الثلاثاء، 21 فبراير 2017

الجيش المصري و شعبه 11

الجيش المصري و شعبه 11
-البداية
(8)


" هُوَذا الْحاكِمِ الْأعْلَى رَاكِب عَلَى حِمَارِهِ وَقَادِم إِلَى مِصْر ، فَيَرْتَجِفُ مَمَالِيكُهَا مِنْ وَجْهِهِ ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْر دَاخِلِهَا. فَيَنْزِلُ عَنْ حِمَارِهِ وَيَقُول: " سَأُهَيجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّين، فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاه وَكُل وَاحِدِ صَاحِبِهِ لَنْ يَنْجُوَ أحَدٌ سأدخلها مَدِينَةُ مَدِينَة، وَقَرْيَةُ قَرْيَة وَدَار دَار وَزَنَقَة زَنَقَة حَتَّى أَجَعَلَهُمْ كَالْبَهائِمِ لَا تُفِقْهُ شيئاً، وَسَيَجُفُّ النَّهْرُ وَيُتْلِفُ الْقَصَبُ وَالْأَرْزُ وَالْخَشْخَاشُ، وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النَّيْلِ تَيْبَسُ وَتُتَلَاشَ. وَالْغَلاَّبَة يَبْكُونَ وَيَئِنُّونَ مِنَ الْأسْعَارِ، وَالْأَغْنِيَاءُ يُصِيبُهُمْ دَاءَ السُعَارِ. فَيَذْهَبُونَ يَسْتَشِيرُونَ الشُّيُوخَ الْكبار وَالزَّعامَات وَيَسْأَلُونَ الْعَرَّافِينَ وَالْعَرَّافَات. إِنَّ الشُّيُوخَ الْكبارَ أغْبِيَاء مَشُورَتِهُمْ بَهِيمِيَّة كَيْفَ يَقُول الْوَاحِدُ مِنْهُمْ :" أَنَا مِنْ وَرَثَةِ الْأنبياءِ ! أَنَا الْحَكِيمُ بْنُ الْحَكِيمِ !" فَأَيْنَ هِي حِكْمَتُهُمْ تِلْكً الَّتِي يَدَّعُونَ ؟ لَقَدْ أَضُلُّوا مِصْر فِي كُلِ عَمَلِهَا فَأَصْبَحْتْ كَالْسَّكْرَانِ يَتَرَنَّحُ فِي قَيْئِهِ فَلَا يُكَوِّنْ لِمِصْر بَعْدَ الْآنَ عَمَلُ تُعْمَلُهُ لَهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنْبَ.""
الإصحاح الحادي عشر من سفر الشئون المعنوية


انتهينا المرة السابقة من مُجمل "الرواية الأولي"، وهي رواية الشيخ (عبد الرحمن الجبرتي) فيما يخُص الحملة الفرنسية، والتي رأينا فيها صورة مُصغرة للواقع الذي مازلنا نعيشه حتي الآن مع اختلافات "شكلية"، تم فيها فقط تبديل المُسميات بوضع "وطني" بدلاً من مُحتل؛ فأصبح "جيش الاحتلال" هو "جيش وطني" -رغم أنه لا فرق يُذكر بين الإثنين- ومن شيوخ يرتدون العمامة و "الكاكولا" إلي شيوخ يرتدون البدلة و "الكرافت" -لكن هو هو نفس التعريص بلا أي تغيير- الذين ابدلوا "خليفة" و "والي" باسم "ملك" أو "رئيس"؛ ثم "عوام المسلمين" المُغفلون الذين يُسامون سوء العذاب أياً كان مَنْ يحكم ويدعوهم الشيوخ للتسليم بقضاء الله و عدم الخروج علي الحاكم و يحذرونهم من الفتنة و الدماء؛ لكن حين الحاجة إليهم يدعونهم لبذل دمائهم و لجهاد أعداء الله الخوارج الكُفار، أما الآن فلم يعودوا "عواماً للمسلمين" بل أصبحوا "مواطنين شُرفاء" مُستعدين لمسح موطئ أقدام خُدام الحاكم لكي يرضي عنهم، لكن مع هذا لم تتحسن أوضاعهم فمازالوا في أسفل "السلسة الغذائية" التي يتغذى عليهم مَنْ يحكمهم و مَنْ يُعرّص له.

ورغم أننا رأينا "ثورتين للقاهرة" (1) خلال سنوات تواجد الحملة الفرنسية في مصر إلا أننا رأينا أنها ثورات تُعاني من نفس ما تُعانيه ثورات اليوم من غباء القائمين بها والمشاركين فيها وعدم تعلمهم لدروس بسيطة وبديهية ، هذا طبعاً بالإضافة "للخيانة" و العمالة التي هي صفة مُميزة لقادتهم، مع الأخذ في الاعتبار أنه وقتها لم يكن ما فعلوه يندرج تحت مُسمي "ثورة" بل كان يُسمي "جهاداً"؛ فنصوح باشا الوالي في "ثورة القاهرة الثانية" حينما خاطب العامة لم يقُل لهم "ثوروا" ضد الاحتلال بل قال لهم: «اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم» لكن الكُتاب الوطنيون يأبون إلا أن تكون ثورة لأن الجهاد مُصطلح بالأساس لا يعترف بحدود "وطنية".

ثورة أم جهاد؟ نجد البعض يُحذر من استخدام مُصطلح "ثورة" ويُصر–بغباء- على الترديد الببغاوي بأنه لا ثورة في الإسلام وأنه لا يوجد إلا جهاد وحسب؛ وهذا راجع جزء منه للمفهوم الذي مازال يُردده الشيوخ إلى اليوم بأنه طالما الحاكم "مُسلم" وطالما أن "حدود الشريعة" تُطبق " وأنه "يُسمح" بإقامة الصلوات ولا تُمنع إقامتها، فلا سبيل إلى "خلع" الحاكم مهما كان ظالماً فاسداً عرصاً حماراً غبياً إمعة. رغم أنّ قراءة سريعة للتاريخ الإسلامي كافية بأن تجعل الأعمى يري القمر حين خسوفه، لكنه العناد الغبي، ففي القرون الثلاثة الأولي- وهي خير القرون- لا يُمكن بحال أن نُطلق علي ما نشب بين المسلمين من نزاع و احتراب و قتال علي "مَنْ هو أحق بالحكم و السُلطة" أن نُسميه "جهاد"؛ لأن تلك "الفتن" كما أُطلق عليها لم تكن من أجل "إعلاء كلمة الله" بل كانت من أجل الوصول للسُلطة، وهذا واضح، فالذين "ثاروا" علي عُثمان وقتلوه لم يكونوا يسعون لنشر "كلمة الله" بل فعلوا ذلك لتوليته "ذوي القُربي" و انتشار "المحسوبية" في "حكومته" ؛ والذين رفعوا قميصه المُخضب بالدماء لم يرفعوه طلباً للقصاص بقدر ما كانت حُجة "للقفز علي السُلطة"؛ والذين "تمسحوا" بآل البيت لم تكن عيونهم تزرف الدمع علي الحُسين وأخوته وبنيه الذين قُتلوا واحد تلو الآخر إلا لأن هذا من "شروط الولاية".

لقد كان العالم الإسلامي يموج بتلك "الثورات" من شرقه لغربه وإن كانت في كثير منها تحمل "شعارات دينية" أو كفّر "الخارجون" على السُلطة مَنْ يحكمون، أو شنّع الحاكم على "مُنافسيه" بأنهم "مجوس (2) زنادقة" إلا أنّ محور الصراع لم يكن الدين بل كانت السُلطة هي محوره ومبتغاه وما استُخدم الدين إلا وسيلة فقط لزيادة "السواد والأتباع"؛ إنّ تلك الصراعات والثورات كانت دليلاً على أننا أمام أمة فتيّة في أوج قوتها، على عكس ما نراه مُنذ قرون طويلة حيث تحولت تلك الأمة إلى "وليمة شهية" تتداعي عليها أمم الأرض؛ فالأمة التي لا تُشعل الثورات و الحروب هي أمة ذليلة ميتة ، فلو استطعنا أن نحذف الثورات و الحروب التي مرت عبر التاريخ الإنساني، فما الذي سيتبقى حينها منه إلا أحداث رتيبة مُملة عن أناس يأكلون و يشربون ويتناسلون، حتي أنك تستطيع اختصار هذا التاريخ كُله في عبارة واحدة: " كان يعيش هُنا بشر و ماتوا".

"أبو التاريخ" يسأل: "لماذا الشعب نائم؟"، فتجعلك إجابته تلعن أبو التاريخ علي أم التاريخ قائلاً: "وي كأن الهطل ليس حكراً على "الانقلابيين"!"

فإن كان البعض يقول-غباءً- بأنه: " لا ثورة في الإسلام هو جهاد وحسب"، فالبعض الآخر يقول هذا "تعريصاً" لصالح "ولي الأمر"، فالجهاد هو إما لقتال الكُفار ونشر الإسلام أو دفاعاً عن المُسلمين ومقدساتهم وحيث أنّ "طويل العُمر" حاكم مُسلم فلا محل للكلام عن جهاده، وبتأصيل أنه "لا ثورة في الإسلام" فهكذا لا يكون هناك أي تهديد "للعرش-للعرص"؛ ومن ثم يُدخلك في متاهات الجدال عن "نواقض الإسلام" والتكفير والتي تُستنفذ فيها طاقتك بدون أي جدوى لمحاولة اثبات "كُفر الحاكم". إن هؤلاء الذين لن يتحركوا مع ما يرونه من ظُلم وفساد وعمالة وخيانة إلا إذا كان الحاكم كافراً الأفضل أن يظلوا جالسين أمام الشاشات يُتابعون "عرب أيدول" أو "شيوخ أيدول" المُعرّصين فالأمر سيان فكُلها "أصنام".

لقد رأينا مَنْ يسأل عن: "لماذا لا يثور المصريون؟" فإذا أخذنا هذا السؤال وبدلنا الثورة بالجهاد وقلنا: لماذا لا يُجاهد المصريون؟ هل يا تُري ستتغير الإجابة؟ فلتفكر في الإجابة "مع نفسك" لكن خُذ حذرك فلو نزلت الشارع وسألت أحدهم سؤال كهذا لربما "سبلك الدين" ولو كررت عليه السؤال فغالباً سيُدرك أنك "مُختل عقلياً" أو "إرهابي إخواني ماسوني" أو في أفضل الأحوال سيبتسم قائلاً: "ماهو عزمي "مجاهد" بس عرص بن كلب؛ يا عم سيبك!". فمَنْ لم يتحرك من أجل "قوت يومه" وفضّل العيش بذلة واستمرئ المهانة وسحق الكرامة لا يُمكن أن تجد دعوته ليبذل حياته كي "تكون كلمة الله هي العليا" إلا نظرات السُخرية والاستهزاء. إنّ أي حاكم-مع استثناءات قليلة- مُسلماً كان أو كافراً، مُنذ فجر التاريخ أو حين نهايته، لا يتخلى عن السُلطة إلا بحد السيف؛ لذلك وبعيداً عن أي "تمويهات" جدلية أو مُماحكات فقهية، إن كان حُكام اليوم ومؤيديهم كُفار فجهادهم "واجب" وإن كانوا مُسلمين فالثورة عليهم "سُنة" من سُنن التاريخ.

الرواية الثانية التي سنستعرضها -كما قلنا- هي من كتاب (ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية) لمؤلفه (المعلم نقولا الترك) وحقق الكتاب العميد الركن د. (ياسين سويد) الذي يقول أنّ (المعلم نقولا): «كاتب شامي، اشتهر فيما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (1763م-1828م)، بألمعيته وشاعريته وسعة اطلاعه، وبنسيج من العلاقات الحميمة التي أقامها مع الأمراء والأعيان وكبار القوم في كل من مصر وبلاد الشام. إنه المعلم نقولا بن يوسف بن ناصيف آغا الترك.». ويصر المُحقق-من مُنطلق "وطني"- على كون (نقولا) "سورياً" وليس "لبنانياً" ويعتبر هذا: «افتئات علي الحقيقة التاريخية، وتجاوز للموضوعية العلمية، في سرد وقائع تاريخ هذا البلد.» وليجعلنا نُدرك: «المدى الذي وصلت إليه عملية التضليل التي كرسها بعض المؤرخين اللبنانيين "كحقيقة لا مراء فيها “وذلك من خلال كتابتهم لتاريخ لبنان» ويحتج بمُترجم الكتاب للفرنسية "ديغرانج اينيه Desgranges aîné "(3) الذي يذكر أنّ (نقولا): «"سوري"، وأنه ولد في " دير القمر" بسوريا» خاصة وأن (ديغرانج) نشر تلك الترجمة بعد عشرة سنوات فقط من موت (نقولا): «أي عام 1839، حين كانت "إمارة الدروز" أو "الإمارة الشهابية" لا تزال هي الكيان التاريخي المعروف لهذا الجزء من بلاد الشام.» وأياً كانت "الحقيقة" "فالباحثون" مجموعون-كما يقول- على أن مؤلف الكتاب: «(...) من أسرة يونانية استوطنت القسطنطينية عاصمة السلطنة العثمانية، واعتنقت الكثلكة في اوائل القرن الثامن عشر، ثم نزحت إلى بلاد الشام حيث استقرت في عاصمة الشهابيين. ومن جراء وجودها السابق بالقسطنطينية اكتسبت تلك العائلة لقب الترك.»

وإذا ذهبنا لترجمة (ديغرانج اينيه) والتي حوت كلا النصين؛ النص العربي الأصلي والفرنسي المُترجم، نجده يلفت انتباه قُرائه من »المُستشرقين الشباب الذين كرسوا حياتهم لدراسة لغة مُحمد« بأنه لم ينشر الكتاب فقط ليُقدم لهم نص سهل الدراسة وأسلوبه لا يخلو من جمال(4) ولكن أيضاً لكي «ينشر اسم فرنسا عالياً بين العرب أنفسهم» ورغم أن فرنسا قد خسرت مصر تلك "المُستعمرة الغنية" ولم تستطع الحفاظ عليها بعد أن سيطر عليها "30 ألف من أبناء فرنسا" إلا أن هذا لا يُقلل من أنّ "انتصاراتنا في مملكة الفراعنة القديمة" تدعو للإعجاب وهكذا فبعرضها علي "سُكان جبال الأطلس (5) وهم شهود علي عزيمة جنودنا التي لا تفتر و الأمراء الشباب في طليعتهم فسوف يُمكنهم تعلم تلك الوقائع الخالدة التي أظهرتها قواتنا علي ضفاف النيل»، ثم يقول (اينيه) أنّ كتاب (نقولا الترك) يبدو أنه كُتب "بوعي و موضوعية" رغم عدم معرفة كاتبه بالفرنسية و لم يرجع إلي أي من "الوثائق الرسمية" إلا أنّه قدم، بقدر عال من الدقة، الوقائع التي لم يكن هو شاهد عيان عليها، وعلي ما في الكتاب من أخطاء لكنها في مُجملها ليست ذات أهمية فهي تتعلق «بعدد القوات و أعدد القتلى و الجرحى و السجناء» وأنه في بعض الأحيان لم يكن إلا مُردداً للأخبار التي كانت تُقال في القاهرة. مع ذلك فلا نتوقع أن نجد في هذا الكتاب تحليل نقدي للأحداث التاريخية كما هو الحال «في كُتبنا التي تتناول الأحداث التاريخية والتي تجعل قرأتها كما هي مُفيدة فتكون أيضاً شيقة» كما يقول (اينيه) فهذه الطريقة في كتابة التاريخ «بعيدة عن الشرقيين» فكتاباتهم التاريخية ليست إلا تسجيل زمني للأحداث «خالي من أي بحث عن أسباب الأحداث وعلاقتها ببعضها وعواقب كُل منها» ويذكر (اينيه)-كما نقل مُحقق الكتاب- أنّ (نقولا الترك ) كاثوليكي «ولد عام 1763 في "دير القمر" بسوريا حيث عرفته» وأنّ «عائلته أصلها من إسطنبول كما يُخبرنا هو عن نفسه في قصيدة ألفها تكريما لبونابرت» وقد كان (نقولا) في خدمة الأمير (بشير الثاني) قائد الدروز حيث أرسله الأمير لمصر حيث قضي ثلاث سنوات مدة تواجد الحملة الفرنسية مما مكنه من جمع قدر كافي من المعلومات التي استخدمها في كتابة الكتاب الذي بأيدينا. ويذكر (اينيه) أيضا أنه في المكتبة الملكية بفرنسا يوجد كتاب آخر باللغة العربية يتناول الحملة الفرنسية لمؤلف «مُسلم قاهري يُدعي عبد الرحمن الجبرتي يروي فيه الوقائع التي حدثت في مصر ابان تواجد الجيش الفرنسي.» وأنّ هذا الكتاب يحوي تفاصيل «مثيرة جداً للاهتمام».

لكن قبل أن ندخل في محتوي الكتاب يجب أن نسرد بشكل موجز مُقتضب الأوضاع في الشام في تلك الفترة؛ والتي كانت لا تختلف عن الأوضاع التي رأيناها في مصر، فبدلاً عن الأمراء "المماليك" المجلوبين الذين يحكمون تحت عين ورعاية الباب العالي. كان في الشام هناك "أُسر" تحكم فنسمع عن آل عمر وآل شهاب وآل العظم وآل جنبلاط تلك الأسر الإقطاعية –كالمماليك- في حالة تنافس وتناحر وكل يسعي "للاستقلال" بما تحت يديه وتوسيع منطقة نفوذه. لذلك تجد أنّ هناك حالة سيولة ما بين تحالف وعداوة مستمرة؛ ثم دائما البحث عن قوة-غالبا ما تكون خارجية- للاستقواء والحماية من غضب الباب وسلطانه.

ويقول (فيليب حتى) في "تاريخه" (6) أن الأتراك أبقوا علي: «الدوائر الادارية في سورية على نحو ما كانت عليه في عهد المماليك؛ لكنهم بدّلوا بعض الشيء في نظام التسمية: فدُعيت "النيابة" "ولاية"، وعُرِف "النائب" بـ “الوالي". وصار لقب التعظيم الذي يلي اسم الوالي "باشا"، فصار "للباشوية" و "الولاية" مدلول واحد. وكانت ولاية حلب في وقت ما تشتمل على سبعة سناجق (اقاليم أو مناطق). اما ولاية دمشق، التي اتسعت بإضافة القدس وصفد (مدينة شمال القدس) وغزة اليها، فقد أنيطت بجان بردي الغزالي. وهو نائب دمشق الخائن الذي تواطأ مع زميله نائب حلب (خاير بك) على الغدر بالغوري. بحيث غدا الغزالي هذا النائب الفعلي للسلطان في سورية. اما سائر الدوائر الادارية فقد اسندت الى حكام من الترك. وعلى إثر حركة التمرد التي قام بها الغزالي (بعد موت السلطان سليم الأول) قسمت سورية الى ثلاث ولايات هي: دمشق، مشتملة على عشرة سناجق اهمها: القدس ونابلس وغزة وتدمر وصيدا وبيروت؛ ثم حلب وفيها تسعة سناجق بينها شمالي سورية؛ ثم طرابلس، وفيها خمسة سناجق منها: حمص وحماة وجبلة وسلمية وقد جُعلت صيدا سنة 1660م ولاية من اجل أن تكون مركزاً للرقابة على بيروت.»
خريطة استرشادية (7) للتقسيم الإداري العثماني للشام في 1914م.

لكن ظل (لبنان) له وضعه الخاص كما يقول (فيليب حتى) بسبب ما فيه من «الدروز الاشداء والموارنة المُعتصمين بالجبال(...) فقد قضت الضرورة على السلطة بوجوب اعترافها بمكانة الامراء الاقطاعيين من أهله، لاسيما والخطر الحقيقي إنما كان مبعثه مصر (حيث المماليك) وفارس (حيث الدولة الصفوية). وكان السلطان سليم قد استقبل، وهو في دمشق، وفداً من امراء لبنان على رأسه فخرالدين الأول المعني من أهل الشوف (منطقة جنوب بيروت)»


وكان (فخر الدين المعني الأول) قد نصح "أقرانه" في معركة مرج دابق الشهيرة بين العثمانيين والمماليك "بالتريث" وعدم أخذ جانب لأي من الطرفيين لحين رؤية مَنْ المنتصر لينضموا له. وحين قابل السلطان سليم ألقي خطبة "تعريصية" أعجبت السُلطان فـ «ثبته وباقي الامراء اللبنانيين في اقطاعاتهم، وترك لهم الامتيازات الاستغلالية التي طالما نعموا بها في عهد المماليك، ورتب عليهم جزية خفيفة نسبياً واُعتبر فخر الدين، من ثم، الزعيم الاكبر في الجبل، حتى عرف بـ "سلطان البر". ودرج سلاطين بني عثمان بعد ذلك على حكم الجبل، اما مباشرة بالاعتماد على اتباعهم من حكامه الأهليين، او بواسطة أحد الولاة السوريين المجاورين. وكان هؤلاء الحكام، بوجه العموم، مستقلين استقلالا داخلياً، يخلفون اقطاعاتهم ارثاً لبنيهم، ويمارسون السلطة المطلقة على رعاياهم. ويجبون الرسوم والضرائب على هواهم، ولا يلزمون مع ذلك بتأدية أية خدمة عسكرية الى السلطان؛ بل قد عمدوا احياناً إلى عقد المعاهدات مع الدول الاجنبية.» وكان المتعارف عليه وقتها أنّ تلك «الأسر الاقطاعية» يقوم الأمير بتقسيم ممتلكات الإمارة إلى اقطاعات وتُوزع على «"المقدمين" أو "المشايخ"».

ويقول (فيليب) أن تلك الانتهازية الميكافيلية لـ«زعماء لبنان الإقطاعيين» ليست غريبة عليهم فهم قد زاولوها "ببراعة" حتى قبل أن يكتب "ميكافيلي" رسالته "بقرون طويلة" «فلعبوا لعبتهم هذه في غضون القلاقل التي ادت الى قيام الفاطميين والايوبيين والافرنج والمماليك والتتر اسياداً عليهم. وعندما احتل الصليبيون بيروت وصيدا، استولى امراء الغرب من بني بحتر على بعض الأراضي المجاورة واتبعوها في قطاعاتهم، وقدموا خدمات عسكرية للإفرنج ولم يترددوا مع ذلك في انشاء علاقات مماثلة مع المماليك (...) وفي غضون النزاع الذي نشب بين التتر والمماليك، كان لهؤلاء الامراء احياناً ممثلون في الجهتين، وهو موقف يضمن لهم ان يكونوا في الجانب الفائز أيا كان هذا الجانب. وهكذا فان سياسة الانتظار والحذر والمداهنة، التي زاولها ابناء هذه السواحل في القرن الرابع عشر قبل الميلاد استمروا عليها حتى عهد فخر الدين والامير بشير.» ونتيجة لذلك وبعد الفتح العثماني أصبح "بنو معن" لهم الكلمة العليا في «لبنان الأوسط والجنوبي» وفي عام 1590م حين تولي (فخر الدين الثاني) -حيث بلغ نفوذ المعنيين ذروته- تسلم ولاية بيروت وصيدا من السُلطان أحمد في ذلك الوقت؛ لكنه سُرعان مع ازدادت شهيته للمزيد، فحمل على والي طرابلس (يوسف سيفا) في الشمال-مع أنه والد زوجته- و «انتزع من يده السيطرة على لبنان الشمالي. ولم يلبث بنو حرفوش من شيعة بعلبك؛ وزعماء البدو في البقاع وفي المنطقة الجنوبية حتى الجليل، ان خضعوا لأمير لبنان الناهض.»

ثم تحالف (فخر الدين) مع «ثائر من زعماء الاكراد اسمه على جانبولاد (جنبلاط) قد استأثر بالحكم في ولاية حلب سنة 1606م» واتسعت الرقعة التي يسيطر عليها وأصبح لديه من الموارد المالية ما مكنه من تشكيل جيش قوي وازدهرت حركة التجارة في عهده ثم أخير أفاق السلطان أحمد من سُباته العميق فوجه له جيشاً في عام 1613م «لم يتمكن أن يقوم بعظيم أمر في ثنايا الجبال» لكن حين وصول بوارج السُلطان من البحر لتحاصره قرر فخر الدين «بوحي العقل» أن يُغادر لبنان ويذهب لإيطاليا وترك الإمارة لأبنه (عليّ) يساعده أخو فخر الدين (يونس). لكنه يعود مرة آخري بعد خمس سنوات مٌحبطاً بعد أن فشل في أن يعود «بحملة من الدول الأوربية والبابا معه». ليستكمل ما بدأه ويسترجع ما فقده وتخدمه الظروف فيموت حماه (يوسف سيفا) فيصبح الطريق امامه خاليا مما يضطر الباب العالي في 1624م للتعامل مع الأمر الواقع والاعتراف بـ(فخر الدين) «سيداً على "عربستان" من حلب حتى حدود مصر» لكن المُلفت للنظر-والطريف في نفس الوقت- أنه لا أحد يعلم ماذا كانت "ملة" فخر الدين ومن جاء بعده من الأمراء حيث ينقل (فيليب حتي ) عن دارفيو(8) «أنّ الأمير كان علي دين قومه "الذين لا دين لهم"» والبعض يقول أنه تنصر و لكن (حتي) يُرجح أنه من «المحتمل أنه كان هو وسائر المعنيين قد اعتنقوا الاسلام في الظاهر، امام اصحاب السلطة من العثمانيين وأمام جمهور الناس، ولكنهم احتفظوا ضمناً بالدرزية ومارسوها مع ابناء قومهم.» هذه الشخصيات "الانتهازية" التي لا تعرف "ملتها" والمتلونة حسب "البيئة" المُحيطة هي النموذج السائد في تلك الفترة حتى الآن؛ وما "الحاج محمد علي باشا" مُنشئ اسطورتنا إلا نموذج مُبتذل لها.
"يُحكي أن مجلس من اللصوص والحرامية كان في مأزق خطر؛ فاستعان بجماعة من الانتهازيين والمعرّصتية ليُساعدوه، فلما زال الخطر وضع المجلس الجماعة في السجون لحين الحاجة إليهم، فظنت الجماعة أنهم "أصحاب قضية"" قصة قصيرة مُملة من حياة المصريين.

بعد أن وصل الأمر لهذا يوجه السلطان (مراد الرابع) واليه على دمشق (كوتشك باشا) في 1633م بالتوجه لمحاربة (فخر الدين الثاني) وفي نفس الوقت يتوجه اسطول من البحر لحصاره فيتفرق عن (فخر الدين) "حُلفائه" ويُقتل ابنه (عليّ) في المعارك فيهرب ليختبئ لكن يُكشف مكانه ويقاد مكبلاً للقسطنطينية عام 1635م حيث يتم «حز رأسه ورؤوس أبنائه الثلاثة الذين اعتقلوا معه» وهكذا تم انهاء حُكم المعنيين فينتخب أعيان لبنان عام 1697م الأمير (بشير الشهابي الأول) ليبدأ حُكم الشهابيون وبعد بشير الأول يأتي الأمير (حيدر الشهابي ) عام 1707م ثم ابنه (ملحم) في 1732م «الذي اضاف البقاع و بيروت الى ممتلكاته ، لكنه ابقى قاعدته في دير القمر. وتأتى عن هذا التوسع اصطدامه بوالي صيدا ووالي دمشق، وكلاها من آل العظم» ويؤدي هذا الصراع بين تلك "الأسر" «إلى قيام وضع جديد في سياسة الاحزاب اللبنانية، هو انقسامها الى جبهتين: آل جنبلاط، وآل يزبك، وكان بنو جنبلاط قد أصبحوا من اقوى الاسر الدرزية واوفرها ثروة. اما آل يزبك فقد تحدر إليهم هذا الاسم من زعيم لهم من آل عماد، وهم كذلك اسرة درزية جاءت اصلا من منطقة الموصل. وقد اتسع هذا الانقسام حتى تخطى الطبقة الارستقراطية وتسرب الى الموارنة. وهذا النزاع الذي نشب بين الاسر في العقود الاخيرة من القرن الثامن عشر، استمر ناشطاً حتى العقود الأولى من القرن العشرين.»

ثم يتنازل الأمير ملحم في 1754م عن الإمارة فيتنازع أخواه منصور وأحمد عليها؛ فيميل آل جنبلاط لمنصور بينما يميل آل يزبك لأحمد لكن حينما يبلغ (يوسف بن ملحم) أشده يحسم تلك الخلافات ويتولى الإمارة فيتنازل له منصور عنها ويُنادي بيوسف «حاكماً على الجبل». لكن قبل ذلك ظهرت شخصيتان تُنافس الشهابيين على مناطق النفوذ هما (ظاهر العمر-(1689م-1775م)) و (أحمد باشا الجزار-(1734م-1804م)) ففي «حوالي سنة 1737م ظهر على المسرح السياسي شاب بدوي اسمه ظاهر العمر (آل عمر)، كان الامير بشير الاول قد عين اباه شيخاً، والحقه بحاكم صفد.» لكن ظاهر استطاع توسيع منطقة "مُلكه" فضم طبرية واستعان «بالشيعة في الجليل الاعلى وهم الذين تحملوا طويلا ظلم الموظفين الاتراك، لتحرير المنطقة من حكامها. فكانوا على اتم الاستعداد لتأييد اي زعيم يعمل على تحريرهم. ولم تلبث نابلس والناصرة ان خضعتا له: وكانت الغنيمة الكبيرة التالية، التي وقعت في يده، مدينة عكا (1750م)؛ وكانت في حالة من الدمار الجزئي منذ عهد الصليبيين، فحضنها المغتصب الجديد وجعلها مقره» وتحالف ظاهر أيضا مع (علي بك الكبير) الذي استغل ضعف تركيا وهي مشغولة بحرب ضروس مع روسيا فأرسل تابعه (محمد بك أبو الذهب) -والذي سيخون سيده بدوره- للسيطرة على دمشق في 1770م فينجح في هذا. في تلك الفترة جاء أحمد الجزار هاربا من مصر؛ ويدخل في حماية الأمير يوسف الشهابي حيث ستبدأ أولي خطواته نحو "المجد".

ونقرأ في صحيفة "البريد المصري"(9) التي كانت تُصدرها الحملة الفرنسية للجنود لرفع الروح المعنوية لهم، نبذة عن تاريخ الجزار فتقول «لقد تكلمنا كثيراً عن الجزار باشا في هذه الصحيفة ولذلك فنبذة عن تاريخ هذا المُغتصب للحكم لن تكون في غير موضعها. ولد الجزار في البوسنة واسمه الحقيقي أحمد فرّ إلي القسطنطينية وعمره 16 عام هربا من العقوبة بسبب محاولته اغتصاب امرأة أخيه(10) ولما لم يكن يمتلك شيئاً باع نفسه لتاجر عبيد الذي كان يجلبهم لجيش المماليك» ثم بعد فترة حين جاء الجزار لمصر عمل لدي عبدالله بيك  كاشف البحيرة (11) لكن بدو البحيرة قتلوا هذا الكاشف فانتقم له الجزار بأن أعمل فيهم القتل و حز منهم الرؤوس الأمر الذي أكسبه شهرة و حصل علي اللقب "الشريف" الجزار، وأصبح من تابعي علي بيك الكبير الحاكم الفعلي لمصر في ذلك الوقت الذي استخدم "قُدرات" الجزار في التخلص من مُعارضيه فيُثبت جدارته و يمنحه علي بيك البكوية فيصبح أحمد بيك الجزار لكن حين يأمره بقتل صالح بيك –وهو مُنافس علي الكبير في الزعامة- يرفض الجزار لصداقته له فيأمر عليّ بيك تابعه محمد أبو الذهب بقتل كُلاً من صالح و الجزار؛ فأحس الجزار بذلك فهرب مرة ثانية لاسطنبول، ثم يدخل «كجندي في قوات الأمير يوسف أمير الدروز، حيث كان صعوده بشكل سريع فيُعيينه يوسف حاكماً علي بيروت المدينة الساحلية السورية لكن بالكاد تقع المدينة تحن سيطرته حتي يُسلمها للأتراك.» فيتحالف أعداء الأمس ظاهر العمر والأمير يوسف مع الروس لاستعادة بيروت فيهاجموها براً فحين تقصفها البحرية الروسية، فلا يجد الجزار بُدا إلا التسليم لكن (ظاهر العمر) يُعامله "برفق"-احتمال أنه رأي فيه شخصية يمكن الاستفادة من "قُدراتها" – ويدخله في تابعيه لكن الجزار يهرب من جديد ويدخل في حاشية السُلطان التركي وينعم عليه السُلطان عبدالحميد حين توليته بلقب باشا و يجعله حاكماً لصيدا ويصبح سيد الأمس أمير الجبل (يوسف الشهابي) تابعاً له فيظل الجزار مُتربصا به مضيقا عليه و يستغل ما بين الأمراء من نزاع  فيدعم آل جنبلاط لحربه وبعد أن يُدبر يوسف الشهابي انقلابا فاشلاً علي عدوه اللدود الجزار يتنازل عن الحُكم ويقوم الجزار بشنقه ليظهر أمير جديد للجبل تابعاً للجزار وهو الأمير بشير الثاني الذي كان لا يقل دهاء ووحشية عن الجزار نفسه. أما ظاهر العمر-الرفيق- فيبعث الباب العالي بناءً على دعوات الجزار، بأسطول يضرب عكا بالمدافع في حين يُحاصرها الجزار بقواته وفي النهاية يستسلم "الظاهر" ولكن الجزار لا يُظهر أي رفق به ويقتله ويأخذ عكا ضمن سًلطانه ويبدأ في تحصينها وتكوين "جيشه" الخاص حيث يُصبح "رجل الشام القوي".

في تلك الأجواء بدأ الشاب اليافع الأمير بشير الثاني "الكبير"(1767 م – 1850م) إمارته الذي تمرس على الخداع والمؤامرات والنفاق لكي يبقي؛ وهو كسابقيه لا تُعرف له ملة لكن في عهده ستبدأ عملية تنصير للشهابيين بسبب أن كثير من القري الدرزية ونتيجة للاستعانة بالموارنة كعمال وفلاحين أصبحوا أكثرية فرأي الأمير أن تكون "نُصرانياً" أفيد وبالتالي سنجد أن كثير منهم قد "غيّر دينه" –الغير معروف أصلاً- "للدين الجديد". وسينتج عن هذا التغير "الديموغرافي" الكثير من المشكلات تأخذ شكل "الحروب الأهلية" التي ستستمر حتى وقتنا الحاضر. وستستثمر "القوي العظمي" هذا التشرذم والتفتت" فتخضع كُل أقلية "لحماية" دولة كبري تستغلها للحفاظ على مصالحها فتكون النُصيرية تحت حماية روسية والموارنة النصاري تحت حماية فرنسية أما الدروز فحمايتهم انجليزية.

المرشحة للرئاسة الفرنسية (مارين لوبان) عن حزب الجبهة الوطنية اليميني "المتطرف" في زيارتها الأخيرة للبنان.

ولهذا نستطيع ان نفهم لماذا أرسل بشير الثاني المعلم نقولا لمصر أثناء الحملة الفرنسية عليها فهو كان يُريد أن يعرف هل تستطيع فرنسا مُساعدته؟ وهل ستستطيع الانتصار؟ لكي يري مَنْ سينتصر ليكون معه كما فعل فخر الدين قبلها بقرون. فنابليون -كما رأينا- في رواية الجبرتي كان قد بعث هدايا ورسائل للجزار فهو أيضا بعث برسائل لبشير الشهابي. فيقول نابليون في رسالته (12) للجزار بتاريخ 22 أغسطس 1798م يستميله ويعرض عليه صداقته بلهجة "رقيقة عذبة" «بقدومي لمصر ومحاربة البكوات (المماليك) قد فعلت ما هو في مصلحتك فهؤلاء كانوا أعدائك أيضاً فأنا لم آتي هنا لكي أحارب المُسلمين. يجب أن تعرف أنّ أول ما فعلته حين دخلت مالطا هو أني حررت 2000 من الأسري الأتراك الذين كانوا لسنوات يئنون تحت أغلال العبودية. وحين وصولي مصر طمئنت الناس وحميت المُفتين والأئمة والمساجد، ولم يري الحُجاج (لمكة) مثل ذلك الترحيب والعناية والمحبة من قبل؛ وكذلك المولد النبوي قد احتفلنا به بأبهة وعظمة لم تحدث أبداً. ابعث إليك بهذه الرسالة مع ضابط؛ والذي سيُعلمك وجها لوجه بنواياي أن نتعايش سوياً بسلام؛ وأن نتعاون فيما تُمليه علينا مصالح البلاد، فالمسلمين ليس لهم إلا الفرنسيين أصدقاء أعزاء.»

ويقول الجبرتي أن الجزار حين مقدم "بوفوازان" حامل رسلة نابليون «لم يواجهه ولم يأخذ منه شيئاً وأمره بالرجوع من حيث أتى، وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.» لكن (المعلم نقولا) ينقل لنا تفصيل أكبر لهذا المشهد حيث يقول «توجه ذلك الكوميسارية المدعو باظان (بوفوازان) من مصر الى دمياط، ومن هناك توجه في مركب احمد باشا الجزار الذي كان رابطاً في الميناء، واصحب معه ترجماناً واثنين من التجار. ولما وصل إلى اسکلة (ميناء) عکا، فكتب الكومیساریة باظان إلي الجزار يُعلمه عن قدومه من طرف أمير الجيوش بونابرته. ونزل القبطان إلي عكا، وحينما دخل امام الجزار فسأله عن مصر وعن احوالها، وعن سبب خلاصه من مدينة دمياط، فأجابه القبطان: ان الفرنساوية أطلقوا سبيلي، وحضر معی کومیساریة من طرف سر عسكر هم بكتابة، وهو الان معي في الركب، ثم اعطاه كتاب الكوميسارية باظان. فلما فهم الجزار ذلك الخطاب اشتد به الغيظ والغضب، وقال للقبطان: وجه هذا الكافر ودعه يسافر. وان لم يرجع في الحال من هذه الديار احرقته بالنار. ثم سأله من الذي اتي معه، فقال له القبطان: ليس معه سوي تُرجمانه واثنين من التجار، وهم نصارى من ابناء العرب. فقال الجزار: اخرج التجار بأرزاقهم الى البلد، ودع الكافر حالا يسافر. ورجع القبطان الي المركب واعلم الکومیساریة بما سمع من الجزار. وفي الحال احضر له مركباً صغيراً ورجع إلى دمياط من غير تأخير، وقبض الجزار على تلك التجار. وكان بين الجزار وبين الفرنساوية عداوة قديمة وبغضة جسيمة من طرد قناصلهم من بلاده، فلهذا السبب ما كان يود منهم امانا.»

لكن يبدو أن بونابرت لا يعرف اليأس فيبعث له رسالة آخري في 19 نوفمبر 1798م أكثر حزما بعد أن وصلته الأخبار بالتحضيرات التي تجري في الشام للهجوم عليه حيث كان المماليك الفارين والجزار قد أرسلوا "مكاتيب" تحث الناس على "الجهاد" ضد الفرنسيين وتُمنيهم بأنهم قادمون لنجدتهم قريباً؛ فيها يقول نابليون «أنا لا أريد أن أحاربك، طالما أنك لست عدوي، لكن حان الوقت لتُوضح موقفك، فإذا واصلت إيواء إبراهيم بك وأعطيته مأوي ووضعته على حدود مصر، سأعتبر هذا عمل عدائي وآتي لأحاربك في عكا. إذا أردت العيش بسلام معي؛ فلتُبعد إبراهيم بك لمسافة 40 ميلاً بعيداً عن حدود مصر، ولتدع التجارة تبحر بحُرية بين دمياط وسوريا. عندها أعدك أن أحترم ولاياتك وأن تكون هناك حرية تامة للتجارة بين مصر وسوريا سواء براً أو بحراً» لكن الجزار لن تُخيفه لهجة التهديد تلك وسيستمر في تحريضاته وتحضيراته فيبدأ نابليون الاستعداد لحملته علي الشام، ففي رسالة نابليون "للمكتب التنفيذي" الحاكم بفرنسا في 10 فبراير 1799م يخبرهم فيها أن الإنجليز قد حصلوا للجزار علي ولاية دمشق من الباب العالي و أن هناك تحضيرات "لغزو مصر" وأنه سيذهب لمُلاقاتهم ويخبرهم فيها عن شخصيه غريمه «الجزار باشا رجل عجوز يبلغ الستين عاماً؛ رجل متوحش ولديه كراهية شديدة للفرنسيين لقد ازدري كل المبادرات الودية التي قدمتها له أكثر من مرة» ثم يُقدم لهم أهداف حملته فيقول أنه يُريد أولاً أن يؤمن امتلاكه لمصر بأن يُنشي منطقة محصنة فيما بعد حدود مصر وبذلك يمنع أي جيش كان من دخول مصر براً بالتحالف مع جيش أوربي يأتي عن طريق الساحل. وثانياً أن يُجبر الباب العالي أن يكون في موقف الدفاع وأن يضغط عليه للقبول بالدخول بالمفاوضات. ثالثاً أن يحرم السُفن الإنجليزية من خط إمداداتها التي تعتمد عليه في سوريا.

وفي 9 مارس 1799م بعد دخول نابليون يافا يبعث برسالة آخري للجزار-لعل وعسى أن يُحكم صوت "العقل"- فيقول «مُنذ دخولي مصر قد أعلمتك أنّ ليس من نواياي مُحاربتك وأن هدفي الوحيد هو طرد المماليك، لكنك لم تُجب على أي من مُبادراتي التي قدمتها لك. ولقد أعلمتك أنني أريدك أن تُبعد إبراهيم بيك عن حدود مصر. لكنك بدلاً من أن تُبعده أرسلت قواتك إلى غزة (...) ولذلك كان على مُغادرة القاهرة وأن أحضر بنفسي لمُحاربتك، فكما يبدو ان هذا ما تسعي إليه (...) لم تعد أمامي إلا أيام قلائل لأصل عكا؛ لكن لأي سبب أنتزع ما تبقي من سنوات لرجل عجوز لا أعرفه؟  ماذا تفعل عدة أميال بجانب بلد قد فتحتها؛ وحيث أنّ الإله قد اعطاني النصر أريد أن أكون مثله كريماً رحيما؛ ليس فقط بإزاء الناس البُسطاء بل وللعظماء أيضاً. أنت ليس لديك أسباب حقيقية لتكون عدوي لأنك كنت عدواً للمماليك؛ ومنطقة حُكمك مفصولة عن مصر بغزة ورملة (شمال غرب القُدس) وبصحراء مصر الواسعة. فلتكن صديقي ولتكن عدواً للمماليك والإنجليز. فبقدر الأضرار التي سببتها لك والتي مازلت سأفعلها بك بقدر ما ستري مني من الخير. فلترسل لي ردك مع رجل مُفوض من قِبلك ويعرف نواياك وليُقدم نفسه لحراسي وهو يحمل راية بيضاء وسأعطي الأوامر لقادتي لأن يبعثوا إليك بتصريح مرور، ستجده مُرفق مع تلك الرسالة. سأتحرك إلى عكا في 24 من هذا الشهر لذلك يجب أن تبعث بردك قبل هذا.»

هناك جيوش تعبر البحار والقارات لتُسيطر على أمم وشعوب. أما الجيش المصري فمتُخصص في "بوس الواوا" وحرق "العشش".

 لكن الجزار مازال عند موقفه وفي آخر رسالة يبعثها له نابليون يقطع رأس حاملها. وعندما بدأت التحضيرات لحصار عكا يطلب الجزار من الأمير بشير مُساعدته، لكن الأمير يتلكأ ويُماطل ولكنه لم يعلن وقوفه جانب الفرنسيين صراحة؛ فيبعث نابليون برسالة للأمير يُغريه ويُمنيه، ويُعدد له إنجازاته في السيطرة على مصر وانه اتجه للشام بعد دخول قوات الجزار فأخذ العريش وغزة ويافا ودمر جيشه وأنه بدأ في حصار عكا ثم يقول «أنا مُتلهف لأعلمك هذه الأخبار لأني أعلم أنها ستسرك فتلك الانتصارات ستدمر طاغية متوحش والذي سبب الكثير من الآلام للأمة الدرزية الشجاعة كما سبب لكل الجنس البشري. أعتزم أن تحصل الأمة الدرزية على استقلالها وأن أخفف عنها الجزية التي تدفعها واعطيها ميناء بيروت والمدن الآخري الضرورية لحركة التجارة الخاصة بها. أرغب في أقرب وقت ممكن أن تأتي بنفسك أو تُرسل من يُقابلني هنا أمام أسوار عكا؛ من أجل أخذ كافة الترتيبات اللازمة لنتخلص من عدونا المُشترك. يُمكنك أن تُعلن في كل القُري الدرزية أن من يأتي بالمواد الغذائية لمعسكرنا وخصوصاً النبيذ والخمر سيُدفع لهم بدون نُقصان.» وسيتغاضي بشير عن إمداد الجيش الفرنسي بالمواد الضرورية لإعاشته لكنه في نفس الوقت لن يجرؤ أن يرد علي نابليون بالموافقة أو القبول حتي يتأكد من رؤية رأس الجزار مُعلقة علي أسوار عكا. لكن الجزار بمًساعدة الإنجليز سيصمد أمام حصار نابليون. وحين يرجع الفرنسيون من حصارها للأسباب التي وردت في رواية الجبرتي السابقة سيهرب الأمير بشير من وجه الجزار علي متن السُفن الإنجليزية وتحت حماية سيدني سميث أدميرال البحر الإنجليزي لكنه سيعود مرة آخري بعد فترة قصيرة ليُنكل بمُعارضيه ويستعيد إمارته من جديد لكن حكمه لن يستقر - إلي حين- إلا بعد موت الجزار في 1804م.

بعد تلك المُقدمة نستطيع أن نبدأ في رؤية الرواية الثانية وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الجبرتي إلا في بعض التفاصيل والاختلافات القليلة والتي قدمت لنا الخطوط العامة لما جري أثناء الجملة الفرنسية. فيمكن اعتبار رواية نقولا الترك-بشكل عام- كتلخيص لرواية الجبرتي تخلو من التفاصيل الكثيرة- وخصوصا فيما كان يجري في القاهرة- التي حوتها الرواية لذلك ومنعا للتكرار -الذي لن يُفيد- سنحاول أن نُركز علي ما قد تضيفه تلك الرواية للظروف والأجواء التي نشأت فيها اسطورتنا؛ لكن هذا سيكون –إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(1) بما أن الجبرتي كان من سُكان القاهرة فمن الطبيعي –خصوصا في تلك الفترة- أن تكون هي المركز الذي تدور حولها روايته.
(2) ومازال إلى اليوم يتم استخدام نفس الاسلوب -بل وحتى نفس التسميات- فيُطلق على الرافضة "مجوس-يهود" أو يُطلق علي الدولة الإسلامية "خوارج-ملاحدة" ورغم ما تحوي تلك الأوصاف من تناقض إلا أنه يبدو أن لا أحد يُعير هذا انتباهاً.
(3) Histoire De L’expédition Des Français En Egypte Par Nakoula El-Turk Publiée Et Traduite Par M. Desgranges Aîné Secrétaire Interprète Du Roi Louis-Philippe, 1839.
(4) لا أعرف أي جمال هذا فأسلوب الكتاب في غاية الركاكة.
(5) جبال الأطلس الشهيرة التي تمتد من تونس وحتى المغرب. في تلك الفترة كانت فرنسا تحتل تونس والجزائر وأجزاء من المغرب.
(6) تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، تأليف الدكتور (فيليب حتى) وهو ترجمة لكتابه باللغة الإنجليزية: History Of Syria.
(8) لوران دارفيو (1635م-1702م) رحالة ودبلوماسي فرنسي.
(9) Courier De L’Egypte N°6 29 Jan 1799.
(10) لا نعرف دقة هذه "المعلومة" خصوصاً انها تأتي من أعداء الجزار. وينقلها (فيليب حتى) بقوله انه ارتكب "جُرماً أخلاقياً" وينقل “قصة" آخري عن وحشيته في قتله نسائه حين اكتشافه خيانتهم بطريقة مروعة نجد هذه "القصص" وغيرها في كتاب:
Edouard Lockroy., 1888Ahmed le Boucher. La Syrie et l'Égypte au XVIIIe siècle, 
(11) كل ولاية كانت تُقسم إدارياً لـ"سناجق" وكل سنجقيه تُقسم ايضاً بدورها ويطلق على "رئيس" هذا القسم من السنجقية "كاشف".
(12) Correspondance Inédite Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte,Tome 2.0

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال