الاثنين، 6 مارس 2017

الجيش المصري و شعبه 12

الجيش المصري و شعبه 12
-البداية
(9)
 " قَدْ سَمِعْتُم أَنَّه قِيْلَ: تُحْبَ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ ابْغَضُوا أقربائِكُمْ وَأَحَبُّوا أَعَدَّائِكُمْ. بَارَكُوا مُغْتَصَبِيِكُمْ وَأَحْسَنُوا لَمِنْ يَسْرِقُونَ أَمْوَالَكُمْ، وَصَلُوا لِأَجِلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ لِدِينِكُمْ وَنَبِيِّكُمْ. لِكَيْ تَكَونُوا أَبِنَائِي حقاً. لِأَنَّه إِنَّ أُحْبِبْتَ قَرِيبَكَ فَمَا الْفَائِدَةُ الَّتِي تَعُودُ عَلَيكَ مِنْ هَذَا؟ أَلَيْسَ الْمُغَفَّلُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أيضاً. وَإِنَّ أُلْقِيتُم السّلامَ عَلَى اِخْوانكُم فَهَلْ سَيأْتُونَ الِيِكُمْ بِالْأَرْزِ وَالزَّيْتِ أَمْ سَيُمْرَضُونَ بَدَلًا عَنْكُمْ بِالضَّغْطِ وَالسُّكرِ؟ وَأَمَّا -يا نُور عَيْنَي- إِذَا اسئتم لَمِنْ يَسْرِقُكُمْ الًا يَدْفَعُهُ هَذَا لِعِقَابِكُمْ؟ وَإِنَّ اِنْتَقَمْتَ مِمَّنْ يَهزَئُونَ بَدينَكُمْ أَلَنْ يَقُولُوا عَنْكُمْ إِرْهَابِيِّينَ وَهَمَج؟ فَكُوِّنُوا عَقْلانِيِّينَ كَحاكِمِكُمْ الْأعْلَى لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعِيشُوا بِسَلام وَمُسْتَعِدِّين دَوْماً لِمُجَاوَبَةِ كُلْ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبَ الْهَبل الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَة وَخَوْف."
الإصحاح الثاني عشر من سفر الشئون المعنوية


رأينا فيما سبق كيف تستخدام الأنظمة الخُدعة "المنطقية" الساذجة التي تجعل الناس تُسلم بالوضع القائم بدون أن تتذمر أو تشكو منه أو تفكر في أن تُغيره وتثور عليه. وهي أن الملك أو الرئيس الفُلاني جاء "بإرادة الله"، وبالتالي لا يمكن الاعتراض على إرادته، فبالإضافة إلى كون هذا الاعتراض لا يُجدي نفعاً -كون أن إرادة الله نافذة لا محالة- فهذا أيضاً يجعلك من "الخوارج الكافرين". لكن مخزون الخدع لا ينفذ، فهُناك خُدعة آخري لا تقل سذاجة عن سابقتها، ومن الممكن أنّ هذا ما جعلها أكثر شيوعاً وانتشاراً، ولكنها هذه المرة يتم استخدامها بشكل رئيسي ممن يُعارضون تلك الأنظمة والخارجون عليها، وهي ما يمكن أن نُسميها بخدعة "التضحية والإخلاص" وهي تتلخص في أنه مادام أن الجماعة الفُلانية أو الفصيل العِلاني يموت من أجل ما يؤمن به فلا يُمكن اتهامه بالانتهازية أو العمالة أو الخيانة أو الغباء أو التعريص. فقادتها وأفرادها يدفعون "أثمان باهظة" سواء بقضاء سنوات عمرهم خلف القضبان والأسوار أو حتى بالموت على أعواد المشانق أو في ساحات الحرب والمعارك. فإذا ناقشت أحد المنتسبين لهذه الجماعة أو ذلك الفصيل وقُلت له أنكم انتهازيون عُملاء مُعرصون أغبياء، سيرد عليك –بهدوء وثقة- بأنه إذا كان ما تتهمنا به صحيح أليس كان من الأولي أن نفعل ما يُريدونه منا، وألا ندخل في صدام معهم، ألم يكن أنفع لنا أن نفعل ما يقولونه وأن نكون معهم وجزء منهم؛ فهذا –بمقياسك- سيكون أفيد وسنعيش آمنين مُطمئنين لا نخاف على أموالنا من المصادرة أو تُنتهك حُرمة نسائنا أو يُضطهد أطفالنا. ولو كان ينتمي لفصيل "مُجاهد" سيقول لك أنهم مخلصون أنقياء قد تركوا كل شيء خلفهم وما جاءوا إلا لإعلاء كلمة الله رغم ما سيجره هذا من بُعد عن الأهل والأصحاب وما سيعقبه من الملاحقة والاضطهاد.

حينما تسمع هذا قد تجد نفسك عاجزاً عن الرد فهذا الرد "العاطفي" على اتهاماتك جعل موقفك اتجاههم مُتعنت إن لم نقل قد أصبح في منتهي "الحقارة"، أن تتهم أُناس على هذا القدر من التضحية، فتتهمهم بالانتهازية أو التعريص أو حتى بالغباء. لكنك لو تأملت قليلاً فيما قيل لوجدت أنه قد تم خداعك، ولتري ذلك فلنضع ما قُلناه بشكل أكثر تبسيطاً: أنا أُضحي من أجل ما أومن به ---إذاً----> أنا مُخلص فيما أقوله ----وبالتالي----> لا يمكن أن يتم اتهامي بالانتهازية أو العمالة أو الغباء أو التعريص --- لأنه ---> لو كنت كذلك لم أكن لأُضحي من أجل ما أومن به.

 ولكي نري الخلل في هذا المنطق سنري نبذة لجماعة دينية ورد ذكرها المرة السابقة حينما كُنا نُلخص الأوضاع في الشام وهم "الدروز"، وهي طائفة نشأت من الشيعة الإسماعيلية، ففي عصر جعفر الصادق في القرن الثاني الهجري حينما عَهد بالإمامة لابنه إسماعيل لكنه مات في حياته، اختلف الشيعة فبعضهم قال أنّ إسماعيل هذا لم يمت وأن الإمامة في نسله ولكنهم أئمة "مستورين" خوفا من الاضطهاد والقتل، والبعض الآخر-وهم الشيعة الاثني عشرية- قالت أنّ الإمامة آلت لموسى الكاظم بن جعفر الصادق. وبما أنّ الإمام غائب مستور فلابد أن يكون هناك وسيط بين الإمام وشيعته ومن هنا نشأت فكرة الوكيل والنائب أو الباب والداعي الذي له اتصال مباشر مع الإمام والمكلف بجمع الأخماس ونشر الدعوة وجمع الأتباع استعداداً لظهور الإمام. كانت تلك الدعوة سرية في الأساس الأمر الذي بلور وساعد على انتشار التفسيرات الباطنية لنصوص الشريعة. 

وتنتشر الدعوة السرية الإسماعيلية حتى نصل إلى (عُبيد الله المهدي) الذي ينجح داعيته (عبد الله الشيعي) –الذي قتله عُبيد الله فيما بعد- في أن يؤسس نواة لدولة جديدة في المغرب ويُخبرنا المقريزي (1) عن عبد الله الشيعي هذا فيقول «هو الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن. ولى الحسبة في بعض أعمال بغداد، ثم سار إلى ابن حوشب (2) باليمن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم، وعنده دهاء ومكر» فلما مات داعية المغرب أرسله ابن حوشب بدلا عنه فاستطاع أنْ يجمع قلوب قبيلة كتامة الأمازيغية على التشيع حتى انتشرت دعوته «فصار يقول المهدى يخرج في هذه الايام ويملك الأرض، فيا طوبى من هاجر إليّ وأطاعني وأخذ يُغرى الناس بابن الأغلب (3) ويذكر كرامات المهدى وما يفتح الله له، ويعدهم بأنهم يملكون الارض كلها، وسيّر إلى عُبيد الله بن محمد رجالا من كتامة ليخبروه بما فتح الله له وأنه ينتظره، فوافوا عبيد الله بسلمية (4) من أرض حمص وكان قد اشتهر بها وطلبه الخليفة المكتفي(العباسي) ففر منه بابنه أبى القاسم (...) و لحقا ببلاد المغرب » 

ومن هناك يبدأ تأسيس الدولة الفاطمية حيث ينجح حفيده (المعز لدين لله) بقيادة (جوهر الصقلي) بدخول مصر في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، ثم يتولى الطفل الصغير (الحاكم بأمر الله) الحكم بعد موت أبيه (العزيز بالله) وينقل لنا (سلفستر دو ساسي) (5) ترجمة الحاكم بأمر الله الذي اعتمد فيها بشكل أساسي علي (المقريزي) فيقول « كانت ولادته في القصر بالقاهرة في يوم الخميس 23 من ربيع الأول في 375 من الهجرة (...) وفي شهر شعبان سنة 383 أعلنه أبوه العزيز بالله كولي للعهد بعده» وكان العزيز في عام 385 ه قد أنشأ ما عُرف "بمجالس الحكمة" و هو تقليد كان مُتبعاً في بداية نشأة الدولة الفاطمية بالمغرب لكنه لم يُعقد في مصر مُنذ دخول المُعز لها «ففي شهر ربيع الأول من هذه السنة، جلس قاضي القضاة محمد بن النعمان والذي كان يشغل بلا شك أيضاً منصب داعي الدُعاة علي العرش أو علي منصة في القصر بالقاهرة ليقرأ أوراق تتعلق بالعقيدة الفاطمية الباطنية» ولما مات العزيز وهو في طريقه علي رأس جيشه ليغزو أرض الروم وكان معه ابنه يرجع الخليفة الجديد إلي قصره بالقاهرة و هو لا يتجاوز 11 سنة ليتولى "مهام وظيفته".

ويرسم لنا المقريزي(6)–إذا سلمنا بكل ما يقول- صورة للحاكم بأمر الله إلي حدٍ بعيد جيدة ؛ فبعيداً عن قتله لوزرائه و دُعاته و كل من يُعارضه، وهو شيء "طبيعي" كان يجري ومازال في أروقة الحكم، وبعيداً أيضاً عن "تشدده" في منع بعض الأطعمة حيث يقول (المقريزي) أنه في عام 395هـ «قُرئ سجل في الأطعمة بالمنع من أكل الملوخية المحببة كانت لمعاوية بن أبى سفيان، والبقلة المسماة بالجرجير المنسوبة إلى عائشة رضى الله عنها، والمتوكلية (يبدو أنه نوع من الخضروات) المنسوبة إلى المتوكل (الخليفة العباسي ) وفيه المنع من عجن الخبز بالرجل » هذا غير السمك الذي بغير قشر والزبيب وغيرها؛ بعضها ممكن أن يكون هناك سبب "وجيه للمنع" مثلاً كالمنع من عجن الخبز بالرجل، ويُنقل أيضا أنه تم منع "الترمس المعفن" ولا أعرف كيف يؤكل هذا الترمس العفن؛ واحتمال –لكي لا نظلم الحاكم- أنه كان يُخمر فيصير نوع من "الخمرة الشعبية"؛ إلا أنه علي أي الأحوال كثير من تلك "الأوامر" و القرارات يمكن وضعها تحت بند "المكايدة السياسية" حيث كان هناك نزاع قائم بين الخلافة العباسية و "الخلافة" الفاطمية علي "الشرعية" . كما يحدث اليوم -مع الفارق الهائل بالطبع- مثلاً أن تجد بلداً "كمصر" في خلاف مع "تركيا" فتري هناك حملات لمقاطعة كل ما هو تركي حتى "المسلسلات التركية" اعتقاداً منهم أنّ هكذا نكون قد ثأرنا "لشرفنا" ومرغنا أنف تركيا في التراب.


قد تصل "المُكايدة" بشعب كامل لأن يتفاخر بأنه يتم "اغتصابه" يومياً، فلو كان منع الملوخية يبدو غريبا فما رأيناه –وما زلنا- تخطي حتى "المناخوليا".

 ويبدو أن الحاكم بأمر الله كان من النوع مُتقلب المزاج لذلك نري حالة من "التشدد" و "التسامح" من "المنع" و "التصريح" فيقول المقريزي أنه في العام 395هـ كان هناك «فحُش كثير وقدح في حق الشيخين رضي الله عنهما» لكنه يقول في أحداث 397هـ أنّ الحاكم أمر «بِمَحوِ ما هو مَكتوب على المساجد والأبواب وغيرها من سبّ السّلف، فمُحِي بأسره، وطاف متولي الشرطة حتى أزال سائر ما كان منه.» وأيضاً منع الناس من «سبّ السّلف وضُرب في ذلك رجل وشُهّر، ونودى عليه: هذا جزاءُ من سبّ أبا بكر وعمر» بل ومَنع عيد الغدير (7) من أن يُقام، «ومنع الناس من تقبيل الأرض للحاكم، وبمنعهم من تقبيل ركابه ويده عند السلام عليه في المواكب، والانتهاء عن التخلّق بأخلاق أهل الشرك من الانحناء إلى الأرض فإنه صنيع الروم، وأمروا أن يكون السلام عليه: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ونُهوا عن الصّلاة عليه في المكاتبة والمخاطبة» ولكثرة تقلباته وأوامره نجد خبر يتكرر عن "منشور" يوجه «بترك الخوض فيما لا يعنى، والاشتغال بالصلوات في أوقاتها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وألا يخوض أحد في أحوال السلطان وأوامره وأسرار الملك» ثم محاولة لطمأنه الناس فيقرأ منشور «أخر في سائر الجوامع بتسكين قلوب الناس وتطمينهم، لكثرة ما اشتهر عندهم وداخلهم من الخوف بما يجرى من أوامر الحضرة في البلد.» بل وكان يتكلم مع الناس وجه لوجه ويُضاحكهم في بعض الأحيان؛ وكانت ركوبته المفضلة، ليست "العجلة" كبعضهم؛ بل الحمار فهل رأيت تواضعاً أكثر من هذا؟
آخر "تجليات" الدابة الأثيرة لدي الحاكم بأمر الله ها هو حماره "الظاهر في الجسد".

ثم يروي لنا المقريزي قصة عن "غيبة" الحاكم بأمره في العام 410هـ ويقول أنّه اختلف مع أخته (ست الكل سُلطانة) (8) «فرماها بالفجور وقال لها: أنتِ حامل. فراسلت سيف الدين حسين بن عليّ بن دوّاس، من مُقدّمي كتامة، وكان قد تخوف من الحاكم، وتواعدا على قتل الحاكم وتحالفا عليه. فأحضر ست الكل عبدين وحلَفتهما على كتمان الأمر، ودفعت إليهما ألف دينا ليقتلا الحاكم» وكان الحاكم يعرف اقتراب أجله فقد أخبرته "النجوم" بذلك، ورغم محاولات أمه لمنعه من الخروج ليلة مقتله لكنه يُصمم ويذهب حيث كان ينتظره قاتلاه «فضرباه حتى مات، وطرحاه، وشقا جوفه ولفاه في كساء (...) وحملا الحاكم في كساء إلى أخته فدفنته» ثم تحاول "ست الكل" أن تُخفي غيبة أخيها بأن تقول أنها "تُراسله" وتأخذ منه الأوامر، ولما استقر لها الأمر أخذت البيعة لابن الحاكم وهو (عليّ الظاهر لإعزاز دين الله) و في النهاية تقتل كُل من تآمر معها لكي تدفن هذا "السر" ثم تموت هي أيضاً بعد أيام . يعني كل أبطال القصة ماتوا والمخرج مات والمشاهدين ماتوا ولم يعد هناك إلا أنت وأنا لنقرأ تلك القصة الشيقة.

لكن قبل غيبة الحاكم كان قدم مصر في العام 408هـ «داع عجمي اسمه محمد بن إسماعيل الدرزي واتصل بالحاكم فأنعم عليه. ودعا الناس إلى القول بإلهية الحاكم»  ويذكر (دو ساسي) أنّ (محمد بن إسماعيل) هذا غالبا تركي لأنه يحمل اسم "نشتكين" في الكتب الدرزية «ولُقب بالدرزي بدون أن يُعطينا أي من الكُتاب أي سبب لهذه اللقب، وكان طبقاً لشهادة كثير من المؤرخين ينتمي للفرقة الباطنية التي تؤمن بالتناسخ والحلول» وينقل عن أبو المحاسن بن تغري بردي (9) أن نشتكين كتب كتاباً يقول فيه أنّ «روح أدم انتقلت إلي عليّ بن أبي طالب و روح عليّ انتقلت إلي أجداد الحاكم بأمر الله ثم أخيراً سكنت هذه الروح في هذا الأمير(الحاكم بأمر الله)» واستطاع بهذا أن يحظى بعناية الحاكم بأمر الله الذي قربه وأدناه منه حتي أصبح لا يُبت في أمر إلا بعد أن يؤخذ رأيه فيه. وبينما يذكر المقريزي  أنه حينما سمع الناس في الجامع بالقاهرة نشتكين يقرأ لهم "عقيدته" تلك؛ ما كان منهم –بعد ان صدمهم ما سمعوه- إلا أن قتلوه وقتلوا معه جماعة ممن يقولون بقوله؛ ولكن (دو ساسي) يُشكك في أن يكون الدُّرزي قد قُتل في هذه الواقعة، ويُرجح عليها رواية بن تغري الذي يقول فيها أنه لما أظهر الدًّرزي الكتاب الذي ألّفه «وقرأه بجامع القاهرة ؛ فثار الناس عليه وقصدوا قتله، فهرب منهم ؛ وأنكر الحاكم أمره خوفاً من الرعية، وبعث إليه في السرّ مالاً، وقال: اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال، فإن أهلها سريعو الانقياد. فخرج إلى الشام، ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة، غربي دمشق من أعمال بانياس، فقرأ الكتاب على أهله، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال، وقرّر في نفوسهم الدُّرزي التناسخ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه؛ وأقام عندهم يبيح لهم المحظورات إلى أن انتهي» ولكن بعدها ظهر داع آخر، وهو المؤسس الحقيقي للدُّرزية «اسمه حمزة بن أحمد، وتلقب بالهادي (...) ودعا إلى مقالة الدرزي وبث دُعاته في أعمال مصر والشام، وترخّص في أعمال الشريعة، وأباح الأمهات والبنات ونَحْوَهن، وأسقط جميع التكاليف في الصّلاة والصّوم ونحو ذلك، فاستجاب له خلق كثير فظهر من حينئذ مذهب الدرزية ببلاد صيدا وببيروت وساحل الشام»

  ويُعرفنا هذا "الهادي" عن نفسه في أحد الرسائل المنسوبة للدروز مُعنونه بـ"رسالة التنبيه والتحذير" والتي نقل عنها (دو ساسي) حيث يقول «بسم الأزلي القديم، والمولى الكريم، والرب الرحيم، الواحد المنزه عن صفة الأحاد، الفرد الذي لا يشاكل الأفراد، المتعالي عن سمة الأعداد والأنداد، المولى المتعاظم عن معنى الصاحبة والأولاد، الحاكم الذي خضعت لهيبته جميع العباد. لم يتجانس مع المتجانسين، ولم يبلغ كنه وصفه الواصفين، ولا تدركه ابصار الناظرين، ولا تحوط بهويته افكار المتفكرين، مُبدع المُبدعات بقُدرته، وموحد الأشياء بمشيته، الذي أوجد القلوب عرفان طاعته، فأخذت القلوب من معرفته ما احتملت، وكشف لها من مكنون سره ما علمت. أبدع الأشياء بلا مثال، وهو الباقي الذي ما لملكه زوال.» قد تتخيل للحظة أنه يتكلم عن "الله" لكن كل كلامه هذا يتحدث عن إله "آخر" كانت آخر تجلياته هو "الحاكم بأمر الله" وبما أنّ حمزة بن أحمد هو من "اكتشف" الوهية الإله "الظاهر في الجسد" فقد خصه بالتأييد والفضل ثم يُقدم لنا "جنابه الشريف" «فالحمد لمن أبدعني من نوره، وأيدني بروح قدسه، وخصتني بعلمه، وفوض إلى أمره، وأطلعني على مكنون سره. فأنا أصل مُبدعاته، وصاحب سره وأماناته، المخصوص بعلمه وبركاته.» ثم يبدأ في "التفسير الباطني" لجوانب "عظمته" «أنا صراطه المستقيم، وبأمره حكيم عليم. أنا الطور والكتاب المسطور، والبيت المعمور. أنا صاحب البعث والنشور. أنا النافخ بإذن المولى سبحانه في الصور. (...) أنا صاحب الراجفة، وعلى يدي تكون النعم المترادفة. أنا ناسخ الشرائع، ومُهلك أهل الشرك والبدائع. أنا مُهدّم القبلتين، ومُبيد الشريعتين، ومُدحض الشهادتين. أنا مسيح الأمم، ومني إفاضة النعم، وعلى يدي يحل بأهل الشرك النقم. أنا النار الموقدة، التي تطلع على الأفئدة (...) فالويل كل الويل لمن حاد عن طاعتي وصدف، وبتوحيد المولى سبحانه وبإمامتي لم يعترف.»


أحد الكتابات المنسوبة للدروز وفيها يشرح نقض "الصلاة ظاهراً وباطناً " كما يقول.

 وفي رسالة آخري تحت عنوان (الغاية والنصيحة) يُهاجم حمزة بن عليّ مجموعة من الذين «غرّهم إمهال مولانا جلّ ذكره» ومنهم نشتكين الدرزي "لارتداده" عن "الدين الصحيح" بعد أن حسده على ما آتاه "ربه" فبعد أن "يتوكل ويستعين بأمير المؤمنين" يطلب منهم النظر في القرآن و"تدبر" آياته «حيث قال لمحمد": «قل من رب السنوات والأرض»، والرب هاهنا حجة لاهوت مولانا جلّ ذكره، والسموات هم النطقاء والأرض هي الأسس. ثم عطف في الخطاب وقال «قل الله»، يعني لاهوت مولانا بالحقيقة الذي لا يحد ولا يوصف. «قل أفاتخذتم من دونه أولياء»، يعني آلهة، «لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً»، يعني لا ظاهرا ولا باطناً. «قُل هل يستوي الأعمى والبصير يعني المشرك بمولانا والموحد له، إذ المشرك أعمى عن معبوده، والموحد قد أبصره بحسب طاقته. «أم هل تستوي الظلمات والنور»، والظلمات هم أئمة الضلالة والنور هو إمام الهداية والأنوار هم حدود مولانا جل ذكره. «خلقوا خلقاً كخلقه»، يعني نصبوا حدوداً كحدود مولانا جل ذكره سبحانه، «فتشابه الخلق عليهم»، يعني دعاة الشرك من دعاة التوحيد. «قل الله» يعني مولانا جل ذكره «خالق كل شيء وهو الواحد القهار»، يعني لا شريك له ويهلك الغالبين بسلطانه ويقهرهم بعظيم شأنه.»

وقوله "لمحمد" بلا صلي ولا سلم فهو يري أنه ليس هو "الرسول الحق" وأنه هو الرسول الواجب الإتباع ويدلل على ذلك بأن «الرسول الحقيقي هو الإمام لقوله في القرآن «هو» يعني مولانا جل ذكره «الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق»، ودين الحق هو دين المستجيبين الذي يهدى العالم الي دين الحق وهو دين مولانا جلب ذكره وعبادته «ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، يعني من اتخذ مع مولانا إلها غيره. وأنتم تعلمون أن لمحمد أربعمائة سنة وعشر سنين ولم يظهر دينه على الأديان كلها. واليهود والنصارى أكثر من المسلمين(...) فلو كان الرسول محمد له أديان هؤلاء الطوائف كلها لكان يجب أن يكون المسلمون أكثر العالمين وأغلبهم في الأولين والأخرين. فلما لم يصح للمسلمين ذلك علمنا بأن الرسول الحقيقي هو عبد مولانا جل ذكره وهاد إليه وإمام عن أمره لعبيده.»

 ثم يذكر نشتكين بالاسم-والذي كان أحد أتباعه- حيث يقول «وغطریس هو نشتکین الدرزي الذي تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين. وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الإمام ويدعي منزلته ويكون له خوار جولة بلا دولة. ثم تنطفي ناره. وكذلك الدرزي كان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامة حمزة ابن علي ابن أحمد الهادي إلى توحيد مولانا جلّ ذكره سبحانه وتعالى. وادعى منزلته حسداً له واعجاباً بروحه وقال قول إبليس» لذلك يلعن الدروز هذا النشتكين ولا يحبون أن يُنسبون إليه فيُطلق عليهم اسم "دروز" بل يُسمون أنفسهم "موحدين" فهم "أفضل" من وحد "الحاكم". من تلك الرسائل والكتابات والتفسيرات و"الهترفات" والخزعبلات التي ستكتسي برداء فلسفي زائف سيبدأ التأريخ لدين جديد، وما بين سرية المُعتقد وطلاسم التأويلات سيتوه الباحثون من أجل تلمس المعني المُراد. فيقول (دو ساسي) في بحثه عن الدين الدرزي أنه يأمل أن ما خطه في كتابه قد يجعل الإنسان الذي يمجد العقل يري إلى أي درجة ممكن أن يصل الانحراف بالعقل البشري إن تُرك دون هداية. وسيبدأ مع هذا أيضاً عصوراً من "الاضطهاد والتنكيل والمذابح" سيكون أولها علي يد (عليّ الظاهر بن الحاكم بأمر الله) نفسه حيث سيرفض الدروز الاعتراف بإمامته فهم ليس لهم إلا حمزة بن عليّ "إماماً للعصر والزمان "، ولهذا «عانى الموحدون خلال حكم الظاهر شتي أنواع الاضطهاد والتنكيل، كما ذهب منهم عدد كبير من الضحايا في الوقت الذي دامت محنتهم فيه ست سنوات وعدة أشهر. بيد أنهم، رغم هذه النكبات، تابعوا سيرهم بإيمان عميق دون أن يزعزع عقيدتهم خوف التنكيل والموت.» (10)

الآن ماهي علاقة هذه "القصة" بخدعة "التضحية والإخلاص" وما هي فائدة هذا السرد الذي لا يُفيد أصلاً؟ --كان من الضروري أن تري بنفسك البديهية البسيطة والتي عادة ما تتوه عنّا حينما تتغلب العاطفة علي العقل في أنّ إيمان شخص أو جماعة بشيء ليس دليل علي أنّ ما يؤمن أو تؤمن به "حقاً"، وأنّ "التضحية" من أجل هذا الشيء لن يجعله حقاً، وأنّ الإخلاص والتفاني والمعاناة والآلام - مرة آخري- لن تخدع أحد-بعيداً عن الأغبياء والمغفلين- بأنه حق. وإذا أعدنا كتابة ما قُلناه في أول التدوينة مع بعض التعديل فقلنا: أنا "دُرزي" أضحي من أجل ما أومن به --إذاً---> أنا مُخلص فيما أقوله --وبالتالي---> لا يمكن أن يتم اتهامي بالانتهازية أو العمالة أو الغباء أو التعريص -- لأنه ---> لو كنت كذلك لم أكن لأُضحي من أجل ما أومن به. فلن يخدعك هذا –ماعدا إذا كنت دُرزياً أو من أصحاب مبدأ "لست إخوانياً لكنهم إخواني"- ولن تعني لك "تضحياتهم" أو "إخلاصهم" أي شيء. وبالتالي فلا سبيل للاحتجاج بأنه "أليس كان الأفيد لنا أن نفعل ما يقولون أو نُسلّم لهم ونصبح مثلهم" فتاريخ الإنسانية ملئ بجماعات تموت من أجل أشياء مُتهافتة ساقطة لكنهم مع ذلك فضلوا "الموت والتضحية" على التسليم والرضوخ لأعدائهم. وأنه إذا لم نشكك في إخلاصك -الذي بلا قيمة- إلا أنه بالتأكيد يمكن وصفك بالإنتهازية والعمالة والغباء والتعريص بدون أن نكون قد تجاوزنا أو تحاملنا عليك وعلى ما تؤمن به. ومع هذا قد نتعاطف –إنسانيا- مع محنتك إلا أن هذا التعاطف لن يتحول إلى موافقة على تعريصك وغبائك.

يا تُري هل يبتسم هؤلاء غباءً أم هبلاً أم عبطاً؟ 

قد يُثار اعتراض بأن الدُّرزي وحمزة وأمثالهم في كُل عصر احتالوا على الناس وخدعوهم من أجل السُلطة والمال وأن أتباعهم كانوا مُخلصين أنقياء فعلاً ولكن قادتهم كانوا انتهازيين عُملاء؟ ـــوهذا أيضاً يُمكن أن نُطبقه على كثير من الجماعات والفصائل والحركات التي تدعي "التضحية والإخلاص" في سبيل ما تؤمن به فنحن نري انتهازية البعض وعمالة البعض الآخر من قادتهم ولكن يبدو أن أتباعهم لا يرون ذلك؛ وعلى هذا يمكن -مع التسليم "بإخلاصهم"- بأن نقول عن أتباعهم وجنودهم أنهم حمير أغبياء بدون أن يلومنا أحد.

  وقد يقول قائل لا نقول بهذا بل إنّهم هم وقادتهم مخلصون فعلاً ولكنهم "ضلّوا" الطريق؟ ـــوهذا أيضا يُقال على "جماعات" اليوم فهو "ضلّوا" الطريق وأضلّوا الملايين ورائهم ولم يُفيدهم لا "إخلاص" ولا "تضحية". ثم هل لا تعتقد أن أعدائك ليسوا هم أيضاً –من وجهة نظرهم- مخلصين، وأنهم يُقدمون التضحيات والأثمان الباهظة من أجل ما يؤمنون به؟ مع هذا فأنت لا يعينك لا تضحياتهم ولا إخلاصهم بل وتراها تضحيات كاذبة وإخلاص زائف. فما هو الفرق إذاً؟

 عند هذا الحد قد يستحمر أنصار هذا الفصيل أو تلك الجماعة ويقول أنّ القياس أصلاً خاطئ فكيف يتم المقارنة بين أهل "الحق" وأهل "الباطل"؟ ـــوهل تظن أن الدروز أو النصارى أو حتى الملاحدة يعتقدون أنهم "أهل باطل"؟  ثم إذا كنت تدعي أنك من "أهل الحق" فما هو سبب انتهازية وعمالة وغباء وتعريص جماعتك قادة وأفراد؟ وقد تظن -خطأ- أن العمالة هي فقط أن يستأجرك عدوك بشكل مباشر لتعمل لصالحه، أو أن الانتهازية لا تكون إلا حينما تستغل الفُرص على حساب الآخرين، أو الغباء هو فقط عدم الفهم أو أنّ التعريص يكون مقبولاً حينما تستخدمه من أجل " جلب مصلحة" أو لدفع "مفسدة"، كل هذا ما هو إلا جُزء من "الحيل" التي يسوقونها لتبرير انتهازيتهم وغبائهم وتعريصهم.

إنّه حتى إسرائيل تستخدم هذه الخُدعة "ببراعة" فالدعاية الصهيونية تلعب دائماً على "اضطهاد وتضحيات" اليهود عبر التاريخ والمعاناة والآلام التي لاقوها من أعدائهم بسبب تمسكهم "بيهوديتهم"، وتجعل هذا مُبرر لأن تكون هناك "دولة" لهؤلاء "الضحايا" حول العالم، فهذا أقل "تعويض" يُقدمونه لهم. يا تُري لماذا لم "يرضخ" يهود العالم "لمضطهديهم"؟ ألم يكن الأجدى لهم أن ينصهروا في المجتمعات التي يعيشون فيها؟ لماذا تضحياتهم تلك؟ أمِن أجل ما يؤمنون به؟ هل هذا دليل علي اخلاصهم؟ أيكون هذا مبرر مقبول لأن يكون لهم دولة علي أشلاء أصحاب الأرض؟

أخيراً قد يتم الاعتراض–وهو اعتراض في محله- بأنه باتباع "منطقك" هذا وإن لم نتفق على من معه "الحق" ستكون النتيجة الحتمية أن يُصبح "الكُل باطل"، لكن لندع الأمر-مؤقتاً- عند هذا الحد، ونبدأ في رؤية الرواية الثانية.
الرواية الثانية: الجاسوس.

يبدأ (المعلم نقولا) كتابه بقوله «بسم الله الحي القيوم، الأبدي الازلي، الدايم السرمدي، الواحد الاحد، الفرد الصمد. الذي لا رب غيره؛ وسواه لا يُعبد. من خلق السماوات وزينها بالكواكب السايرة والنجوم الساهرة وبسط الارض واتقنها بحكمته الباهرة وقدرته القادرة. وصنع الانسان وولاّه على ساير ما أبدع في دنياه؛ وجمله في العقل الفايق والذهن الرايق، وامره بالسير على الحق وحفظ السنن؛ وخلوص الود للخلق وترك الفتن.» ثم يبدأ في سرد سريع لقيام الثورة وإعلان "المشيخة" أو الجمهورية الفرنسية حتى أنه ينقل نص وصية (لويس السادس عشر) قبل أن تقع رأسه تحت المقصلة والتي يقول فيها أنه "برئ" من كل ما نسبوه إليه به لكنه مع ذلك لا يحمل لهم أي ضغينة «لا أدينهم بل أحبهم سوية بسيدي يسوع المسيح كما تُرشدني المحبة المسيحية (...) وانني اغفر من كُل قلبي لاوليك الذين قد أعلنوا ذواتهم اعداء إلى من دون أن يسبق لهم مني ادني سبب يُوجب ذلك، واسأل الله ان يُسامحهم ويغفر لهم ولاوليك الذين قد صنعوا معي شرا عظيماً.» دائماً ما لا يُدرك الطاغية طُغيانه، ببساطة لأنه لا يري نفسه "طاغية"، بل غالبا ما يعتقد في نفسه أنه "رسول" العناية الإلهية للجماهير الكادحة الفقيرة، ولولاه لمات الشعب جوعاً ولتحولت الأرض الخصبة إلى بور وخراب، بل لتوقف الكوكب عن لفه ودورانه، وانطفأت الأنجم واندثرت المجرات، ومع الوقت وايمان الناس و"التسليم" بصدق "رسالته"، يتحول من رسول العناية إلى "العناية" نفسها.


أخيراً انتهت آخر حلقات مسلسل "القرن" الذي بدأ تسجيله قبل ست سنوات والذي كغيره من المسلسلات لابد فيه ان ينتصر "البطل الذكي" على أعدائه الأغبياء؛ لكن بعض المُشاهدين اعتقدوا أنهم إذا أعادوا تكرار "الحلقة" الأخيرة فقد تتغير النهاية.

وبعد أن تم حز رأس الملك أصاب "المؤيدين" له حزناً عظيماً أما الشعب «فكان عنده سرور عظيم، وصنعوا في مثل ذلك اليوم عيداً في كل سنة تذكاراً لقتل الملك وانتصار الشعب، وكان ذلك في مبادي شهر ايلول (سبتمبر) سنة 1793 وجعلوه بدو سنتهم. ولقبوه تاريخاً للمشيخة وغيروا الاشهر النصرانية ورتبوها أشهر جديدة (11) وسموها اسامى مختلفة» ثم بعد إعلان الجمهورية يبعثوا برسائل لأصحاب الجلالة والسمّو يُعلموهم «ان كل مَنْ يقر بمشيختنا فهو حبيب لنا ومَنْ لم يقر بمشيختنا فهو عدو لنا ويستعد الي مُحاربتنا، لان قد استعدينا ان نحارب المسكونة باسرها. ثم كتبوا مثل ذلك الى الدولة العثمانية، وقد كانت هذه الدولة المذكورة من قيامها متحدة مع الدولة الفرنساوية دايماً، فقبلت كتابتهم وقرت بمشيختهم» واما "الملوك الافرنجية" فأعلنوا الحرب على فرنسا كما رأينا سابقاً حتى لا «تتشبه به بقية الشعوب. فأول من أشهر عليهم بالحروب ملك النمسا الامبراطور، لأنهم قد قتلوا شقيقته وزوجها ملكهم. ثم نهضت ضدهم دولة الانكليز، ثم سلطان اسبانيا، ثم سلطان ايطاليا، ثم البابا سلطان مدينة رومية العظيمة وباقي سلاطين بلاد أوروبا» حيث سيظهر نجم نابليون أمير الجيوش و «الليث الظاهر والاسد الكاسر، الفرد الفريد والبطل الصنديد»  وكما كانت رواية الجبرتي تُعاني من العيوب منها "التعريص" المستمر للشيوخ ومحاولة تبرير أفعالهم، فسيعيب كتاب المعلم نقولا "تعريصه" المبالغ فيه لفرنسا وقادتها وجنرالاتها و للشيوخ أيضاً لكن هؤلاء الذين كانوا "عقلاء" في أن جنبوا الناس "الفتنة" و سفك الدماء وكذلك من نبرة التشفي -بين السطور- في "الإسلام" وأهله.

ثم يبدأ أمير الجيوش غزواته فتنجح حملته علي إيطاليا فيسيطر علي البندقية ثم يدخل روما «بعد حروب شديدة و أيام عديدة مع عساكر البابا، تملك رومية وهزم البابا، و استولي علي كنوزه وذخايره، وسلب أموال أهل الجزيرة، وخرب نظام تلك المدينة الجليلة، وأهان طُغمة الاكلريكين والرهبان، وازدرى بالذخاير والصلبان، وكان اضطهاد عظيم على المسيحيين» ثم بعد عوته منصوراً يتم التجهيز للحملة علي مصر فيبدأها بالسيطرة علي جزيرة مالطا فيطلق سراح «المأسورين بها من الإسلام (12) وأرسلوهم الي بلدانهم بالسلام، و أوعدوهم بأن ما عاد يسير استيئسار على الاسلام من المالطية على الدوام، ثم امرهم ان يبشروا بذلك في جميع بلدان المسلمين ويشكروا بذلك فضل الفرنساوية.» نابليون سيظل "يُعاير" و"يمن" على المسلمين بذلك ويذكرهم ليل نهار بأنه "محرر المُسلمين" لكي يثقوا بأنه ليس له غرض في "احتلالهم" إلا "تحريرهم" ممن يستعبدونهم.


حينئذ كان العلماء المصريون قد اكتشفوا "الذرة" وحاولت اليابان سرقة هذا البحث حتى لا يتم اختراع القنبلة الذرية التي ستُلقي عليها في العام 1945. آه يا أولاد المعاتيه!!!

وعندما يعلم الإنجليز بخروج نابليون واسطوله ويعرفون وجهته يخرجون بأسطولهم ليطاردوه «لأنه كان بين الانكليز والفرنساوية عداوة عظيمة وحقود قديمة، وقد تسلّموا بعض بلدان في الهند كانت للفرنساویین. وبهذا السبب كان مسير الفرنساویین الي الديار المصرية، مؤملين انه، بعد تملكهم الامصار المصرية، يستسيرون في بحر السويس الى بلاد الهند، لان المسافة قريبة.»، سيذهب الأسطول الإنجليزي إلي الإسكندرية –حيث يتوجه نابليون- ليحذروا "المصريين" من الهجوم المرتقب وقد رأينا في رواية الجبرتي أنّ الإنجليز لما قابلوا (محمد كُريّم) حاكم الإسكندرية و أخبروه بالهجوم المحتمل من قبل الفرنسيين أنه جاوبهم بخشونة و رفض منهم أي مُساعدة اعتقاداُ منه بأنها مكيدة، فيخبرنا (المعلم نقولا) بأنه لما طلب الإنجليز مقابلة حاكم المدينة توجه الي مقابلتهم «کمرکجی (13) الإسكندرية السيد محمد كريم الذي كان متروسا ً(مُترأس) من قبل الأمير مراد بيك وبعد وصوله للمراكب سألهم عن سبب قدومهم فاخبروه انهم طالبون عمارة الفرنساوية لكي يصدوها عن الدخول الي ثغر الإسكندرية. فارتاب السيد محمد كريم وقال في نفسه: ما هذا الا خداع عظيم، واجابهم: ان الفرنساوية غير ممكن انهم يحضروا لبلادنا، ولا لهم في أرضنا شغل، ولا بيننا وبينهم عداوة، ولا جلبنا عليهم رداوة. وهذا كلام غير مُمكن ان نصدقه، وان حضروا كما تزعمون فنصدهم عن الدخول وليس لهم الينا وصول (...) فرجع السيّد محمد كريم وهو حاير من ذلك البلاء العظيم. وفي الحال اعرض ذلك الامر الى مراد بيك الى مصر» وما هي إلا بضعة أيام فيظهر الأسطول الفرنسي على شواطئ الإسكندرية بسفنهم «التي ليس لها عدد» فنجد فجأة –طبقاً لوصف نقولا- الذين كانوا يتشدقون بأن لا أحد يستطيع أن يضع قدمه علي تُراب الإسكندرية "الطاهر" يتحولون إلى "فئران مذعورة" وبسرعة يبعث (محمد كُرّيم) إلي (مراد بك) يقول له «سيدي إنّ العمارة (الأسطول) التي حضرت مراكب عديدة ما لها أوّل يُعرف ولا آخر يوصف. لله ورسوله داركونا بالرجال. وفي تلك الليلة أرسل ثلثة (ثلاثة) عشر ساعياً بلا خلاف، وقد أيقنوا بالموت والتلاف.»

وفي تلك الأثناء "على ما بال “مراد بك يتناول الغذاء و "يحبس بالشاي التقيل" ويبعث بالرد أو بالرجال، كان الفرنسيين قد نزلوا من سُفنهم وبدأت تحضيراتهم «وعند الصبح نظرت أهالي البلد الى العساكر في البر ليس لهم عدد ولا لهم على حربهم جلد. فتأهبت الاسلام الى الحصار ومحاربة تلك الكفار، وأطلقوا المناداة: اليوم يوم المغازاة (الجهاد).» لكن الأسلحة قد "صدأت" من عدم استخدامها إلا على "المدنيين" ولا يوجد إلا القليل «من البارود واكثره كالتراب من طولة الايام» وما هي إلا «نحو ساعتين من النهار حتي تملكت الافرنج الاسوار، ودخلت المدينة قوة واقتدارا» ويُجرح في تلك المعركة الجنرال( كليبر) جرحاً كبيراً ، ويطلب الناس الأمان فيؤمنوهم ثم يذهب أعيان المدينة لمقابلة "الفاتح" «فتوسلوا اليه فترحّب بهم وأمّنهم، واختار منهم سبعة انفار من الاعيان الكبار وهم: الاستاذ الفاضل والحاذق العاقل الشيخ محمد المسيري العالم العلّامة والمشهور بالفضل والمكرمة، ثم السيد محمد كريم عين الاعيان و رئيس الديوان، ومعهم خسة انفار من اهالي الإسكندرية الأخبار ، وقلدهم زمام الأحكام و ما يحتاج اليه البلد من النظام، وان كل يوم يعملوا ديوان مشهور ويحكموا بما بينهم من الامور، وقال لهم انه على مقتضى الحرية يجب ان تتقلد الاحكام عقلاء الرعية، لان الخلق عند الله كل بالسوية، وليس يتفضل احد على الآخر الا بالعقل والنية 

 الشيخ المسيري علي وجه خاص سيحظى بعناية نابليون لأنه رأي فيه مثال الرجل "المناسب" فيبعث له (نابليون) برسالة بعد أن أثبت "ولائه" وأُعجب "بإخلاصه" فقد كان من ضمن "مآثره" دوره في اثبات تهمة الخيانة علي (محمد كُرّيم) حينما وقعت تحت أيديه رسائل تثبت تورطه وخيانته "لولي نعمته الجديد" فسلمها لهم. فيقول نابليون له في 28 أغسطس 1798م «الجنرال كليبر عرّفني بتصرفك وأنا راضي عنه. أنت تعرف التقدير الخاص الذي أكنه لك منذ اللحظة الأولي التي تعرفت فيك عليها. آمل في ألا يتأخر الوقت الذي سأستطيع فيه أن أجمع كُل علماء وحكماء هذا البلد لأنشئ بهم نظام مُوحد يُبني على مبادئ القرآن، فهي وحدها الصحيحة، والتي تستطيع هي فقط أن تصنع سعادة البشرية. فلتعتمد دائما على دعمي واحترامي.»(14)

رغم أنّ تاريخ المصريين ملئ بأمثال المسيري إلا أنهم لا يتعلمون أبداً فكل يوم يصنعون "بُرهامي" جديد.

  ثم يأمر نابليون بإحضار المطابع التي جاء بها ليبدأ "يقرفنا" بمنشوراته التي لا تنتهي فكانت أول رسالة لأهل مصر التي نقلها (نقولا) «حرفاً فحرفاً » وهي الرسالة التي نقلها (الجبرتي) والتي قلنا عنها أنها تحمل المفاتيح الأساسية لأي حاكم يريد أن يحكم المنطقة ، ولكن هناك اختلافات "بسيطة" بين النصوص التي ينقلها (الجبرتي) وبين ما ينقله (المعلم نقولا) فمثلا في تلك الرسالة نجد ا(لجبرتي) ينقل «فإن كانت الأرض المصرية التزاماً للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل و حليم، ولكن بعونه تعالي من الان فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية ، وعن اكتساب المراتب العالية ، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور ، وبذلك يصلح حال الأمة كلها » أما نقولا فينقل "نفس" النص كالآتي «فان كانت الأرض المصرية التزام للمماليك فليوردوا الحجة التي كتبها لهم الله رب العالمين، هو رءوف وعادل على البشر. بعونه تعالى من اليوم وصاعداً لا يستثنى أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية. فالعقلاء والفضلاء والعلماء بينهم سيدبروا الامور، وبذلك يصلح حال الامة كلها.» لكن نص (الجبرتي) أكثر فصاحة من نص (نقولا) والذي يبدو أكثر كنص مُترجم كما هو واقعاً.

يبدأ الفرنسيون في التوجه إلي بندر رشيد (15) فيتم "تسليمها بلا قتال" «خوفاً من الضرر» وسيُعيّن الجنرال مينو حاكماً عليها «وهذا الجنرال كان بطلاً من الأبطال» وحينما تصل الأخبار القاهرة يجتمع الوالي والأمراء والشيوخ ليروا ما سيفعلونه بهذا «البلاء العظيم والخطب الجسيم» ونري خضرة الشريفة (مراد بك) لما قرأ رسالة (محمد كُرّيم) قد كشّر عن أنيابه حتي تظن أنها أنياب "ماموث مُنقرض"، وطالت مخالبه حتي من طولها يُخيل إليك أنها سيوف قاطعة «واحمرت عيناه واضطرمت النار في احشائه ، وأمر بإحضار الخيل للركوب، و سار الي منزل ابراهيم بيك علي ذلك الأسلوب.» فيتهم الدولة العثمانية بأنها هي التي وراء ذلك بسبب خلاف (مراد بيك) وبقية الأمراء معها ويقول للوالي «ان هؤلاء الفرنساوية ما دخلوا على هذه الديار إلا بإذن الدولة العثمانية، ولا بد الوزير عنده علم بتلك النية، ولكن القدرة تساعدنا عليكم وعليهم. فأجابه الوزير: لا يجب عليك أيها الأمير ان تتكلم بهذا الكلام العظيم، ولا يمكن ان دولة بني عثمان تسمح بدخول الفرنساویة على بلاد الاسلامية، فدعوا عنكم ذلك المقال وانهضوا نهوض الابطال واستعدوا للحرب والقتال.» فيتفقون علي حبس القنصل الفرنسي والتجار الفرنسيين في القلعة خوفاً من الخيانة، ويضيف نقولا أن أكثر «العلماء والأعيان» "هاجوا" يطلبون قتل النصارى كلهم قبل السير لمحاربة الكفار لكن «بالمراحم المولي عزّ شأنه» قد «عطف وحنّن» عليهم قلب الوالي و شيخ البلد (إبراهيم بيك)وطمئنوهم علي ارواحهم وأموالهم حيث قالا «غير ممكن اننا نُسلم الي هذا الغرم الرأي، لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والشان»

ثم يسير (مراد بك) علي رأس جيش من «ما ينوف عن عشرين ألف مُقاتل من فارس وراجل» لملاقاة الفرنسيين عند دمنهور، فلما تلاقي الجمعان «رموا بعضهم بالمدافع والقنابر، فسقطت احدي القنابر علي المراكب الذي كانت به الجبخانة ، فطار البارود و احترق المركب و الذي بقربه من المراكب، و كانت الناس تتطاير بالجو كالطيور» وظهر عسكر الفرنسيين علي عسكر مراد بك فما كان منهم إلا أن ولوا مُنهزمين  «الي ان و صلوا الي محل يُقال له الجسر الاسود ، واقاموا هنالك في غاية الذل والنكد. فهذا ما كان من مراد بيك. وذلك التدبير وما اصابه عسكره من الذل والتدمير.» فلما وصلت الأخبار القاهرة بالهزيمة «كان يوماً مهولاً، وقامت اهالي البلد بالسلاح والعدد، وتهددوا النصارى وصاحوا: اليوم قد حل قتلكم يا ملاعين، وصرتم غنيمة للمسلمين.» ويبدأ الاستعداد لملاقاة الفرنسيين علي "أبواب القاهرة" فمن ناحية النيل يقف (إبراهيم بيك) في بولاق أم (مراد بيك) فيقف من ناحية امبابة «احتساباً بان الفرنساوية اذا اتوا بحراً يتلقاهم ابراهيم بيك، واذا اتوا براً يتلقاهم مراد بيك» ويبدأ الترقب والانتظار، ثم تأتي اللحظة الحاسمة فتظهر قوات الفرنسيين براً و بحراً ويتقدم الصفوف الجنرال (دبوي) «الجبار العنيد والمعد في الحرب بألف صنديد» و تبدأ المعركة  فيحمل عليهم (أيوب بيك) الدفتردار «البطل المغوار والاسد الهدار ويقتحم بحصانه وسط الغبار، و صاح في الاعداء : ويلكم يا ليئام، ساقكم الغرور لفتح هذه الثغور. اليوم نملي منكم القبور، ونجعله عليكم يوماً مشهور.» لكن في تلك الرواية أيضا لا تتغير النتيجة ويُهزم المماليك فالشجاعة وحدها لا تكفي فيهتفوا «الفرار الفرار من حرب هؤلاء الكفار. وولّت العربان وانهزمت الشجعان. واذ ضاق عليهم ذلك السبيل القوا أرواحهم في بحر النيل، فما سلم منهم إلا القليل. وكان قد سقط قتيل وداسته الخيل ذلك الجبار والاسد المغوار ايوب بيك الدفتردار، ولم يبان له علائم ولا اثار، بعد ان قتل جمعاً غفير وثبت قدام تلك الجماهير.»

بعد انقشاع غبار المعركة وانتصار الفرنسيين يهرب الأمراء و الشيوخ والزعامات ومن لدية مقدرة علي الهرب فالوالي وإبراهيم بيك وبعض الزعامات يهربون باتجاه الشام ويطاردهم الفرنسيون حتي العريش أما مراد بيك فيهرب باتجاه الصعيد أما الشيوخ الكبار فاستتروا عن الأعين لحين رؤية ما الذي ستؤول إليه الأوضاع؛ وفي حين أنّ الجبرتي قال أنّ بعض الشيوخ اجتمعت في الأزهر ورأوا أن يبعثوا للفرنسيين بمراسلة طلباً للأمان بعثوها مع «شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر بصحبته» وقال كلام يُفهم منه أنه بعد أن جاءت "البشارة" ذهبوا فقابلوا " نابليون" لكن (المعلم نقولا) يقول  أن القاضي والأعيان اجتمعوا في الصباح و اتفق رأيهم علي أن التسليم لهم «أصلح وحقن دماء المسلمين أنجح وأربح» فأحضروا القنصل الفرنسي و التجار الذين كانوا محبوسين في القلعة «وطلبوا منهم ان يسيروا معهم الى بولاق و یاخذوا لهم الامان. فأشار عليهم القنصل ان يتوجه اثنان من التجار ومحمد کتخدا ابراهيم بيك، وساروا الى بر امبابة» حيث قابلوا الجنرال دبوي، فلما طلبوا منه الأمان أخبرهم «ان من ألقى سلاحه حرم قتاله، فلهم منى الامان ومن امير الجيوش ومن كل من في هذا المكان. وانما يلزمكم في هذه الليلة ترسلوا المعادي والقوارب لننقل بهم العساكر، لان مرادي في هذه الليلة ادخل البلد.» فيدخل نابليون وجنوده القاهرة ويبدأ في تنظيم الإدارة الجديدة (16) فيتم تولّية «ذلك البطل العنيد والليث الصنديد، صاحب العز والنصر المشيد، الذي كان بين تلك الجيوش فريد» الجنرال (دبوي) حاكما للقاهرة «اقامه شيخ البلد مكاناً ابراهيم بيك، لان ذلك الانتصار وفتح تلك الامصار كان عن يد هذا الجبار»، و(ديزيه) «وكان هذا الجنرال برج مشيد وبطل عنيد.» حاكماً للصعيد، و(دوجا) «الحسن السورة (الصورة) صاحب الوقايع المشهورة» حاكما علي المنصورة، والجنرال (مورا)  «وكان من الابطال الشداد (...) و كان شابا بالسن بديعاً بالحسن » علي القليوبية والجنرال (لانوس) «الرجل الوديع المانوس، وكان خبيراً بالحروب ومقداماً على الشدايد والخطوب» حاكماً علي المنوفية، أما الجنرال (فيال) «وكان حميد الخصال و بطل من الأبطال» فحاكماً علي دمياط، ثم يتم انشاء الديوان من الشيوخ الكبار كالشرقاوي والمهدي والبكري للنظر في شئون الناس، وبدأت تسير الأمور في مجراها الطبيعي، لكن لن يصفو الجو للفرنسيين فـ "الغُز(17)" «بدأوا في تهييج العربان والفلاحين علي العصاوة والقيام ضد الفرنساوية» وتواترت المكاتيب من إبراهيم بيك، فيجمع نابليون شيوخ الديوان ويُخبرهم أنه ما جاء إلا بالاتفاق مع الدولة العثمانية لمحاربة روسيا «واسترجاع ما تولوا عليه بالتغلب من أراضي المسلمين.»

وينتج عن هذا الاجتماع منشور جديد "علي لسان المشايخ" يوزع لتحذير الناس من الفتنة ويخبروهم فيه بأن الفرنسيين "حليف استراتيجي" للعثمانيين «وهم احباب لمولانا السلطان ، قائمين بنصرته ، واصدقاء له ملازمين لمودّته ومعونته ، ويحبون من ولاه ويبغضون من عاداه. وكذلك بين الفرنساوية والمسكوب (روسيا) غاية العداوة الشديدة، لأجل عداوة المسكوب للإسلام واهل الموحدين. وأعلمهم ان المسكوب يتمنى الاخذ لاسلامبول المحروسة، ويعمل انواع الحيل والدسايس المعكوسة في اخذ ساير الممالك العثمانية الاسلامية، لكنه لا يحصل على ذلك بسبب اتحاد الفرنساوية وحبهم واعانتهم الى الدولة العلية.» فلا تسمعوا لكلامهم الفارغ وادفعوا ما عليكم من الأموال وكونوا عباد الله "طيبين وسطيين مهاودين" لأنّ «بونابارته اتفق معنا انه: لا ينازع احداً على دين الاسلام، ولا يعارضنا فيما شرع من الاحكام، ويرفع عن ساير الرعية الظلم، ويقتصر عن اخذ الخراج، ويزيل ما ابدعته الظلمة من المغارم ولا تعلقوا امالكم بإبراهيم ومراد، وارجعوا الى مالك الممالك وخالق العباد، فقد قال نبيه ورسوله الاكرم: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم عليه أفضل الصلوة والسلام»

ثم يحاول نابليون استمالة (مراد بيك) فيبعث له للدخول في "طاعته" ويجنب نفسه ومماليكه إراقة الدماء فيقابل الرسول بالترحاب لكن يبدو أنّ مراد بيك من النوع "اللي يخاف ميختشيش" فجاوبه "بألاطه" تدل على الغباء أن يرجع ويقول لنابليون أنّ «يجمع عساكره ويرجع الي الإسكندرية، ويأخذ منا مصروف عسكره عشرة آلاف كيس، ويكسب دماء اجناده، ويريحنا من كفاحه وجلاده.» وحين يسمع (نابليون) ذلك يستشيط غضباً ويُرسل الجنرال (ديزيه) لتبدأ حملته على الصعيد.

 عندها يُدمر الأسطول الإنجليزي السُفن الفرنسية في أبي قير ويأسر من يأسر ويقطع خط امداد الجيش الفرنسي تماماً والسبب في ذلك هو أن «سر عسكر البحر» لم يُنفد أوامر نابليون باليقظة لحماية هذا الثغر فهو مُتنفس الفرنسيين في حال حدث ما يُعكر الصفو، فتصل الأخبار (نابليون) «فصار كالمدهوش، وصفق بكفه ودب برجليه واحمرت مقلتاه، وتسخط على ذلك الجنرال لعدم اطاعته والامتثال، وقال: جزاه ما حل به من الوبال» ويقول (نقولا) عندها أيقن الفرنسيين «بالتهلكة بعد كسب المملكة، لحجز الامداد عنهم ونفور الاسلام منهم. لأن الفرنساوية قد استعملت احتيالات كثيرة، وسلكوا مسالك غزيرة لأجل الضرورة، كاشتهارهم بالإسلامية ونكرانهم النصرانية، واظهارهم للحرية واقرارهم بالاتحاد مع الدولة العثمانية. وانهم بإذنهم دخلوا الديار المصرية، وانهم مع الاسلام على أخلص طوية وأصلح نيّة، ويرغبون راحتهم ويُحبون ديانتهم.» 

ويضيف أنّه مع أن الفرنسيين "ناس زي السُكر" «وأحسن سلوكاً من ساير الجنوس. وأشهروا بالأمن وطوله البال وطيبة النفوس، ونشروا العدل وحسن الاحكام. وقد احتووا الشرائع الحقيقية على التمام.» إلا أن هؤلاء المسلمين "ناس مش تمام" فقلوب «الاسلام غير آمنة والاحقاد في ضمايرهم كامنة. ويشتهون لهم المهالك والوقوع في الضيق المسالك.» ورغم ما تعانيه رواية المعلم نقولا من عيوب إلا أنها سمحت لنا بأن نري الحملة الفرنسية من وجهة نظر "مؤيد" ومع قلة التفاصيل التي تحتويها إلا أنها مع ذلك تفاصيل مهمة لأنها تجعل الصورة التي نرسمها عن الأجواء أثناء الحملة الفرنسية أكثر دقة. سنتوقف عند هذا الحد ونكمل-إن شاء الله- المرة القادمة.
**************************************************************************
(1) تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (766هـ-845هـ) مؤرخ مصري، من كتابه الشهير الخطط المقريزية أو المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار.
(2) هو أبو القاسم الحسن فرج بن حوشب (266هـ-302هـ) داعية الإمام المستور العاشر الحسين بن أحمد علي اليمن لُقب بـ "منصور اليمن" لانتصاراته ونجاح دعوته.
(3) دولة الأغالبة حكمت أجزاء واسعة مما يعرف الأن بليبيا وتونس والجزائر وصقلية ومالطة لما يُقارب 100 عام حتى قضي عليها الإسماعيليين في 296هـ تحت امرة عبد الله الشيعي.
(4) البارون أنطوان-ايزاك سلفستر دو ساسي (1758م-1838م) مُستشرق فرنسي، عن كتابه: 
  Exposé de la religion des Druzes
(5) السلمية مدينة سورية مُقدسة لدي الشيعة الإسماعيليين، فكانت مركزاً للدعوة، كما أنّ فيها –كما يقولون- مرقدين لأئمتهم وهما أحمد بن عبد الله بن إسماعيل وابنه الحسين.
(6) المقريزي في كتابه: اتعاظ الحنفاء بأخبار الفاطميين الخلفاء.
(7) من الأعياد المهمة عند الشيعة عموماً، حيث في موضع يُسمي "غدير خم" أعلن الرسول صلي الله عليه وسلم-كما يعتقدون- تنصيب علياً خليفة من بعده أمام المسلمين بعد عودته من حجة الوداع.
(8) ذكر البعض أيضاً أن اسمها "ست المُلك" كأبو المحاسن بن تغري بردي الذي سيأتي ذكره، وأياً كان اسمها –فالحمد لله-  أنّ المؤرخين متفقين على أنها "ست".
(9) أبو المحاسن بن تغري بردي (813هـ-874هـ) مؤرخ مصري، من كتابه الشهير: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة.
(10) من كتاب تاريخ المسلمين الموحدين "الدروز"، د.صالح زهر الدّين.
(11) كأي ثورة تحاول دائماً قطع كل ما يمت بصلة للنظام السابق وما يُمثله فأشياء بسيطة كتغيير العلم أو تغيير أسماء الشهور أو حتى-في الثورات العبيطة- تغيير اسم "أمن الدولة" "للأمن الوطني" له مفعول السحر في عقول الجماهير. وقد استمر العمل بأسماء الشهور الجديد هذا لحوالي 12 سنة.  حيث انتهت مع قيام نابليون بانقلابه وترسيمه امبراطوراً.
(12) يستخدم (المعلم نقولا) كلمة "الإسلام" ويريد بها المُسلمين. فيقول "حارب الإسلام" " هُزم الإسلام" بمعني حارب المسلمون وهُزم المسلمون.
(13)  كمركجي من كمرك أو جُمرُك-التي مازلنا نستخدمها- وهي الرسوم التي تُدفع على البضائع الداخلة إلى الميناء و "جي" دالة على الوظيفة بمعني أنه المتولي إدارة تحصيل تلك الرسوم كما نقول عربجي: الذي يقود العربة أو عرصجي: وضيفته التعريص أو ينايرجي: بلا وظيفة حالياً.
(14) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte 
(15) بندر تعني التاجر كما في شهبندر أي رئيس التجار، أو تعني ميناء لكنها أصبحت تُطلق على المدينة الكبيرة والتي يتبعها قري وكفور وما زلنا نستخدمها لليوم.
(16) سنري في رواية الغزاة معلومات أكثر عن جنرالات نابليون.
(17) الغُز هم المماليك المجلوبين ويقال في المثل الشعبي "آخرة خدمة الغُز علقة" دلالة على عدم وفائهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال