الثلاثاء، 15 مارس 2016

"لِف و إرجع" لقد هرمنا من هذا المسلسل القديم




"لا شئ جديد تحت الشمس" ، هذه العبارة لم تكن أكثر صدقاً مما هي عليه الآن ، التكرار الذي نشاهده حولنا لأساليب وطرق و حيل تم تكرارها آلاف المرات ؛ ورغم ذلك نجد أن ردود أفعال و أراء و وجهات نظر من يتعرضون لها هي نفسها في كل مرة،  و كأننا في مسلسل أبدي تُعاد فيه حلقاته يومياً،  أبطاله لا يتغيرون و أسمائهم وعلاقتهم داخل المسلسل واحدة بل و حتي قصة هذا المسلسل واحدة .الذي يختلف في كل مرة هو عنوان المسلسل فقط . مع ذلك تجد المشاهدون يتصرفون و كأنها "المرة الأولي" التي يشاهدونه فيها فقط لأن عنوانه قد تغيّر.

و لو بحثت عن الأسباب التي تؤدي بالمشاهدين إلي تصور أن المسلسل جديد و أن قصته جديدة،  و أبطاله مُبدعون قد أدّوا أدوارهم ببراعة،  فبالتأكيد لن تصل إلي شئ،  إلا أن تتهمهم جميعا بالغباء و العته،  وأي تفسير منطقي آخر سيبدو لا منطقيا بل و حتي معتوهاً. فما هو المُختلف في مسلسل "مرسي الرئيس الشرعي للبلاد" عن مسلسل " السيسي قاهر الإسطول السادس الأمريكي" "، عن " عكاشة في تل أبيب " ، عن " الزند يحبس النبي"  وعن وعن............

"يُفَاجئ" المُشاهدون في مسلسل "الزند يحبس النبي" بأن بطل المسلسل "يتجرأ" علي مقام النبوة،  فتثور ثائرتهم و يتهمونه بالردة و الإلحاد ، وبعضهم يطالب بطرده من المسلسل -و إعطاء الدور لبطل جديد - و محاكمته،  وآخرون يلتمسون له العذر،  فما هي إلا زلّة لسان والرجل قد إعتذر وانتهي الموضوع،  و يتناسي المشاهدون أن المسلسل كل أبطاله ملاحدة مرتدون متشككون لا-أدريون يتهكمون علي الدين كله ليل نهار، وليس ورائهم إلا العمل علي هدم أصوله. حتي شيوخ المسلسل ما هم إلا شيوخ بلحي مُستعارة،  مستعدون ليتهموا النبي ولا يتهموا الحاكم،  جاهزون لتعديل آيات القرآن لتناسب العصر ولا أن يتجرأ أحد علي تعديل نص في الدستور.

إن طريقة "لِف و إرجع" التي يتبعها النظام المصري في الحفاظ علي كروته الرابحة من الإحتراق أثبتت فعاليتها عبر عشرات السنوات حين تبدأ أحد كروته في الإحتراق فهو يُسرع - إذا كان ممكنا- في وضعها جانبا في الظل حتي "تبرد" لحين الحاجة إليها فيتم إستدعائها من جديد وكأنها ورقة جديدة رابحة.

في طريقة "لِف وإرجع" لا وجود لأي خسارة بل أنت الرابح دائما،  فمن ناحية أنت حافظت علي كرتك من الإحتراق ، وفي نفس الوقت خدعت خصمك في أنك تلعب بشرف و لا تقبل أي تحايل أوغش وأنك ستطبق أقصي أنواع العقوبة علي من يستخدم كروت خارج اللعبة،  ما عدا أنت طبعا فأنت مُدير اللعبة و مُحرِكها.

"لِف وإرجع" مجرد طريقة للخروج "المسرحي" من صالة اللعب لحين الحاجة إليك أو خلو مكان لاعب آخر، حينما تكثر أخطاء أحد لاعبيك أو يخرج عن السيناريو المرسوم،  أو تتضخم ثقته بنفسه،  أو يستفحل فساده ويتوحش و يراه القاصي و الداني. فالأفضل أن تستبدله لبعض الوقت حتي تهدأ الأمور وتنساه الألسنة و تبتعد عنه الأنظار ، ويتعلم الدرس. حينها يكون الوقت مناسباً للإستعانه به خصوصاً في وقت الأزمات ، فلاعبك مهما بلغ  فساده و أخطاءه فهو خبرة لا تعوّض،  فهو يعلم دوره وليس محتاجا لتدريب و تمرين عن قواعد اللعبة و مهاراتها .فأمثاله من الصعب تعويضهم إلا بعد سنوات  من البحث في الأقاليم عن المواهب المدفونة ثم سنوات من الخبرة و المران.

إن مُخرج ومُؤلّف مُسلسلاتنا  مُدرك تماما لنفسية المشاهدين, فيعرف كيف و متي يجعلهم يبكون و يضحكون،  و ما هي نقاط ضعفهم. ففي تلك المسلسلات -رغم رداءة التمثيل- تجد الخلطة الناجحة التي لا تخيب،  فمن مشهد عادي يحدث كل ساعة يتم تضخيمه و تكبيره ليصبح هذا الحدث هو مقدمة لأهوال يوم القيامة،  مع أغنية تتحدث عن سوء الأحوال الإجتماعية ، و أن الناس أصبحت تأكل بعضها البعض،  وأن الدنيا فانيه ؛  ثم لا ينسي المؤلّف وجود راقصة شريفة تأكل بجسدها لكنها عذراء طاهرة لم يمسسها بشر... إلا زبائنها السُكاري،  ولكنها ترقص ليس حبا في المُجن و الخلاعة بل من أجل تربية ابنتها .... قمة التضحية،  ثم شيخ منافق يبحث عن علاقة غير شريفة مع الراقصة مُستغلاً إحترام الراقصة لشخصه بما أنه شيخ و لكنه يستغل الدين في إغواءها ..... منتهي الندالة. ثم في نهاية المسلسل يُحبس الشيخ بتهمة نشر الرذيلة،  وتحصل الراقصة علي لقب الأم المثالية،  و تتزوج إبنتها رئيس الجمهورية الذي أُعجب برقص أمها.. هنا يشعر المشاهدين بالرضا،  فالله  وفق الراقصة في تربية إبنتها من كدها و هز وسطها ورئيس الجمهورية رجل متواضع حنون لم يقف بينه و بين إبنه الراقصة أقوال اللائمين.

إن أحداث المسلسل السابق تتطابق مع مسلسل "الزند يحبس النبي"  ، فمن حدث "عادي" يحدث يوميا،  يتم تضخيمه و تكبيره ليصبح مقدمة لأن يخسف الله مصر أرضاً و شعباً،  وفي ظل وضع إقتصادي متهالك وعلاقات اجتماعية مهترئة،  نجد الراقصة الشريفة "الزند" يُهاجمها المجتمع ليس لأنها رقاصة بل لأنها ترقص،  ويطالبونها بالتوقف عن الرقص و الإكتفاء بكونها رقاصة، وشيخ يتشنج و يتلوي يقول هذه ردة و كفر وآخر يتكلم ببرود عن أن الله غفور رحيم،   وفئة آخري من المجتمع تقف بجانب الرقاصة فهي مهنة شامخة و مهمة في المجتمع ، تظهر إبنة الرقاصة "نادي القضاة" لتدافع عن أمها ضد منتقديها ، أخيراً يُقرر رئيس الجمهورية تقليد الرقاصة وسام الشرف،  ويتزوج إبنتها ويعيشا في فرح وسعادة، ويُهاجم الدين بإعتباره لا يقبل "الهزار" و الإعتذار. والمشاهدين مشدوهين يصفقون للجميع بحرارة.

إن كل الكروت "المركونة" للنظام لم تحترق كما يتصور البعض ، النظام يعلم تماما مع مَنْ يتعامل ولكل حدث كرت سيخرج في وقته المناسب،  "لِف وإرجع" هي رهان نظام يستحمر شعبه،  وقد أثبت الشعب المصري  حموريته عبر الأجيال.

إن توزيع الأدوار في هذا المسلسل الأبدي بين مُعارضة و موالاة , بين ديمقراطيين و إشتراكيين , بين حقوق الإنسان و حقوق الحيوان , بين إسلاميين و علمانيين بين حكومة و شعب,  لشئ يبعث الملل في النفوس. خصوصاً حينما يكون اللاعبون هم هم, لكن يتم إستخدام طريقة "لِف و إرجع" لأعادة توزيع الأدوار فإذا كُنت موالاة في الحلقة السابقة فحينما ترجع ستكون مُعارضة , وإذا كنت إشتراكياً مُلحداً فلتأتي “بسبحة” المرة القادمة . و إذا كنت من مؤيدي الجيش  فلا ضرر من أن تُهاجم "العسكر" و غبائهم.

الملل إذاً هو سيد الموقف. فلنأمل في الفترة القادمة أن يُغيّر المؤلف بعض أبطاله و يُخرج كروته التي يحتفظ بها ليس لأن ذلك سيجعل المسلسل  أكثر إثارة و تشويقا , بل فقط لنضحك قليلاً علي المُشاهدين المُندهشين وهم يرون الكروت "المحروقة" وهي تُبعث من جديد . 
  
إن أقسي أنواع العقاب ليس ذلك الذي يؤلم الجسد فقط،  فقد يكون عقاباً رحيماً إذا كان له نهاية حتي لو كانت تلك النهاية هي الموت. ولكن أقساها فعلاً هو بالتكرار الذي لا ينتهي،  فإذا أردت معاقبة أحد كلفه بمهمة بسيطة لكن إجعله يُكررها ملايين المرات،  عندها سيتمني الموت علي أن يفكر أنه سيقوم بها مرة بعد آخري بلا أمل في الهروب ... إن هذا هو الجحيم بعينه...  فأهلا بك في قلب الجحيم ... أهلا بك في مصر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

..إنْ أردتَ أنْ تكتب تعليقاً مُفيداً ففكّر ثلاث مرات، مرة قبل كتابته ومرتين قبل أن تضغط زر إرسال