-البداية
(14)
" يَا شَعْبِي اَلحْبِيبْ اِسْمَعُوا مَا اَقُولَهُ لَكُمْ وَلَا تَسْمَعُونَ لِغَيِري. وَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ فَتَعَالُوا إِليّ لأُخُبِرَكُمْ. فقَدْ
سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنُ بِعَيْنٍ وَسِنٌ بِسِنٍ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ
لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا اَعْدَائِكُم، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيمنِ
فَأَعْطِهِ قَفَاكَ، وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى قَفَاكَ اَعِطْهِ مُؤَخِرَتَكَ. أَمَّا
إِذَا تَجَرَأَ عَلَى مُؤَخِرَتِكَ فَلَيْسَ أَمَامَكَ إِلاَ الْرِضَا وَالْتَسْلِيمَ
بالقَضَاءِ وَالقَدَرِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأَخُذَ قُوْتُكَ فَأْعْطِهِ فَوَقَهُ
قُوَتَ عِيَالِكَ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَولِي عَلَى ثِيَابِ اِمْرَأتَكَ فَلْتَدَعُهُ
يَأَخُذُهَا بِثِيابِها فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَنْ تَظَلَ عَارِيَةً. لَا تَسْأَلوا
عَنْ مَاذَا تَأكُلُونَ أْو تَشْرَبُونَ أْو تَلْبِسُونَ؟ بَلْ اِسْأَلوا عَنْ مَاذَا
كَانَ سَيَحْدُثُ لَو لَمْ آتي إِلَيْكُمْ؟ واعْلَمُوا أَنّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ
أَنْ يَخْدِمَ سَيّدَيْنِ، فإِمَّا أَنَا أْو تَبْاً لَكُمْ."
الإصحاح السابع عشر من سفر الشئون المعنوية
"مفيش
فايدة" أو "مفيش أمل" نسمع البعض يُردد هاتين العبارتين مُعبراً عن
رأيه في "طبيعة المصريين" وأنّ المصري كما كان عبر مُعظم تاريخه مثال
للسلبية والخضوع والجبن؛ سيظل هكذا إلى شروق الشمس من مغربها أو حين انطباق السماء
على الأرض. وإن كانت عبارة "مفيش فايدة" لا تخلو من صحة بالنظر إلى ما
قرأناه في تاريخ المصريين وما زلنا نراه ماثلاً أمام أعيننا من مدي "حقارة وجبن"
هذا الشعب، إلا أن عبارة "مفيش أمل" لا تُعبر إلا عن يأس قائلها. ولكي
نضع حداً بين "المفشين" هناك سؤال يحتاج أن نُجيب عليه لكي نري إذا كانت
"مفيش" الأولي أو الثانية هي ما يجب أن نعمل على تغييرها: هل هناك فعلاً
حتمية لأن يظل هذا الشعب بتلك الصورة؟ ألا يوجد ما يمكن أن نفعله لنغير هذا
"القدر" المشئوم؟
السؤال
السابق قد طرحه (شارل فرانسوا
ماري)، دوق هاركورت، الذي نقلنا عنه سابقاً من كتابه "مصر والمصريون" (1)
والذي كان يتعجب من "البلادة" التي تُميز المصريين، والبلادة كما قُلنا
هي الوصف الأنسب والأدق لما يُسمي صبر المصريين، وأن المصري لا يُقاوم أبداً –بالأيدي-
السُّلطة رغم ما تفعله به وبكرامته. فيتساءل (شارل فرانسوا) إذا كان قدراً محتوماً
أن يظل انحطاط مصر مُستمر هكذا عبر القرون بلا أي تغيير؟ وهل لا يوجد ما يُمكن
فعله لانتشال هذا البلد التعيس مما هو فيه؟
ويُجيب فيقول «من الطبيعي أن يقودنا هذا السؤال لتناول مؤسساتها العسكرية؛ فالصفات
الأكثر غياباً عن سُكانها هي صفات الشدة والصلابة والمقاومة والتي توجد عند كُل
الشعوب ولكن بالأخص في الشعوب الأقل تحضراً، وتتركز تلك الصفات بشكل رئيسي في
جيشها. إنه بامتلاك مصر جيش شجاع قد تستطيع أولاً أن تؤمّن استقلالها في مواجهة
الأغراب الذين يريدون السيطرة عليها. الاستقلال الذي هو أول الحريات وأثمنها والذي
لا تمتلكه
مصر بعد. فبانتشار صفات ومزايا المحارب والمقاتل بين جموع الشعب يستطيع أن يدفع
حكومته إلى احترام حقوقه وأن يحصل على حريته الشخصية والتي يبدو أنها تنازل عنها.
ولا أتكلم عن حريته السياسة فهذا شيء لا يمكن حتى تخيل الفكرة ذاتها. اليوم التكلم
عن مزايا المقاتل قد تبدو غريبة على عصرنا فنحن نري ثمار السلام فيما حولنا، كما
أننا اعتدنا ألا نري في الحرب إلا فظائعها. لكن أياً من الشعوب استطاع أن يحصل على
استقلاله بدون أن يدفع ثمنه دماً؟ إذا كنا ما نعيشه من أمن تام الآن قد أنسانا ذلك، فهذا لأن آبائنا لم يتراجعوا أمام الأخطار؛ وأننا أنفسنا مستعدين أن نفعل ما
فعلوه. مَنْ يجهل أنّ الحرب لعنة وبلاء؟ لكن ما يزال من يُعرض نفسه للموت من أجل
الصالح العام، ما تزال روح التضحية، والشجاعة والعزم والتصميم ما تزال كل تلك القيم
قيم مجيدة ومُشرفة. فبإعداد الشباب لمواجهة الأخطار عن طريق التدريب العسكري يُنشأ
ويُنمي فيهم هذا أنبل القيم والصفات. ففي
كل العصور شعرت الشعوب بالحاجة -ولو حتى من اجل رفاهيتهم المادية- لتلك الصفات النبيلة
التي تتلألأ وتسطع في الحروب.» فتاريخ أي شعب ليس في الحقيقة إلا تاريخ الحروب
التي خاضها، ومصر كمثال تُعطي درساً في ان غياب تلك الصفات لا يمكن تعويضها بأن
تكون بلد زراعي من الدرجة الأولي أو مُتقدم اقتصادياً حتى من جهة المصلحة المادية
البحتة، فالشعب المصري يفتقر تماماً لصفات المحارب والمقاتل تلك فهُم «مسالمون بالطبيعة، أعداء للمغامرة وللتحديات
التي تنطوي على المُخاطرة. مرتبطون بشغف بزراعة الأرض، لا يتصورن أي
شيء أجمل بعيداً عن ضفاف النيل. ومع يتعرضون له من المعاملة السيئة والبؤس الذي
وصلوا إليه إلا أنهم أبداً لم يُفكروا في أن يبتعدوا عنه.» وأنه منذ عهد (سيزوستريس)
–ما يُقارب من 2000 سنة قبل الميلاد- لم يخرجوا منها ليغزوا شعباً آخر، وخلال تلك
القرون الطويلة لم يخرج من هذا الشعب أي "فاتح" أو حتى "قافل"
أو أي مُحارب معروف في التاريخ. «ويقول
المثل أنّ: "الشعوب التي بلا تاريخ هي شعوب سعيدة"، لكن تاريخ مصر
يخالفه لأنه مع أنّ تاريخ المصريين خالي من أي أحداث ضخمة رغم ذلك لا يبدو أنهم
كانوا أكثر سعادة؛ بل بعيداً عن هذا تماماً فلم يخرجوا أبداً من البؤس والعبودية.»
ولفترة طويلة من الزمن لم يكن هناك وجود "لجنود مصريين" فكانت هذه هي
"المهنة الوحيدة" التي تم اعفاءهم منها، وقد كان هذا مناسباً لطبيعتهم
الكارهة لحمل السلاح، أما القوة المُسلّحة لهذا البلد فكانوا "عبيداً"
يُجلبون من وراء البحار ليُشكلوا جيشه «نحن
نعرف بالتأكيد أنه حين قدوم نابليون مصر لم يُجابه أي مقاومة من السُكان المحليين؛
المماليك وحدهم، وهم غرباء عن هذا البلد وكان عددهم يصل لحوالي 10,000، هم الذين
واجهوا نابليون في معركة الأهرامات.»
وحينما
تخلّص محمد علي من بقايا هؤلاء المماليك قرر ان يُنشئ جيشاً على "الطراز
الأوربي" فجاءه "المُغامرون" من جميع البقاع يعرضون خدماتهم، منهم
"ملازم" فرنسي عُرف تحت اسم "الكولونيل سيف" (2) أو (سليمان باشا الفرنساوي) والذي "ينجح"
في مهمته رغم صعوبتها ويُشكل نواة جيش الباشا، ففي البداية كان الهدف هو
"اصطياد" العبيد من السودان ليتم بعد ذلك تدريبهم واعدادهم ليُصبحوا
"جنود" الباشا الأوفياء لكن كان مُعظم هؤلاء يموت اما في الطريق أو
نتيجة للأمراض والأوبئة. الأمر الذي دعي الباشا أن "يعصر على نفسه
ليمونه" ويقبل بأن "يُجند" الفلاحين، لكن كان الوضع أشبه باصطياد
"الحمير" لكنها ليست وحشية بل "حمير بلدية" لا تعرف غير حمل
الأثقال؛ لكن الباشا أراد ان يُضيف لها "حمل السلاح" أيضاً. وكانت بداية
هذا الجيش "مُبشرة" فاستطاع أن يُساعد السُلطان (محمود) في حربه ضد
الثورة التي اندلعت في اليونان، ولكنه بعد سنوات وجه نفس هذا الجيش ضد سيده وولي
نعمته بعد أن أدرك أن "القوي الدولية" تؤيده وترعاه. لكن (شارل ماري)
يقول إنه "مفيش أمل" فيُحبطنا بإجابته عن سؤال: هل التدريب العسكري يمكن
فعلاً أن يُحدث هذا التغيير؟ هل يمكن من خلاله أن يخرج من شعب مُستعبد بائس جبان
"جيش شجاع"؟ -فينفي أن هذا مُمكن «أعتقد
أنه لا يوجد أي تدريب عسكري ممكن ان يُحوّل المصريين الحاليين لجنود جيدين لا سيما
الضباط منهم فبما أنهم من السُكان المحليين فهم من نفس الطينة ونستطيع أن نري
الفلاح بسهولة تحت الزي العسكري الذي يرتدونه.» ويسرد لنا قصة قبل الاحتلال الإنجليزي،
فحينما بدأت "الاضطرابات" في مصر بين الخديوي توفيق والجيش بقيادة عرابي
بدأت القوتان العظميان وقتها فرنسا وانجلترا في التفكير في "غزو" مصر
خوفاً على مصالحها من أن يُهددها "أهوج" لا يدري ما يفعله. من ناحيتها
قررت فرنسا قبل أن تغامر بجيشها ولتكون على بيّنه من أمرها في حالة اضطرت للمواجهة
أن تُرسل رجل عسكري لمصر لكي يقف على "إمكانات" وقدرات الجيش المصري.
وبالفعل وصل هذا الرجل –لابد أنه قدم بوصفه "مُستشار عسكري"- لمصر ودخل معسكرات الجيش واطلع على تدريباته
وتسليحه و "مناوراته" ثم كتب تقرير مُفصل لحكومته مفاده أن "الجيش
المصري وحوش كاسرة" وأن فرنسا تحتاج على الأقل 50000 جندي لكي تستطيع أن
تتغلب عليه في حال مواجهته. هذا التقرير جعل فرنسا تُحجم عن أي عمل عسكري للتدخل
في مصر خوفاً من "الوحوش" وأفسحت المجال أمام غريمتها إنجلترا لتهزم
"الوحوش الكاسرة" وتجعلهم "حُمر مُستنفرة" بسهولة ويُسر.
مشكلة
المصريين ليست في أنهم لا يمتلكون "العضلات" فكثير منهم يمتلك قوة وتحمل
وصبر البغل لكن مُشكلتهم أنهم يعتقدون أنّ البغال ممكن أن تصير يوماً أُسوداً.
ويعزو (شارل ماري) هذا "الخطأ" في
تقدير قدرات الجيش المصري إلي طريقتنا في الحكم الظاهري على الأشخاص بدون الأخذ في
الاعتبار الجوانب النفسية والأخلاقية لهم. فكما يقول من يري الجنود المصريين من
الخارج وبنيانهم وتحملهم للظروف القاسية وعدم تذمرهم ورضائهم بأقل الأمور يقول إن
هذا جيش قوي. لكن حين المواجهة سيهرب هذا الجندي "الوحش" عند انطلاق أول
رصاصة لأنه ببساطة لا يمتلك إرادة القتال؛ وفي مواجهة هروبه هذا لن ينفع معه أي
علاج أو حتى التهديد بالعقاب لأنه يمتلك قدرة غير محدودة على التحمل وسحق الكرامة
إلى حدود حتى الحيوانات تعجز عنها. ما
قاله شارل ماري في 1893م قبل أن نري "انسحابات جيش الاستقلال الوطني" في
56 و67 -ولولا أن "حرب أكتوبر المجيدة" لم تستمر إلا أسبوعين لكُنا
رأينا "انسحاباً جديداً"- والتي لم تكن مجرد "نكسات" أو بسبب
"فساد القيادة" بل هي جزء من طبيعة هذا الجيش فالطريقة التي يتبعها – بل
ويتبعها جيوش المنطقة كلها- في سحق كرامة جنودها لا يُمكن أن تُنشئ "مُقاتل
شجاع". نعم سيكون لديك "عبيد" يُنفذون أوامرك لكن هؤلاء العبيد لن
يكونوا ذوي فائدة إذا غضبت عليك قوة كُبري. جيوش المنطقة في الحقيقة هي جيوش
"ورقية" رغم ما تحويها ترساناتها من آلاف الطائرات والصواريخ والدبابات؛
فهي لا تستطيع تأمين استقلال أو مصالح أوطانها. وما التصنيفات التي نقرأها أنّ
الجيش المصري أو غيره في ترتيب مُتقدم بين الجيوش العالمية إلا أن هذا ترتيب ينظر
لـ"الأرقام على الورق" لكن القوة الحقيقة هي في أرض الواقع من يُسيطر
ويحكم ويُحرك، بالتأكيد ليست تلك الجيوش "فالريموت" الذي يُحرك الجميع
في أيدي غيرها.
لكن
كما يقول دوق هاركورت أن انجلترا لم تُخدع مثل الفرنسيين ولم تأخذ قوة هذا الجيش
محمل الجد واستطاعت بسهولة أن تأخذ مصر كلها وأن يُصبح هذا "الجيش" مجرد
"فرقة" تابعة للتاج البريطاني. نفس هذا الخطأ ارتكبته فرنسا في العام
1840 حين "انتصارات" (إبراهيم باشا) على الأتراك وهزيمة الجيش العثماني
هزيمة ساحقة في معركة (نزيب)؛ فاعتقد الفرنسيون أن هذا الجيش لن يقف أمامه شيء وأن
الباشا قادر علي هدم المعبد على رؤوسهم ولذلك يجب ألا يتم "استفزازه".
لكن أصوات فرنسية محدودة لم يُلتفت إليها كانت تعلم حقيقته، فالأدميرال الفرنسي (روسين)
قال تحت "قُبة البرلمان الفرنسي": «تتحدثون
عن قوات الباشا، تتحدثون عن جيشه واسطوله. إنه لا يمتلك إلا المظهر الخارجي فقط
لجيش ولأسطول. إن كُل جُنوده مُتحدين لا يستطيعون مُقاومة فوج أوربي واحد. أما
بالنسبة لسُفنه فأعطوني فُرقاطة واحدة، واحدة فقط لأُشتت وأحرق تلك السُفن. لقد
رأيت تلك القوات والبَحَارة عن قُرب ولذلك لا أُعاملهم وأنظر إليهم بأكثر من أن
يكونوا مُجرد خُدعة ووهم زائف.»
لو كان "روسين" حياً لضحك على هبل وعبط
المصريين الذين يعتقدون أن عندهم "جيش" فقط لأنه يمتلك "أسلحة
متطورة".
وقد كان، فقامت إنجلترا بـ 1500 جندي ومساعدة
الأتراك بالهجوم على جيش الباشا "العرمرم" بقيادة ابنه (ابراهيم) الذي
انسحب للجبال، ثم في أيام سقط كل ما "سيطر" عليه الجيش المصري: فاستسلمت
بيروت بعد قصف قصير وكذلك عكا وتفكك جيش الباشا وحلت فيه الفوضى وبدأ الانسحاب
المعتاد وأصبحوا بين شقي الرحي بين السكان الذين يقاوموه وبين البدو الذين ينهبون
ارتاله وعاد خائبا حسيراً تاركاً ورائه 60000 جثة، وكان هذا آخر عهد هذا "الجيش"
بأن يكون جيشاً.
وينقل
عن الجنرال جوردان القائد الإنجليزي في العام 1875 الذي كان يقود حملات إسماعيل
باشا جنوب السودان ففي خطاباته يصف جنود وضباط الجيش المصري بالجبن ولا يجئ على
ذكرهم إلا بنبرة ملئها الاحتقار. ويعلل (شارل ماري) سحق الجيش المصري علي يد ما
سُمي بـ"الثورة المهدية" في السودان في 1883م
لسببين هما: جبنهم و وحشيتهم. فوحشيتهم على الضعفاء والمساكين جعلتهم مكروهين
ممقوتين وجبنهم حين المواجهة جعل هزيمتهم أسهل ما يكون. ثم يتساءل هل الشجاعة –التي
يفتقر لها المصريون- هي في التحمل ومواجهة الموت بثبات فقط؟ أو بعبارة آخري هل
المصري الذي يتحمل الآلام ويصبر على الشدائد ويتقبل الموت بثبات هل يمكن ان يكون
جباناً؟ الا يوجد تناقض في هذا؟ -لو كانت هذه الصفات هي دليل الشجاعة لأصبح
"العبيد" هم أشجع الناس، فالعبد يُباع ويشتري يتحمل ويصبر يُضرب فيشكر
وإن أراد صاحبه قتله يمتثل ولا يعترض. إن تلك الصفات كُلها هي صفات سلبية، بمعني
انها لا تتطلب من الشخص فعل شيء؛ بل تتطلب منه ألا يتحرك وإن وجدت وحدها دلت على
ذلة وخنوع وجبن فاعلها. الشجاعة هي في الأساس صفة إيجابية تتطلب من الشخص أن يقوم
بدفع وبمقاومة، بمبادرة ما يخاف منه لا أن يصبر على مُحتليه أو يتحمل سياط جلاديه
أو يشكر مَنْ أهانه وأذله ويُسلّم "قفاه" لكل عابر سبيل.
يبدو
إنه "مفيش فايدة" و"مفيش أمل" طبقا لـ(شارل ماري) فقد رأينا
أنه منذ صدور كتابه حتى اللحظة التي أكتب فيها تلك الكلمات أن وضع المصريين كما
هو، رغم اختلاف الزمن و "استقلال" مصر ووجود "جيش وطني"، لكن
يا تُري أين الخلل في كل هذا؟ -لعل الخلل الأكثر وضوحاً أنه في خلال تلك المحاولات
–على الأقل منذ عصر محمد علي- من أجل "تغيير" المصريين لم تكن تهدف
فعلاً لتغييرهم بقدر ما كانت هي محاولة من السُلطة لاستغلال أمراضهم تلك -بل
والعمل على تأبيدها ونشرها- لصالحها. فحتي الجيش الذي هو عصبها وقلبها النابض لم
يحظى جنوده بالمعاملة الكريمة في معظم الأوقات ولم يكونوا إلا "مماليك"
محليين؛ لكن على عكس المماليك القادمين من الخارج كان "العسكري الغلبان"
ليس لديه أي أمل في أن يُصبح يوما ما "أميراً" وكُل أمله إن لم يستطع
الهروب من التجنيد، أن يُنهي خدمته بسلام.
يُخبرنا
الدكتور (ارنست جودار) (1826م-1862م) بلمحة لوضع "العسكري الغلبان"
وقتها، وكانت الخارجية الفرنسية قد كلّفته في العام 1861م بدراسة الأوضاع والعادات
الأخلاقية والصحية بأدق تفاصيلها لمصر وفلسطين للوقوف على الأسباب التي أدت لحالة
"الجمود" لسكان تلك المنطقة رغم ان العالم يتحرك من حولهم. فآتي (د.
جودار) لمصر وتجول في مستشفياتها ومصحاتها وقابل "عينات كثيرة" من البشر:
أطباء ونخاسين وخصيان وحشاشين ومرضي بل وحتى عاهرات. وتم نشر "يومياته
وملاحظاته" في كتاب بعد وفاته إثر مرض أصابه وهو في فلسطين فمات في "ريعان
شبابه". الكتاب هو: " مصر وفلسطين: ملاحظات وتعليقات علمية وطبية" (3) الكتاب مُعظمه كما هو واضح من عنوانه وصف طبي
دقيق للكثير من الأمراض التي كانت منتشرة في المنطقة من الجُذام والفلاريا أو داء
الفيل والسيلان إلى "حَمو النيل أو حَبْ النيل" وتكلم أيضا عن كيفية
"الطهور أو الختان للذكور والإناث" ومراسم الزواج و "فض
البكارة" والحيض؛ وإن كان فيما يتعلق "بالحريم" وشئونهم كانت مُعظم
مُلاحظاته "سماعية" من نساء تم حذف أسمائهم من نسخة الكتاب. فنجد
"مدام اكس" حاضرة حين يفشل في أن يري بنفسه ويُلاحظ. هذا بالإضافة –طبعاً-
لكلامه عن بيوت الدعارة الكثيرة بالقاهرة ووصفات الحشيش و"المقويات
الجنسية" التي كانت منتشرة وقتها.
بورتريه
للدكتور ارنست جودار من كتابه.
وينقل
لنا (جودار) أنّه في إحدى المرات أخذه مهندس انجليزي ليُريه "الطاحونة
العربية" والتي ما هي إلا رحايا لكن بمقياس أكبر، والتي لم يري فيها ما يُثير؛
لكنه قابل هناك "طحّان" ولاحظ أن إصبع سبابته مقطوع، فسأله عن السبب فحكي
له الطحّان قصه عن لدغة ثعبان لإصبعه في صغره، مما اضطر والداه بأن يقطعوه خوفا من
انتشار السُم، لكن (جودار) لم يُصدق تلك القصة ويقول «نري باستمرار في مصر مثل تلك التشوهات والبتر، فقد رأيت أُناس ابهامهم
مقطوع وآخرين عُور، ورأيت أحدهم ابهامه مخلوع من مكانه تماماً. كُل هذا من أجل
تجنب التجنيد، لأن الفلاحين لديهم هلع من الخدمة العسكرية؛ لكن يبدو مع ذلك انهم
لا تنقصهم الشجاعة حينما يتم قيادتهم بشكل جيد. « ويصف لنا (د. جودار) مشهد
المُجندين في سجن المنيا حيث تم وضعهم فيه خوفاً من هروبهم «شاهدت حوالي المائة على الأقل من الفلاحين صغار السن يجلسون القرفصاء في مجموعات؛
فسألت عما هي جرائمهم، فعلمت أن هؤلاء الذين امامي هم المجندين صغار السن الذي
ينتظرون في السجن حتى يتم نقلهم إلى القاهرة. وأنهم لا يدعونهم يخرجون خوفاً من
هروبهم (...) لا يغيبون عن أنظار ألباني هزيل طويل القامة والذي يبدو أنهم يخافونه
كثيراً (...) هؤلاء التُعساء سيكون عليهم أن يقضوا مدة في الخدمة غير مُحددة. إنهم
يبدون فعلاً كقطيع.» هذا كان في عام 1862 م يعني بعد أكثر من 40 عاماً من
تأسيس هذا الجيش. وما كان يحدث لـ"جمع" هؤلاء كان أقسي وأعنف حيث كانت
"الحملة" تهبط على القرية تحت جنح الظلام، لكي "تكبس" على
"المطلوبين" للخدمة ويتم جمعهم وربطهم بالسلاسل كالمجرمين ثم بعد "الفحص
الطبي" يتم "فك أسر" من لا يصلح للخدمة ليعود لبلدته حامد الله علي
"تشوهاته" الخِلقية التي مكنته من أن ينفذ بجلده. فيتم أسر الفلاح
وابعاده عن عائلته وأرضه وترك عياله -ان كان له عيال- ويتم تدمير أُسر بكاملها
بتلك الطريقة، ولذلك مع الوقت بدأ الفلاحون ليس في مقاومة تلك الأعمال الوحشية
فـ"المصريين عمرهم ما يعملوا كده"؛ بل قاموا "بابتكار" وسائل
لتشويه أنفسهم –يا سلام علي "العبقرية"- لكيلا يصلحوا للخدمة العسكرية
فهذا "يخرق عينه" وهذا يقطع "صُباع" أو يهرب من البلد كُلها.
وعلى
هامش هذا فقد قابل (د. جودار) في مصر الدكتور الألماني (تيودور بلهارس) (1825م-1862م)،
الذي توفي هو الآخر في نفس العام في ريعان شبابه، الذي اكتشف طفيل البلهارسيا الذي
سُمي باسمه والذي كان ينهش أكباد المصريين، لكن الآن حلّ محل البلهارسيا فيروس (سي)
الذي يقوم بتلك المهمة بنجاح، كما حلّ "الترامادول" محل وصفات الحشيش
التي يُخبرنا عنها والتي كانت تستخدم "لإطالة الوقت" حيث لا توجد أي
وسائل آخري "للتسلية". وقد كان (د. بلهارس) رئيس قسم الأمراض التناسلية
(الجنسية) حيث شرح لـ(جودار) طبيعة المرضي المصريين وأنّ «المرضي في القاهرة لا يذهبون للمستشفى حين اصابتهم بالسيلان كما أنهم لا
يعلمون أي شيء عن هذا المرض.» وهذا طبيعي فإذا كان "الدكاترة"
المصريين أنفسهم وقتها كانوا على درجة عالية من الجهل والغباء، حيث يقول إنهم حين
انتهاء دراستهم لا يفتح منهم أحد أي كتاب ليُنمي معرفته، وانهم إذا مارسوا تلك
المهنة فإن ما يُحدثونه من الأضرار أكثر مما يعالجونه؛ وأقصي ما يبرعون فيه هو
إعطاء التحصينات، كما أنهم معدومي الأخلاق يحاولون السرقة بكل وسيلة ممكنة، لكنه
لم يُخبرنا سرقة ماذا أو مَنْ.
ولكي
نخرج من هذا "الجو الكئيب" الذي أدخلنا فيه كل من (شارل ماري) و (جودار)،
لكي نُكمل تلك الكآبة -إن شاء الله- المرة القادمة، وندع المعلم (نقولا) يُخبرنا
بجزء من روايته، سنختم بقصة الست (سكينة) التي وردت في كتاب (د. جودار)، فقد كانت "كوب الشرق" قبل أن تخطف
منها هذا اللقب بعد ذلك "أم سحلول" الشهيرة بـ (أم كلثوم). وكانت "الست"
فلاحة بسيطة تحمل الطين في إحدى "الأبعديات" ثم "ربنا فتح
عليها" وأصبحت راقصة ومغنية واشتهرت حتى أصبحت "معبودة" الباشوات،
وأنعم عليها سعيد باشا بنفسه بطربوش مُرصع بالألماسات، هذا الطربوش الشريف كان
يقترضه البعض –طبعاً "مش أي حد"- في الأفراح ليوضع على رأس العروسين
للتشرف والتبرك. وكانت الست تُغني لأولاد الذوات لكنها كانت يجب أن تأخذ موافقة
الباشا أولاً. حين جاء (جودار) كانت الست (سكينة) وصلت الخمسين فتوقفت عن الرقص –بحكم
السن- لكنها كانت ماتزال تُغني، ويقول عنها انها لم تكن جميلة الشكل وجسمها لم يكن
يحتوي على أي "مرتفعات" يمكن النظر إليها. لكن يبدو أنّ فتنتها كانت في
صوتها؛ فنجد الأتراك والخواجات يطربون حين سماعها، لكنها كانت –بحكم الوسط- امرأة
لعوب فهي تُغني للرجال فقط؛ وبيتها ما هو إلا ستار للقاء "العُشاق" وهي
نفسها تلعب "وسيطة" بين نساء عِلّيه القوم والبهوات والباشوات الذين
يريدون قضاء أوقات "ممتعة" في مقابل مادي سخي حتى أصبحت (سكينة) من
الأغنياء الموسرين. لكنها لم تُنجب لأن زوج الست كان "قُرني" من الطراز
الأول لا يري، لا يسمع، لا يعرف، فقط يقف يُنفذ أوامر الست.
توقفنا
المرة السابقة عند نجاح (نابليون) في اقتحام أسوار يافا واعمال السيف في المقاتلين
حتى أنه قتل منهم الآلاف. هذا غير الاغتصاب والنهب والحرق الذي عمّ المدينة فنقرأ
مشهد "تاريخي" مُكرّر –وإن كان تكراره لا يمنع بشاعته- «كل المنازل قد تم سلبها، كل المحال قد
نُهبت. الاغتصاب والقتل والحرق سري بالمدينة وسط صيحات الانتصار وصرخات الرُعب
والخوف. مجموعات مُختلطة من نساء بشعور شعثاء وأطفال نصف عُراة وعجائز ينتحبون في
شُرف المنازل يُطلقون صرخات التحذير مُحركين أياديهم بيأس. في كل مسكن وفي كل باحة
منزل هُناك قتال يدور ومذّبحة تتم. أمام باب الحريم تتناثر الجُثث، والجنود
يغتصبون الفتيات والنساء امام جثث آبائهم وأمهاتهم. لقد انهدمت كل انسانية داخل
هؤلاء الذين أصابهم السُّعار، لقد نزع التعطش للدماء وهيجان الاغتصاب وحُمي
الغنائم أي رحمة أو شرف من قلوبهم.» (4)
ثم
جمع نابليون الأسري- الذين ما استسلموا إلا بأمان عدم قتلهم- وبدأت عملية
"الفرز" «وفي ثاني الأيام، احضر
أمير الجيوش الأسارى، وأطلق سبيل من كان من الاقطار الشامية. وميّز المصريين وأكرمهم
غاية الاكرام. وكان منهم السيد عمر مكرم نقيب الاشراف الذي كان هاربا واعطاه
الامان، وامره ان يرجع الى الاوطان. واما الهوارا والارناوط امر بقتلهم جميعا، لان
كان البعض منهم في قلعة العريش، وحين أطلقهم امرهم ان يذهبوا الى بلادهم سالمين،
فاتوا الى مدينة يافا وحاصروا بها. فقتلهم جميعاً من دون بعض انفار من الاغاوات
الكبار، وارسلهم أسرى مع هجانة الى قايمقام يعرفه بالأخبار عن هذا الانتصار. وان
يوزع من الديوان الكتابات كما جرت لهم عادات. ويخبر المصريين في انتصار
الفرنساويين على مدينة يافا.» وتم نشر المكتوب كالعادة يخبروا فيه الناس
"بتوفيق الله" للفرنسيين وأنّ الله راعيهم وحاميهم، والحمد لله ان
نابليون قد بادر بالهجوم علي الجزار وجنوده فالجزار "الشرير" كان يُجهز
حملة «ليسيرها إلى اقليم مصر مسكن الفقراء
والمساكين، ومُراده يتوجه اليها بأشرار العربان من سفح الجبل. ولكن تقادير الله
تُفسد الحيل قاصداً سفك دماء الناس مثل عوايده السابقة. وتجبره وظلمه مشهور، لأنه
من تربية الماليك الظلمة المصرية. ولم يعلم، من خسافة عقله وسوء تدبيره ان الامر
لله وكل شيء بقضایه وتدبيره.» ورغم هذا كُله فقلب نابليون "شفيق
رحيم" وحاول مع المتحصنين "بالذوق" لكنهم خالفوا قوانين الحرب وقتلوا
الرسول الذي بعثه إليهم. فلم يجد طريق إلا أن يهدم الأسوار ويقطع الرقاب لكي يعلم
الجميع أن لا مرد لقضاء الله «وقُتل أكثر
من اربعة الاف من عسكر الجزار في السيف والبندق، لما وقع منهم من الانحراف. واما
الفرنساوية لم يُقتل منهم الا القليل، والمجاريح منهم ليس بكثير. (...) ووجدوا في
القلعة أكثر من ثمانين مدفع. ولم يعلموا انه مع مقادير الله، الة الحرب لا تنفع.
فاستقيموا يا عباد الله وارضوا بقضاء الله. ولا تتعارضوا على احكام الله. وعليكم بتقوى
الله. واعلموا ان الملك لله یوتیه لمن يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.»
وينقل
لنا أحد جنود الحملة الفرنسية (5)
"حيرة وألم" (نابليون) حين اضطراره للقيام بمذبحة الأسري تلك. فبعد
اقتحام المدينة والمعارك التي دارت والنهب والقتل والاغتصاب الذي استمر بلا انقطاع
طيلة يومين كاملين، ثم أخيراً هدأت "العاصفة" وتبقي من الأسري 3000 من
الأرناؤوط والألبان. «كان هؤلاء الأسري أياديهم مُقيدة وراء ظهورهم، ينتظرون مصيرهم في
صمت مُطبق. خلال ثلاثة أيام اجتمع مجلس الحرب المُشكّل من الجنرالات بحضور نابليون
بدون أن يقرروا شيء بشأنهم. وأخيراً عُقدت جلسة أخيرة.»
التي قرر فيها نابليون اعدامهم، لكن يقول أنّ النقاش داخل تلك الجلسات كان طويل
وكانت هناك رغبة فعلية في "انقاذ أرواحهم"، لكن ماذا سيفعل (نابليون) بكل
هؤلاء الأسري؟ فهو ليس لديه من المؤونة ما يكفي، وإن أطلق سراحهم سيذهبون للجزار
ويُحاربونه من جديد، وإن هو تركهم حيث هم فسيحتاج لأن يُبقي فرقة من جنوده
لحراستهم وهو يحتاج كُل جُندي ليبدأ الزحف نحو عكا. ويقول نابليون دفاعاً عن
"جريمته" أن كثير من هؤلاء الأسري كان قد أعطاهم الأمان وتركهم يعودون
لبلادهم لكنهم عادوا ليُقاتلوه مرة آخري، ولذلك كان عليه –كما يقول- أن يُحافظ علي
سلامة جنوده «ولا أسمح لهؤلاء الأسري أن
يُكرروا مثل تلك الخيانة. كان من المستحيل أن أوافق علي ترك جزء من جيشي لحراستهم
والذي قلّ عدده بسبب غدر وخيانة هؤلاء البؤساء. ثم أخيراً، فإن أي تصرف آخر كان
سيكون وكأنني أريد دماري. وبالنتيجة فباستخدام قوانين الحرب التي طبقاً لها فلي
الحق بأن أقتل أسري قد أُخذوا في مثل تلك الظروف.» (6) ويأمر نابليون بإعدام
الأسري الذين كانوا في قلعة العريش ولكنهم رغم عفوه عنهم حملوا السلاح مرة آخري في
وجهه في يافا، لكنه عفا عن الآخرين. ولا يري (نابليون) فيما فعله أي
"تطرف"، بقوله إن ما فعله كان سيفعله «(ويلنجتون) (7) وكل الجنرالات الذين قد يقودوا جيشاً في مثل تلك
الظروف.» ويخبرنا النقيب (فيرتراي)
بمشهد الإعدام حيث يقول أنّهم في يافا واجهوا الأمرّين «وأيضا بالقرب من تلك
المدينة البائسة أمر بونابرت بإعدام كل آسرانا المسلمين رمياً بالرصاص. فتم
قيادتهم لشاطئ البحر، وكان عددهم أكثر من ألفين، حيث قُتل مُعظمهم بخناجر البنادق.
لكني لم أشارك في هذا المشهد المرّوع.» (8)
بعد المذبحة بدأ انتشار الطاعون في يافا، وكُنّا قد
رأينا في رواية الجبرتي بدأ ظهوره في مصر حيث بدأنا نري "الإرشادات
الصحية" بنشر الملابس وعدم دفن الموتى قريباً من المساكن وخلافه، لكنه في
يافا بدأ يأخذا شكلاً أكثر وحشية وبدأ يفتك بالجميع ضباطاً وجنوداً وسُكاناً، وسري
القلق بين الجنود ومع كثرة عدد المطعونين تم تحويل عدة أديرة إلى مستشفيات ميدانية
للعلاج «زادت أعداد المرضي بنسبة مخيفة، وسري الرُعب بين جنودنا وقد اعتري
الوهن والضعف عدد كبير من الضباط الذين أنهكتهم متاعب الحملة، واحد منهم هو
المُساعد جنرال (جريزيو) والذي كُنا نُعجب بشجاعته في القتال؛ قد فقد كل رباطة
جأشه وغادر خيمته ليحبس نفسه في أحد البيوت حيث كان لا يتواصل مع من هم خارجه إلا
عبر فتحة في الباب. لكن هذه الاحتياطات لم تكن ذي نفع فقط مات هذا الضابط البائس
وسط آلامه المرّوعة.»
هذا الطاعون يُسببه نوع من البكتيريا توجد في كثير من
القوارض وتنتقل للإنسان بشكل رئيسي عن طريق "البراغيث" التي تعيش على
امتصاص دماء ضحاياها، وتصبح تلك البراغيث ناقلة للبكتيريا من الحيوان المُصاب إلى
الإنسان ومن ثم من إنسان لآخر. بداية المرض هو بشعور عام بتغير المزاج وفقدان الرغبة
في كُل شيء، بعد هذا تبدأ ألام حادة بالرأس وارتعاشات تسري في كل أوصال المريض،
ويشحب وجهه وتُصبح عيناه باهتة بلا حراك، وينتاب المريض شعور وكأن هناك نار تسري
في أعضائه حيث يسقط المريض في سُبات عميق مع تشنجات حادة في عضلات الوجه، حيث تبدأ
الحُمي التي تُدخل المريض في حالة من الهذيان، وفي تلك الحالة قد يقوم المريض من
سريره مندفعا خارجاً فيلقي نفسه في الماء في محاولة منه ليطفئ تلك النيران التي
يشعر بها، ولا تتوقف حالة الهذيان غالباً إلا مع الموت. والذي يٌقاوم حتى يهدأ هذا
الهذيان تبدأ دماء سوداء تخرج من جميع فتحات جسمه وتتورم غدده الليمفاوية بين فخذيه
وتحت ابطيه. وقد يُصيب الطاعون الشخص لعدة ساعات أو عدة أيام قبل أن يجيئه الموت؛
لكن كُلما طال الوقت كُلما ازدادت آلامه ومُعاناته. (9) في مثل هذا الوضع اضطر نابليون ليذهب في زيارة للمرضي
لكي يُطمئن جنوده بأن المرض غير مُعدي -لكنه في الحقيقة مُعدي-
«زار المستشفيات بُصحبة هيئة اركانه وفي تلك التي كان فيها المطعونين توقف بجانب أسرّة
الجنود ووجه لهم كلمات مُواسية ومُشجعة. ومن اجل أن يُقنع المرضي ان المرض غير مُعدي
مَسّ عدة مطعونين وساعد في حمل جثة أحد الجنود التي كانت مُلطخة تماماً بإفرازات
بِثُورِه، وأخيراً وتحت الحاح ديجنيت (المسئول الطبي للحملة) غادر المستشفى
مصحوباً بدعوات هؤلاء الجنود الذين على حافة الموت.» وحين خروجه لاموه على تهوره لكنه اجابهم بهدوء «هذا واجبي فأنا القائد العام.»
نابليون يزور مرضي الطاعون.
بعد السيطرة على يافا أصبح للفرنسين خط امدادات مهم
عبر البحر من دمياط إلى يافا مُباشرة وهو خط أسرع من الطريق البري الطويل والشاق.
لكن الأدميرال (سيدني سميث) سرعان ما سيقطع خط الإمدادات هذا، لتصبح الحملة على
الشام مجرد مضيعة للوقت. فحين بدأ (نابليون) بالتحرك نحو عكا يقول (نقولا) «ثم
أن أمير الجيوش سار بالعسكر قاصداً مدينة عكا على طريق الجبال. ولما وصلوا إلى
أراضي قاقون، فكانت عساكر الجزار والنوابلسیة مکمنین في الوادي الذي هناك. وحينما
بلغهم قدوم الفرنساویة اخرجوا منهم من فمّ الوادي خمسمایة مُقاتل، وبدوا يرمحون
تجاه العسكر. وكان قصدهم ان يجروهم الى ذلك الوادي.» لكن تدور اشتباكات بين
الطرفين ويتمكن الفرنسيين من اجبار المماليك وأهل نابلس على التراجع وبعد مناوشات
يُصاب الجنرال داماس إصابة بالغه في ذراعه ويُقتل عشرات الفرنسيين. لكن نابليون
بدلاً من أن يقضي على تلك "الغارات" التي تشتت جهود جيشه، استمر في
مواصلة السير نحو عكا علي أمل أنه بالسيطرة عليها سيكون "تأديب" هؤلاء
أمر هيّن يسير.
موقع "المناوشات" ونلاحظ موقع نابلس الحصين
خلف الجبال.
بعد أن يُعسكر الفرنسيون ليلتهم بالقرب من بلدة (زيتا)،
يبدؤون مع بزوغ الصباح في التحرك شمالاً، لكن جاء هطول الأمطار الغزير ليجعل
التحرك والسير في مثل تلك الأجواء في منتهي الصعوبة. وحين علم عساكر الجزار في
حيفا بتقدمهم انسحبوا في اتجاه عكا بأسلحتهم وتركوا المدينة بلا حماية. حيث تم
تسلميها "تسليم أهالي" فخرجت «أهالي البلد الي مقابلتهم، وسلموا أمير
الجيوش مفاتيح البلد والقلعة، فأكرمهم وأعطاهم الامان. ودخلت الفرنساوية مدينة
حيفا، فوجدوا بها قاربا صغيراً فيه جماعة من مراكب الانكليز فأخذوهم أساري.» بعد
أن "يستلم" (نابليون) حيفا يتوجه بجيشه إلى عكا حيث يصلون أمام نهر
النعامين جنوب شرق المدينة في 18 مارس، لكن لظروف الأمطار الغزيرة يصعب عبور الجيش
فيضطر نابليون للمبيت حتى يتم بناء "جسر العبور" وفي الصباح يتحركون مُجدداً
ويدخلون في اشتباكات مع عسكر "وقناصة" الجزار الذين كانوا متربصين لهم
بين الأشجار لكن بلا أي جدوى، فيواصلون تقدمهم حتى يصلوا لأسوار المدينة في 19
مارس، حيث تتم الاستعدادات الحصار بحفر الخندق لإخفاء تحركاتهم وتجهيز المدفعية
لقصف الأسوار.
ما بين
تسليم مدينة حيفا "تسليم أهالي" وبين "حماية" الإنجليز لعكا مازال
البعض يتسائل عن سر "انحطاط العرب".
في
تلك الأثناء ولكي "يُسلّي" (نابليون) نفسه أرسل رسائل لحكام وشيوخ وعلماء
ووجهاء المدن المجاورة. وكما رأينا من قبل أنه كان قد أرسل للجزار نفسه
رسالة قبل وصوله لأسوار عكا. كما أرسل للأمير (بشير الثاني) يُمنيه ويُغريه ويطلب
منه مُساعدته وأن يترك القري الدرزية تبيع للفرنسيين ما يحتاجونه من مؤونة وهو ما
قامت به تلك القري بحماسه، أما النصارى فكانوا "أذكي" فأظهروا
تحفظ في معاملتهم مع الفرنسيين. ونجد رسالة له وهو في يافا لشيوخ وعلماء وحاكم
القدس يقول بعد الديباجة المملة بأنه "صديق للمسلمين" لم يجئ ليحارب المسلمين وانه فقط يريد ان يُخلص
"العالم" من المماليك والجزار وشرهم «ولسكان القُدس الاختيار بين السلام أو الحرب. فإن اختاروا الأول فليبعثوا
للمعسكر في يافا مُمثلين عنهم ليتعهدوا بأن لا يفعلوا أي شيء ضدي. وإن كانوا حمقي
كفاية ليختاروا الحرب فسأحاربهم بنفسي. يجب ان يعرفوا أنني قاسي كنار السماء اتجاه
أعدائي. وعفوّ رحيماً اتجاه من يريدون صداقتي.» (10)
ومن أمام أسوار عكا بعث برسالة لأبناء (ظاهر العمر) "يُمجد" فيها أبوهم
" قتيل الجزار"، أبوهم الذي كانت علاقته بالفرنسيين جيدة والذي استولي
الجزار على "مملكته" بما فيها عكا. هذا الجزار «رجل متوحش عدو للشعب، والله الذي يُعاقب الأشرار إن عاجلا أو آجلاً، قد
أراد اليوم أن تتغير الأمور. فقد اخترت الشيخ عباس الظاهر ابن ظاهر العمر بان يكون
حاكماً على طبرية، وهذا بالنظر لجدارته ومزاياه الشخصية وأنني مُقتنع بأنه سيكون
كوالده يكره الانتهاكات والتعديات ويفعل ما فيه خير الناس. وبموجب هذ آمر شيخ
البلد وسُكان طبرية بالاعتراف بالشيخ عباس الظاهر كحاكم لهم. ولقد البسناه بالتالي
كسوة. كما آمر أيضاً شيخ البلد بالناصرة بأن يُعيد البيوت والحدائق والممتلكات الأخرى
التي كان يمتلكها الشيخ ظاهر العمر بها.» ويقول (نقولا) أن الشيخ (عباس) كان
قد حضر إلى (نابليون) «واعرض لديه
احواله. فترحب به واعطاه السلاح والكسوة وعشرة اكياس، وكتب له ان يكون متولياً
بلاد ابيه.» ورغم أن الفرنسيين لم يكونوا يسيطرون بعد على طبرية إلا أنّ هذا
كان باعتبار ما سيكون بعد أن تسقط عكا. وقد ذهب لـ(نابليون) أيضاً «مشايخ بني متوال
(شيعة جبل عامل جنوب لبنان حالياً) فأعطاهم حكم بلادهم. وصاروا من عند امير الجيوش
الي مدينة صور وقدموا له الذخاير من البلاد وتسلموا القلعة التي كانت لآبائهم.»
ثم بدأ القصف «وكان حرباً شديداً
مهولاً لم يكن مثله قط لان كانت الفرنساوية تضرب المدافع والقنابر. وفي المدينة
كذلك، المدافع والقنابر من الابراج والقلاع والحصون والاسوار. وكانت المراكب
العثمانية والمراكب الإنكليزية تضرب كذلك المدافع والقنابر. حتى خُيل لناظرين
والسامعين ان مدينة عكا لم يبق منها حجر على حجر واقفين. وارتج الجزار من ذلك رجة
عظيمة، وكاد أن يخلو المدينة. واحضر مراكبه للسفر والركوب، وهيا نفسه للذهاب
والهروب.» لكن الأدميرال الإنجليزي (سيدني
سميث) طمئن الجزار وأخبره أنه قد استولي من الفرنسيين على ثلاثة مراكب تحوي ذخيرة «ومدافع
قوية فشجع فؤادك على محاربتهم، لأنني قد اضعفت قوتهم «. فبيقظة سميث وبسيطرته على البحر استطاع الاستيلاء على المدافع
التي كانت ستسهل مهمة نابليون، فرغم أن نابليون كان "مُحاصراً" لعكا براً إلا أن خط امداداتها عبر البحر
مازال يعمل بكامل طاقته؛ مما يعني أن الحصار بلا أي فائدة وأنّ الأمل الوحيد هو أن
يستطيع فتح ثغرة في أسوارها لكي يُسيطر عليها. هذا الأمل الذي سيتلاشى مع الوقت،
لكن قبل أن ييأس نابليون وجنوده لنتوقف عند هذا الحد ونُكمل -إن شاء الله- المرة
القادمة.
******************************************************************************************************
(1) L'Égypte et les égyptiens, par le duc d'Harcourt, 1893
(2) سنأتي –إن شاء الله- على تفاصيل الأسماء والشخصيات والأحداث التي سنذكرها هنا اجمالاً حينما ننتهي من الحملة الفرنسية ونبدأ في تتبع مسيرة الباشا وجيشه.
(2) سنأتي –إن شاء الله- على تفاصيل الأسماء والشخصيات والأحداث التي سنذكرها هنا اجمالاً حينما ننتهي من الحملة الفرنسية ونبدأ في تتبع مسيرة الباشا وجيشه.
(3) Égypte Et Palestine
Observations Médicales Et Scientifiques, Par Ernest Godard, 1867.
(4) Histoire Scientifique Et Militaire De L'expédition Française En
Egypte, Louis Reybaud, 1830.
(5) Campagne De Bonaparte En Égypte
Et En Syrie, Par Un Officier De La 32e Demi-Brigade, 1832.
(6) من كتاب لطبيب
بريطاني كان مرافقاً لنابليون في منفاه الأخير في جزيرة سانت هيلينا حيث قضي معه
ما يُقارب العامين ونصف من نهاية 1815 إلى منتصف 1818، حظي فيها بثقته ودارت
نقاشات وحوارات بينه وبين نابليون بخصوص مسيرته والأحداث المهمة التي واجهها. ثم اضطر
إلى مغادرة الجزيرة بعد مُضايقات حاكمها الجديد، ونشر ما كتبه خلال تلك الأعوام
بعد وفاة نابليون في العام 1821 الكتاب هو:
Complément Du Mémorial De Sainte-Hélène, Napoléon En Exil, Par
Le Docteur Barry E. O'méara, 1897.
(7) دوق ويلنجتون
هو الفيلد مارشال (المشير) آرثر ويلسلي (1769-1852) عسكري وسياسي بريطاني وهو الذي
انتصر على نابليون في معركة واترلو الشهيرة في 1815.
(8) Journal D'un Officier De L'armée d'Égypte, Le Capitaine Vertray,
Par H. Galli, 1883. لكن مشهد الإعدام الذي يصفه (لويس ريبو (1879-1799)) الكاتب
والسياسي الفرنسي –والذي نقلنا عنه غير مرة- ينقل لنا الصورة بتفاصيل أكثر وسنري
هذا المشهد في رواية الغزاة.
(9) Histoire Scientifique Et Militaire De L'expédition Française En Egypte,
Louis Reybaud, 1830.
(10) Correspondance Inédite
Officielle Et Confidentielle De Napoléon Bonaparte, Egypte.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال