الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

الجيش المصري و شعبه 8

الجيش المصري و شعبه 8
-البداية
(5)

"إلى متى تنسانا يا باشا كُل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عنّا؟ إلى متى نجعل همومنا في أنفسنا، وحزناً في قلوبنا كُل يوم؟ إلى متى يرتفع أعداؤنا علينا؟ انظر واستجب لنا. أنر عيوننا لئلا ننام نوم الموت. لئلا يقول الغرب عنّا أنّا بهائم.  لئلا يشمت بنا الإخوان. ولترضي عنّا، ها نحن تحت نعليك، وترقص نسائنا لجنودك."
الإصحاح الثامن من سفر الشئون المعنوية

قال أحد الشيوخ المعرّصين(الشعراوي) تأييداً لمُبارك (*) أنّ الله: "يؤتى الملك من يشاء، فلا تآمر على الله لملك ولا كيد على الله لحكم لأنه لن يحكم أحدا في ملك الله إلا بمراد الله." وقد رأينا أنّ "شيوخ" الحملة الفرنسية قبل أن يقول هذا العرص مقولته هذه بنحو 200 عام قد استخدموا نفس "المنطق" لشرعنه الاحتلال وأنه طالما "أراد" الله –هكذا يُدلسون- أن يحكمكم الفرنسيين فلا سبيل أمامكم إلا أن تُسلموا: " يا عباد الله وارضوا بتقدير الله وامتثلوا لأحكام الله". إن هذا المنطق هو أحد الأسباب التي أوصلت منطقتنا إلى حالة الموات التي نراها اليوم.

بداية من المعلوم-هذا إذا كنت مؤمناً- أنه لا يتم شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله. فما شاء كان وما لم يشاء لا يكون. فكل مشيئة غير مشيئته متعلقة بها ومتوقفة عليها. فنابليون حينما غادر فرنسا ليحتل مصر لم يكن ليستطيع لو لم "يسمح" الله بهذا. لكن هذا لا يعني أنّ الله "أراده"، وبالتالي فنستطيع أن نقول –بيقين- أن كل حدث يحدث في هذا الكون ويخرج لحيز التنفيذ أنه تم "بمشيئة الله"، لكن لا نستطيع –في غالب الأحوال- أن نقول أنّ هذا هو "مراده" فيما عدا ما أخبرنا هو عنه سواء في كتاب أو سُنّة.

مثلاً أن يأتي "السيسي" رئيساً هذا –قطعاً- تم بمشيئة الله، لكن لا نستطيع أن نقول أن الله "أراد" أن يكون السيسي رئيساً. فمجيئه على رأس السُّلطة لم يأتي هكذا بلا أي أسباب. بل هناك أسباب كثيرة-شاء الله حدوثها- منها هبل الشعب المصري وتخلفه وأنه حصن أمان لإسرائيل كما أنّ جهله وعبطه يُمثلان "ميزتان" لمُحركيه. فإذا فسّرنا "المُلك" على أنه "الحُكم" وليس شيء آخر وأنّ مشيئة الله-فيما يختص بأفعال البشر- هو أن "يسمح" أو لا يسمح بحدوثها فيُمكن القول أنّ الله "شاء" أن يكون السيسي "ملكاً" بمعني أنه سمح بحدوث هذا الأمر ولكن هذا لا يعني أنه أراده. فهناك فرق دقيق بين المشيئة والإرادة ولكن غالباً ما يتم استخدامهما بمعني واحد و من هُنا يأتي اللبس. فالمشيئة "ثابت" لا فكاك منه فكل الأحداث لابد ان تمر عبرها فإن شاء الله كانت وإن لم يشأ لا تكون. أما إرادة الله ومراده فتارة تكون مُتعلقة بكون الأشياء أو ما يُطلق عليه علماء الدين "إرادة كونية" كأن يريد الله أن تكون شمساً أو تكون النار برداً وسلاماً أو ينشق البحر وهذا نافذ ومتحقق لا محالة وتارة لا تكون إرادته نافذة ومتحققة أو ما يُطلق عليه "إرادة شرعية" فالله يريد من الناس أن تؤمن به ولا تكفر. ويريدهم ألا يسرقون أو يزنون لكن الله ترك للناس "الحُرية" لكي توافق "إراداتهم" إرادته وهنا محل "الإختبار".

وبالتالي فمشيئة الله بأن يأتي السيسي رئيساً لا تعني أنّ من يحاول "الخروج" عليه وهدم دولته هو معترض على إرادة الله وكاره "لحُكمه". فكما أن الله "يؤتي الملك مَنْ يشاء" فهو أيضاً "ينزع المُلك مِمنْ يشاء" والسيسي نفسه قد نزع "مُلك" مرسي. وكُل التاريخ الإسلامي -بل كل التاريخ الإنساني- عبارة عن سلسلة من مُلوك ينزعون مُلك مُلوك آخرين ومن ثم فخدعة أن أي ملك أو رئيس أو وزير أو خفير هو "مُعين" من قبل الله وأنّ هذه هي "إرادته" وأنّ أي اعتراض أو خروج عليهم يكون "كُفراً وخارجية" هي خُدعة سخيفة وغبية.

فحينما نتكلم عن أفعال البشر، فأن يشاء الله أن تحدث تلك الأفعال هي غير أن يُريد الله أن تحدث. فمثلا لو افترضنا أنك عزمت على أن تقتل انسان ما وأعددت العُدة ووضعت خطة لذلك ورتبت واتخذت كافة الاحتياطات التي تكفل عدم اكتشاف جريمتك. وفي يوم الذي وضعته للتنفيذ نهضت مُبكراً وتناولت فطورك وذهبت للمكان الذي تنتظر فيه ضحيتك ثم حين رأيته بدأ قلبك ينتفض وسري الأدرنالين في شرايينك، وفي اللحظة المناسبة انقضضت عليه وطعنته في رقبته وصدره وحين  سقط علي الأرض فتشت جيوبه فأخذت ما بها من أموال و أوراق، ثم لاحظت أنه مازال يتنفس فقمت بخنقه وبعد ان تأكدت أنه فارق الحياة وضعت جُثته في عربتك و نقلتها إلي مكان بعيد حيث كنت قبلها قد جهزت حفرة لدفنه فيها، فأهلت عليه التُراب وبعدها رجعت لشقتك حيث أخذت حماماُ دافئاً و جلست أمام التليفزيون لتُشاهد فيلم كوميدي وأنت تتناول وجبة العشاء. هذه العينة البسيطة من سلسلة من الأحداث كُلها تمت "بمشيئة الله" ولو شاء الله لما وقعت. ولكن هل الله هو الذي أرادها وأوقعها؟ لوكان الله هو مَنْ أرادها كيف إذاً نُعاقبك على جريمتك؟ هل تكون هناك أي مسئولية عليك؟ ألست تكون مثلك مثل السكين الذي قتلت بهِ ضحيتك؟ ألا تكون مُجرد أداة عمياء بلا أي إرادة أو اختيار؟ سلسلة الأحداث هذه لا تختلف في شيء عن أن يأتي نابليون لمصر أو أن تحتل أمريكا العراق أو أن تهزم إسرائيل "المُسلمين" فكلها أحداث تمت بمشيئة الله لكن كُلها أيضاً أسبابها بأيدينا فالتخاذل والجُبن والخيانة هي من أسباب الهزيمة ولو كُنا أعددنا العُدة وأخذنا بأسباب النصر لتغير الأمر.

وباستخدام منطق الشيوخ المعتوه هذا من أدراهم أن الله لا "يُريد" أن ينزع "مُلك" ملكهم أو رئيسهم؟ وكأن الله يؤتي المُلك فقط وأن هناك "إله" آخر هو الذي ينزعه. بل مما نري نستطيع ان نقول –مُطمئنين- أن الله يُريد فعلاً أن يُذِل هؤلاء وينزع منهم المُلك والحُكم فهم يستهزئون بدينه ليل نهار، حتى وإن تظاهروا بالدفاع عن "الدين الوسطي المُعتدل" الذي هو عبارة عن دين بلا دين، عن مجرد اسم بلا مُسمي. دين تكون فيه مُسلماً كافراً. دين تشهد فيه أن لا إله إلا الحاكم. أن تصلي علي النبي لكن "تتبرأ" من أفعاله. أن تقرأ في القرآن: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" ثم تقول بعدها أن النصارى يعبدون "الله" وأنهم ليسوا كفارا وبأن من يقول هذا فهو "إرهابي" يُشعل نار "الفتنة" الطائفية-وقد سمعنا هذا بالفعل في تفجير الكاتدرائية الأخير- إن منطقهم هذا هو سبب رئيس في حالة التخلف والهبل التي اصابت كثير من "المُسلمين".

المشعوذ مكاري يونان -بعد تفجير الكاتدرائية- يقول :"كل مرة هايحصل فيها أحداث هانزيد محبة لاخواتنا المسلمين" فاللهم أكثر "الأحداث" ليزدادوا "محبة لأخواتهم"

توقفنا المرة السابقة عند وصول طلائع القوات العثمانية لأبي قير وقد جاءت بمساعدة البحرية البريطانية-وهي المُحرك الرئيسي للأحداث-حيث كان على رأس تلك الحملة مصطفي باشا. فيقول الجبرتي أنه في 15 يوليو 1799م: " وردت أخبار ومكاتيب مع السعاة لبعض الناس من الاسكندرية وأبي قير وأخبروا بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية." كان نابليون علي علم بتلك التحركات فبادر مُسرعاً بتجميع عساكره مصطحباً المعلم "جرجس الجوهري" -أحد "قديسي" الكنيسة القبطية الوطنية"-مُتجهاً لمُلاقاتها ولم ينسي قبل مٌغادرته في أن يُرسل: " مكتوباً الى أرباب الديوان بالسلام عليهم والوصية بالمحافظة وضبط البلد والرعية كما فعلوا في غيبته السابقة."

وفي 20 يوليو 1799م: " ورد الخبر بأن عثمان خجا (كان حاكماً لرشيد) وصل الى قلعة أبي قير صحبة السيد مصطفى باشا فضربوا على القلعة وقاتلوا من بها من الفرنساوية وملكوها وأسروا من بقي بها" سيطير الناس فرحاً بتلك الأخبار لكن سُرعان ما سيخيب ظنهم. فالفرنسيين لم تخلو جعبتهم بعد من المفاجآت فيبعث نابليون برسالة للديوان في طريقه لمواجهة تلك الحملة يُستهل فيها بالشهادتين  وبعد السلام و الأشواق  يخبرهم أنه: " وصل ثمانون مركباً صغاراً وكباراً حتي ظهروا بثغر الإسكندرية، و قصدوا أن يدخلوها، فلم يُمكنهم الدخول من كثرة البنب وجل المدافع النازلة عليهم ، فرحلوا عنها ، وتوجهوا يرسلون بناحية أبى قير ، وابتدأوا ينزلون في البر وأنا الآن تاركهم ، و قصدي أن يتكامل الجميع في البر ، وأنزل عليهم أقتل مَنْ لا يُطيع ، وأخلى بالحياة الطائعين ، وآتيكم بهم محبوسين تحت السيف لأجل أن يكون في ذلك شأن عظيم في مدينة مصر" وأنّ السبب في مجيء تلك الحملة ليس "تحريركم" منّا بل من أجل: " نهب البلاد وخراب القطر المصري" و أنّ في تلك الحملة و "العياذ بالله" كُفار من روسيا-التي كانت أحد الدول المُشاركة في التحالف الثاني ضد فرنسا- فهم ليسوا مثلنا -نحن الفرنسيون- فهم لا يحترمون القرآن و لا الإسلام و يكرهون "الموحدين" و يقولون أن الله ثالث ثلاثة "تعالي الله عن الشُركاء" وأنّ: "الله تعالى هو الواحد الذى يعطى النصرة لمن يوحده هو الرحمن الرحيم" وبما اننَا "موحدون": " قدّر(الله) و حكم بحضوري عندكم إلي مصر ، لأجل تغييري الامور الفاسدة و انواع الظلم ، وتبديل ذلك بالعدل والراحة مع صلاح الحكم" ولذلك فالمسلمين الذين يُحاربون معهم: " يكونوا من المغضوب عليهم لمخالفتهم وصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ، بسبب اتفاقهم مع الكافرين الفجرة اللئام ، لأن أعداء الإسلام لا ينصرون الإسلام ، و يا ويل من كانت نصرته بأعداء الله ، وحاشا الله أن يكون المُستنصر بالكُفار مؤيداً أو يكون مسلما ، ساقتهم المقادير للهلاك والتدمير ، مع السفالة والرذالة ، وكيف المسلم أن ينزل في مركب تحت بيرق الصليب ، ويسمع في حق الواحد الأحد الفرد الصمد من الكفار كل يوم تخريف واحتقار، ولاشك أن هذا المسلم في هذه الحال أقبح من الكافر الأصلي في الضلال" يالها من" خُطبة رائعة"  لا تأتي إلا من شيخ مُعرِّص تربي في أروقة الأزهر، ثم يختم بعد كل هذا "الحشو" بلهجة حادة بأنه يريد من "أهل الديوان" أن يقولوا هذا: " الخبر جميع الدواوين والأمصار ، لأجل أن يمتنع أهل الفساد من الفتنة بين الرعية في سائر الأقاليم والبلاد ، لأن البلد الذى يحصل فيه الشر ، يحصل لهم مزيد الضرر والقصاص ، انصحوهم يحفظوا أنفسهم من الهلاك خوفا عليهم من أن نفعل فيهم مثل ما فعلنا في أهل دمنهور" وكما رأينا المرة السابقة أنه كان قد ظهر رجل مغربي وادعي أنه المهدي في البحيرة و اتخذ دمنهور قاعدة له و دعي الناس للجهاد ضد الفرنسيين حتي انه بمساعدة البدو و بعض المغاربة استطاع أن يباغت الحامية الفرنسية للمدينة المكونة من 115 جندي و تم ذبحهم فلما علم الفرنسيون بذلك بعثوا حملة انتقامية –التي ارتكبت واحدة من أفظع المذابح التي ارتكبها الفرنسيون في مصر- و بعد مناوشات هرب المغاربة و البدو فأوقع الفرنسيين انتقامهم علي "المدنيين" العُزل بالمدينة حتي أنه تم قتل المئات منهم ممن حاول الهرب و قتل ما يُقارب 1500 حرقاً أو بالرصاص و أصبحت "دمنهور" كما يقول الجنرال "شارل دوجا" :" لم يعد لها أي وجود" هذا غير مع تعرضت له المدينة من نهب و سلب علي يد الفرنسيين.

ثم في 24 يوليو 1799م وصلت الأخبار بانتصار الفرنسيين على العثمانيين وأنهم: "ظهروا عليهم وقتلوا الكثير منهم و نهبوا و ملكوا منهم قلعة أبي قير، و أخذوا مصطفى باشا أسيراً وكذلك عثمان خجا وغيرهم" و حين يرجع نابليون بعد انتصاره سيلوم الشيوخ و الأعيان علي أنهم: " لما سافر الى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه، وأما في هذه المرة فليس كذلك لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم، فكنتم فرحانين ومستبشرين " "فيلاطفوه" حتي "ينجلي خاطره" و تعود "المياه" "للمجاري".

وفي 5 أغسطس 1799م قبض الفرنسيون على واحد من أعيان بولاق وهو الحاج مصطفي البشتيلي –والذي سيكون أحد رؤوس ما سُمي ب "ثورة القاهرة الثانية" كما سنري فيما بعد- بعد أن وشي بعض جيرانه من "المواطنين الشُرفاء" بأنه: " يدخل بعض حواصله الذي في وكالته عدة قدور مملوءة بالبارود" فلما داهموا تلك المخازن تأكد لهم صحة "الوشاية" فحبسوه في القلعة. في خلفية الأحداث يُشارك الفرنسيين في المٌناسبات الرسمية من "المولد" و "وفاء النيل" أو احتفالاتهم الخاصة فتُعقد الموائد ويحضر الشيوخ وتطلق الأعيرة النارية والمدافع ابتهاجا ولا يمنع من أن يكون هناك "رقص و طبل" و بعض "الخلاعة و المجون"، "فساعة الحظ" لا تعوض كما يقول المصريون.

هنا سيعود نابليون لفرنسا بسرية تامة ليرُسل بعد وصوله "بالسلامة" رسالة "لأهل مصر" فيجمع القائممقام الجنرال "شارل دوجا" اعضاء الديوان  ليقرأها عليهم ومضمونها كما ينقل الجبرتي أنّه: " سافر يوم الجمعة حادي عشرين الشهر المذكور (23 أغسطس 1799م) إلى بلاد الفرنساوية لأجل راحة أهل مصر وتسليك البحر فيغيب نحو ثلاثة أشهر، ويقدم مع عساكره فإنه بلغه خروج عمارتهم ليصفوا له ملك مصر ويقطع دابر المفسدين، وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساوية جميعاً كهلبر ساري عسكر دمياط."

مع كليبر ستتغير الأوضاع فهو على النقيض من نابليون. فالعلاقة بين الإثنين لم تكن على ما يرام حتى أنّ نابليون لم يُكلف نفسه أن يُخبره برحيله لفرنسا وتعيينه بدلاً منه ك "ساري عسكر" مما أثار غضب كليبر كما أنه كان يري أن "مُغامرات" نابليون قد ورطت فرنسا فهو كان مُعارضاً من البداية لغزو مصر. كليبر أيضاً رجل عسكري "مثالي" لا يعرف "الاعيب السياسة" والتظاهر والنفاق بأنه "مُسلم" أكثر من المُسلمين أنفسهم كما كان يفعل نابليون. ثم هو أخيراً بعد كُل هذا وبوصول وضع الجيش الفرنسي لما وصل إليه كان يري أن فرنسا ليس لديها فرصة في الإحتفاظ بمصر تحت سيطرتها لفترة طويلة.

وفي 31 أغسطس 1799م يأتي كليبر للقاهرة فتُضرب: " لقدومه المدافع من جميع القلاع وتلقته كبار الفرنساوية وأصاغرهم وذهب الى بيت بونابارته الذي كان ساكناً به." ثم تذهب "التشريفة" من "أكابر البلد" من الشيوخ والأعيان لمُقابلة "سيدهم" الجديد: " للسلام عليه فلم يجتمعوا به ذلك اليوم ووعدوا الى الغد." المشايخ والأعيان لابد أنهم أصابهم "إسهال حاد" فالسيد الجديد لا يبدو كالقديم فينصرفوا ويحضروا ثاني يوم: " فلم يروا منه بشاشة ولا طلاقة وجه مثل بونابارته، فإنه كان بشوشاً ويباسط الجلساء ويضحك معهم." ستبدأ زيارات كليبر للشيوخ والأعيان وزياراتهم له تتخذ "الشكل الرسمي" فهذا يدعوه على العشاء وهو يدعوهم على الغذاء لكن ستكون أشبه بلقاءات "عمل" وليس فيه شيء من "المداعبة والملاعبة والمناغشة" التي تكون عادة بين "الأحباء".

وفي 7 أكتوبر 1799م بعد أن أنهك كل من مُراد بيك الأمير الهارب للصعيد والفرنسيين ستُعقد مُهادنة بين الطرفين: " وترددت بينه (مراد بيك) وبين ساري عسكر الرسل والمراسلات ووقع بينه وبينهم الهدنة والمهاداة، واصطلح معهم على شروط منها تقليده إمارة الصعيد تحت حكمهم." هنا أخبار "الهجوم المُضاد" للعثمانين علي الشام ستكون أخبارها وصلت الجميع ففي 29 نوفمبر يقول الجبرتي أنّه: " كثرت الأقوال وتواترت الأخبار بوصول الوزير الأعظم يوسف باشا الى الديار الشامية وصحبته نصوح باشا (كان والياً علي مصر قبل الحملة الفرنسية) […]وعسفوا في البلاد الشامية وضربوا عليهم الضرائب العظيمة وجبوا الأموال، فلما كان في منتصفه وردت الأخبار بوصولهم الى غزة والعريش وأنهم حاصروا قلعة العريش وقاتلوا من بها من عسكر الفرنساوية حتى ملكوها في تاسع عشره(17 ديسمبر 1799م)"   يُكمل الجبرتي أن كليبر كان قد بعث برسائل لسيدني سميث ضابط البحرية البريطانية ليتوسط بين الفرنسيين و العثمانيين في الصُلح و أن الصدر الأعظم قد طلب رجلين من الفرنسيين من "رؤسائهم و عقلائهم ليتشاور معهم ويتفق معهم على أمر يكون فيه المصلحة للفريقين على ما سيشترطونه بينهم" فيبعثون ب "بوسيليج" المُدير المالي و "ديزيه" قائد جبهة الصعيد. لكن حدث تأخير و استمر زحف العثمانيين بعد سيطرتهم علي العريش في اتجاه الصالحية (شرق محافظة الشرقية)، فيتهيأ كليبر و جنوده لمُلاقاتهم.

لكن في 19 يناير 1800م: " ورد الخبر بقدومهما (بوسيليج و ديزيه) […] الى الصالحية، فأرسلوا لهما الخيول وما يحتاجان إليه وحضرا الى مصر" حيث ينتشر خبر الصُلح أو ما سُمي "بمعاهدة العريش" ويظهر: " الفرنساوية الخداع والخضوع حتى تم عقد الصلح على اثنين وعشرين شرطاً." تلك الشروط التي تُمهد لإنسحاب "تدريجي" للجيش الفرنسي من مصر على أن تكلفة هذا الانسحاب ومعاش ومأكل الجنود كُله على حساب "صاحب المحل" طبعا ليس العثمانيين بل "المصريين البُلهاء" وكأن فرنسا لم تقتل وتذبح وتنهب منهم ما يكفي، بل لابد من مواساتها على فشل حملتها ومساعدتها على تخطي محنتها لكي يشتد عودها لكي تعود مرة آخري ولكن هذه المرة نرجو من الله أن تنجح. هذا هو مُلخص "الشروط" التي توصل إليها العثمانيين البهائم. طبعاً الفرنسيين مُدركين أن المسألة مسألة وقت "لإنسحابهم" ولكن يجب قبل ذلك "تعويض" فاتورة الحملة بشكل مُرضي وإلا ستكون صورة "الاحتلال" في خطر. لذلك سيماطلون في الانسحاب حتى جمع ونهب أكبر قدر من المال.

فيبدأ العثمانيون في جمع المال اللازم لانسحاب الفرنسيين من المصريين فيُرسلون محمد أغا الذي يجمع "العلماء" والأعيان وكبار النصارى من الأقباط والشوام حيث يقرأ "فرمانا" مضمونه:" أن الوزير أقام مصطفى باشا الذي كان أسر بأبي قير وكيلاً عنه وقائمقام بمصر الى حين حضوره وأن السيد أحمد المحروقي كبير التجار ملزوم ومقيد بتحصيل الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساوية." فيبدأ السيد المحروقي بجمع الأموال "بهمة ونشاط" فهذه مهمة "عظيمة" فكان كل من وجب عليه جزء من المال دفعه: " عن طيب قلب وانشراح خاطر وبادر بالدفع من غير تأخير لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية، ويقول سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة " هؤلاء الكلاب الكفرة الذين كانوا بالأمس "مُسلمين موحدين" وكانوا قد جاءوا "بإرادة الله و قدره و حُكمه". و زادت حماسة " الرعايا وهمج الناس من أهل مصر " –و التي غالباً ما تكون مؤشر علي أنهم سيواجهون مُصيبة قادمة لأن تلك الحماسة نابعة من غبائهم و ليست ناتجة عن قراءة واعية للأحداث- فيقول الجبرتي: " إنهم استولى عليهم سلطان الغفلة ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار وأنزلوهم عن درجة الاعتبار وكشفوا نقاب الحياء معهم بالكلية وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية ولم يفكروا في عواقب الأمور ولم يتركوا معهم للصلح مكاناً، حتى أن فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقاً وطوائف حسبة وهم يجهرون ويقولون كلاماً مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى وأعوانهم وأفراد رؤسائهم، كقولهم: الله ينصر السلطان ويهلك فرط الرمان، ونحو ذلك، وظنوا فروغ القضية ولم يملكوا لأنفسهم صبراً حتى تنقضي الأيام المشروطة ."

سيبدأ الفرنسيون في: " بيع أمتعتهم وما فضل عن سلاحهم ودوابهم، وسلموا غالب الثغور والقلاع كالصالحية وبلبيس ودمياط والسويس." يترادف هذا مع تدرج دخول العثمانيون لمصر: " وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة، وأخذوا يشاركون الناس في صناعاتهم وحرفهم مثل القهوجية والحمامية والخياطين والمزينين وغيرهم، فاجتمع العامة وأصحاب الحرف الى مصطفى باشا قائمقام وشكوا إليه، فلم يلتفت لشكواهم لأن ذلك من سنن عساكرهم وطرائقهم القبيحة." هنا قد يلاحقك سؤال ويُلح عليك بالإجابة: هل استطاع "المصريون" اكتشاف أنهم من أغبي شعوب الأرض؟ فهم بعد كل "حماسة" و "هياج" و "تسلم الأيادي" يرون أنهم تم "خوزقتهم" ممن رقصوا وهتفوا و "لحسوا" له. و ليس عليك إلا أن تُلقي في وجه هذا السؤال الإجابة الأكيدة: بالطبع لا!  هل يُمكن أن "يكتشف" الغبي غبائه؟!!

ثم في 3 مارس 1800م سيبدأ "التلكيك" من جانب الفرنسيين وبما أنه كُل من الجيش العثماني والفرنسي أصبحوا متواجدين في قلب القاهرة إستعداداُ "لإنسحاب" الفرنسيين الذي وضع في الشروط مدة 45 يوماً لانسحاب القوات الفرنسية منها. فيُخبرنا الجبرتي أنه حدثت حادثة بداية لسلسلة من الحوادث التي ستقود في النهاية لأحداث "ثورة القاهرة الثانية" حيث: " وقعت حادثة بين عسكر الفرنساوية والعثمانية وهي أول الحوادث التي حصلت بينهم، وهو أن جماعة من عسكر العثمانية تشاجروا مع جماعة من عسكر الفرنساوية فقتل بينهم شخص فرنساوي." فيصيب الخوف الناس وتُغلق المحلات ويتترس العثمانيين وتقع بينهم وبين الفرنسيين مناوشات يُقتل فيها من الطرفين عدد قليل ويعزم كل طرف علي حرب الآخر لكن: " توسطت بينهم كبراء العسكر في تمهيد ذلك، وأزالوا المتاريس وانكف الفريقان" ويبحث مصطفي باشا نائب الوالي عمن أثار هذه "الفتنة" من عساكره فيجدهم ستة أنفار فيقتلهم ويُرسلهم إلي: " ساري عسكر الفرنساوية فلم يطب خاطره بذلك." ويُصر على أن ينحسب عسكر العثمانيين إلى "ثكناتهم" حتى: " تنقضي الأيام المشروطة، وإذا دخل منهم أحد الى المدينة لا يدخلون إلا بطريقة وبدون سلاح." و المفروض أنّ العثمانيين هم المنتصرون و أن الجيش الفرنسي لا يُملي أي شروط فهو جيش مهزوم و يكفي أنهم تركوهم يرجعون لبلادهم "آمنين سالمين غانمين" لكن رغم هذا يرضخ مصطفي باشا "للأوامر" و يأمر بدوره: " بخروج الداخلين من العساكر ولا يبقى منهم أحد، ووقف جماعة من الفرنساوية خارج باب النصر فإذا أراد أحد من العسكر أو من أعيان العثمانية الدخول الى المدينة، فعند وصوله إليهم ينزل عندهم وينزع ما عليه من السلاح ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان أمامه حتى يقضي شغله ويرجع، فإذا وصل الى الفرنساوية الملازمين خارج البلد أعطوه سلاحه فيلبسه ويمضي الى أصحابه" مُنتهي الذِلة و الإهانة. وحينما يري كليبر وجنوده ذِلة وهوان الجيش العثماني وعساكره: "وتحققوا حالهم وعلموا ضعفهم عن مقاومتهم" يبدأون في الإستعداد: " للمقاومة والمحاربة وردوا آلاتهم الى القلاع، فلما تمموا أمر ذلك وحصنوا الجهات وأبقوا من أبقوه وقيدوه بها من عساكرهم واستوثقوا من ذلك خرجوا بأجمعهم الى ظاهر المدينة جهة قبة النصر وانتشروا في تلك النواحي." أما كُلاً من العثمانيين ومن وراءهم المصريين مغيبون تماماً فقد: "غلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل."

وفي 19 مارس 1800م: " ركب ساري عسكر كلهبر قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب وقسم عساكره طوابير، فمنهم من توجه الى عرضي(جيش) الوزير(يوسف باشا) ومنهم من مال على جهة المطرية فضربوا عليها فلم يسعهم إلا الجلاء والفرار وتركوا خيامهم ووطاقهم، وركب نصوح باشا (الوالي) ومن كان معه وطلبوا جهة مصر، فتركهم الفرنساوية ولحقوا بالذاهبين من إخوانهم الى جهة العرضي فلما قاربوه أرسلوا الى الوزير يأمرونه بالرحيل بعد أربع ساعات فلم يسعه إلا الارتحال والفرنساوية في أثره". في "غمضة عين" تم طرد العثمانيين من مصر وحيث كان الجيش الفرنسي مشغول في هذا سيبدأ "أصحاب المصالح" ممن توقف حالهم في "تهييج العامة" لتبدأ أحداث "ثورة القاهرة الثانية" وهي أخت "ثورة القاهرة الأولي" في نتائجها ودروسها وإن كانت تختلف في تفاصيلها وهذا ما سنعرفه-إن شاء الله- المرة القادمة.
******************************************************************************************************
(*)كُنت قد نقلت كلمته هذه في تدوينة "البحث عن الجين المفقود 3"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال