الجيش
المصري و شعبه 5
-البداية
(2)
"ويقول الباشا لشعبه: "أنتُم
أولادي. لا تخمشُوا أجسامكُم، ولا تجعلُوا قرعة بين أعيُنكُم لأجل أن تهربوا من
التجنيد. ولأنّكم شعب عبيط، فقد اخترتكم لكي تكُونوا لي شعبا خاصّا فوق جميع
الشُّعُوب الّذين على وجه الأرض." فيرد الشعب عليه:" أبانا الباشا
ليتقدس اسمك ليأت بنوك ليحكمونا، لتجري مشيئتك على قفانا كما تُريد. فقط نستعطفك و
نسترحمك أن لا تحرمنا رغيف العيش أو تمنع عنّا الزيت والسُكر" "
الإصحاح الخامس
من سفر الشئون المعنوية
نسمع دائماً
الكثير من المخابيل الذين يُحبون ترديد
الإكليشيهات و الجُمل المحفوظة و التي قد تبدو لأول وهلة –خصوصاً لأتباع هؤلاء
المخابيل- ذات معني عميق سحيق, لكنها في الحقيقة ليست إلا "سفسطة" فارغة
أنتجتها عقول مُنهزمة ذليلة و جبانة . فنسمع من يقول: "الحق فوق القوة "
و الحقيقة أنه لا حق إلا بالقوة. إن أي مبدأ أو فكرة أو نظام بدون قوة قاهرة تجعله
واقع تظل كلمات جوفاء لا تحمل أي معني . فما معني الحُرية إذا لم تكن هناك قوة
"تضمن" أن تتمتع بها؟ و ما هو الحق إن لم يوجد سيف مُسلط علي رقبتك
لتعترف به؟ إن الخلل يأتي حينما نعتقد أن الناس تفعل "الخير" لذاته أو
أنهم لا يعتدوا علي "ممتلكات الغير" لأنها ليست ملكاً لهم أو تحترم
"قوانين المرور" لأنها تحميهم. كيف يمكن أن يوجد أي نظام يُطيعه الناس
بدون قوة قاهرة تُجبرهم على ذلك؟! ليس بالضرورة أن تكون فجة و ظاهرة كما في الدول
"المُتخلفة" بل حتي لو لم تشعر بها فهي موجودة مُتربصة لأياً من يُفكر
أن "يخرق" القانون الذي أنتجه النظام نفسه. إن القوة القاهرة هي عصب أي
نظام و قلبه النابض. وما الإعلام و التعليم و التلقين الذي يبدأ مُنذ أن تتفتح عيناك إلا مراحل لجعلك
"راضياً" خاضعاً بملئ "إرادتك" لتلك القوة. إن عالم المُثل
الذي يعيش فيه هؤلاء الحمقى كفيلم "كرتون" حيث البطل أبداً لا يموت مهما
حاول "أعدائه". حيث كل شيء بسيط و نقي و خيّر. حيث يتحول الأعداء في
النهاية إلي أصدقاء أوفياء. حيث الحق فوق القوة. أما في الواقع فأسهل شيء هو قتل انسان آخر. في
الواقع إن لم يقدر عليك أحد "فالسرقة" تُصبح حقك "الشرعي". أن
القوة هي عنوان الحقيقة و أن الحق إن لم تكن له قوة تحميه فهو عين الباطل. هذا لا
يعني أن تُسلم للباطل و قوته التي تحميه لكن إذا أردت أن يعلو "حقك"
فلابد أولاً أن تمتلك أنت القوة ثم بعد ذلك يجب أن تهزم و تهدم قوة الباطل تلك.
أما أن تظل تُردد بأن الحق –هكذا بلا أي فعل من جانبك – سوف ينتصر في النهاية. أو
تخرج تُردد شعارات جوفاء مُعتقدا أن الناس ستتعاطف معك و سيقفون في جانبك فما هذا
إلا هروب من تحمل المسئولية بل و جبن و نذالة. لأنك تُسهل مهمة الباطل و قوته في الانتصار
علي "حقك" و حقوق من تُدافع عنهم.
الآن سنبدأ بدءً من
تلك التدوينه فحص عدة روايات تتناول الحملة الفرنسية من عدة زوايا. فمن الشيخ الجبرتي
الذي سنعتبر روايته هي و جهة نظر "أبناء البلد" بما أن هؤلاء لم يتركوا
لنا أي أثر نتعرف فيه عن نظرتهم فيما كان يحدث, فسنعتمد علي رواية الشيخ و إن كنت
أضعه في طبقة الشيوخ المُعرصين لكن لا خيار آخر لدينا . كما سنري الحملة بعين
"الجاسوس" المعلم نقولا التُرك الذي أرسله الأمير بشير الثاني أمير جبل
لبنان و الذي سيكون له دور مُهم فيما بعد في "انتصارات" إبراهيم باشا في
الشام. فكما يقول مُحقق كتاب المعلم نقولا "ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية و
البلاد الشامية" العميد الركن د.ياسين سويد أن الأمير بشير الكبير ارسل
المعلم نقولا مصر وكلفه : " إقامة علاقات ود وصداقة مع أعيان مصر وزعمائها ،
تمهيداً لإقامة تحالف معهم ، كما كلفه " مراقبة الحالة العامة أثناء الاحتلال
الفرنسي" وقد استطاع أن يقيم مع العديد من الوجهاء والأعيان وأصحاب المناصب
العليا في المجتمع المصري ، وفي الدولة المصرية وخاصة مع أولئك المنُحدرين من أصل
شامي علاقات حميمة سهلت، فيما بعد لسيده الأمير، تحالفاً قوياً ومتيناً مع حاكم
مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر محمد علي باشا."
ثم يتسائل
المُحقق إذا ما كان الأمير يرغب فعلاً:" في درس أحوال الجيش الفرنسي في مصر ،
ليقرر بعدها إذا كان عليه أن يتحالف مع الغازي الأوروبي لمصر أولاً، ثم البلاد
الشام ثانياً؟ وهل أن هذه الرغبة هي التي دفعته إلى تكليف "المعلم نقولا هذه المهمة الخطيرة ، حيث كان عليه أن يحسن
المراقبة من مقره ، في القاهرة أولاً، ثم في دمياط، وأن يدون كل ما يتصل به من
أخبار الجيوش وتحركاتها، وعددها وعُددها ، وأن يرسل بخلاصة ذالك إلى أميره ، "،
وذلك قبل أن يرمي برجاله في مغامرة غير مضمونة العواقب إلى جانب الجيش الفرنسي ؟".يعني باختصار كان الأمير احد الإنتهازيين في المنطقة الذي يبحث عن قوة جديدة يحتمي بها كما سيفعل حليفه الباشا. ثم أخيراً سنري الأمر من زاوية "الغزاة" الفرنسيين أنفسهم لكي تكتمل
لدينا الصورة و نستطيع أن نكوّن فكرة معقولة عن "الجو" الذي ظهرت في
اسطورتنا. اذا ثلاثيتنا ستكون الشيخ و الجاسوس و الغزاة.
الرواية الأولي
: الشيخ.
يبدأ الجبرتي
تسجيله لأحداث يونيو 1798-1213ه قائلاً : " أول سني الملاحم العظيمة والحوادث
الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي
المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الأهوال واختلاف
الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب ﴿وما كان ربك مُهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾(هود-117)". ويقول أن الإنجليز قد اقتربوا من شواطئ
الإسكندرية و بعثوا بوفد لهم فقابلهم
"السيد" محمد كُرّيم فاخبروه أن :" الفرنسيس خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم
فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم" , طبعاً الإنجليز
خائفون علي مصالحهم و كما رأينا فقد كانت إنجلترا ضمن التحالف الأول الذي أنشئ
للقضاء علي الثورة الوليدة . و كل من فرنسا و إنجلترا كانوا "أصدقاء"
الباب العالي هؤلاء الأصدقاء الذين سيقتسمون المنطقة فيما بينهما لاحقاً. ولكن
السيد مُحمد كُرّيم "الوطني" المُغفل خاطبهم بخشونة مُعتقداً أن تحذريهم
ليس إلا مكيدة. وكثرت الشائعات و الأقاويل و لكن حينما غادر الإنجليز وردت
المُكاتبات: " أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأن الناس وسكن
القيل والقال، وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتماداً على
قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم
بخيولهم." و لم تمضي عدة أيام علي هذا "الاطمئنان"و في أول يوليو
1798م ظهر الفرنسيون علي شواطئ الإسكندرية و كما هو متوقع لم يجابهوا مُقاومة
حقيقة فقد كان الكُل في غيبوبة "التفوق" الكاذب الذي سيلازم حتي الجيش الذي سينشُئه الباشا إلي يومنا هذا. و في نفس اليوم سيطر
الفرنسيون علي المدينة فطلب الناس الأمان و جمع الفرنسيين "أعيان" البلد
و طلبوا منهم جمع السلاح و تسليمه.
وعندما وصلت الأخبار
القاهرة بسقوط الإسكندرية: " حصل للناس انزعاج وعول أكثرهم على الفرار والهياج".
أما الأمراء فقد اجتمعوا ليروا كيف سيتصرفون في تلك "الرزيّة" التي حلت
بهم : " ابراهيم بك ركب الى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان
مقيماً بها، واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر
الحادث فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مكاتبة بخبر هذا الحادث الى اسلامبول وأن مراد
بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم، وانفض المجلس على ذلك" طبعاً لا
يوجد أي "خطة" مجرد رد فعل عشوائي علي ما "ربنا يسهّل" فالخطة
هي أن يتم تعطيل تقدم الفرنسيين : " ظناً منهم(أي
المماليك) أن الإفرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب
ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم
النجدة". لكن ما حدث أنّ : " الفرنسيس عندما ملكوا الاسكندرية ساروا في
طريق البر الغربي من غير ممانع". فيصل الفرنسيون إلي دمنهور و رشيد في 9
يوليو 1798م .فيخرج "معظم أهل تلك البلاد على وجوههم" كما هي العادة ,
أما "العُقلاء" فيطلبون الأمان ، وقد كتب الفرنسيون
مرسوماً وطبعوه وأرسلوا منه نسخاً الى البلاد التي يقدمون عليها تطميناً لهم.
في هذا المكتوب
كُل "المفاتيح" التي يحملها من يُريد حُكم المنطقة. أولاً أظهر الإسلام
حتي لو كُنت "كافر ابن كافر". و هكذا ف"السر عسكر الكبير أمير
الجيوش الفرنساوية بونابارته ""مُسلم" أكثر من الماليك انفسهم و هو
"يحترم" النبي و "القرآن العظيم",. بل إنّ كُل الفرنسيين هم "مُسلمون مُخلصون" و ما جاءوا لمصر إلا لتخليص المصريين من حُكم
"العبيد" المماليك الجائر و لكي يعيدوا لمصر "حُسنها" و
بهائها وتصبح "أد الدنيا". ولا يهم بعد ذلك إن ادعيت الألوهية أو حتي
أنكرت وجود الله بالكُلية. المهم أنك "مُسلم موحد". وسنجد كيف أن كثير
من الفرنسيين قد "اعلنوا" اسلامهم ولكنه اسلام "كده و كده"
حتي يكتمل "الشكل" ويسهل حكم هؤلاء "الرعاع" . فهو اسلام
"تغيير الإسم" فإن كان اسمك "مينو" غيره ليُصبح "عبدالله"
و إن كنت "جوزيف" ف "سُليمان" سيليق أكثر.
المفتاح الثاني بأن تقول أنك غير
"طامع" في السُلطة بل ما هي إلا "تكليف ثقيل و مش تشريف " وحينما
تكتشف تلك الشعوب أن "معبودتك" هي السُلطة نفسها. فلا ضرر فتلك الشعوب لن تمتعض أو تتحرك أو تغضب
أو تقاوم أو تثور , فقط ستنتظر "عابد" جديد "يركب علي
السُلطة" و يتخلص من "العابد" القديم. لكن هل تلك الشعوب تعي
اللعبة و ترفض المُشاركة فيها أو علي الأقل تفرض هي قوانينها أبداً لا يكون.
المُفتاح الثالث هو أن لا تأخذك رحمة بمن
"يُعارضك" فإن كان : " طوبى ثم طوبى
لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً
للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا
بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب." لكن
:" الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون
بعد ذلك طريقاً الى الخلاص ولا يبقى منهم أثر." فكل قرية تقوم
علي "العسكر الفرنساوي" تُحرق بالنار.
ثم يلتقي
المماليك و الفرنسيين خارج القاهرة "فلم تكن إلا ساعة" و ينهزم مراد بك
المذكور و قواته فينسحب راجعاً. فتصل الأخبار القاهرة فيشتد انزعاج الناس ويذهب إبراهيم بك :" الى ساحل بولاق
وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم، فاتفق
رأيهم على عمل متاريس من بولاق الى شبرا ويتولى الإقامة ببولاق ابراهيم بك وكشافه
ومماليكه" و كان العُلماء يقومون بدور "عظيم" و حيوي حين ذهاب مراد
بك لمُلاقاة الفرنسيين . ذلك الدور الذي خلده الجبرتي في كتابه و أظهر أهمية
العُلماء في الدفاع عن "الأمة" فقد كانوا يوميا بعد أن يأكلوا و يشربوا
و يجامعوا نسائهم – حقاً لقد عاني هؤلاء العلماء الكثير- يجتمعون: " بالأزهر
كل يوم ويقرأون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية
والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير ويعملون لهم مجالس
بالأزهر وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء."
وبدأ مراد بك في
عمل المتاريس في العاصمة ناحية بولاق استعداد للمحتوم لكن مع ذلك : "قلوب الأمراء لم تطمئن بذلك، فإنهم من حين وصول
الخبر من الاسكندرية شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة الى
البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد واستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها
عند معارفهم وثقاتهم، وأرسلوا البعض منها لبلاد الأرياف، وأخذوا أيضاً في تشهيل
الأحمال واستحضار دواب للشيل وأدوات الارتحال، فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك
داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولو المقدرة للهروب ولولا أن
الأمراء منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقي بمصر منهم واحد."
ثم أُعلن "النفير العام" فبدأ الناس
بالتجمع عند المتاريس كل يحمل له ما تيسر من السلاح حتي العصي و النبابيت و خلت
الشوارع فلا تجد بها أحداً:" سوى
النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة، فإنهم
مستترون مع النساء في بيوتهم والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش وغلا
سعر البارود والرصاص، بحيث يبيع الرطل البارود بستين نصفاً والرصاص بتسعين، وغلا
جنس أنواع السلاح وقل وجوده، وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق وجلس
مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون الى الله بالنصر".
و أما في
"الأرياف" فقد حلت الفوضى العارمة فالناس : " يقتل بعضهم بعضاً
وينهب بعضهم بعضاً وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله
الى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد المزارع
وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى" ولا تعلم أين ذهبت أخلاق "أبناء
البلد" التي يصدعوننا بها ليل نهار و لا أين تلك "المقاومة"
الخُرافية. احتمال أن المصريين أذكى مما نعتقد فهم كانوا يريدون دخول الفرنسيين
لأراضيهم. فاصطنعوا المقاومة المزعومة تلك وتركوا الفرنسيين الأغرار يدخلون
بأرجلهم ويحتلون مصر، ليبدأ المصريون بعد ذلك "المقاومة علي نضافه". إنّ
"العبقرية" المصرية لتُعجزك عن التعبير عنها من فرط بلاهتها. هل سمعت
يوماً عن "عبقرية بلهاء"؟! احتمال
أنك لم تسمع ولكنك بالتأكيد لا تستطيع أن تُنكر أنك تراها يوميا في كثير مما حولك.
و كالمُعتاد بدأ
"الفتي" مع اقتراب الفرنسيين من العاصمة فمن قائل :" إنهم (أي الفرنسيون) واصلون من البر الغربي
ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين"، أما
أمراء العساكر فلم يهتموا حتي أن يبعثوا: "جاسوساً أو طليعة تناوشهم بالقتال
قبل دخولهم وقربهم ووصولهم الى فناء المصر" بل كُل أمير : " جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل
بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل".
وفي 21 يوليو
1798م وصل الفرنسيون من البر الغربي قريبا من امبابة و عندها : " اجتمع العالم
العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر(يعني القاهرة) ولكن
الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم
ورفاهيتهم مختالون في رئيسهم مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوهم مرتبكون في رويتهم
مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم."
ويحمي وطيس
المعركة التي تُستخدم فيها البنادق و المدافع : "فتضج
العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم "يا رب
ويا لطيف ويا رجال الله "ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم،
فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم:" إن الرسول
والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع
الأصوات والصراخ والنباح"، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه."
وبعيدا عن
تفاصيل المعركة فقد انهزم المماليك و عسكرهم و هرب أمراءهم كُلاً في طريقه لا يلوي
علي شيء : " فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر(القاهرة) البعض لبلاد الصعيد
والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة
ممتثلاً للقضاء متوقعاً للمكروه، وذلك لعدم قدرته وقلة ذات يده وما ينفقه على حمل
عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور.[…] وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات(فرق عسكرية) وأكابرهم
ونقيب الأشراف وبعض المشايخ القادرين، فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم
وخوفهم وتحركت عزائمهم للهروب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة
يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون، فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب
ينسلون […] وخرج غالب
النساء ماشيات حاسرات وأطفالهن على أكتافهن يبكين في ظلمة الليل، واستمروا على ذلك
بطول ليلة الأحد وصحبها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما خرجوا
من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم
وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته.[…] وربما قتلوا
من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن "
واجتمع بعض
الشيوخ المُتبقين في الأزهر لأن "المشايخ الكبار" كانوا قد هربوا و تشاوروا
: " فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة الى الإفرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم"
.طبعا ارسلوا لنابليون لكي يُعطيهم "الأمان" و ليس لتهديده أو تحذيره من
"ويلات" ما يفعله -لا سمح الله- إنهم شيوخ عُقلاء "وطنيون". ويذهبوا لمُلاقة نابليون بعدما عاد من أرسلوه "بالبشارة"
فيخاطبهم نابليون ضاحكاً قائلاً:" أنتم المشايخ الكبار", فيُعلموه أن:
" المشايخ الكبار خافوا وهربوا "فيقول لهم: "لأي شيء يهربون اكتبوا
لهم بالحضور ونعمل لكم ديواناً لأجل راحتكم وراحة الرعية وإجراء الشريعة".
برافو نابليون فعلاً أهم شيء هو "إجراء الشريعة". واضح أن نابليون "دارس"
الوضع جيداً. فيرجع الشيوخ الهاربون من أمثال الشيخ السادات و الشرقاوي بعد ان
يُطمئنهم نابليون و يطلب منهم تشكيل الديوان الذي من المُفترض أنه سيكون حلقة
الوصل بين "الاحتلال" و أبناء البلد.
ويعزي الجبرتي
"أعظم" أسباب الهزيمة لاشتداد هبوب الريح فتحمل الرمال وتنسفها في:
"وجوه المصريين فلا يقدر أحد أن يفتح عينيه من شدة الغبار، وكون الريح من ناحية
العدو وذلك من أعظم أسباب هزيمة كما هو منصوص عليه." وهكذا يضع الجبرتي نفسه
في قائمة الشيوخ المُعرصين بلا أدني مجهود.
واستقر نابليون في قصر محمد بك الألفي أحد أمراء
المماليك بالأزبكية لكن معظم الجنود الفرنسيين كما يقول الجبرتي بقوا: "
غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا في الأسواق من غير
سلاح ولا تعديل، صاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ
أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة، ويأخذ البيضة بنصف فضة قياساً
على أسعار بلادهم وأثمان بضائعهم". طبعاً في البداية لابد من
"الحنية" و أن ترأف بالناس و لا يهم ما تدفعه اليوم فغداً تأخذه أضعاف
مُضاعفة من قوتهم. ويُكمل الجبرتي أنه لما رأي "العامة" ذلك من العسكر
الفرنسي: " أنسوا بهم واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز
والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان والبن
وصاروا يبيعون عليهم بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوق الحوانيت والقهاوي."
وراحت "مقاومتك" يا صابر. ثم شيئا فشيئاً دخل العسكر الفرنسي القاهرة :"حتى
امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا علي أحد، ويأخذون المشتروات
بزيادة عن ثمنها، ففجر السوقة وصغروا أقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة
دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها أصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك
المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك." "الفهلوة المصرية
العبيطة" "رغيف العيش" مخلوط بالتُراب الذي إلي الآن مازال يأكله
المصريين و قريباً "سيسفون" التراب سفاً. لكن كأن حال المصريين وقتها يقول: "ما أحلي الاحتلال حينما يكون في بدايته!!!"
و قام نابليون
بتشكيل "حكومة" جديدة فكان الديوان بها عشرة من الشيوخ المُعرصين ثم
بناء علي نصائح الشيوخ عيًن بعض المماليك في المناصب التنفيذية كوالي الشُرطة لأنه
كما يقول الشيوخ أن :" سوقة مصر لا
يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم" هذا بالإضافة إلي بداية ظهور النصارى
علي الساحة و توليتهم المناصب بعد ان كانوا يأخذون علي "قفاهم" من
الجميع وراجت تجارتهم.
أما المماليك
"الغلابة" الأسري فقد تشّفع لهم الشيوخ –شُركاء الأمس- لدي الفرنسيين
فقُبلت شفاعتهم و أُفرج عن الأسري:" فدخل الكثير منهم الى الجامع الأزهر وهم
في أسوأ حال وعليهم الثياب الزرق المقطعة، فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء
المجاورين به ويتكففون المارين وفي ذلك عبرة للمعتبرين". فعلا يا شيخ عبد
الرحمن لكن مَنْ يعتبر؟ لا أحد ولا حتى أنت.نكتفي بهذا القدر ونُكمل في المرة القادمة
إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال