(1)
"إن الثبات علي الحق أصعب من الوصول إليه". فالحق رغم وعورة طريقه إلا أنه واضح جلي ,فطالما أنك تسعي إليه -بصدق- فستجده ,لكن تمسُكك به و إتباعك له و تقديمك لهديهِ هنا يكون الإختبار الحقيقي لصدقك و عزم إرادتك.فتجد كثيرون يتبعون الحق إسما و ينكرونه فعلاً. يحبونه علناً وينكرونه سراً . يتكلمون عن الآخرة ولا هم لهم إلا الدنيا. “يؤمنون” بالله و رسُله ومع ذلك يصنعون بدل العجل عجولاً لعبادتها.
لقد كنت أعتقد أن التعريص ما هو إلا مُنتج ثقافي. حيث ينشأ المُعَرّصون في بيئة تجعلهم ما هم عليه. ولكن بعد ما رأيته من كم التعريص لروؤساء و حكومات و شعوب أدركت خطئي وأن الأمر أبعد من أن يكون مجرد “ثقافة”. إن إنتشار التعريص بهذه الصورة و تطابق علاماته بل و حتي مفرداته -مع إختلاف اللغات- يشير إلي أنه ولابد له أساس بيولوجي. فكما هناك جينات تحدد لون عينيك و بشرتك ,فكذلك هناك جينات تُحدد هل ستكون أمين أم خائن , صادق أم مُعرّص.
إن التعريص -رغم أنك لا تجد أحد يمدحه حتي أشد المُعرّصين تعريصاً- يلعب دوراً هاماً في حياة البشرية فبدونه لأدرك البشر ما هم فيه من بؤس و شقاء ولاضطروا أن يغيروا واقعهم البائس بأنفسهم , ولكن التعريص يُقدم لهم بديل مناسب لرؤية الواقع من خلال نظارات "وردية اللون",حيث تُصبح كل مشاكلهم عبارة عن خطأ "غير مقصود" عن "حالة فردية" عن وجود "شُرفاء" سيهبطون قريباً من السماء . عن أن حل المشكلة هو أن نري أنه "لا مشكلة". عن أنهم سوف ينتصرون "مهما طال الزمان" -الذي سيطول إلي أن يصل للأبدية- عن أن الموت و السجن بلا ثمن يدفعه القاتل و السّجان شرف وشهادة. عن أن هزائمهم ما هي إلا "نكسات" لكي لا يعترفوا بالهزيمة و إنتصاراتهم الهزيلة هي "معجزات ". عن أن عبطهم و هبلهم هو دليل علي "عبقريتهم وحكمتهم التي لامثيل لها".عن أنهم لا يٌخطئون أبداً و وأنهم دائماً علي الحق. جينات التعريص هي من أنجح الجينات في نشر نفسها فقد إستطاعت أن تجعل جين الصدق من حفريات الماضي.
طبعاً هنا ستواجهنا مُشكلة . فإذا كان الأمر كذلك و البشر ليسوا إلا "عرائس مُتحركة" وإذا كان :"أنت هو جيناتك". فما فضيلة الأمين في أمانته إذاً؟ , و ما ذنب المُعرّص في تعريصه؟ . لماذا سَيُثيب الله الأمين و يعاقب المُعرّص؟! . سندخل في نفق الجبرية المُظلم الذي فيه تتساوي أرقي الفضائل مع أحقر رذيلة . حيث لا يكون هناك فضل لأمين علي خائن و لا شريف علي عاهر و لا صادق علي مُعرّص. فالآلآت مهما بلغ من تعقيدها وذكائها تظل بلا أخلاق.
ولكن دعنا من هذه المُشكلة الآن و سنأتي لها -إن شاء الله- فيما بعد . فنحن هنا نريد أن نقترب أكثر من تلك الكلمة التي أصبحت تُعبر تعبيراً بليغاً عن ما يجري حولنا فما معناها و ما أصلها ؟ ,فلنذهب أولاً إلي معاجم اللغة لعلها تُنبئنا عن أصل و معني الكلمة.علي سبيل المثال ماذا يقول القاموس المحيط في باب عرص :
وسنجد نفس التعريف تقريباً في لسان العرب و المُعجم الوسيط ونري أنه لا توجد علاقة بين المعني اللغوي للكلمة و معناها الإصطلاحي والذي فيه معاني الدياثة والكذب و النفاق. وهذا ليس غريبا ففي اللغة كثيراً ما يكون هناك هذا التفاوت بين المعنيين.بالنسبة للمعني الإصطلاحي لكلمة "عرص" فلنحاول أن نضع تعريفاً يجمع كل المُعرّصين بلا محاباة أو استثناء . فنقول أن العرص هو :"كل شخص يصدر عنه قول أو فعل بغرض تزييف الواقع أو أن يكون هذا القول أو ذلك الفعل مُناقض للوقائع سواء أدرك الشخص ذلك أو لم يُدركه" .فنقول عرّص تعريصاً فهو عرص و هي عرصه والجمع مُعرّصون و مُعرّصات .
فمثلاً : كل شخص يتكلم عن "عظمة الجيش المصري" و "بطولاته الخارقة" هو شخص "عرص" لأن كل تلك "الخُزعبلات" مناقضة للوقائع التاريخية تماماً. وكل شخص "يؤلّف" "قصص و روايات" عن "إنجازات" هذا الجيش و "وطنيته" من أجل تلميع صورته و تأبيد حكمه هو أيضا "عرص" لأن هذا تزييف للواقع.حتي وإن إدعي أنه ما قام بهذا الفعل إلا من دافع "وطنية" وحب "لأمه" مصر.
وكل من يعمل في هذا الجيش أو يعمل في حكومته أو شركاته هم معرصون سواء رضوا بذلك أم لم يرضوا.فهم مُعرّصون بالتبعية فكل تابع لعرص هو عرص(وهل يوجد أعرص من هذا الجيش و قادته؟!). وكل من يسمي الأشياء بغير مسمياتها فيقول علي الرقص و الخلاعة "فن" , و علي الجهل و التخلف "وطنية" ,وعلي العبط والهبل "عبقرية" و كل من يدافع و يُسهّل لهم ذلك هو عرص بإمتياز .
كل هؤلاء معرصون سواء أدركوا ذلك أو لم يُدركوه. ولا يعنينا أن يعترض علينا مُعترض بأنه كيف تصف من يجهل ما يفعله و لا يُدرك مالآت ما يقوله بأنه عرص فلابد أن تعذره بجهله و أن تُبين له حاله و بعد ذلك إذا عاند و استمر فلا بأس بوصفه بالعرص. أقول : لا عذر بالجهل في التعريص ببساطة لأنهم "مفطورون" عليه , فهذا ما أحاول بيانه هنا .نحن هنا نقول أنهم "مُعرصون بالفطرة".فهذا أصل فيهم سببه جين -لم نكتشفه بعد- و بالتالي فأي كلام جدلي عن العذر بالجهل و الشرح و إقامة الحجة هو عبث بلا طائل.
المعرصون مُقسمون إلي مُعرّصين مُحترفين و "مُعرّصين بالفطرة", الأثنين يحملون نفس جين التعريص لكن المُحترفين يتكسًبون من تعريصهم فهي مهنتهم و مصدر عيشهم ويندرج تحت هذا القسم حُكام و سياسيين و إعلاميين وصحفيين و فنانين و قساوسة و شيوخ .أما المُعرّص بالفطرة فلا يناله من تعريصه شيئ في الغالب و هذا حال مُعظمهم ويندرج تحت هذا القسم جماعات و شعوب .
لكننا إلي الآن لم نعرف بعد ما هو أصل كلمة عرص . فكما رآينا في التعريف اللغوي للكلمة لم يساعدنا علي معرفة أصل الكلمة و هذا قد يعني أن الكلمة من الممكن ألا تكون عربية أصلاً . الأمر الذي دعاني إلي أن أُرجح أنها أشتقت من كلمة "arse" الإنجليزية.والكلمة مستخدمة أكثر في الإنجليزية البريطانية أكثر من إستخدامها في الإنجليزية الأمريكية و التي تستخدم بدلا عنها كلمة "ass" والكلمتين لهما نفس الأصل وهي "arsch" الألمانية والتي تستخدم بكثرة و بتعبيرات و معاني مختلفة والتي منها معاني الحمورية و الغباء و الوضاعة و الدناءة. كما يشيرإلي ذلك قاموس أوكسفورد :
الكلمة -غالبا- بدأ إستخدامها مع الإحتلال البريطاني لمصر "فمن المحتمل" أن يكون دار هذا الحوار بين أحد الضباط الإنجليز و ضابط أو مجند مصري:
الضابط الإنجليزي : إنتي "أرس" جاية تشتغلي إيه؟
الضابط المصري لم يفهم ماذا تعني كلمة "أرس" لكن من نبرة الصوت أدرك أنها شتيمة : عرص عرص ... يا أفندم أنا تحت أمرك .
ثم حاول أن يعرف معني الكلمة فقيل له أنه تعني غبي و حمار طبعاً كل زملائه بدأو في التريقة عليه و لقبوه بالعرص حيث كان مكروها بين زملائه لأنه كان "عصفورة كبيرة" وأيضا كان يقوم "بتوريد الستات" لضباط الجيش الإنجليزي, و من هنا حملت الكلمة أيضا معاني الدياثة و "القورنية".
في العامية المصرية -كغيرها من اللهجات- أنها تميل إلي الحذف و الإضافة و التخفيف في الكلام من أجل سهولة النطق و سيولته. فمثلاً تُقلب القاف غالبا إلي ألف فيقال:"أللي,إرد,أدم" بدلا من :" قال لي,قرد,قدم". وتُخفف الطاء إلي تاء في كثير من الأحيان فيقال:"التريق,التاقة,التري" بدلا من :"الطريق,الطاقة,الطري". وفي بعض الأحيان تُقلب الألف عيناً -كما في كلمتنا هنا- مثل "عالمة" و هي ليست مؤنث عالم ولكنها -في الغالب- تأتي من كلمة "alma" وتعني البنت الصغير أو المرأة الحنون.
لعلك لاحظت أنه بمحاولتي الوصول لأصل كلمة عرص قد وقعت تحت طائلة التعريف الذي وضعناه سابقاً. فمن أجل إثبات وجهة نظري -التي قد تكون صحيحة- قمت بتأليف حوار تخيلي و اعتبرته دليل علي صحة رأيي. وهذا يُريك كم هو سهل الوقوع في التعريص حتي و إن كنت تعتقد أنك "صادق" لا تُريد إلا الوصول للحق.
إن ميزة التعريف الذي وضعناه أنه لا يُحابي ولا يستثني و لا يُعرّص. كانت ستكون مشكلة أن نضع تعريفاً هو نفسه يسمح بالتعريص ,لكن -الحمد لله- لم يحدث و وقع صاحبه نفسُه تحت "سكينه الحاد" .الآن إنتهينا من أولي الخطوات في رحلتنا في البحث عن هذا الجين .الآن نستطيع أن نستخدم تلك الكلمة بشكل أفضل ,ولا يُرهبنا أحد حينما نصف به هذا الشخص أو تلك الجماعة بحُجة أنه في "معسكر الحق" أو أننا "نحسبهم علي خير" .ففعل التعريص و صفة العرص ليس لهما علاقة بالحق و الباطل. فطالما أنك تُزيّف و تُؤلّف وتتعامي عن الحقائق فأنت تستحق أن تُوصف بذلك.فالتعريص ليس حكراً علي "معسكر الباطل" ,بل و أزعم أن نسبته بين "معسكر الحق" و "معسكر الباطل" متساوية فالمُعرّصين في كل مكان ,فليس معني أنك علي الحق أو حتي تُناصره أنك لست عرصاً.
إن ميزة التعريف الذي وضعناه أنه لا يُحابي ولا يستثني و لا يُعرّص. كانت ستكون مشكلة أن نضع تعريفاً هو نفسه يسمح بالتعريص ,لكن -الحمد لله- لم يحدث و وقع صاحبه نفسُه تحت "سكينه الحاد" .الآن إنتهينا من أولي الخطوات في رحلتنا في البحث عن هذا الجين .الآن نستطيع أن نستخدم تلك الكلمة بشكل أفضل ,ولا يُرهبنا أحد حينما نصف به هذا الشخص أو تلك الجماعة بحُجة أنه في "معسكر الحق" أو أننا "نحسبهم علي خير" .ففعل التعريص و صفة العرص ليس لهما علاقة بالحق و الباطل. فطالما أنك تُزيّف و تُؤلّف وتتعامي عن الحقائق فأنت تستحق أن تُوصف بذلك.فالتعريص ليس حكراً علي "معسكر الباطل" ,بل و أزعم أن نسبته بين "معسكر الحق" و "معسكر الباطل" متساوية فالمُعرّصين في كل مكان ,فليس معني أنك علي الحق أو حتي تُناصره أنك لست عرصاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال