهب لـ"ممتلكات الدولة" وقبورها حتى «آل الأمر إلى أن حُرمت البلاد الملكية بسبب بعض القوم الذين لا شعور لهم. وأظهر الناس العداء للملك الذي جعل الأرضين في سلام، وأفشيت الأسرار الملكية وأصبح مقر الملك رأساً على عقب وامتلأت الأرض بالعصابات واغتصب الجبناء الرجال الشجعان(...)» ويستمر (إيبور) في "التعديد والولولة" علي غدر الزمان وصعود "السفلة واللئام" وتجرئهم على ذوي النعمة من "الملوك والنبلاء والأشراف والشريفات" بعد أن أصبح المُعدمين أغنياء؛ وذوي الأملاك معوزين شحاذين «انظر! الذي لم يكن يملك شيئاً أصبح صاحب ثروة. النبيل يتودد ويتقرب إليه. انظر! أفقر الناس أصبح غنياً، بينما من كان غنياً أصبح معوزاً فقيراً.»

تلك الأجواء الكارثية التي وصفها لنا (إيبور) التي تُشابه ما نجده في التوراة والقرآن عن "البلايا العشرة" والتي منها القُمّل والضفادع والجراد التي حلت بفرعون وشعبه زمن موسي النبي والتي حولت حياة المصريين لجحيم؛ فنري في التوراة في سفر الخروج من تحول المياه لدم «وَخَاطَبَ الرَّبُّ مُوسَى: «قُلْ لِهَرُونَ: خُذْ عَصَاكَ وَابْسِطْ يَدَكَ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَلَى أَنْهَارِهِمْ وَعَلَى جَدَاوِلِهِمْ وَسَوَاقِيهِمْ وَخَزَّانَاتِ الْمِيَاهِ فَتَتَحَوَّلَ كُلُّهَا إِلَى دَمٍ، وَيَكُونُ دَمٌ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ حَتَّى فِي الأَوَانِي الْخَشَبِيَّةِ وَالْحَجَرِيَّةِ.»(خروج: 7: 23) أو في القرآن بعد أن أخبر المصريون موسي بأنه مهما كان ما سيفعله وأي كانت الآية والمُعجزة التي سيقدمها دليلاً علي صدق دعوته فما هم بمؤمنين به وبما يعبد؛ فيحل عليهم العذاب «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ» (الأعراف: 133).  إلا أنه يجب الإشارة أن تلك البردية لم تكتب إلا في وقت متأخر بعد زوال "الفوضى" ودخول مصر في عصر نهضة جديد بداية من الأسرة 12. فمحور تلك البردية الأساسي هو "الفوضى" وانعدام الأمن بعد أن سقطت الملكية وانهارت في مقابل "النظام" والأمن الذي تحقق بعد عودة الملكية ونظامها. وفي هذا تقول (ميريام ليشتهايم) في ترجمتها لنصوص الأدب المصري القديم أن "تحذيرات إيبور" مجرد نص أدبي ملئ بالمبالغات والتكرار والتناقض فمن ناحية يصف الجدب والفقر الذي يعاني منه الناس ومن ناحية آخري يقول إن الفقراء أصبحوا أغنياء موسرين «خلاصة القول: إن تحذيرات إيبور ليس فقط لا تحمل في طياتها أي شيء فيما يخص الماضي الطويل للعصر الوسيط الأول؛ بل وأيضاً لا تستمد مادتها من أي حدث تاريخي آخر. إنّ تلك التحذيرات هي آخر المؤلفات الأدبية، والتي يدور موضوعها عن "الفوضى في مُقابل النظام"، وأطولها وأكثرها مبالغة، وبالتالي الأقل نجاحاً.» (22)

تلك "الأعمال الأدبية" التي توضع تحت بند "البروباجاندا السياسية" والتي أُلفت لتأبيد "الدولة البوليسية" ولتبرير القبضة الحديدة التي حكمت بها الأسرة 12 البلاد كما يذهب لذلك (توبي ويلكينسون) «هذه المؤلفات المُتقنة لعبت على عقلية المصري والتي شُكلت بما يراه حوله من توازن هش للوجود وثنائية حادة لطبيعة وادي النيل (فيضان في مقابل جفاف، ليل ونهار، خصوبة التربة في الوادي يُحيطها صحراء جدباء) ولذلك فقد نظر للعالم كمعركة مستمرة بين النظام والفوضى. تلك الأعمال كانت موجهة قصداً للنُخبة المثقفة حول الملك والتي توارت تحت هذا الكم الوفير من البروباجاندا.»(23) أحد الأمثلة التي تؤكد هذا الرأي هو بردية آخري عُرفت تحت اسم "تنبؤات نيفرتي" والتي من المفترض أنها ترجع للأسرة الرابعة في عهد الملك (سنفرو)، وقد جاء في تلك البردية أنه حين طلب الملك مَنْ يُسامره ويُسليه أخبروه عن (نيفرتي) المُرتل والكاتب الماهر فأمر بإحضاره؛ فلما حضر طلب منه أن يُخبره عن "الطالع" والمستقبل فبدأ يحكي للملك عن "الأيام السودة" القادمة حيث سيحل القفر والجدب وسيجف البئر والنهر وستنقلب الموازين -كما رأينا في تحذيرات إيبور- فيُصبح الغني فقير مُعدم و الفقير يملك ويتأمّر. ويقتل الناس بعضهم بعضا؛ فيقتل الابن أبيه ويُصبح الأخ عدو لأخيه «سيصنع الرجال السهام من النحاس. سيشتهون الدماء بدلاً من الخبز. سيضحكون بصوت عال من البلايا. لا أحد سينتحب لأجل الموت. لن يصوم أحد من أجله. كل واحد سيعيش لنفسه. ليس هناك حُزن وحداد في هذا اليوم، لقد هجرته القلوب. يجلس الرجل مُعطيا ظهره للجميع غير مبالياً بينما يقتل الواحد اﻵخر.» لقد أصبح المصريون يعيشون في تعاسة وخربت البلاد وطمع فيها الغُزاة والأغراب «لقد اختفت السعادة. باءت البلاد بالمحنة. (...) الأسيويون يجوبون البلاد. الأعداء قد نهضوا في الشرق. لقد جاء الأسيويون لمصر.» ثم أخيراً بعد أن "أدمي قلوبنا" بتلك الصور "الدرامية"؛ يصحبنا (نيفرتي) إلى "المُخلّص" الذي سيُنهي تلك المآسي والمعاناة فيقول «عند هذا سيأتي ملك من الجنوب اسمه «أمينى» المُبرّر بالاسم، ابن امرأة من "تا-ستي"(بالنوبة)، طفل من صعيد مصر.» حيث سيُوحد "القُطرين" ويرتدي التاجين ويطرد المحتلين من الأسيويين والليبيين ويُنشأ القلاع والجُدُر التي بها تكون مصر في مأمن من أي خطر «فلتبتهجوا يا مَنْ ستُعاصرونه. ابن الإنسان سيجعل اسمه خالداً. الأشرار والخوّنة سيتوقفون عن الكلام خوفاً منه. الأسيويون سيسقطون بحد سيفه. والليبيون سيسقطون بنيرانه. والمتمردون بغضبه والخائنون بقوته.» وسيعود "النظام" بعد الفوضى و"الأمن" بعد الخوف.

لكن من هو "أميني" هذا الذي سيفعل كُل تلك العجائب والمعجزات؟! –"أميني" هو "اسم الدلع" لأسم أمنمحات، والمشار له في تلك "التنبؤات" هو (أمنمحات الأول (حكم تقريباً من 1938 ق.م-1908 ق.م)) مؤسس الأسرة 12 وواحد من أكثر ملوك مصر عبر كل تاريخها نشاطاً وكفاءة كما يقول عالم المصريات اﻹنجليزي (فلندرز بتري) في كتابه عن تاريخ مصر «من حدود الدلتا في تانيس إلى براري النوبة العليا في كروسكو نجد على السواء آثار أعماله. فبدلاً من آثر أو اثنين كما كان الحال للملوك السابقين. نري العديد من الآثار والتي تُظهر أنها قد قام ببنائها في مُعظم المدن الكبرى بالبلاد.»(23)، فبعد انهيار الدولة القديمة نشأت في مصر عدة ممالك وأصبحت هيراكوبوليس لها اليد العليا علي الدلتا والصعيد في عهدي الأسرة التاسعة والعاشرة؛ لكن عائلة (أنتف الكبير) مؤسسي الأسرة الحادية عشر في الصعيد سيخرجون من تلك التبعية وسيمهدون لمجد الدولة الوسطي حيث سيجعلون طيبة قوة تستعد لتلتهم وتوحد الجميع تحت رايتها وقد كان (أمنمحات) هو الرجل الأول ووزير آخر ملوكها الملك (منتوحتب الرابع) الذي بعد وفاته استولي (أميني) علي العرش رغم أنه لا تجري في عروقه "الدماء الملكية الزرقاء" وأصبح أمام مشكلة يجب حلها فالأمر لا يتعلق فقط باغتصابه العرش، فالملك في مصر القديمة، ومازال في مصر القرن الواحد والعشرين لكن بصورة تناسب العصر، هو ملك يحكم وإله يُعبد في نفس الوقت؛ لذلك حرصت تلك الأسرة علي نسج "الحكايات والأساطير" التي تُحاول أن تمحو ماضي العائلة "الأرضي" وتُدخل في الأذهان أصلها السماوي فـ(أمنمحات)، ويعني اسمه "تحت رعاية آمون"، هو "مبعوث الآلهة وحبيبهم" و الذي خلّص المصريين من الفوضى والدمار وأعاد مجد الآلهة العظام وهزم وحده الغُزاة الأشرار، ووحّد الأرضين (مصر العليا والسفلي) ونظّم الزراعة والرّي وانشأ المعابد والعمائر التي يلهج كل حجر فيها بمجد "أميني الإلهي”.

وهكذا فـ"نبوءات نيفرتي" ليست إلا "فبركة" أُلفت لكي تُعطي الشرعية للمؤسس أمنمحات الذي "اغتصب الكُرسي"، والذي يبدو أنه ظل طوال فترة حكمه يُعاني من "المؤامرات والدسائس" حتى أنه تعرض لمحاولة اغتيال كادت -أو بالفعل قُتل خلالها- أن تصل لهدفها، حتى أنه فقد الثقة في كل مَنْ حوله ونري هذا واضحا في بردية تحمل "نصائح وإرشادات" لولي عهده وشريكه في الحكم في أواخر سنوات رئاسته المديدة الملك (سيزوستريس (سنوسرت) الأول) فيقول له: «انهض كإله، واسمع ما أقوله لك. كي تستطيع أن تحكم الأرض وتسيطر على الشواطئ وتُكثّر الخير. كُن على حذر من موظفيك الذين بلا شأن فلا تعلم ما الذي يخططون إليه. لا تثق في أخ ولا تعرف صديق. لا تجعل لك مُقربين فإن هذا بلا قيمة. حين تضطجع احرس قلبك بنفسك. فلن تجد بجانبك أحد حين المصائب. لقد أعطيتُ المحتاج، وربيتُ اليتيم. لقد ساويتُ بين الفقير والغني. لكن من أكل طعامي عارضني، ومَنْ أعطيته ثقتي تآمر عليّ.» ثم يصف لأبنه مشهد محاولة اغتياله أثناء نومه لولا تنبّهه من غفوته وصراعه مع من يحاولون قتله حيث يكتشف أنهم ليسوا إلا المنوط بهم حراسته، وبعد تلك الحادثة قرر أن يُشرك (سنوسرت) معه في الحكم ليكون بجانبه وعينه الساهرة عليه. وقد عمل (أمنمحات) على تأكيد سلطته بإنشائه لـ"عاصمته الجديدة" في موقع متوسط بين هيراكوبوليس وطيبة. ويقول (توبي ويلكينسون) أنّ الأسرة الجديدة عملت على تغيير الطريقة التي تُحكم بها مصر وينظم بها المجتمع المصري «لقد كان لديها رؤية حالمة أو كابوسيه حسب نظرك للأمر، من النظام المُطلق المستند إلى إطار من البيروقراطية الجامدة مع قمع لكل مُعارضة. ففي طريقة إدارة الحكومة قد أظهر ملوك الأسرة الثانية عشرة نزعة لا هوادة فيها تماشيا مع سياسات أسلافهم في الدولة القديمة. وفي عزمهم في تأسيس أمن داخلي من حديد، فاقوا كل من سبقوهم باستخدامهم دعاية متطورة جنب لجنب مع القوة الغاشمة؛ والإغراء المُبطن المدعوم بتكتيكات الإرهاب والتخويف. وهكذا كانت الطبقة الخارجية المُضيئة من الثقافة الراقية تعمل تحتها قوي أكثر ظُلمة.» لكن بعيداً عن الدعاية السياسية وفبركاتها فقد كان (أمنمحات) ذا قدرة وحكمة سياسية مكنته من الحكم في ظروف وأوضاع صعبه كما يقول (هنري بريستيد) حيث «تمكن بمهارته السياسية ودهائه الإداري من بسط نفوذه على حكام أقسام القطر ومن توحيد سلطته والاستئثار بالحكم دون سواه. ومثل هذا العمل الذي استغرق مدة طويلة في حكم أمنمحعت الأول سهل لأفراد أسرته استمرار الحكم في أيديهم مائتي سنة تقريبا٠ والغالب أن زمن هذا الملك كان أخصب وأرخي عصر في تاريخ الأمة المصرية.» (25)

لقد عملت الأسرة الثانية عشرة علي إخضاع حكام الأقاليم المصرية لسلطتها المركزية وحددت لكل حاكم حدوده وصلاحياته وحلت الخلافات القائمة بينهما علي "الحدود" وقد كان كل واحد منهم أشبه بـملك غير مُتوج له جيشه الخاص وامتيازاته، هذا الجيش كما ينقل لنا (د. حسن السعدي) عن كتاب (مصر والحياة المصرية في العصور القديمة) لعالما المصريات الألمانيان (أدولف إرمان) و(هيرمان رانكه) قولهم أنه علي الرغم «من أن كل أمير إقليم كان له جيشه الصغير الذي يتولى قيادته «قيم الجند»، فإن من النادر حقاً أن تقوم هذه الجنود بعمل جدّي، إذ لم تكن الخدمات التي تعهد بها الحكومة اليهم في معظم الأحيان من الأعمال الحربية تماماً وإنما كانت تضطرهم عادة إلي مصاحبة بعثة إلي مناجم ومحاجر الصحراء. ثم يذهب المؤرخان إلى أن هؤلاء الجنود لم يكونوا يجندون برضاء منهم فإذا ظهر «كانت الجند» في إقليم ما لاختيار الشبان الصالحين كان الحزن يقطع نياط القلوب كما هي الحال الآن في مصر عند التجنيد!!» (26) وقد أدرك السعدي ما ينطوي عليه كلام إرمان ورانكه من إهانة لا تغتفر للجيش المصري "المُعاصر" وأن وضع المصريين "حُكاماً وجيشاً وجنوداً" يكاد يكون نسخة من الماضي السحيق حيث "التجنيد الإجباري" بوضعه الحالي ليس إلا "سُخرة مُقنعة" تحت شعارات وطنية بلهاء. فيرد ويقول إن ما أورده "المؤرخان الكبيران" عن "الأعمال السلمية" للجيش لا يعد انتقاصاً من قدره فلو دققنا في الأمر فلن نراه إلا «سبقاً يُضاف للحضارة المصرية» فنحن نجد اليوم الجيوش المُعاصرة تفعل هذا بجانب وظيفتها في الدفاع عن أوطانها، أمّا بالنسبة للحزن الذي يُقطع نياط القلوب فالسعدي يعذر الكاتبين الذي صدر كتابهما إبان الاحتلال اﻹنجليزي «فقد شاهدا شباب مصر في تلك الفترة يبكي وهو يُساق للتجنيد. ولكن بكاء لا ينطوي على كراهية للجندية ولكنه كراهية للقائمين عليها وهم القادة الأجانب المستعمرين الذين كان يأنف أي وطني من العمل في كنفهم وفق نظام أقرب ما يكون إلى السخرة، بعدما عجزوا عن دفع كفالة الإعفاء (البدلية). أما شرف العسكرية والذي كان مطمحاً لكل شاب فلقد كان ولا يزال راسخا في كيان المصريين وكجزء من عقيدته سواء في العصور القديمة خدمة للملك الإله أو - بعد ما أفاء الله بالإسلام على كنانته في ارضه - طلباً لأحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة.» ويبدو أن (السعدي) قد اعتقد أنه بتكرار "بردية" شرف العسكرية المحفوظة في أدراج الشئون المعنوية؛ أنه هكذا قد رتق الخرق الذي لحق بشرف "البدلة"، أو غطي البقع السوداء التي ملئت لونها الخاكي برُقع "بمبية"؛ لكنه بفعله هذا لم يزد الخرق إلا بشاعة، وأصبحت البدلة تبدو كزي البلياتشو مُبهرجة مُضحكة. فإذا كان صحيحاً أن "العساكر الغلابة" كانوا يبكون كراهية للمستعمر لا للجندية (السُخرة) في ذاتها، فلماذا كان هذا "الحزن الذي يُقطع نياط القلوب" في وقت الدولة الوسطي كما نقل؟  بل لماذا يبكي الواحد منهم الآن وهو يخدم "وطنه" ويُحامي عن أهله؟ ولكي يؤكد السعدي كلامه فقام -كالعادة- بخلط "الدين بالسياسة"، رغم أنهم دائما ما ينهون عن ذلك إلا في حالة إن كان هذا "الخلط" في صالح الجيش ومن يحكمونه، وأتحفنا في سياق كلامه بحديث موضوع في أن مصر "كنانة الله في أرضه" وهو كقرينة حديث "خير أجناد الأرض" لا أصل ولا سند له، ويبدو أن واضع أحاديث "فضائل مصر" كان مصرياً مُحباً لـ"شرف العسكرية المصرية". إنّه رغم تقلب الزمن وتعاقب الدول واختلاف المسميات، فـإن "السُخرة" واحدة ومازال "العسكري الغلبان" يشعر بأنه مجرد رقم بلا أي قيمة، وأن حياته وكرامته تحت أصغر بيادة لأحقر "رُتبه" في هذا الجيش.

علي كُلاً فحُكام الأقاليم و"جيوشهم الصغيرة" سيكونان من العوامل الداخلية المهمة في تقويض عرش الدولة الوسطي مع ضعف القبضة الحديدة التي حكمت بها الأسرة الثانية عشرة في أواخر أيامها ؛ بالإضافة لإهمالها  التحصينات والقلاع التي أقامتها شرق وجنوب البلاد لحمايتها من الغزو الخارجي ، مما أدي في النهاية ومع أول مشكلة "للتوريث" في أواخر عهد الملك "أمنمحات الرابع"  إلي صراع مرير علي العرش أدي بأن انقسمت مصر -مرة آخري- لعدة ممالك وأسر تتصارع مع بعضها ولكن لم يكن من بين تلك الأسر شخصية كشخصية أمنمحات يستطيع أن يُنقذ مصر من الدخول في عصرها الوسيط الثاني ووصول "الحُكام الأجانب" … الهكسوس.
لعل نظرة الامتعاض التي نراها على وجه (أمنمحات الثالث) من ملوك الأسرة 12 تُخبرنا إنه "مفيش فايدة".

وتقول رواية الغزاة أن هؤلاء الهكسوس قد قدموا من سوريا ومن شمال الجزيرة العربية واجتاحوا الدلتا وسيطروا عليها، ومكثوا في مصر ما لا يقل عن مئة عام في أقل التقديرات، لكن المصريين القدماء لم يقدموا لنا معلومات عنهم، مع أنهم كانوا يُسجلون أتفه الأحداث التي قام بها "الملك-الإله" ولكن حين يأتي الأمر لأعدائه فلا تجد إلا "الشتائم واللعنات". هذا أدي إلى اختلاف الآراء بخصوص أصل هؤلاء الهكسوس وإذا ما كانوا مجرد "همج أشرار" أم "متحضرون أخيار". وليس أمامنا لذلك إلا أن نتوقف عند هذا الحد ونعطي الفرصة مرة آخري لأجدادنا لعلهم يكتبون شيئاً مفيداً نحل به هذا الخلاف؛ ولنُكمل -إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) من ضمن تنويعات هذا المأزق الأخلاقي هو إذا افترضنا أنه لكي تُنقذ شخص ما عليك أن تقتل شخص آخر برئ فهل ستقوم بذلك؟ -كثير من الناس ستُفكر ملياً قبل أن تجيبك بالرفض أو القبول لكن مع زيادة "أعدادمن تُنقذهم في مقابل قتل هذا "البريء"، ستجد أن مُعظم الناس لن تجد غضاضة في قتله وبدون تفكير، رغم أن "الجريمةهي هي.
(2السرقة والغش والربا، الشذوذ الجنسي وشرب الخمر والمخدرات ، عوادم السيارات ومخلفات المصانع وتدخين السجائر وغيرها كثير كل هذا يتم اعتباره شئ "طبيعيبل وفي بعض اﻷحيان "ضروريطالما يُمارسه ويقبل به عدد كبير من مدينة أو بلد أو أمة ما.
(3تذكر التوراة اسم (شيشقوالذي كان مُعاصراً لـ(سليمانالنبي وتقول إنه نتيجة لبُعد بني إسرائيل عن طريق الرب سُلّط عليهم (شيشقفجاء في عهد (رحبعام بن سليمانحيث دخل أورشليم ونهب ذخائرهافنقرأ فصعد شيشق ملك مصر على أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، أخذ الجميع، وأخذ أتراس الذهب التي عملها سليمان.» (سفر أخبار الأيام الثاني 12: 9)
(4) .Osprey Essential Histories, Ancient Israel at War 853-586 BC, Brad E Kelle
(5) الخرائط الموجودة في هذه التدوينة مأخوذة من الكتب التالية، وقد تم تعديلها لتناسب المحتوي هنا: الخريطة(I) من كتاب: Atlas of Ancient Worlds, By Peter Chrisp. الخريطة (II) من كتاب: Osprey  Essential Histories,  Ancient Israel at War 853-586 BC, By BRAD E. KELLE. الخريطة (III) من كتاب: The Greenhaven Encyclopedia of Ancient Mesopotamia, By Don Nardo.
(6جاء في سفر الملوك الثاني أنه قد «صعد فرعون نخو ملك مصر على ملك أشور إلى نهر الفرات فصعد الملك يوشيا للقائه فقتله في مجدو حين رآه». (2مك 23: 30)
(7ميديا كانت مملكة موجودة في شمال إيران وكانت مملكة فارس -في الجنوبحينها خاضعة لها ولكنها سترثها فيما بعد هي وكل ممالك المنطقة وصولاً لمصر.
(8) «وسُبى يهوياكين إلى بابل وأمّا الملك ونساء الملك وخصيانه وأقوياء الأرض سباهم من أورشليم إلى بابلوجميع أصحاب البأس سبعة آلاف والصناع والأقيان ألف وجميع الأبطال أهل الحرب سباهم ملك بابل إلى بابلمَلّك ملك بابل متنيا عمه عوضا عنه وغيّر اسمه الى صدقياكان صدقيا ابن إحدى وعشرين سنة حين ملك وملك إحدى عشرة سنة في أورشليم (…)» (2مك 24: 16-19)
(9) «وعمل (صدقياالشر في عيني الرب حسب كل ما عمل يهوياقيملأنه لأجل غضب الرب على أورشليم وعلى يهوذا حتى طرحهم من أمام وجهه كان أن صدقيا تمرد على ملك بابل (2مك 24: 20-21)
(10). The Histories, Tacitus, Translated By Kenneth Wellesley
(11نقرأ في سفر المكابيين الأول أنه حين صدور مرسوم الملك أنتيوخوس الرابع بشأن فرض الثقافة والمعتقدات اليونانية على اليهود أن كثيرون منهم رضوا بذلك «وكثيرون من إسرائيل ارتضوا دينه وذبحوا للأصنام ودنسوا السبتوانفذ الملك كتبا على ايدي رُسل إلى أورشليم ومدن يهوذا أن يتبعوا سنن الأجانب في الأرضويمتنعوا عن المحرقات والذبيحة والسكيب في المقدسويُدنّسوا السُبوت والأعيادوينجسوا المقادس والقديسينويبتنوا مذابح وهياكل ومعابد للأصنام ويذبحوا الخنازير والحيوانات النجسةويتركوا بنيهم قلفاً ويُقذروا نفوسهم بكل نجاسة ورجس حتى ينسوا الشريعة ويغيروا جميع الأحكامومن لا يعمل بمقتضى كلام الملك يُقتل (1مكا1: 46-53)
(12يحكي لنا سفر المكابيين الأول بداية "شرارة الثورةعلي يد متتيا الكاهن وأبناءه الخمسة الذي منهم يهوذا المكابي، والذين رفضوا ما يجري لتغيير الشريعة وتبديل الدين وأعلنوا عصياناً انتشر أثره بين الناس حيث قتلوا ممثل الملك بالمدينة «وصاح متتيا في المدينة بصوت عظيم قائلا كل من غار للشريعة وحافظ على العهد فليخرج ورائيوهرب هو وبنوه إلى الجبال وتركوا كل ما لهم في المدينةحينئذ نزل كثيرون إلى البرية ممن يبتغون العدل والحكمليسكنوا هناك هم وبنوهم ونساؤهم ومواشيهم لأن الشرور كثرت عليهم (1مكا2: 28-31) حيث سينضم لهم الكثيرين ليُكوّنوا جيشاً يفرض الشريعة فرضاً رغم أنف الجميع «ثم جال متتيا وأصحابه وهدموا المذابحوختنوا كل من وجدوه في تخوم إسرائيل من الأولاد الغلف وتشددواوتتبعوا ذوي التجبر ونجحوا في عمل ايديهموأنقذوا الشريعة من ايدي الأمم وايدي الملوك ولم يجعلوا للخاطئ قرناًوقاربت أيام متتيا أن يموت فقال لبنيه لقد اشتد التجبر والعقاب وزمان الانقلاب ووغر الحنقفالآن أيها البنون غاروا للشريعة وابذلوا نفوسكم دون عهد أباءنااذكروا أعمال آبائنا التي صنعوها في أجيالهم فتنالوا مجداً عظيماً واسماً مخلداً (1مكا2: 46-52) ولليهود عيداً يُسمي "هانوكاأو "حانوكا" -أي تكريس وإزالة الدنسفيه يتم الاحتفال بإعادة افتتاح الهيكل علي يد المكابيين وتطهيره من الأدناس التي لحقت به.
(13كان هارون أخو موسي النبي هو أول الكهنة ثم من بعده صار رئيس الكهنة لابد أن يكون من نسله حيث جاء في التوراة «وكلم الرب موسى قائلاًقدم سبط لاوي وأوفقهم قدام هرون الكاهن وليخدموهفيحفظون شعائره وشعائر كل الجماعة قدام خيمة الاجتماع ويخدمون خدمة المسكنفيحرسون كل أمتعه خيمة الاجتماع وحراسة بني إسرائيل ويخدمون خدمة المسكنفتعطي اللاويين لهرون ولبنيه انهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيلوتوكل هرون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يُقتل (عدد 3: 6-11)
(15)Antiquities of the Jews, Flavius Josephus, Translated By William Whiston 
(16نري في سفر المكابيين الثاني لما علم يهوذا أنّ روما هي "القوي العظميالتي لها شوكة يستطيع أن يلجا إليها وأنها هي التي بيدها "الحل والعقد«ومن أرادوا مؤازرته وتمليكه ملكوه ومن أرادوا خلعه خلعوه» (2مك 8: 14) فأرسل إلى روما يطلب صداقتها ومناصراتها ويساعدوا اليهود في أن يرفعوا عنهم «النير لأنهم رأوا أن دولة اليونان قد استعبدت إسرائيل استعبادا» (2مك 8: 19)
(17) وإن كانت بداية الأسرة المكابية "ثوريةإلا أنه سُرعان مع أصبح حُكامها يبحثون عن إرضاء "القوي الخارجيةلكي يبقوا على كرسي الحكم وتحولت "الشريعةلمجرد شعارات لتحريك الناس.
(18)Against Apion, Josephus Flavius, Translated By John M. G. Barclay 
(20) Histoire Scientifique et Militaire de l'Expédition Française en Egypte, Louis Reybaud et al., 1830-1836
(21موسوعة مصر القديمة، دسليم حسن، الجزء 1.
(22).  Egyptian Literature,Volume I ,Miriam LichtheimAncient 
(23)Rise and Fall of Ancient Egypt , Toby Wilkinson, 2010 
(24). A History of Egypt, Volume I, W. M. Flinders Petrie, 1894
(25 تاريخ مصر من أقدم العصور الى العصر الفارسي، جيمس هنري بريستيد، ترجمة دحسن كمال.
(26) حكام الأقاليم في مصر الفرعونية، دحسن السعدي، 1991.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال